الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

ومن هنا يمكن الاستدلال للقول بالبطلان بهذه الأخبار ، فإن المطلقة ثلاثا في مجلس واحد بمعنى تثليث الصيغ لا خلاف ولا إشكال في كونه يقع واحدة ، فلم يبق إلا الحمل على إيقاع الصيغة بلفظ ثلاثا الذي هو محل البحث هنا وقد حكموا عليهم‌السلام بالبطلان ، وأن المطلقات كذلك ذوات أزواج. إلا أن الشيخ لحكمه بوقوع الثلاث واحدة في الصورة المذكورة كما هو المشهور حمل هذه الأخبار على اختلاف بعض الشرائط الموجبة لصحة الطلاق ، ولا يخفى بعده.

ويؤيد الروايات المذكورة ما قدمناه من الأخبار (١) الدالة على أنه إذا أراد الرجل تزويج المطلقة ثلاثا انتظر أن تكون في طهر وأتى بشاهدين معه ، وسأل زوجها هل طلقت فلانة؟ فإذا قال نعم فهي تطليقة ، تعتد بعدها عدة المطلقة ، ثم يتزوجها ، فإنها أظهر ظاهر في بطلان الطلاق الأول الذي وقع من المخالف.

لكن بإزاء هذه الأخبار أيضا أخبار أخر تدل على جواز التزويج في هذه الصورة من غير الاحتياج إلى طلاق آخر ، إلزاما لهم بما ألزموا به أنفسهم.

ومنها ما رواه في التهذيب (٢) عن إبراهيم بن محمد الهمداني في الصحيح أو الحسن قال : «كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام مع بعض أصحابنا فأتاني الجواب بخطه الشريف : فهمت ما ذكرت من أمر بنتك وزوجها فأصلح الله لك ما تحب صلاحه فأما ما ذكرت من خسته بطلاقها غير مرة ، فانظر يرحمك الله فإن كان ممن يتولانا ويقول بقولنا فلا طلاق عليه ، لأنه لم يأت أمرا جهله ، وإن كان ممن يتولانا ويقول بقولنا فاختلعها منه فإنه إنما نوى الفراق بعينه».

وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : امرأة طلقت

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٥٩ ح ١١٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢٣ ب ٣١ ح ١ و ٢.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٥٧ ح ١٠٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢٠ ب ٣٠ ح ١ ، وفيهما «أبى جعفر الثاني» وكذلك «ومن حنته» وأيضا «وان كان ممن لا يتولانا ولا يقول بقولنا فاختلعها منه».

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٥٨ ح ١٠٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٠ ب ٣٠ ح ٣.

٢٤١

على غير السنة ، قال : تتزوج هذه المرأة ، ولا تترك بغير زوج».

وعن عبد الله بن سنان (١) قال : «سألته عن رجل طلق امرأته بغير عدة ثم أمسك عنها حتى انقضت عدتها ، هل يصلح لي أن أتزوجها؟ قال : نعم ، لا تترك المرأة بغير زوج».

وعن ابن جبلة (٢) قال : «حدثني غير واحد من أصحاب علي بن أبي حمزة عن علي بن أبي حمزة أنه سأل أبا الحسن عليه‌السلام عن المطلقة على غير السنة ، أيتزوجها الرجل؟ فقال : ألزموهم من ذلك ما ألزموا أنفسهم ، وتزوجوهن فلا بأس بذلك قال الحسن : وسمعت جعفر بن سماعة وسئل عن امرأة طلقت على غير السنة ، ألي أن أتزوجها؟ فقال : نعم. قلت : أليس تعلم أن علي بن حنظلة روى إياكم والمطلقات على غير السنة فإنهن ذوات أزواج؟ فقال : يا بني رواية علي بن أبي حمزة أوسع على الناس ، قلت : وأي شي‌ء روى علي بن أبي حمزة؟ قال : روى عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال : ألزموهم من ذلك ما ألزموه أنفسهم ، وتزوجوهن فإنه لا بأس بذلك».

وعن عبد الأعلى (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، قال : إن كان مستحقا بالطلاق ألزمته ذلك».

وعن أبي العباس البقباق (٤) قال : «دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام قال : فقال لي : ارو عني أن من طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فقد بانت منه».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٨ ص ٥٨ ح ١٠٨ و ١٠٩، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢١ ب ٣٠ ح ٤ و ٥ وفيهما اختلاف يسير.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٥٩ ح ١١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢١ ب ٣٠ ح ٧ وفيهما «مستخفا».

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٥٩ ح ١١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢١ ب ٣٠ ح ٨ وفيهما «أبي العباس البقباق».

٢٤٢

وما رواه في الكافي (١) عن جعفر بن محمد بن عبد الله عن أبيه قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن تزويج المطلقات ثلاثا ، فقال لي : إن طلاقكم لا يحل لغيركم ، وطلاقهم يحل لكم ، لأنكم لا ترون الثلاث شيئا وهم يوجبونها».

وما رواه الشيخ في التهذيب (٢) عن جعفر بن محمد العلوي قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام» الحديث ، بدون قوله «وهم يوجبونها».

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه قد صرح الأصحاب بأنه لو كان المطلق مخالفا يعتقد الطلاق ثلاثا لزمته ، وكذا كل طلاق على غير السنة مما يحكمون بلزومه وصحته كوقوع الطلاق بغير إشهاد ووقوعه في الحيض وباليمين وبالكناية مع النية ، فإنه في جميع هذه المواضع يلزمون بصحته ويحكم عليهم بذلك ، واستدلوا على ذلك بجملة من الأخبار المتقدمة ، مثل صحيحة إبراهيم بن محمد الهمداني ورواية على بن أبي حمزة ورواية عبد الأعلى ، وما ذكروه ـ رحمة الله عليهم ـ ودلت عليه الأخبار المذكورة من إلزامهم بذلك والحكم عليهم به مما لا إشكال فيه ، مضافا إلى الإجماع المدعى عليه كما نقله في المسالك.

