الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

بل بالقياس الذي منعته الشريعة ، ولم يقل به من المتأخرين إلا هذان الفاضلان كما عرفت ، وإلا فغيرهما من المحقق والعلامة وغيرهما كلهم على القول المشهور.

وكيف كان فإن التحقيق في المقام بناء على ما هو المختار عندنا من العمل جميع الأخبار ، وهو رد هذه الأخبار المتقدمة بعضها إلى بعض ، وحمل مطلقها على مقيدها ، ومجملها على مفصلها ، وارتكاب التأويل في الروايتين المذكورتين بقرينة ما دلت عليه الروايات الأخر ، وأن قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن قيس أو حسنته «يرسل إليها اعتدي ، فإن فلانا قد طلقك» ظاهر في أن هذه الرسالة إخبار عن طلاق سابق ، وأمر لها بالاعتداد منه ، لا أن «أعتدي» هي صيغة الطلاق وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، وحاصل معنى الخبر أن يطلق الرجل امرأته عند كل طهر ثم يرسل إليها. إلخ. ونحوه رواية عبد الله بن سنان ، وقوله عليه‌السلام «يرسل إليها فيقول الرسول اعتدي فإن فلانا قد فارقك» والرواية الأولى منهما صحتها أو حسنتها ـ إنما هو بإبراهيم بن هاشم الذي في سند ذينك الخبرين ، واعتبارهما إنما هو به ، فيجب عليهم قبولها لذلك. وتعضدها رواية البزنطي ، ودلالتها على الحصر في قوله «أنت طالق» وهي صريحة في المدعى. وحينئذ فيجب حمل إطلاق خبري الحلبي ومحمد بن مسلم فيما دلا عليه من أن «أعتدي» صيغة الطلاق على هذين الخبرين من تقدم الطلاق ، وأن قوله «اعتدي» إنما هو إخبار عن تقدم طلاق ، وأمر لها بالاعتداد منه حسبما ذكره الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ وظاهر كلام الكليني المتقدم نقله وقوع الخلاف بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام يومئذ ، فمذهب محمد بن أبي حمزة القول بأن «اعتدي» من صيغ الطلاق ، ومذهب الحسن بن سماعة الذي رواه عن بكير بن أعين هو أن الصيغة إنما هي «أنت طالق» ، وفي المسالك ذكر أنه عبد الله بن بكير بن أعين وطعن فيه ، والذي في الكافي إنما هو بكير الممدوح المعدود حديثه في الحسن ، وما ذكره من

٢٠١

بعد الحمل على التقية إنما يتم له في رواية محمد بن مسلم ، لاشتمالها على تلك الألفاظ دون رواية الحلبي ، فيمكن حملها على التقية ولا مانع منه ، ولا ينافيه عدم إمكان ذلك في تلك الرواية لجواز حملها على التقية بالمعنى الآخر الذي تقدمت الإشارة إليه غير مرة ، وقد تقدم في المقدمة الاولى (١) من المقدمات التي في أول كتاب الطهارة.

وبالجملة فالظاهر عندي هو القول المشهور وارتكاب التأويل في هذين الخبرين جمعا بينهما وبين الأخبار الأخر كما عرفته.

تنبيه

ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك توسعة الدائرة في المقام بالحكم بالصحة في جملة من الكنايات الظاهرة في إرادة معنى الطلاق تفريعا على الحكم بالصحة بلفظ اعتدي كما اختاره ، وأن ذلك لازم لمن قال بهذا القول. قال ـ رحمه‌الله ـ : نعم يمكن أن يقال : إن حكمه بوقوع الطلاق بقوله اعتدي مع النية وهو كناية قطعا يدل على وقوعه بغيره من الكنايات التي هي أوضح معنى من قوله اعتدي مثل قوله أنت مطلقة أو طلقتك أو من المطلقات أو مسرحة أو سرحتك أو مفارقة أو فارقتك أو من المسرحات أو من المفارقات إلى غير ذلك من الكنايات التي هي أوضح دلالة على الطلاق من قوله اعتدي ، بل قيل : إن السراح والفراق وما اشتق منهما ومن الطلاق صريح لا كناية لورودها في القرآن مرادا بها الطلاق كقوله تعالى «وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً» (٢) «وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً» (٣) «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» (٤) «أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» (٥) «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» (٦) «فوقوع الطلاق

__________________

(١) ج ١ ص ٥ ـ ١٢.

