الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

الاولى دون الثانية.

والذي ظهر لي بعد إمعان النظر في المقام ومراجعة أخبارهم عليهم‌السلام هو عدم جواز الدخول في هذه الأمور والحال هذه.

وبيان ذلك : إن ظاهر الآية والأخبار الدالة على النهي عن قبول خبر الفاسق ، والنهي عن الصلاة خلفه إنما هو من حيث الفسق ، لأن التعليق على الوصف مشعر بالعلية ، وهو مشعر بأن الفاسق ليس أهلا لهذا المقام ، ولا صالحا لتقلد هذه الأحكام ، وإذا كان الشارع لم يره أهلا لذلك ، ولا صالحا لسلوك هذه المسالك لمنع الناس من الاقتداء به وقبول خبره ، ونحو ذلك ، فهو في معنى منعه له من ذلك ، فإدخاله نفسه فيما لم يره الله عزوجل أهلا له موجب لمخالفته عزوجل والتعرض لسخطه. وجواز اقتداء الناس به من حيث عدم ظهور فسقه لهم لا يدل على جواز الدخول له ، لأن حكم الناس في ذلك غير حكمه هو في حد ذاته ، والكلام إنما في الثاني ، وأحدهما لا يستلزم الآخر بوجه ، نظير ذلك في الأحكام غير عزيز ، فإن لحم الميتة محرم على العالم به ، وحلال بالنسبة إلى الجاهل به.

ويؤيد ما قلناه ظواهر جملة من الأخبار مثل صحيحة أبي بصير (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خمسة لا يؤمون الناس على كل حال : المجنون والأبرص والمجذوم وولد الزنا والأعرابي».

ونحوها صحيحة محمد بن مسلم (٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام.

والتقريب فيهما أنهما إنما قد صرحا بتوجه النهي إلى هؤلاء عن الإمامة لأنهم ليسوا من أهلها باعتبار ما هي عليه من العيوب المذكورة المانعة من أهلية الإمامة ، وبعض الأخبار وإن ورد أيضا في نهي الناس عن الائتمام بهم ، إلا أن

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٣٧٥ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩٩ ب ١٥ ح ٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الفقيه ج ١ ص ٢٤٧ ح ١٥.

٢٦١

النهي إنما توجه إلى المؤتمين.

وأما في هذين الخبرين الصحيحين فإنه إنما توجه إلى الامام بأن لا يكون من أحد هؤلاء ، فلو فرضنا عدم علم الناس بما هم عليه من هذه الصفات المانعة من الإمامة مع اعتقاد الناس فيهم العدالة ، فإنه يجوز للناس الاقتداء بهم بالتقريب المتقدم ، لكن بمقتضى هذين الخبرين لا يجوز لهم الإمامة لما هم عليه من الموانع المذكورة وإن خفيت على الناس ، وهذا بعينه جار في الفاسق الذي هو محل البحث بأن كان عالما بفسق نفسه وإن خفي على الناس ، ومما يؤيد ذلك قول أمير المؤمنين عليه‌السلام لشريح : يا شريح جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي ، ونحوه.

والتقريب فيها هو ظهورها في النهي عمن لم يكن مستكملا لأسباب النيابة وشرائطها ، وأهلية الحكم والفتوى ، ولا ريب أن أعظم الأسباب المانعة الفسق ، فهي ظاهرة في منع الفاسق من الجلوس في هذا المقام وإن كان ظاهر العدالة بين الأنام ، وعدم جواز تقلده الأحكام. وجواز تقليد. الناس له من حيث عدم ظهور فسقه لهم لا يدل على جوازه له ، لأنه عالم بأن الشارع قد منع الناس عن اتباع الفاسق وتقليده ، وليس إلا من حيث فسقه ، فالفسق صفة مانعة من تقلد هذه الأمور ، وكلام من قدمنا كلامه وإن كان مخصوصا بالشهادة أو مع الإمامة ، إلا أن المواضع الثلاثة واحد ، فإن مبنى الكلام هو أنه هل يكتفي بظهور العدالة في جواز التقلد لهذه الأمور المشروطة بها وإن لم يكن كذلك واقعا؟ أم لا بد من ثبوتها واقعا؟ فالكلام جار في جميع ما يشترط فيه العدالة ، وهذا أحدها.

ومما يؤيد ما ذكرناه بأوضح تأييد هو أن الظاهر المتبادر من الآية والأخبار المصرح فيها بالعدالة واشتراطها في الشاهد مثل قوله عزوجل «وَأَشْهِدُوا

٢٦٢

ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» وقوله عليه‌السلام (١) يطلقها بحضور عدلين أو إذا شهدا عدلين ونحو ذلك هو اتصاف الشاهد بالعدالة في حد نفسه وذاته ، لا بالنظر إلى غيره ، إذ لا يخفى أن قولنا فلان عدل وفلان ثقة مثل قولنا فلان عالم وشجاع وجواد ونحو ذلك ، ومن المعلوم في جميع ذلك إنما هو اتصافه بهذه الصفات في حد ذاته ، غاية الأمر أنه قد يطابق علم المكلف والواقع في ذلك ، وقد يختلفان ، بأن يكون كذلك في نظر المكلف ، وإن لم يكن واقعا ، وحينئذ فيلزم كلا حكمه ، فيلزم من اعتقد عدالته جواز الاقتداء به مثلا وقبول شهادته ، ويلزمه هو عدم جواز الدخول في ذلك ، كذا يلزم من اطلع على فسقه عدم جواز الاقتداء به.