ويؤيده أيضا ما رواه محمد بن مسلم في الموثق (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الأحكام ، قال : يجوز على كل ذي دين ما يستحلونه». ورواية عبد الله بن محرز (٤) الواردة في الميراث.

__________________

(١) لم نعثر عليه في الكافي بل وجدناه في الفقيه مرسلا ج ٣ ص ٢٥٧ ح ٥ عن الصادق عليه‌السلام مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢١ ب ٣٠ ح ٩.

(٢) التهذيب ج ٣ ص ٥٩ ح ١١٢ وقد وجدنا فيها عبارة «وهم يوجبونها».

(٣) التهذيب ج ٩ ص ٣٢٢ ح ١١ ، الوسائل ج ١٧ ص ٤٨٤ ب ٤ ح ٤.

(٤) وهي ما رواه عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل ترك ابنته وأخته لأبيه وامه ، قال : المال كله لابنته ، وليس للأخت من الأب والام شي‌ء. قلت : فانا قد احتجنا الى هذا والرجل الميت من هؤلاء الناس وأخته مؤمنة ، قال : فخذ لها النصف ، خذوا منهم ما يأخذون منكم في سنتهم وقضائهم وأحكامهم ، قال : فذكرت ذلك لزرارة

٢٤٣

إنما الإشكال في أن جملة من هذه الروايات قد صرحت بجواز تزويج تلك المرأة المطلقة بهذا الطلاق الجاري على غير السنة ، مع ما عرفت من الروايات الدالة على أن المطلقات على غير السنة ذوات أزواج ، فلا يجوز تزويجهن ، والأخبار الدالة على أنه متى أراد الرجل تزويج واحدة ممن طلقت كذلك انتظر طهرها وأتى بشاهدين معه فسأل زوجها هل طلقت فلانة؟ فإذا قال نعم كانت تطليقة واعتدت لها ، فإذا خرجت من العدة جاز تزويجها.

والمنافاة بين هذه الروايات ظاهرة ولم أر من تعرض لوجه الجمع بينها. والظاهر خروج هذه الأخبار الدالة على الجواز مخرج الرخصة في التزويج بهن ، وإليه يشير كلام جعفر بن سماعة المتقدمة وإن كان الأصل والأفضل هو المنع.

ومما يستأنس به لذلك رواية شعيب الحداد (١) قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل من مواليك يقرؤك السلام ، وقد أراد أن يتزوج امرأة قد وافقته وأعجبه بعض شأنها ، وقد كان لها زوج ، فطلقها ثلاثا على غير السنة ، وقد كره أن يقدم على تزويجها حتى يستأمرك فتكون أنت آمره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هو الفرج وأمر الفرج شديد ، ومنه يكون الولد ، ونحن نحتاط فلا يتزوجها».

فإن الظاهر أن هذا المنع على وجه الأفضلية ، فالاحتياط هنا مستحب ، وإن جاز التزويج رخصة بالأخبار المتقدمة.

ويمكن الجمع بين هذه الأخبار بأنه إن كانت الزوجة مخالفة جاز

__________________

فقال : ان على ما جاء به لنورا ، خذهم بحقك في أحكامهم وسنتهم كما يأخذون منكم فيه». وفي معناه أخبار عديدة. (منه ـ قدس‌سره ـ). راجع الرواية في الكافي ج ٧ ص ١٠٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٣٢١ ح ٩ ، الوسائل ج ١٧ ص ٤٨٤ ب ٤ ح ١ و ٢ ، وما في المصادر «ان على ما جاء به ابن محرز لنورا».

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٩٣ ب ١٥٧ ح ١ وفيهما «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام» وكذلك «أنت تأمره».

٢٤٤

تزويجها ، وإليه يشير حديث الإلزام بما ألزموا أنفسهم (١) ، وإن كانت مؤمنة فلا إلا بطلاق جديد. إلا أنه ينافيه ظاهر خبر إبراهيم بن محمد الهمداني مع عدم الإشارة إليه في شي‌ء من هذه الأخبار.

الركن الرابع في الاشهاد : وفيه مسائل :

الأولى : اتفق النص والفتوى على اشتراط الاشهاد في صحة الطلاق ، فلا بد من حضور شاهدين حال إنشاء الطلاق ، ولو تجرد عنهما بطل ، وبذلك تكاثرت الأخبار.

ومنها قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم (٢) «طلاق السنة يطلقها تطليقة يعني على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين» الحديث.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة (٣) «فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع ، ويشهد شاهدين على ذلك» الحديث.

وقوله عليه‌السلام في صحيحة أبي بصير (٤) «فإذا طهرت طلقها واحدة بشهادة شاهدين ـ إلى أن قال : ـ فإن طلقها واحدة أخرى على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين ثم تركها حتى يمضي أقراؤها ـ إلى أن قال أيضا : ـ وأما طلاق الرجعة فإنه يدعها حتى تحيض وتطهر ثم يطلقها بشهادة شاهدين» الحديث.

وفي حسنة زرارة ومحمد بن مسلم (٥) ومن معهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام «أنهما قالا : وإن طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق».

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٥٨ ح ١٠٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢١ ب ٣٠ ح ٥.

(٢ و ٣) الكافي ج ٦ ص ٦٤ ح ١ و ٢، التهذيب ج ٨ ص ٢٥ ح ١ وص ٢٦ ح ٢، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٤ ب ١ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٦٦ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٤٥ ب ١ ح ٣ وص ٣٤٩ ب ٢ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٥) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٢ ب ١٠ ح ٣.

٢٤٥

وحسنة زرارة ومحمد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الطلاق لا يكون بغير شهود ، والرجعة بغير شهود» الحديث.