(٢) سورة الأحزاب ـ آية ٢٨.

(٣) سورة الأحزاب ـ آية ٤٩.

(٤) سورة البقرة ـ آية ٢٢٩.

(٥) سورة الطلاق ـ آية ٢.

(٦) سورة النساء ـ آية ١٣٠.

٢٠٢

بقوله اعتدي يدل بمفهوم الموافقة على وقوعه بجميع هذه الألفاظ وما في معناها ، وتبقى الكنايات التي لا تدخل في مفهوم الموافقة ـ بل إما مساوية لقوله اعتدي أو أخفى ـ مردودة لعدم الدليل.

ومنها قوله في الخبر خلية وبرية وبتة وبتلة ونحوها ، وحينئذ نكون أعملنا جميع الأخبار المعتبرة مؤيدا بعموم الآيات والأخبار الدالة على الطلاق من غير تقييد ، ولا يضرنا مفهوم الحصر في قوله «إنما الطلاق أن يقول : أنت طالق» لوجهين :

(أحدهما) أن الحصر في الصيغتين بطريق المطابقة ، وفي غيرهما بطريق الالتزام فلا منافاة.

(والثاني) إمكان حمله على مجرد التأكيد بقرينة قوله في رواية الحلبي «الطلاق أن يقول لها» من غير أداة الحصر ، ولا يرد على هذا الحصر المبتدأ في خبره ، لأن ذلك غير مطرد كما حقق في محله ، وقد وقع استعمال «إنما» في الكلام الفصيح مجردا عن الحصر ، وتقدم مثله في الأخبار ، ولو قيل بهذا القول لكان في غاية القوة ، وتوهم أنه خلاف الإجماع قد تكلمنا عليه غير مرة ، انتهى.

أقول : لا ريب أن ما ذكره من لزوم صحة الطلاق بهذه الكنايات المذكورة لمن قال بصحته بلفظ اعتدي جيد ، وأما أن ذلك صحيح كما ادعى قوته فهو ممنوع ، وما تكلفه في منع الحصر في الأخبار المذكورة بعيد جدا ، فإن المتأمل في سياقها لا يخفى عليه فهم الحصر منها ، إذ لا يخفى أن قوله عليه‌السلام ـ بعد عد تلك الألفاظ المدعي وقوع الطلاق بها ليس بشي‌ء ـ الطلاق أن يقول لها كذا وكذا في حال الطهر قبل المجامعة بشهادة عدلين أظهر ظاهر في إرادة الحصر ، ويؤيده ذكر شروط صحة الطلاق الآخر من الشهادة على الطلاق ، والانتقال من طهر المواقعة ، وكونها طاهرا ، فإن ذلك كله أدل دليل على أن المراد الحصر في هذا اللفظ مع اجتماع هذه الشروط ، وتكلف خلاف ذلك بعيد عن سياق الأخبار

٢٠٣

المذكورة كما لا يخفى على المتأمل المنصف.