وعلى هذا فإذا كان المراد من الآية والأخبار المشار إليها إنما هو اتصافه في حد ذاته ، فكيف يجعل المناط الاتصاف بالعدالة باعتبار الغير كما توهموه وبنوا عليه ما بنوا من الفروع المذكورة؟ ولا ريب أنه متى كان كذلك إنما هو بالنسبة إليه في حد ذاته ، فإنه لا يجوز له الدخول فيما هو مشروط بالعدالة البتة.

وبذلك يظهر ما في كلام صاحب المسالك ومن تبعه من الوهن والقصور ولا سيما في فرضه الثاني ، وهو ما إذا علم الزوج فسقهما فطلق بحضورهما مع ظهور عدالتهما بين الناس ، فإنه أوهن من بيت العنكبوت وأنه لأوهن البيوت ، ومقتضى تجويزه الطلاق هنا جواز اقتداء من علم فسق الامام به في الصلاة ، لظهور عدالته بين الناس ، وهكذا قبول فتواه وأحكامه ، والكل في البطلان أوضح من أن يحتاج إلى بيان ، وبالحملة فالطلاق في الصورتين المفروضتين مما لا إشكال في بطلانه ولا سيما الثانية.

المسألة الثالثة : قال المحقق ـ رحمة الله عليه ـ في الشرائع : فلو شهد أحدهما

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٢ ب ١٠ ح ٢ و ٣ و ٤ و ٧ وما نقله المصنف هو مضمون الخبر لا نصه.

٢٦٣

بالإنشاء ثم شهد الآخر به بانفراده لم يقع الطلاق ، أما لو شهدا بالإقرار لم يشترط الاجتماع ، ولو شهد أحدهما بالإنشاء والآخر بالإقرار لم يقبل ، ولا تقبل شهادة النساء في الطلاق لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال ، ولو طلق ولم يشهد ثم أشهد كان الأول لغوا ووقع حين الإشهاد إذا أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء.

أقول : الكلام في هذه المقالة في مواضع : الأول : قوله «ولو شهد أحدهما ـ إلى قوله ـ لم يقع الطلاق» والوجه في عدم وقوع الطلاق دلالة الأخبار (١) صريحا وكذا ظاهر الآية (٢) على اجتماع الشاهدين في السماع ، وأنه لا يكفي تفريقهما بأن يطلق بحضرة واحد منهما ثم يطلق مرة أخرى بحضرة الآخر.

ومن الأخبار المذكورة ما رواه في الكافي (٣) عن أحمد بن أبي نصر في الصحيح أو الحسن قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع أشهد اليوم رجلا ، ثم مكث خمسة أيام واشهد آخر ، قال : إنما أمر أن يشهدا جميعا».

وما رواه في التهذيب (٤) في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : «سألته عن تفريق الشاهدين في الطلاق ، فقال : نعم وتعتد من أول الشاهدين وقال : لا يجوز حتى يشهدا جميعا».

وموضع الدلالة من الخبر المذكور قوله في آخره «ولا يجوز حتى يشهدا جميعا» وأن المراد به حال التحمل للشهادة ، وصدر الخبر مراد به الأداء لها ، ولهذا قال «وتعتد من أول الشاهدين» ولكن لا يجوز التزويج إلا بعد أداء الشاهد الثاني الذي يحصل به الثبوت الشرعي ، ولو جاز التفريق في التحمل لم يجز الاعتداد إلا بالأخير لعدم صحة الطلاق إلا بعد شهادة الأخير ، هذا مع قطع النظر

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٢٨١ ب ١٠ ح ٢ و ٣ و ٧.

(٢) سورة الطلاق ـ آية ٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٧١ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠١ ب ٢٠ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ١٥٠ ح ٧٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠١ ب ٢٠ ح ٢.

٢٦٤

عن تصريحه في آخر الخبر بعدم جواز التفريق ، وبالجملة فالحكم المذكور لا خلاف ولا إشكال فيه.

الثاني : قوله «أما لو شهدا بالإقرار لم يشترط الاجتماع» والوجه فيه ظاهر ، لأن الإقرار اعتراف وإخبار عن طلاق سابق و «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» والحكم فيه كما في غيره من الإقرارات ، ولا يشترط فيه اجتماع الشهود وإنما يشترط ذلك في الشهادة على إنشاء الطلاق كما دل عليه الخبران المتقدمان نعم لو كان الطلاق الأول باطلا ، كأن يكون بغير شهود أو بشاهد واحد ، وعلم أن الإقرار الذي أقر له أخيرا إنما هو إشارة إلى ذلك الطلاق ، فلا ريب في البطلان وإن أقر به عند شاهدين مجتمعين ، فإنه إذا لم يصح الطلاق السابق لم يصح الإقرار به ، والحكم بالصحة إنما هو مع إطلاق الإقرار ، لأن الإطلاق منزل على الصحيح سواء شهد على إقراره الواحد شاهدان في دفعة ، أو شهدا متفرقين (١) بأن أقر عند كل واحد ، لأن صحة الإقرار لا يشترط فيها الاشهاد ، وإنما المعتبر ثبوته شرعا متى توقف عليها وهو يحصل مع كل من الأمرين (٢) لأن مرجعهما إلى أمر واحد ، وبالجملة فالحكم مما لا إشكال فيه.

الثالث : قوله «ولو شهد أحدهما بالإنشاء والآخر بالإقرار لم يقبل» والوجه فيه ظاهر مما تقدم ، فإن الطلاق الذي سمعه أحدهما بالإنشاء باطل لعدم استكماله لشروط صحة الطلاق ، وهو اجتماع الشاهدين ، ومتى بطل كان الإقرار به باطلا وإن شهد به اثنان فضلا عن الواحد كما عرفت آنفا.