ورواية أبي الصباح الكناني (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من طلق بغير شهود فليس بشي‌ء». إلى غير ذلك من الأخبار التي تأتي إن شاء الله في المباحث الآتية.

ثم إنه لا بد من شهادتهما مجتمعين ، فلا يجزي لو كانا متفرقين.

ويدل عليه ما رواه في الكافي (٣) في الصحيح أو الحسن عن البزنطي قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته على طهر من غير جماع وأشهد اليوم رجلا ، ثم مكث خمسة أيام ، ثم أشهد آخر ، فقال إنما أمر أن يشهدا جميعا».

وما رواه في التهذيب (٤) في الصحيح عن ابن بزيع عن الرضا عليه‌السلام قال : «سألته عن تفريق الشاهدين في الطلاق؟ فقال : نعم ، وتعتد من أول الشاهدين ، وقال : لا يجوز حتى يشهدا جميعا».

أقول : صدر الخبر مراد به الأداء بمعنى جواز تفريق الشاهدين في أداء الشهادة ولهذا قال «من أولها» فإن إخبارها بالطلاق بعد وقوعه كاف في الشروع في العدة ، والتزويج يتوقف على الثاني لثبوت الطلاق بذلك ، وعجز الخبر مراد به التحمل كما دل عليه الخبر الأول.

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٥) : وإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته يتربص بها حتى تحيض وتطهر ، ثم يطلقها تطليقة واحدة في قبل عدتها بشاهدين عدلين في مجلس واحد ، فإن أشهد على الطلاق رجلا واحدا ثم أشهد بعد

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٣ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٧١ ب ١٣ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٣ ب ١٠ ح ٦.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٧١ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠١ ب ٢٠ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٥٠ ح ٧٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠١ ب ٢٠ ح ٢.

(٥) فقه الرضا ص ٢٤١.

٢٤٦

ذلك برجل آخر لم يجز ذلك الطلاق ، إلا أن يشهدهما جميعا في مجلس واحد بلفظ واحد. إلخ. ويكفي سماعهما في الشهادة على الطلاق ، ولا يشترط استدعاؤهما لذلك لأن الشهادة لا يشترط في ثبوتها في نفسها طلبها من الشهود.

وعلى ذلك يدل ما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن أحمد بن محمد ابن أبي نصر قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل كانت له امرأة طهرت من حيضها فجاء إلى جماعة فقال : فلانة طالق ، أيقع عليها الطلاق ولم يقل اشهدوا؟ قال : نعم».

وعن صفوان بن يحيى (٢) عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل طهرت امرأته من حيضها فقال فلانة طالق ، وقوم يسمعون كلامه ، ولم يقل لهم اشهدوا ، أيقع الطلاق عليها؟ قال : نعم ، هذه شهادة».

وهل يشترط في الشهادة على الطلاق العلم بالمطلقة؟ ظاهر السيد السند في شرح النافع ذلك ، ولم أقف لغيره على كلام في هذا المقام.

قال ـ رحمة الله عليه ـ : واعلم أن الظاهر من اشتراط الإشهاد أنه لا بد من حضور شاهدين يشهدان الطلاق بحيث تتحقق معه الشهادة بوقوعه ، وإنما يحصل ذلك مع العلم بالمطلقة على وجه يشهد العدلان بوقوع طلاقها ، فما اشتهر بين أهل زماننا من الاكتفاء بمجرد سماع العدلين صيغة الطلاق ـ وإن لم يعلما المطلق والمطلقة بوجه ـ بعيد جدا ، بل الظاهر أنه لا أصل له في المذهب ، فإن النص والفتوى متطابقان على اعتبار الاشهاد ، ومجرد سماع صيغة لا يعرف قائلها لا يسمى إشهادا قطعا ، وممن صرح باعتبار علم الشهود بالمطلقة الشيخ ـ رحمه‌الله ـ في النهاية ، فإنه قال «ومتى طلق ولم يشهد شاهدين ممن ظاهره الإسلام كان طلاقه غير واقع ، ثم قال : وإذا أراد الطلاق فينبغي أن يقول : فلانة طالق ، ويشير إلى المرأة بعد أن يكون العلم قد سبق بها من الشهود ، فيقول هذه طالق».

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٦ ص ٧٢ ح ٣ و ٤، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٢ ب ٢١ ح ١ و ٢ وفيهما اختلاف يسير.

٢٤٧

ويدل على ذلك ـ مضافا إلى ما ذكرناه من عدم تحقق الاشهاد بدون العلم بالمطلقة ـ ما رواه الكليني عن محمد بن أحمد بن مطهر (١) قال : «كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه‌السلام : إني تزوجت نسوة لم أسأل عن أسمائهن ثم أريد طلاق إحداهن وتزويج امرأة أخرى ، فكتب عليه‌السلام : انظر إلى علامة إن كانت بواحدة منهن فتقول : اشهدوا أن فلانة التي لها علامة كذا وكذا هي طالق ، ثم تزوج الأخرى إذا انقضت العدة». انتهى كلامه.

أقول : ظاهر كلامه أن مراده بالعلم بالمطلقة والمطلق هو العلم الموجب لتميزها وتشخصها دون العلم في الجملة ، وإلا فالعلم في الجملة مما لا إشكال فيه ولا مرية يعتريه ، لا من أهل زمانه ولا من غيرهم ، وهو الذي جرى عليه كافة من حضرنا مجالسهم من مشايخنا المعاصرين.

وأما العلم بالمعنى الذي ذكر ، فلا أعرف عليه دليلا واضحا ، وجميع ما استدل به في المقام لا يخلو من النظر الظاهر لذوي الأفهام ، مع قيام صريح الدليل ـ كما ستعرف إن شاء الله تعالى ـ على خلافه.