وأما ورود لفظ السراح والفراق في القرآن بمعنى الطلاق فالظاهر في الجواب عن ذلك أن يقال : لا يخفى أن جل الآيات القرآنية وجملة الأخبار الواردة في السنة المطهرة إنما اشتملت على التعبير عن هذه الفرقة المخصوصة بلفظ الطلاق ، وظاهرها أن هذا هو اللفظ الحقيقي الموضوع لهذا المعنى ، وأن ما عداه من لفظ السراح والفراق ونحوهما إنما أطلقا مجازا أو كناية عنه في مقام المحاورة ، فلا يلزم من صحة صيغته بالطلاق صحة صيغته بهما ، لأن الصيغة أمر آخر متوقف على التوقيف والسماع من الشارع كما عرفت ، ومقتضى ذلك الاكتفاء في صيغة الطلاق ، بكل لفظ من هذه المادة ، إلا أنك قد عرفت أنه حيث كان النكاح عصمة شرعية ، فيجب استصحابها إلى أن يثبت المزيل لها شرعا ، والذي علم من الأخبار المتقدمة بالتقريب المتقدم إنما هو لفظ مخصوص من هذه المادة ، لا كل لفظ منها ، فيجب الوقوف على ما علم كونه مزيلا ، وتخصيص ما ذكرنا من العموم بذلك.

وثانيها : أنه لا يخفى أن ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من عدم الاكتفاء بتلك الألفاظ في صحة الطلاق من قوله «خلية أو برية» ونحوهما مما لا خلاف بين أصحابنا فيه نوى بهما الطلاق أو لم ينو ، وإنما الخلاف هنا من العامة حيث حكموا بوقوع الطلاق بها مع نيته ، والوجه في ذلك أن أصحابنا يشترطون في صحة الطلاق صراحة اللفظ الدالة عليه ، فلا يجوز بالمشترك الدال عليه وعلى غيره ، والظاهر أن مرادهم باشتراط النية فيه مع كون القصد إلى الطلاق شرطا في صحته ـ وإن كان باللفظ الصريح كما تقدم ذكره ـ هو أن الكناية لا يحكم بوقوع الطلاق بها إلا من العلم بإرادة الطلاق بخلاف الصريح ، فإن الحكم بوقوع الطلاق لا يتوقف على ذلك ، وإن كان القصد إلى الطلاق معتبرا فيه أيضا.

وتوضيح ذلك ما أفاده شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث قال : وهذه

٢٠٤

النية أمر آخر غير القصد الذي تقدم اعتباره في الصيغة الصريحة لأن المراد بالنية هنا قصد إيقاع الطلاق ، وهناك قصد لفظه لمعناه. وتحقيق الفرق أنه لما كان المعنى في اللفظ الصريح متحدا اكتفى بقصد اللفظ للمعنى بمعنى كون المتلفظ قاصدا قابلا للقصد ، وإن لم يصرح بالقصد ، ولهذا حكم عليه به بمجرد سماع اللفظ ، وإنما احترزوا باشتراط القصد عن مثل الساهي والنائم إذا أوقعا لفظا صريحا فإنه لا يعتد به لعدم القصد إلى مدلوله ، بخلاف الكناية فإن ألفاظها لما كانت مشتركة بين المقصود منها وهو الطلاق ونحوه لم تحمل عليه بمجرد قصده إلى المعنى لاشتراكه ، بل لا بد من القصد إلى بعض معانيه ، وهو الطلاق مثلا ، وهذا القصد على خلاف الأصل ، لأنه تخصيص المشترك بأحد معانيه ، فلا بد من العلم به ، وإلا لم يحكم عليه بالطلاق ولا غيره ، بخلاف الصريح ، فإن الأصل فيه إذا وقع من العاقل الخالي عن الموانع أن يكون قاصدا به مدلوله ، فهذا هو الفارق بين القصدين ، فتدبره ، فإنه من مواضع الاشتباه على كثير. انتهى ، وهو جيد رشيق ، وقد تقدم ما يؤكده ويعضده.

بقي هنا مواضع وقع الخلاف فيها (منها) ما لو قال : أنت مطلقة ، فظاهر الشيخ في المبسوط أنه يقع بها الطلاق مع النية ، قال في الكتاب المذكور : عندنا أن قوله أنت مطلقة إخبار عما مضى فقط ، فإن نوى به الإيقاع في الحال فالأقوى أن نقول إنه يقع. وقال في الخلاف : إذا قال لها : أنت مطلقة لم يكن ذلك صريحا منه في الطلاق وإن قصد بذلك أنها مطلقة الآن ، وهذا القول هو المشهور بين الأصحاب.