الرابع : قوله «ولا تقبل شهادة النساء في الطلاق ـ إلى قوله ـ إلى الرجال» ويدل عليه ظاهر الآية وجملة من الأخبار مضافا إلى ظاهر اتفاق الأصحاب على

__________________

(١) بمعنى أنه يصح إقراره ، وان لم يشهد عليه أحدا فإنه يعتبر ثبوته. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) أى مع تعدد الشاهد ، وشهادة كل واحد على واحد من الأمرين.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٦٥

ذلك ، فإن قوله عزوجل «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» ظاهر في اعتبار ذكوريتهما.

ومن الأخبار قول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة الحلبي (١) «وأنه سئل عن شهادة النساء في النكاح ، قال : تجوز إذا كان معهن رجل ، وكان علي عليه‌السلام يقول : لا أجيزها في الطلاق» الحديث.

وقول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام في رواية محمد بن الفضل (٢) «ولا تجوز شهادتهن في الطلاق ولا في الدم».

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام في رواية داود بن الحصين (٣) «وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام يجيز شهادة المرأتين في النكاح ولا يجيز في الطلاق إلا بشاهدين عدلين».

وقول علي عليه‌السلام في رواية السكوني (٤) «شهادة النساء لا تجوز في نكاح ولا طلاق ولا في الحدود إلا في الديون وما لا يستطيع الرجل النظر إليه».

وقوله عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم (٥) «لا تجوز شهادة النساء في الهلال ولا في الطلاق».

الخامس : قوله «ولو طلق ولم يشهد ثم أشهد. إلخ» والوجه في كون الأول لغوا هو عدم استكمال الشرائط التي من جملتها سماع الشاهدين ، والحكم بوقوع الثاني لا بد فيه أيضا من استكمال الشرائط ، وإلا لم يقع. وقوله «إذا

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٩٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٦٩ ح ١٢٨ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٥٨ ب ٢٤ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٩١ ح ٥ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٦٤ ح ١١٠ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٥٩ ب ٢٤ ح ٧ وما في المصادر «محمد بن الفضيل».

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٨١ ضمن ح ١٧٩ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٦٥ ب ٢٤ ضمن ح ٣٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٨١ ح ١٧٨ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٦٧ ح ٤٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٥) الكافي ج ٧ ص ٣٩١ ح ٦ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٨ ب ٢٤ ح ٨.

٢٦٦

أتى باللفظ المعتبر في الإنشاء» إشارة إلى قصد الطلاق ، فلو قصد الاخبار ولو كان بذلك اللفظ لقوله «اشهدوا بأن فلانة طالق» قاصدا به الاشهاد لا الإنشاء لم يقع. وعلى هذا فالمائز بين العبارتين وصحة الطلاق في أحدهما دون الآخر هو النية والقصد فإن قصد الإنشاء وقع ، وإن قصد الاشهاد لم يقع ، ويمكن علم الشاهدين به بالقرائن المفهمة للحال ، أو أخباره بذلك.

والأصل في هذا الحكم

صحيحة أحمد بن محمد (١) قال : «سألته عن الطلاق ، فقال : على طهر ، وكان علي عليه‌السلام يقول : لا طلاق إلا بالشهود ، فقال له رجل : إن طلقها ولم يشهد ثم أشهد بعد ذلك بأيام فمتى تعتد؟ فقال : من اليوم الذي أشهد فيه على الطلاق». والظاهر أن إطلاق الرواية مبني على ما علم من غيرها من إخبار الطلاق من وجوب استكمال الشروط في صحته الذي من جملتها قصد الإنشاء وغيره.

المقصد الثاني في أقسام الطلاق

وينقسم إلى بدعي وسني ، والسني ينقسم إلى بائن ورجعي ، والرجعي ينقسم إلى عدي وغيره ، فهنا أقسام أربعة :

الأول : الطلاق البدعي ، منسوب إلى البدعة وهو المحرم إيقاعه ، والمراد بالسني الذي يقابله هنا هو السني بالمعني الأعم ، وهو الجائز شرعا سواء كان واجبا أو مندوبا أو مكروها (٢).

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٥٠ ح ٧٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٤ ب ١٠ ح ١٠.

(٢) قالوا : والمراد بالواجب طلاق المولى والمظاهر ، فإنه يؤمر بعد المدة بأن يغير أو يطلق ، فالطلاق واجب تخييرا.

والمراد بالمندوب الطلاق مع النزاع والشقاق وعدم رجاء الائتلاف والوفاق ، وإذا لم تكن عفيفة يخاف منها إفساد الفراش.

والمراد بالمكروه الطلاق عند التئام الأخلاق وسلامة الحال ، وقد تقدمت جملة من الاخبار في صدر الكتاب دالة على الكراهة في الصورة المذكورة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٦٧

وللبدعي أسباب ثلاثة : (أحدها) الحيض ، فلا يجوز طلاق الحائض بعد الدخول مع حضور الزوج أو ما في حكمه من غيبته دون المدة المشروطة على ما تقدم تحقيقه مع كونها حائلا ، وكذا النفساء.

(وثانيها) عدم استبرائها بطهر آخر غير ما مسها فيه بأن يطلقها في الطهر الذي مسها فيه. وهذان السببان متفق عليهما بين الخاصة والعامة.

(وثالثها) طلاقها أزيد من واحدة بغير رجعة مخللة بين الطلقات ، والتحريم في هذه الصورة من خصوصيات مذهب الشيعة ، ووافقهم أبو حنيفة ومالك في بدعية الجمع بين الطلقات بلفظ واحد ، واتفق الجمهور على صحة طلاق البدعة مع الإثم ، وأصحابنا على بطلانه (١) إلا فيما زاد على الواحد ، فإنه مع وقوعه مترتبا يقع واحدا إجماعا ، ومع وقوعه بلفظ واحد يقع واحدا أيضا على الخلاف المتقدم.