فأما ما ذكره من عدم تحقق الاشهاد بدون العلم بالمطلقة ، ففيه ما ذكرناه من التفصيل ، بأنه إن أراد العلم بها على وجه تميزها وتشخصها فهو ممنوع ، وهو عين المدعى ، لا بد لإثباته من دليل ، وإن أراد في الجملة فهو مسلم ، والأمر كذلك ، فإنه لو قال : زوجتي فاطمة طالق ، والشهود ليس لهم معرفة سابقة بها إلا بهذا الاسم الذي ذكره في هذه الحال ، فإنه كاف في العلم بها. وكذلك المطلق إذا علموا أن اسمه زيد مثلا فإنه يكفي في العلم به ، ولا يشترط أزيد من ذلك.

وعلى هذا تدل عبارة الشيخ التي نقلها دون ما عداه ، فإن قوله «فينبغي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٦٣ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠١ ب ٣ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

٢٤٨

أن يقول : فلانة طالق» يعني يسمي المطلقة باسمها العلمي كما ذكرناه ، ومع عدم معرفة اسمها العلمي فلا بد من شي‌ء يدل على التعيين لوجوبه في صحة الطلاق كما تقدم ، بأن يشير إلى امرأة جالسة ويقول هذه طالق ، بعد علم الشهود بها ولو في الجملة بأن تكون بنت فلان أو أخت فلان أو البصرية أو الكوفية أو نحو ذلك مما يفيد العلم في الجملة.

وأما الخبر الذي ذكره ، فإنه تضمن أن الزوج لا يعرف أسماء النساء ، والحال أنه يريد طلاق واحدة منهن ، ومن شروط الطلاق كما تقدم تعيين المطلقة فلا يصح لو كان عنده زوجات متعددة أن يقول : إحداكن طالق ونحوه ، وإن خالف في ذلك بعض الأصحاب كما تقدم ، إلا أن الأشهر الأظهر وجوب التعيين ، وحينئذ فإذا تعذر معرفة الاسم العلمي ليعبر به في صيغة الطلاق فلا بد من لفظ يفيد التعيين ، مثل أن يعلمها بعلامة تزيل الاشتراك وتوجب التعيين ، وظاهر الخبر أنه لو كان يعرف أسمائهن وطلق واحدة منهن بالاسم العلمي لصح الطلاق ، ولم يشترط زيادة على ذلك ، وأنه إنما صار إلى التعيين بالعلامة لتعذر معرفة الاسم العلمي ، وهذا عين ما نقول به ولا دلالة فيه على العلم الذي يدعيه ، بل غايته العلم في الجملة.

ومما يدل صريحا على ما قلناه وينادي بصحة ما ادعيناه ما رواه في الكافي (١) عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعا عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي بصير يعني المرادي قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل يتزوج أربع نسوة في عقدة واحدة أو قال في مجلس واحد ومهورهن مختلفة ، قال : جائز له ولهن ، قلت : أرأيت إن هو خرج إلى بعض البلدان فطلق واحدة من الأربع ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٣١ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٩٣ ح ٢٣٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٣ ب ٢٣ ح ١ ، وما في المصادر اختلاف يسير ، ولفظة «ليس» غير موجودة في الكافي والوسائل ولعلها سقطت من الرواة أو النساخ كما أشار إليها المعلق في الكافي فراجع.

٢٤٩

وأشهد على طلاقها قوما من أهل تلك البلاد وهم لا يعرفون المرأة ، ثم تزوج امرأة من أهل تلك البلاد بعد انقضاء عدة تلك المطلقة ، ثم مات بعد ما دخل بها ، كيف يقسم ميراثه؟ قال : إن كان له ولد فإن للمرأة التي تزوجها أخيرا من تلك البلاد ربع ثمن ما ترك ، وإن عرفت التي طلقت بعينها ونسبها فلا شي‌ء لها من الميراث وليس عليها العدة ، قال : وتقسم الثلاث النسوة ثلاثة أرباع ثمن ما ترك ، وعليهن العدة ، وإن لم تعرف التي طلقت من الأربع قسمن النسوة ثلاثة أرباع ثمن ما ترك بينهن جميعا وعليهن جميعا العدة».

ورواه الشيخ في الصحيح عن الحسن بن محبوب ، وطريقه إليه صحيح ، وهو مع صحة سنده صريح في صحة طلاق من لم يعرفها الشهود ، ومن الظاهر أن هذه المعرفة المنفية إنما هي المعرفة الشخصية التي ادعاها ، وإلا فإنه لا بد في صحة الطلاق من التعيين الموجب لوقوع الطلاق على واحدة معينة ، ولا ينافيه الاشتباه المذكور في آخر الرواية ، لجواز أن يكون القوم الذين طلق بحضورهم قد نسوا الاسم الذي سماها به.

وبالجملة فالخبر ظاهر بل صريح في خلاف ما ادعاه. نعم ربما يدل على ما ذكره ما رواه الشيخ (١) في الحسن عن حمران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يكون خلع ولا تخيير ولا مباراة إلا على طهر من المرأة من غير جماع وشاهدين يعرفان الرجل ويريان ويعرفان المرأة ويحضران التخيير ، وإقرار المرأة أنها على طهر من غير جماع يوم خيرها. فقال له محمد بن مسلم : ما إقرار المرأة هاهنا؟ قال : يشهد الشاهدان عليها بذلك للرجل ، حذار أن تأتي بعد فتدعي أنه خيرها وهي طامث ، فيشهدان عليها بما سمعا منها» الحديث.

إلا أن ظاهر هذا الخبر لم يتضمن الطلاق ، وهو غير هذه الأشياء المذكورة ،

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٩٩ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٤ ب ٢٣ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

٢٥٠

ويمكن حمله على الاستحباب والاحتياط.

وبالجملة فإن ما ذكرنا من الاكتفاء بالمعرفة الإجمالية هو الذي جرى عليه مشايخنا الذي عاصرناهم وحضرنا مجالس طلاقهم كما حكاه هو أيضا عما اشتهر في زمانه ، وأما ما ادعاه ـ رحمه‌الله ـ فلم أقف له على موافق ، ولا دليل يعتمد عليه ، ولم أقف لأحد من أصحابنا على بحث في هذه المسألة سوى ما نقلناه عنه ، وقد عرفت ما فيه.