ويرد على ما ذهب إليه في المبسوط أنه يلزمه القول بذلك في غير هذه الصيغة ، لأن كلامه ظاهر في كونه هنا كناية إذ الصريح كما عرفت لا يفتقر إلى النية ، وحينئذ فيلزمه القول بذلك في سائر الكنايات من ألفاظ هذه المادة ،

٢٠٥

إذ لا يعرف هنا وجه خصوصية لهذه الصيغة دون غيرها ، مثل قوله أنت من المطلقات أو أنت طلاق ، بل هي أبلغ من قوله أنت طالق ، كما صرحوا به ، لأنهم متى أرادوا المبالغة في فاعل عدلوا به إلى لفظ المصدر ، فيقولون في عادل عدلا ، مبالغة لأنه أبلغ منه.

والمحقق في الشرائع رد هذا القول بأنه بعيد عن شبه الإنشاء ، لأنه إخبار عن وقوع الطلاق فيما مضى ، والأخبار غير الإنشاء.

واعترضه في المسالك بأن المصنف على ما تكرر منه مرارا وكذا غيره يجعلون لفظ الماضي أنسب بالإنشاء ، بل قد جعله في النكاح صريحا في الإنشاء ، فما الذي عدا فيما بدا؟ وقولهم إن نقل الاخبار إلى الإنشاء على خلاف الأصل مسلم ، لكن يطالبون بالفارق بين المقامين ، والموجب لجعله منقولا في تلك المواضع دون هذا ، فإن جعلوه النص فهو ممنوع ، بل ورد في الطلاق ما هو أوسع كما ستراه. وإن جعلوه الإجماع فالخلاف في المقامين موجود في صيغ كثيرة. انتهى ، وهو جيد متين بل جوهر ثمين.

وحينئذ فالحق في رد القول المذكور إنما هو عدم النص الدال على وقوع الطلاق بهذه الصيغة ، وقد عرفت أصالة استصحاب الحكم بالنكاح حتى يثبت الرافع شرعا ، والذي استفيد من الأخبار المتقدمة إنما هو صيغة طالق بإضافة ما يعين المطلقة ، ويبقى الباقي على أصالة المنع ، وهذا هو الحق في الجواب : مضافا إلى ما أشرنا إليه من أن اللازم من القول بهذه الصيغة القول بغيرها من صيغ الكنايات من هذه المادة ، وهو لا يلتزمه ولا يقول به.

(ومنها) ما لو قال : طلقت فلانة ، فقال الشيخ : إنه لا يقع به طلاقا ، قال : لأنه إخبار لا إنشاء.

وفيه (أولا) أن أكثر صيغ العقود المقصود بها الإنشاء إنما عبر فيما بلفظ الماضي الذي هو صريح في الاخبار ، فنقلوه إلى الإنشاء في تلك العقود ، مثل بعت

٢٠٦

وزوجت وصالحت ونحو ذلك ، وما نحن فيه كذلك ، على أنه لا خلاف في الصحة بلفظ فلانة طالق ، وقد صرحوا بأن الماضي أقرب إلى الإنشاء من اسم الفاعل.

(وثانيا) أن الشيخ قد صرح ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ بأنه لو قيل له : هل طلقت فلانة؟ فقال : نعم ، كان جوابه بنعم طلاقا لها ، وليس الوجه فيه إلا أن قوله نعم مقتض لإعادة السؤال ، فكأنه قال : طلقتها ، فقول نعم في معنى طلقتها ، وحينئذ فإذا وقع الطلاق باللفظ الراجع إلى شي‌ء وقع بذلك الشي‌ء البتة وهو «طلقتها» فيما نحن فيه ، فحكمه بالصحة ثمة موجب للحكم بها في هذه الصورة ، وهو ظاهر.