وأورد على ما ذكر من التخصيص بهذه الأسباب الثلاثة الطلاق بالكتابة ، وبدون الإشهاد فإنه باطل ، وكذا الطلاق أزيد من مرة مرتبا إذا لم يتخلل بينها رجعة.

ويمكن الجواب باختصاص البدعة بالثلاثة المتقدمة ، وأن ما زاد يكون باطلا ويكون الطلاق الباطل أعم من البدعي فإنه مجرد اصطلاح لا مشاحة فيه ، لكن على هذا لا يكون القسمة حاصرة ، فإن المقسم مطلق الطلاق الذي هو أعم من الصحيح والفاسد ، وكيف كان فالأمر في ذلك سهل بعد وضوح الحكم في كل من هذه الأفراد.

الثاني : الطلاق السني البائن ، وهو ما لا يصح للزوج الرجعة معه ، وهو

__________________

(١) حاصل المعنى أن أصحابنا على بطلان البدعي بجميع أفراده إلا في صورة ما إذا طلق ثلاثا مترتبة أو مرسلة ، فإن الطلاق يقع واحدا في الصورة الأولى إجماعا ، وفي الثانية على الخلاف ، والبطلان في البدعية انما يتوجه إلى الزائد.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٦٨

سنة : طلاق التي لم يدخل بها ، واليائسة ، ومن لم تبلغ المحيض ، والمختلعة ، والمبارأة ما لم ترجعا في البذل ، والمطلقة ثلاثا بينها رجعتان إذا كان حرة ، وإلا فاثنتان.

قالوا : والمراد بالدخول الموجب للعدة القدر الموجب للغسل ، وهو غيبوبة الحشفة أو قدرها في قبل أو دبر.

أقول : وتدل عليه جملة من الأخبار تقدم نقلها في فصل المهور ، إلا أن في دخول الموطوءة في الدبر في ذلك إشكال تقدم التنبيه عليه. والمراد بمن لم تبلغ المحيض ، أي لم تبلغ التسع ، فلو بلغتها لزمتها العدة مع الوطء ، وإن لم تكن ممن تحيض عادة ، وتقييد المختلعة والمبارأة بما لم ترجعا في البذل يقتضي أن الطلاق يكون رجعيا مع الرجوع فيه ، فالعدة هنا قد تكون بائنة ورجعية بالاعتبارين المذكورين.

الثالث : الطلاق الرجعي العدي ، وهو الذي يصح معه الرجعة وإن لم يرجع ويكون ذلك فيما عدا الأقسام الستة المتقدمة في البائن ، وعلى هذا وما تقدم في سابق هذا القسم يكون طلاق المختلعة تارة من أقسام البائن ، وهو فيما إذا لم ترجع في البذل ، وتارة من أقسام الرجعي ، وهو في صورة الرجوع ، وإطلاق الرجعي على هذا القسم يكون بسبب جواز الرجوع فيه وإمكانه ، ويعبر عن بعض أفراده بطلاق العدة (١) وهو أن يطلق على الشرائط ، ثم يراجع قبل الخروج من العدة ويواقع ، ثم يطلقها في غير طهر المواقعة ، ثم يراجعها ويواقعها ، ثم يطلقها في طهر آخر ، وهذه تحرم في الثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، وفي التاسعة مؤبدا كما ذكروه من غير خلاف يعرف ، وفيه كلام يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى في المقام ، ولو طلق بعد المراجعة قبل المواقعة صح ، إلا أنه لا يسمى طلاق العدة ، لاختلال أحد

__________________

(١) إشارة الى أن ما يفهم من كلامهم من حصر الرجعي في العدي والسني ليس في محله ، فان من راجع في العدة ولم يواقع فطلاقه رجعي ، وليس من طلاق السنة ، ولا من طلاق الرجعة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٦٩

شروطه وهو المواقعة ، ويكون طلاق السنة بالمعنى الأعم.

الرابع : الطلاق السني بالمعنى الأخص ، وهو المشار إليه آنفا بأنه غير العدي ، وهو عبارة أن يطلقها ويتركها حتى تخرج من العدة ، رجعية كانت العدة أو بائنة ، ثم يتزوجها إن شاء ثم يطلقها ويتركها حتى تخرج من العدة ثم يتزوجها ، وهذه تحرم في كل ثالثة حتى تنكح زوجا غيره على المشهور ، ولا تحرم مؤبدا وإن بلغ تسعا ، وفيه أيضا ما سيأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى ، وهو يشارك طلاق العدة في الحكم الأول ، ويفارقه في الثاني ، والثاني منهما محل وفاق عندهم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع :

الأول : قال السيد السند في شرح النافع : قد نقل جمع من الأصحاب الإجماع على أن المطلقة تسعا للعدة تحرم مؤبدا ، ولم ينقلوا على ذلك دليلا. والذي وقفت عليه في ذلك ما رواه الكليني (١) عن زرارة بن أعين وداود بن سرحان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الملاعنة إذا لاعنها زوجها لم تحل له أبدا ، والذي يتزوج المرأة في عدتها وهو يعلم لا تحل له أبدا ، والذي يطلق الطلاق الذي لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ثلاث مرات لا تحل له أبدا ، والمحرم إذا تزوج وهو يعلم أنه حرام عليه لا تحل له أبدا».