المسألة الثانية : المشهور بين الأصحاب اعتبار العدالة في الشاهدين ، وعليه يدل ظاهر الآية ، وهو قوله تعالى «ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» (١) والتقريب فيها أن الخطاب للمسلمين ، فالإسلام مستفاد من قوله منكم ، ويبقى اعتبار العدالة أمرا زائدا على الإسلام ، فلا يكفي مجرد الإسلام كما ادعاه جملة من الأعلام ، أو لهم الشيخ في بعض كتبه. وقد وافق على الاستدلال بالآية شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في هذا الكتاب وإن خالف نفسه في كتاب الشهادات فارتكب التأويل فيها بما يخرجها عن الاستدلال بها بما لا يخفى ضعفه على المتأمل في هذا المقال.

ومن الاخبار الدالة على ما ذكرناه من اشتراط العدالة قول الصادقين عليهما‌السلام في صحيحة الفضلاء (٢) «وإن طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع ، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين فليس طلاقه إياها بطلاق».

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في حسنة بكير وغيره (٣) «وإن طلقها للعدة بغير شاهدي عدل فليس طلاقه بطلاق».

وقول أمير المؤمنين عليه‌السلام في رواية محمد بن مسلم (٤) «أشهدت رجلين عدلين كما أمر الله عزوجل؟ فقال : لا ، فقال : اذهب فإن طلاقك ليس بشي‌ء».

__________________

(١) سورة الطلاق ـ آية ٢.

(٢ و ٣) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١١ وص ٦١ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٢ ب ١٠ ح ٣ و ٢.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٣ ب ١٠ ح ٧ وفيهما اختلاف يسير.

٢٥١

وقول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة زرارة (١) «ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها» الحديث.

وقول أبي الحسن عليه‌السلام في حسنة أحمد بن محمد بن أبي نصر (٢) «يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عدلين كما قال الله عزوجل في كتابه ، فإن خالف ذلك رد إلى كتاب الله تعالى».

إلى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، وبذلك يظهر لك ضعف القول بالاكتفاء بمجرد الإسلام كما تقدم نقله عن الشيخ ، وتبعه فيه جملة من الأعلام ، منهم شيخنا الشهيد الثاني وسبطه في شرح النافع والمحدث الكاشاني في المفاتيح. قال في النهاية : ومتى طلق ولم يشهد شاهدين ممن ظاهره الإسلام كان طلاقه غير واقع ـ ثم قال : ـ فإن طلق بمحضر من رجلين مسلمين ولم يقل لهما اشهدا وقع طلاقه ، وجاز لهما أن يشهدا بذلك.

أقول : هكذا نقل عنه السيد السند في شرح النافع ، وفيه أنه وإن ذكر هذا الكلام في كتاب الطلاق إلا أنه قال في كتاب الشهادات : العدل الذي يجوز قبول شهادته للمسلمين وعليهم هو أن يكون ظاهره ظاهر الايمان ، ثم يعرف بالستر والعفاف ، والكف عن البطن والفرج واليد واللسان ، ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر ـ إلى أن قال : ـ وغير ذلك الساتر لجميع عيوبه ، ويكون متعاهدا للصلوات الخمس مواظبا عليهن حافظا لمواقيتهن متوفرا على حضور جماعة المسلمين غير متخلف عنهم إلا لمرض أو علة أو عذر ، وهو كما ترى مضمون ما دلت عليه صحيحة ابن أبي يعفور (٣) الواردة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٥ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٧ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٢ ب ١٠ ح ٤.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٢٤ ح ١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٤١ ح ١ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٨٨ ب ٤١ ح ١.

٢٥٢

في تعريف العدالة ، ثم قال : ويعتبر في شهادة النساء الايمان والستر والعفاف وطاعة الأزواج ، وترك البذاء والتبرج إلى أندية الرجال ، انتهى.

وحينئذ فما ذكره من العبارة المذكورة في النكاح إنما أجمل فيها اعتمادا على ما قدمه في كتاب الشهادات حيث إنه ذكره أولا قبل كتاب النكاح ، وإلا للزم التناقض بين كلاميه في كتاب واحد ، نعم ظاهره في المبسوط ذلك ، إلا أن ظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك أن الخلاف هنا غير الخلاف المشهور في معنى العدالة ، من أنها عبارة عن الملكة الراسخة كما هو المشهور بين المتأخرين أو الإسلام ، وأن كلام الشيخ هنا مبني على ذلك.

قال في المسالك في هذا المقام : وهل المعتبر في العدالة هنا ظهورها بترك المعاصي والقيام بالواجبات مع الايمان الخالص كما اعتبر في غايره من الشهادات؟ أم يكفي الإسلام وإن انتفى الايمان الخالص والعدالة بالمعنى المشهور؟ والأشهر الأول ـ إلى أن قال : ـ القول بالاكتفاء فيهما هنا بالإسلام للشيخ في النهاية وجماعة منهم القطب الراوندي ، إما بناء على أن الأصل في المسلم العدالة أو خصوص رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي (١) الحسنة قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته بعد ما غشيها بشهادة (شاهدين خ ل) عدلين ، فقال : ليس هذا طلاقا ، فقلت : جعلت فداك كيف طلاق السنة؟ فقال : يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشهادة عدلين كما قال الله عزوجل في كتابه ، فإن خالف ذلك يرد إلى كتاب الله تعالى ، فقلت له : فإن طلق على طهر من غير جماع بشاهد وامرأتين؟ فقال : لا تجوز شهادة النساء في الطلاق ، وقد تجوز شهادتهن مع غيرهن في الدم إذا حضرنه ، فقلت : فإن أشهد رجلين ناصبين على الطلاق ، أيكون طلاقا؟ فقال : من ولد على الفطرة أجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يعرف منه خيرا».

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٤٩ ح ٧١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٢ ب ١٠ ح ٤ وفيهما اختلاف يسير.

٢٥٣

وهذه الرواية واضحة الاسناد والدلالة على الاكتفاء بشهادة المسلم في الطلاق ولا يرد أن قوله «بعد أن يعرف منه خيرا» ينافي ذلك ، لأن الخير قد يعرف من المؤمن وغيره ، هو نكرة في سياق الإثبات لا يقتضي العموم ، فلا ينافيه مع معرفة الخير منه بالذي أظهر من الشهادتين والصلاة والصيام وغيرها من أركان الإسلام أن يعلم منه ما يخالف الاعتقاد الصحيح لصدق معرفة الخير منه معه ، وفي الخبر ـ مع تصديره باشتراط شهادة عدلين ثم اكتفاؤه بما ذكر ـ تنبيه على أن العدالة الإسلام وإذا أضيف إلى ذلك أن لا يظهر الفسق كان أولى ، انتهى.

قال سبطه في شرح النافع بعد نقل ذلك عنه : هذا كلامه ـ رحمه‌الله ـ وهو جيد ، والرواية الاولى مع صحتها دالة على ذلك أيضا ، فإن الظاهر أن التعريف في قوله عليه‌السلام فيها «وعرف بالصلاح في نفسه» للجنس لا للاستغراق وهاتان الروايتان مع صحبتهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما.

أقول : أشار بالرواية الاولى إلى ما قدمه في كلامه من استدلاله لهذا القول بصحيحة عبد الله بن سنان (١) قال : «قلت للرضا عليه‌السلام : رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ناصبين ، قال : كل من ولد على الفطرة وعرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته». ثم أورد رواية أحمد بن محمد بن أبي نصير وأردفها بكلام جده المذكور في تقريب الاستدلال بها من قوله «وهذه الرواية واضحة الإسناد. إلخ».

وأنت خبير بأنا قد قدمنا في بحث صلاة الجمعة من المجلد الثاني في الصلاة (٢) تحقيق الكلام في هذا المقام ، وأحطنا بأطراف النقض والإبرام ، وأوضحنا ما في كلام هذين الفاضلين من البطلان الظاهر لجملة الأفهام ، وأنه من أفحش الأوهام الناشئة عن الغفلة وعدم التدبر لأخبار أهل الذكر عليهم‌السلام ، إلا أنه ربما عسر

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٨ ح ١٨ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٨٣ ح ١٨٣ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٩٠ ب ٤١ ح ٥ وما في المصادر «عبد الله بن المغيرة».

(٢) الحدائق ج ١٠ ص ١٢.

٢٥٤

على الناظر في هذا الكتاب مراجعة ذلك الكتاب المذكور فيجره الوهم والتعصب لهذين الفاضلين إلى نسبة كلامنا إلى الضعف والقصور لما جبلت عليه قرايح أبناء الوقت والزمان من التعويل على أقوال المتقدمين دون الأقران ، فلا علاج إنا ارتكبنا مرارة التكرار لازاحة هذا الوهم عن تلك الأفكار ، فنقول : إن هذا الكلام باطل من وجوه :

الأول : ما قدمنا ذكره من دلالة الآية والأخبار على أن العدالة أمر زائد على مجرد الإسلام ، المعتضد ذلك بدلالة جملة من الأخبار كصحيحة ابن أبي يعفور (١) المشهورة وغيرها مما قدمنا ذكره في ذلك الكتاب ، الدال جميع ذلك على أنها عبارة عن التقوى والصلاح والعفاف ونحوها ، وبذلك يظهر ما في قول سبطه من أنهما سالمتان من المعارض فيتجه العمل بهما.

الثاني : أنه لا خلاف بين أصحابنا من هؤلاء القائلين بهذا القول وغيرهم في كفر الناصب ونجاسته وحل ماله ودمه ، وأن حكمه حكم الكافر الحربي ، وإنما الخلاف في المخالف الغير الناصب هل يحكم بإسلامه كما هو المشهور بين المتأخرين؟ أم بكفره كما هو المشهور بين المتقدمين؟ والروايتان قد اشتملتا على شهادة الناصبين على الطلاق ، فكيف يتم الحكم بالإسلام؟ ثم صحة الطلاق فرعا على ذلك مع الاتفاق نصا وفتوى على الكفر ، إلا أن يريدوا بالإسلام مجرد انتحال الإسلام ، فيدخل حينئذ فيه الخوارج والمجسمة والمشبهة فيكون ظلمات بعضها فوق بعض.

ثم لو تنزلنا عن ذلك وحملنا الناصب في الخبرين على المخالف كما ربما يدعيه الخصم ، حيث إن مذهبهم الحكم بإسلام المخالفين ، فإنا نقول : إن قبول شهادة المخالف مخالف للأدلة الشرعية كتابا وسنة لدلالتها على عدم جواز

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٨٨ ب ٤١ ح ١.

٢٥٥

قبول شهادة الفاسق والظالم ، وأي فسق وظلم أظهر من الخروج من الايمان والإصرار على ذلك ، لاعتقاد الفاسد المترتب عليه ما لا يخفى من المفاسد.

وأما ما أجاب به المحدث الكاشاني في المفاتيح ـ تبعا لصاحب المسالك من أن الفسق إنما يتحقق بفعل المعصية ، مع اعتقاد كونها معصية لا مع اعتقاد كونها طاعة ، والظلم إنما يتحقق بمعاندة الحق مع العلم به ـ فهو مردود بأنه لو تم هذا الكلام المنحل الزمام المموه الفاسد الناشئ عن عدم إعطاء التأمل حقه في هذه المقاصد لاقتضى قيام العذر للمخالفين وعدم استحقاق العذاب في الآخرة ، ولا أظن هؤلاء القائلين يلتزمونه.