وفي الصحيح عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، وإبراهيم بن عبد الحميد (٢) عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليهما‌السلام قال : «إذا طلق الرجل المرأة فتزوجت ، ثم طلقها زوجها فتزوجها الأول ، ثم طلقها فتزوجت رجلا آخر ، ثم طلقها فتزوجها الأول ، فطلقها هكذا ثلاثا لم تحل له أبدا».

وإطلاق الرواية الاولى وخصوص الثانية يقتضي حصول التحريم بالطلقات

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٦ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٨ ب ٤ ح ٤ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٢٨ ح ٧ وفيه «ثم طلقها الزوج الأول» بدل «فطلقها».

٢٧٠

التسع التي ليست للعدة ، لكن لا أعلم بمضمونه قائلا ، انتهى.

أقول : قد تقدم تحقيق الكلام في المقام في المطلب الرابع في استيفاء العدد من الفصل الثاني في أسباب التحريم من كتاب النكاح ، وذكرنا ما يدل على كلام الأصحاب ، إلا أن المسألة بقيت في قالب الاشكال لعدم حضور ما يحصل به الجمع بين أخبارها ، وإلى ما ذكرنا من هذا الكلام أشرنا فيما قدمنا في القسم الثالث والرابع بقولنا فيه ما ينبغي التنبيه عليه ، فإن مقتضى ما ذكره السيد السند من الأخبار المذكورة التحريم بالتسع مؤبدا في الطلاق العدي والسني بالمعنى الأخص جميعا ، والأصحاب إنما أثبتوا التحريم بذلك في العدي خاصة وصرحوا بنفيه في السني.

وثانيها : قد تكاثرت الأخبار بتقسيم الطلاق إلى طلاق العدة وطلاق السنة ، وبذلك صرح الشيخ في النهاية وجمع من الأصحاب.

فروى الكليني (١) في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنه قال : كل طلاق لا يكون عن السنة أو على العدة ليس بشي‌ء ، قال زرارة : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : فسر لي طلاق السنة وطلاق العدة ، فقال : أما طلاق السنة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فلينتظر بها حتى تطمث وتطهر ، فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ، ويشهد شاهدين على ذلك ، ثم يدعها حتى تطمث طمثتين فتنقضي عدتها بثلاث حيض وقد بانت منه ، ويكون خاطبا من الخطاب ، إن شاءت زوجته وإن شاءت لم تزوجه ، وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في عدتها ، وهما يتوارثان حتى تنقضي العدة ، قال : وأما طلاق العدة الذي قال الله تعالى «فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» (٢) فإذا أراد الرجل منكم أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضها. ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ،

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٤ ب ١ ح ١ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) سورة الطلاق ـ آية ١.

٢٧١

ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحب ، أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض ، ويشهد على رجعتها ويواقعها حتى تحيض ، فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلقها تطليقة أخرى من غير جماع ، ويشهد على ذلك ، ثم يراجعها أيضا متى شاء قبل أن تحيض ، ويشهد على رجعتها ويواقعها ، وتكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة ، فإذا خرجت من حيضتها الثالثة طلقها التطليقة الثالثة بغير جماع ويشهد على ذلك ، فإذا فعل ذلك فقد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، قيل له : فإن كانت ممن لا تحيض؟ فقال : مثل هذه تطلق طلاق السنة».

وعن محمد بن مسلم (١) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «طلاق السنة يطلقها تطليقة على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم يدعها حتى تمضي أقراؤها ، فإذا مضت أقراؤها فقد بانت منه ، وهو خاطب من الخطاب إن شاءت نكحته وإن شاءت فلا ، وإن أراد أن يراجعها أشهد على رجعتها قبل أن تمضى أقراؤها فتكون عنده على التطليقة الماضية».

وعن أبي بصير (٢) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن طلاق السنة ، قال : طلاق السنة إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته يدعها إن كان قد دخل بها حتى تحيض ثم تطهر ، فإذا طهرت طلقها واحدة بشهادة شاهدين ، ثم يتركها حتى تعد ثلاثة قروء ، فإذا مضت ثلاثة قروء فقد بانت منه بواحدة ، وكان زوجها خاطبا من الخطاب ، إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تفعل ، فإن تزوجها بمهر جديد كانت عنده على ثنتين باقيتين وقد مضت الواحدة ، فإن هو طلقها واحدة أخرى على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم تركها حتى تمضي أقراؤها ، فإذا مضت أقراؤها من قبل أن يراجعها فقد بانت منه باثنتين وملكت أمرها ، وحلت للأزواج ، وكان زوجها خاطبا من الخطاب ، إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تفعل ، فإن هو تزوجها

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٤ ب ١ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٧ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٥ ب ١ ح ٣ وعبارة «وأما طلاق الرجعة. إلخ» لم يذكرها صاحب الوسائل.

٢٧٢

تزويجا جديدا بمهر جديد كانت معه بواحدة باقية وقد مضت اثنتان ، فإن أراد أن يطلقها طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره تركها ، حتى إذا حاضت وطهرت أشهد على طلاقها تطليقة واحدة ، ثم لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وأما طلاق الرجعة فأن يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلقها بشهادة شاهدين ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر ، فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة أخرى ثم يراجعها ويواقعها ، ثم ينتظر بها الطهر ، فإذا حاضت وطهرت أشهد شاهدين على التطليقة الثالثة ، ثم لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وعليها أن تعتد ثلاثة قروء من يوم طلقها التطليقة الثالثة» الحديث.

قال في الكافي : ويستفاد من كلام بعضهم أن المعتبر في طلاق العدة الطلاق ثانيا بعد المراجعة والمواقعة ، وبعضهم لم يعتبر الطلاق ثانيا.

قيل : وربما لاح من كلام الشيخ في النهاية وجماعة أن الطلاق الواقع بعد المراجعة والمواقعة يوصف بكونه عديا وإن لم يقع بعده رجوع ووقاع ، لكن الطلاق الثالث لا يوصف بكونه عديا إلا إذا وقع بعد الرجوع والوقاع ، وفي بعض الروايات دلالة عليه.

أقول : ظاهر القول الأول والثاني هو اتصاف الطلاق الأول والثاني بكونه عديا دون الثالث ، لأن الأول جعل شرط الاتصاف بكونه عديا هو الطلاق ثانيا بعد المراجعة والمواقعة ، والقول الثاني اقتصر على المراجعة والمواقعة ، وكل منها حاصل في التطليقة الاولى والثانية ، أما الثالثة فلا ، ومقتضى ما نقل عن النهاية والجماعة المذكورين هو عدم اتصاف الطلاق الأول بكونه عديا ، وإنما يتصف بذلك الطلاق الثاني والثالث.

والذي وقفت عليه في تفسير الطلاق العدي من الأخبار المروية في كتب الأخبار هو ما نقله من الخبرين المذكورين ، ولم أقف على غيرهما. والمفهوم منهما أن الطلاق العدي عبارة عن هذه الطلقات الثلاث الواقعة على هذه الكيفية من غير

٢٧٣

تخصيص بالأولى أو الثانية أو غيرهما.

وفي معنى الخبرين المذكورين قول الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) ـ بعد أن ذكر طلاق السنة على نحو ما قدمناه في الأخبار المذكورة ـ : «وأما طلاق العدة فهو أن يطلق الرجل امرأته على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين ثم يراجعها من يومه أو من غد أو متى ما يريد من قبل أن تستوفي قروءها. فإذا أراد أن يطلقها ثانية لم يجز ذلك إلا بعد الدخول بها ، وإذا أراد طلاقها يتربص بها حتى تحيض وتطهر ، ثم طلقها في قبل عدتها بشاهدين عدلين ، فإن أراد مراجعتها راجعها. فإن طلقها الثالثة فقد بانت منه ساعة طلقها ، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فإذا انقضت عدتها منه وتزوجها رجل آخر وطلقها أو مات عنها وأراد الأول أن يتزوجها فعل ، وإن طلقها ثلاثا واحدة بعد واحدة على ما وصفناه لك فقد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، فإن تزوجها وطلقها أو مات عنها وأراد الأول أن يتزوجها فعل ، فإن طلقها ثلاث تطليقات على ما وصفته واحدة بعد واحدة فقد بانت منه ، ولا تحل له بعد تسع تطليقات أبدا».

وربما أشعر صدر كلامه عليه‌السلام بأن طلاق العدة ليس إلا عبارة عن الطلاق على الشروط ، ثم الرجوع في العدة خاصة حيث إنه بعد أن فسره بذلك قال : «فإذا أراد أن يطلقها ثانية لم يجز ذلك إلا بعد الدخول بها» فجعل الدخول بها شرطا في صحة الطلاق ثانيا. وظاهره أن طلاق العدة يتحقق بدون المواقعة.

وكيف كان فتوقف صحة الطلاق ثانيا على المواقعة محل كلام يأتي التنبيه عليه إن شاء الله تعالى ، وقد تضمن ذلك عجز صحيحة أبي بصير المتقدمة مما لم ننقله منها ، وهو موافق لما ذهب إليه ابن أبي عقيل في تلك المسألة الآتي تحقيقها إن شاء الله تعالى في محله.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : واعلم أن تعريف المصنف وغيره لطلاق

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٤٢ مع اختلاف يسير.

٢٧٤

السنة بالمعنى الأخص يقتضي اختصاصه بذات العدة ، وأنه يشمل العدة البائنة والرجعية ، وفي كثير من الأخبار كالذي أسلفناه ما يدل على اختصاصه بالعدة الرجعية ثم لا يراجع فيها ، والوجه لحوق أحكامه بكل طلاق لا يلحقه رجعة ، سواء كان ذلك لعدم العدة أم لكونها بائنة ، أم لكونها رجعية ولم يرجع ، فإنها لا تحرم به في التاسعة مؤبدا ، لاختصاص ذلك الحكم بطلاق العدة ، ولصدق عدم الرجعية في جميع ما ذكرناه ، انتهى.

أقول : ما ذكره ـ رحمه‌الله ـ من دلالة الأخبار على اختصاص طلاق السنة بذات العدة الرجعية التي لم يرجع فيها جيد كما لا يخفى على من تأمل الأخبار التي قدمناها ، فتعريفه بما يدخل فيه غير هذا الفرد من العدة البائنة أو غير ذات العدة غير جيد.

نعم لما كان التحريم في التاسعة مقصورا في الأخبار على طلاق العدة ومشروطا فيه المراجعة في العدة والمواقعة بعد الرجعة كان ما عداه من الأقسام المذكورة لا تحرم بها المرأة في التاسعة ، فهو حكم ثابت لطلاق السنة وغيره من الأفراد المذكورة.

وثالثها : المشهور بين الأصحاب أنه إذا طلق زوجته طلاق السنة المتقدم شرحه فإنها بعد الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا الطلاق يفارق طلاق العدة في أن المطلقة به لا تحرم مؤبدا ، بخلاف طلاق العدة فإنها تحرم بعد التاسعة مؤبدا ، وهو محل وفاق على ما نقله في المسالك ، ويشاركه بناء على المشهور في عدم الحل بعد الثالثة حتى تنكح زوجا غيره.