وذلك فإن المكلف إذا بذل جهده وجده في تحصيل الحق وأتعب الفكر والنظر في ذلك وأداه نظره إلى ما كان باطلا في الواقع لعروض الشبهة له فلا ريب في أنه يكون معذورا عقلا ونقلا ، لعدم تقصيره في السعي في طلب الحق وتحصيله ، وامتثال ما أمر به ، وكذا يقوم العذر لمنكري النبوات من أهل الملل والأديان ، وهذا في البطلان أظهر من أن يحتاج إلى التبيان.

وبالجملة فإنه إن كان في هذا الاعتقاد الذي جعله طاعة ، وعدم العلم الذي ذكره إنما نشأ عن بحث ونظر ، فإنه يقوم بهما العذر شرعا عند الله عزوجل ، فلا مناص عما ذكرناه ، وإلا فلا معنى لكلامه بالكلية ، كما هو الظاهر لكل ذي عقل وروية.

الثالث : أنه قد استفاضت الروايات والأخبار عن الأئمة الأبرار عليهم‌السلام كما بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا «الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب» وما يترتب عليه من المطالب بكفر المخالفين وشركهم ونصبهم ونجاستهم ، وأن الكلب واليهودي خير منهم ، وهذا مما لا يجامع مع الحكم بالإسلام البتة فضلا عن العدالة ، ودلت أيضا على أنهم ليسوا من الحنيفية على شي‌ء ، وأنهم ليسوا إلا مثل الجدر المنصوبة ، وأنه لم يبق في يدهم إلا مجرد استقبال القبلة ، واستفاضت

٢٥٦

بعرض الأخبار على مذهبهم والأخذ بخلافه (١) واستفاضت ببطلان أعمالهم (٢) ، وأمثال ذلك مما يدل على خروجهم عن الملة المحمدية والشريعة النبوية بالكلية ، والحكم بعد التهم لا يجامع شيئا من ذلك.

الرابع : أنه يلزمه مما ذكره من أن الخبر نكرة في سياق الإثبات فلا يعم ، وكذا قول سبطه «أن التعريف في قوله : وعرف بالصلاح في نفسه للجنس لا للاستغراق» دخول أكثر الفسقة والمردة في هذا التعريف ، إذ ما من فاسق في الغالب إلا وفيه صفة من صفات الخير ، فإذا جاز اجتماع العدالة مع فساد العقيدة جاز مع شرب الخمر والزنا واللواط ونحو ذلك من الكبائر بطريق أولى ، بل يدخل في ذلك الخوارج والمرجئة وأمثالهما من الفرق التي لا خلاف في كفرها ، حيث إن الخبر بهذا المعنى حاصل فيهم ، فيثبت عدالتهم بذلك ، وإن كانوا فاسدي العقيدة ومتصفين بالكبائر العديدة ، نعوذ بالله من زلل الإقدام في الأحكام وطغيان الأقلام في معالم الحلال والحرام.

الخامس : قوله «إن الخير يعرف من المؤمن ـ إلى قوله ـ الصدق معرفة الخير منه» فإن فيه زيادة على ما تقدم أن الأخبار الصحيحة الصريحة قد استفاضت ببطلان عبادات المخالفين لاشتراط صحة العبادة بالإقرار بالولاية (٣) ، بل ورد عن الصادق عليه‌السلام سواء على الناصب صلى أم زنا (٤). والمراد بالناصب هو مطلق المخالف كما حققناه في كتابنا المذكور آنفا ، وحينئذ فأي خيرية في أعمال من قام الدليل على بطلانها وأنها في حكم العدم ، وكونها في الظاهر بصورة العبادة لا يجدي نفعا ، لأن خيرية الخير وشرية الشر إنما هو باعتبار ما يترتب على كل منهما

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٦ ضمن ح ٢.

(٢) الوسائل ج ١٨ ص ٧٥ ب ٩ ح ٤.

(٣) الوسائل ج ١ ص ٩٠ ب ٢٩.

(٤) عقاب الأعمال ص ٤٧١ ح ١٧ ولكن عن أبى جعفر عليه‌السلام مع اختلاف يسير.

٢٥٧

من النفع والضر كما ينادي به الخبر النبوي (١) «لا خير بخير بعده النار ، ولا شر بشر بعده الجنة».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الذي ظهر لي في معنى الخبرين المذكورين أنهما إنما خرجا مخرج التقية.

وتوضيح ذلك : إنه قد ظهر بما قدمناه من الوجوه أن المخالف ناصبا كان بالمعنى الذي يدعونه أو غيره لا خير فيه بوجه من الوجوه ، فخرج من البين بذلك ولو حمل الخير في الخير على مطلق الخير كما ادعاه في المسالك لجامع الفسق البتة ، إذ لا فاسق متى كان مسلما إلا وفيه خير ، فيلزم صحة الطلاق مع شهادة الفاسق ، وهو باطل إجماعا نصا وفتوى ، لدلالة الآية والرواية على رد خبره ، فلا بد من حمل الخير على أمر زائد على مجرد الإسلام ، ووجه الإجمال في الخبرين بالنسبة إلى هذه العبارة إنما هو التقية التي هي في الأحكام الشرعية أصل كل بلية ، وذلك أن السائل في الخبر الثاني (٢) لما سأله عن كيفية طلاق السنة أجابه عليه‌السلام بالحكم الشرعي الواضح ، وهو أن يطلقها إذا طهرت من حيضها قبل أن يغشاها بشاهدين عادلين كما قال الله تعالى عزوجل في كتابه ، فإن خالف ذلك رد إلى الكتاب ، بمعنى أنه يبطل ما أتى به من الطلاق لمخالفة الكتاب باشتراط عدالة الشاهدين ونحوه من تلك الشروط.

ولا ريب أن الطلاق بشهادة الناصبين بهذا التقرير باطل عند كل من له أنس بالأخبار ومعرفة بما يعتقدونه عليهم‌السلام في مخالفيهم من الكفر والشرك والعداوة ، فيجب رد من أشهدهما على طلاق إلى كتاب الله الدال على بطلان هذا الطلاق ، لكن لما سأل سائل بعد ذلك عن خصوص ذلك ، وكان المقام لا يقتضي الإفصاح بالجواب الواقعي أجمل عليه‌السلام في الجواب بعبارة توهم بظاهرها ما ذكره ، وتوهموه في بادي

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٣٧٩ ضمن ح ١٠ مع اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٧ ح ٦.

٢٥٨

النظر ، إلا أنه لما كان الناصب بمقتضى ما علم من مذهبهم وتواترت به أخبارهم لا خير فيه بالكلية كما عرفته ، وجب إخراجه من المقام ، وحمل العبارة المذكورة على من عداه ، ومما ذكرنا يعلم الكلام في الخبر الآخر.

وبذلك يظهر لك زيادة على ما قدمناه ما في كلام السيد السند وقوله «إن الروايتين سالمتان من المعارض» فإن معارضيهما أكثر من أن يحصى.

وبالجملة فإن الواجب في الاستدلال بالخبر في هذا الموضع وغيره النظر إلى انطباق موضع الاستدلال على مقتضى القواعد المعتبرة ، والقوانين المقررة في الأخبار ، فمتى كان مخالفا لها وخارجا عنها وجب طرحه ، وامتنع الاستناد إليه ، وإن كان ذلك الخبر صحيح السند صريح الدلالة ، لاستفاضة أخبارها بعرض الأخبار على الكتاب والسنة ، ولكن عادة أصحاب هذا الاصطلاح سيما السيد المذكور قصر النظر على الأسانيد ، فمتى صح الخبر لم ينظروا إلى ما في متنه من العلل كما قدمنا التنبيه عليه في غير موضع.

ثم إنه قال في المسالك في هذا المقام : ويتفرع على المشهور من اعتبار عدالة الشاهدين بمعنى ملكة التقوى والمروة أن المعتبر ثبوتها ظاهرا لا في نفس الأمر لأنه لا يطلع عليه إلا الله ، فلو اعتبر ذلك في حق غيرهما لزم التكليف بما لا يطاق ، فلا يقدح فسقهما في نفس الأمر في صحة الطلاق مع ظهور عدالتهما ، ولا يشترط حكم الحاكم بها ، بل ظهورها عند المطلق ومن يرتب على الطلاق حكما ، وهل يقدح فسقهما في نفس الأمر بالنسبة إليهما حتى لا يصلح لأحدهما أن يتزوج بها أم لا؟ نظرا إلى حصول شرط الطلاق ، وهو العدالة ظاهرا ، وجهان ، وكذا لو علم الزوج فسقهما مع ظهور عدالتهما ، ففي الحكم بوقوع الطلاق بالنسبة حتى تسقط عنه حقوق الزوجية ، ويستبيح أختها والخامسة وجهان ، والحكم بصحته فيهما لا يخلو من قوة ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن العدالة بالنسبة إلى المتصف بها غيرها بالنسبة إلى غيره ممن يتبعه ويعتقد عدالته ، وكلامه بالنسبة إلى الغير صحيح لا شك فيه

٢٥٩

ولا مرية تعتريه سواء فسرنا العدالة بالملكة كما هو المشهور بين المتأخرين ، وهو الذي ذكره هنا ، أو حسن الظاهر الذي دل عليه صحيح ابن أبي يعفور (١) كما هو المشهور بين متأخري المتأخرين ، فإنه على أي منهما إنما يبنى فيهما على ما يظهر للتابع ومعتقد العدالة من الاتصاف بذلك الصفات التي تضمنها الخبر مع عدم ظهور ما ينافيها ، وإنما الاشكال ومحل البحث بالنسبة إليه هو في نفسه.

وتوضيحه : إن من علم من نفسه الفسق مع كونه على ظاهر العدالة بين الناس ، فهل يجوز له الدخول في الأمور المشروطة بالعدالة ، وتقلدها من الإمامة في الجملة والجماعة والشهادة والجلوس في مجلس الحكم والقضاء بين الناس ونحو ذلك أم لا؟

ظاهر شيخنا المذكور ذلك ، واقتضاه فيما ذكره هنا من الصورتين المذكورتين بعض مشايخنا المعاصرين وتوقف آخر (٢) ، وفي الكفاية وافقه في

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٤ ح ١.

(٢) المقتفى له في الصورتين شيخنا الشيخ سليمان البحراني في بعض أجوبة المسائل بعد التردد ، والمتوقف شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح ـ قدس‌سرهما.

قال المحدث المذكور : ولو نواها يعني الإمامة وعد نفسه من أحد الشاهدين وكان تائبا عن المعاصي جاز له ذلك ، أما لو كان مصرا على المعاصي مرتكبا للكبائر فإشكال ، وللأصحاب فيه قولان أحدهما الجواز ، لان المدار انما هو على اعتقاد المؤتم أو المطلق ، وبناء للأمور على الظاهر دون الباطن ، ومن حيث انه إغراء للقبيح لانه عالم بفسق نفسه ، فكيف يتقلد ما ليس له ، خصوصا في الجماعة الواجبة كالجمعة؟ والأحكام الشرعية انما خرجت على الظاهر إذا لم يمكن الاطلاع على الباطن ، وهو مطلع على حقيقة الأمر ، والأول أوفق بالقواعد الأصولية ، الا أنه لما لم يكن نص في المسألة فاعتقادى الوقوف عن الحكم والعمل بالاحتياط في العلم والعمل ، ورد ما لم يأتنا به علم من أهل العصمة صلوات الله عليهم ، لقول الصادق عليه‌السلام : ارجه حتى تلقى امامك ، وان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٢٦٠