ونقل عن عبد الله بن بكير أن هذا الطلاق ـ أعني طلاق السنة ـ لا يحتاج إلى محلل بعد الثلاثة (١) بل استيفاء العدة الثالثة بهدم التحريم ، وهو ظاهر الصدوق

__________________

(١) والظاهر أنه لا خلاف فيما عدا طلاق السنة من أنواع الطلاق في أنه بعد الثالثة يتوقف على المحلل ، وانما محل الخلاف المنقول عن ابن بكير هو طلاق السنة خاصة ، ومحل الاختلاف في الاخبار أيضا انما هو طلاق السنة خاصة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٧٥

في الفقيه (١) أيضا ، حيث قال بعد أن أورد طلاق السنة : فجائز له أن يتزوجها بعد ذلك ، وسمي طلاق السنة طلاق الهدم ، لأنه متى استوفت قروءها وتزوجها ثانية هدم الطلاق الأول. وهو كما ترى ظاهر فيما ذهب اليه ابن بكير ، والمشهور في كلام الأصحاب تخصيص الخلاف في هذا المقام بابن بكير ، حتى أن شيخنا الشهيد الثاني في الروضة اعترض المصنف في قوله في اللمعة «وقد قال بعض الأصحاب أن هذا الطلاق لا يحتاج إلى محلل بعد الثلاث» ـ بعد تفسيره البعض المذكور بابن بكير وذكر رواياته ـ بأن عبد الله بن بكير ليس من أصحابنا الإمامية ، ولقد كان ترك حكاية قوله في هذا المختصر أولى.

وفيه أنه يجوز أن يكون المصنف إنما أراد بذلك البعض الصدوق لما عرفت ثم إنه لا يخفى عليك أن الظاهر أن عبارة الصدوق هنا مأخوذة من كتاب الفقه الرضوي (٢) حيث قال عليه‌السلام بعد شرح طلاق السنة : «وسمي طلاق السنة طلاق الهدم ، لأنه متى استوفت قروءها وتزوجها الثانية هدم الطالق الأول ـ وهي كما ترى عين عبارة الصدوق ، ثم قال عليه‌السلام : ـ وروي أن طلاق الهدم لا يكون إلا بزوج ثان». انتهى ، وهو إشارة إلى القول المشهور ، وفي نسبة ذلك إلى الرواية إيذان بأن الأول هو الذي يختاره ويفتي به عليه‌السلام ، ولهذا أفتى به الصدوق ـ رحمة الله عليه.

والواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام بما يسر الله سبحانه فهمه منها ، فمما يدل على القول المشهور صحيحة أبي بصير (٣) المتقدمة في سابق هذا الموضع.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٠ ضمن ح ١.

(٢) فقه الرضا ص ٢٤٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٦ ح ٤.

٢٧٦

وما رواه في التهذيب (١) في الصحيح عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته ، ثم تركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجها ، ثم طلقها من غير أن يدخل بها ، حتى فعل ذلك ثلاثا ، قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».

وعن الحسن بن زياد (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن طلاق السنة كيف يطلق الرجل امرأته؟ فقال : يطلقها في طهر قبل عدتها من غير جماع بشهود فإن طلقها واحدة ثم تركها حتى يخلو أجلها فقد بانت منه ، وهو خاطب من الخطاب ، وإن راجعها فهي عنده على تطليقة ماضية ، وبقي تطليقتان ، وإن طلقها الثانية ثم تركها حتى يخلو أجلها فقد بانت منه ، وإن هو أشهد على رجعتها قبل أن يخلو أجلها فهي عنده على تطليقتين ماضيتين وبقيت واحدة ، فإن طلقها الثالثة فقد بانت منه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهي ترث وتورث ما كان له عليها رجعة من التطليقتين الأولتين».

وما رواه الشيخ (٣) في الصحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا أراد الرجل الطلاق طلقها قبل عدتها في غير جماع فإنه إذا طلقها واحدة ثم تركها حتى يخلو أجلها إن شاء أن يخطب مع الخطاب فعل ، فإن راجعها قبل أن يخلو أجلها أو بعده كانت عنده على تطليقة ، فإن طلقها الثانية أيضا فشاء أن يخطبها مع الخطاب إن كان تركها (٤) حتى يخلو أجلها ، فإن شاء راجعها قبل أن ينقضي وإن فعل فهي عنده على تطليقتين ، فإن طلقها الثالثة

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٦٥ ح ١٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥١ ب ٣ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٧ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٦ ب ١ ح ٤ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٩ ح ٩ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٩ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٧ ب ١ ح ٧ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٤) قوله «ان كان تركها» قيد للمشية في قوله «فشاء أن يخطبها» وجواب الشرط محذوف أى فعل ، كما تقدم التصريح به في سابق هذا الكلام من الخبر. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٧٧

فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهي ترث وتورث ما كانت في الدم من التطليقتين الأولتين».

وما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن ابن أذينة وزرارة وبكير ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية والفضيل بن يسار وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى بن بسام كلهم سمعه عن أبي جعفر عليه‌السلام وعن ابنه أبي عبد الله عليه‌السلام بصورة ما قالوا وإن لم أحفظ حروفه غير أنه لم يسقط جمل معناه : إن الطلاق الذي أمر الله به في كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن المرأة إذا حاضت وطهرت من حيضها أشهد رجلين عدلين قبل أن يجامعها على تطليقه ، ثم هو أحق برجعتها ما لم تمض لها ثلاثة قروء ، فإن راجعها كانت عنده على تطليقتين وإن مضت ثلاثة قروء قبل أن يراجعها فهي أملك بنفسها ، فإن أراد أن يخطبها مع الخطاب خطبها ، فإن تزوجها كانت عنده على تطليقتين ، وما خلا هذا فليس بطلاق.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته تطليقة ثم يراجعها بعد انقضاء عدتها ، فإذا طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره» الحديث.

وما رواه في الكافي (٣) عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في المطلقة التطليقة الثالثة لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويذوق عسيلتها».

ونحو هذه الرواية مما دل بإطلاقه على ما ذكرناه ما رواه الشيخ (٤) في

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٩ ح ٧ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥١ ب ٣ ح ٧ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٧٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٣ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٢ ب ٣ ح ٩.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٧٦ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٣ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٣ ب ٣ ح ١٠ وما في المصادر «عسيلتها».

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٦٦ ح ١٣٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٠ ب ٣ ح ١.

٢٧٨

الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : «البكر إذا طلقت ثلاثة مرات وتزوجت من غير نكاح فقد بانت منه ، ولا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره».

ونحوها رواية طربال (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وعن عبد الله بن سنان (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في امرأة طلقها زوجها ثلاثا قبل أن يدخل بها ، قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره».

وأما ما يدل على ما ذهب إليه ابن بكير من أن استيفاء العدة يهدم الطلاق المتقدم ، ولا تحتاج المطلقة كذلك إلى محلل بعد الثالثة ، فهو ما رواه

الشيخ (٣) عن ابن بكير عن زرارة قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : الطلاق الذي يحبه الله والذي يطلقه الفقيه وهو العدل بين المرأة والرجل أن يطلقها في استقبال الطهر بشهادة شاهدين وإرادة من القلب ثم يتركها حتى تمضي ثلاثة قروء ، فإذا رأت الدم في أول قطرة من الثالثة وهو آخر القروء ـ لأن الأقراء هي الأطهار ـ فقد بانت منه ، وهي أملك بنفسها ، فإن شاءت تزوجته وحلت له بلا زوج ، فإن فعل هذا بها مائة مرة هدم ما قبله وحلت بلا زوج ، وإن راجعها قبل أن تملك نفسها ثم طلقها ثلاث مرات يراجعها ويطلقها لم تحل له إلا بزوج».

وما رواه في الكافي (٤) عن حميد بن زياد ، عن عبد الله بن أحمد عن ابن أبي عمير عن ابن المغيرة عن شعيب الحداد ، عن المعلى بن خنيس عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يطلق امرأته ثم لم يراجعها حتى حاضت ثلاث حيض ، ثم تزوجها ثم طلقها فتركها حتى حاضت ثلاث حيض ، ثم تزوجها ، ثم طلقها من غير أن يراجع ، ثم تركها حتى حاضت ثلاث حيض ، قال : له أن يتزوجها أبدا ما لم

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٨ ص ٦٥ ح ١٣٥ و ١٣٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٠ ب ٣ ح ٢ و ٣.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٣٥ ح ٢٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٥ ب ٣ ح ١٦ وفيهما اختلاف يسير.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٧٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٤ ب ٣ ح ١٣ وفيهما اختلاف يسير.

٢٧٩

يراجع ويمس. وكان ابن بكير وأصحابه يقولون هذا ما أخبرني ابن المغيرة ، قال : قلت له : من أين قلت هذا؟ قال : قلته من قبل رواية رفاعة ، روى عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه يهدم ما مضى ، قال : قلت له : فإن رفاعة إنما قال : طلقها ، ثم نزوجها رجل ثم طلقها ، ثم تزوجها الأول ، إن ذلك يهدم الطلاق الأول».

وعن حميد بن زياد عن ابن سماعة عن محمد بن زياد وصفوان عن رفاعة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طلق امرأة حتى بانت منه وانقضت عدتها ، ثم تزوجت زوجا آخر فطلقها أيضا ، ثم تزوجها زوجها الأول ، أيهدم ذلك الطلاق الأول؟ قال : نعم. قال ابن سماعة : وكان ابن بكير يقول : المطلقة إذا طلقها زوجها ثم تركها حتى تبين ثم تزوجها فإنما هي عنده على طلاق مستأنف قال : وذكر الحسين بن هاشم أنه سأل ابن بكير عنها ، فأجابه بهذا الجواب ، فقال له : سمعت في هذا شيئا؟ فقال : رواية رفاعة ، فقال : إن رفاعة روى إذا دخل بينهما زوج ، فقال : زوج وغير زوج عندي سواء ، فقلت : سمعت في هذا شيئا؟ فقال : لا ، هذا ما رزق الله عزوجل من الرأي ، قال ابن سماعة : وليس نأخذ بقول ابن بكير ، فإن الرواية إذا كان بينهما زوج».

وعن محمد بن أبي عبد الله عن معاوية بن حكيم عن ابن المغيرة (٢) قال : «سألت عبد الله بن بكير عن رجل طلق امرأته واحدة ثم تركها حتى بانت منه ثم تزوجها ، قال : هي معه كما كانت في التزويج ، قال : قلت له : فإن رواية رفاعة إذا كان بينها زوج ، فقال لي عبد الله : هذا زوج وهذا مما رزق الله من الرأي ومتى ما طلقها واحدة فبانت منه ثم تزوجها زوج آخر ثم طلقها زوجها

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٧ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٣ ب ٣ ح ١١ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٧٨ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٠ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥٣ ب ٣ ح ١٢ وما في المصادر اختلاف يسير ، وعبارة «قال معاوية بن حكيم.» غير موجودة في التهذيب والوسائل.

٢٨٠