(ومنها) ما لو قيل له : هل طلقت فلانة؟ فقال : نعم ، فإن المشهور بين الأصحاب وبه صرح الشيخ في النهاية أنه يقع طلاقا ، وبه صرح ابن حمزة وابن البراج وغيرهما. وقال ابن إدريس : وإن قيل للرجل : هل طلقت فلانة؟ فقال : نعم ، كان ذلك إقرارا منه بطلاق شرعي.

قال في المختلف : والتحقيق أن نقول : إن قصد بذلك الإقرار بطلاق سابق حكم عليه به ظاهرا ودين بنيته في نفس الأمر ، وإن قصد بذلك الإنشاء فهل يصح؟ ظاهر كلام النهاية نعم ، وظاهر كلام ابن إدريس المنع.

أقول : والشيخ قد استند فيما ذهب إليه إلى رواية السكوني (١) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام «في الرجل يقال له : أطلقت امرأتك؟ فيقول : نعم ، قال : قد طلقها حينئذ».

فالتقريب فيها أن قوله نعم صريح في إعادة السؤال على سبيل الإنشاء ، لأن نعم في الجواب تابع للفظ السؤال ، فإذا كان صريحا كان الجواب صريحا فيما السؤال صريح فيه ، ولهذا إذا قيل لزيد في ذمتك مائة؟ فإن قال نعم كان إقرارا يوجب الحكم عليه بها.

وفيه (أولا) أنه قد تقدم في سابق هذا الموضع اعتراف الشيخ بأنه لا يقع

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٣٨ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٦ ب ١٦ ح ٦.

٢٠٧

الطلاق بقوله طلقت فلانة فكذا فيما هو بمعناه وهو قول «نعم» بالتقريب المذكور ، ولأن صحته كذلك تقضي صحة سائر العقود به مثل أن يقول له : هل بعت فلانا؟ فيقول : نعم ، وهم لا يقولون به ، وإنما خصوا الطلاق بذلك بالرواية.

(وثانيا) أنه لا يلزم من تضمن نعم معنى السؤال أن يكون بمنزلة لفظه من كل وجه ، وقائما مقامه من جميع الوجوه ، ولذا قال في المسالك : إنا لو جوزنا وقوعه بلفظ طلقت فلانة لا يلزم منه جواز وقوعه بلفظ نعم ، للفرق بين الملفوظ والمقدر في صيغ العقود والإيقاعات.

(وثالثا) عدم صراحة الرواية في كون نعم مقصودا بها الإنشاء ، فيحتمل الاخبار ، وأنه سأل عن إيقاع طلاق سابق ، فأجاب بنعم ، وأتى بالسبب الموجب للحكم عليه بالطلاق ، وهو اعترافه به. قال في المختلف بعد الطعن في الرواية بضعف السند ، مع أن الشيخ قال في المبسوط : يلزم الطلاق ، فإن كان صادقا لزمه باطنا وظاهرا ، وإن كان كاذبا لزمه في الحكم ، وهذا دليل على أنه جعله إقرارا بالطلاق لا إنشاء ، وتحمل الرواية على أنه أتى بالسبب الموجب للحكم عليه بالطلاق. انتهى ، وهو ظاهر فيما قلناه.

ثم إن العلامة في المختلف احتج أيضا برواية البزنطي المتقدمة أيضا الدالة على حصر صيغ الطلاق في قوله : أنت طالق ، قال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عنه ـ : وهذه الرواية أوضح دلالة على تخصيص أنت طالق من بين الصيغ المتنازع في وقوعه بها ، وهي سالمة من إضافة ما تقدم في رواية محمد بن مسلم أو يقول لها اعتدي ، ولو صحت لكانت أجود في الدلالة على نفي تلك الأقوال ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن الكتاب المذكور من الأصول المشهورة والكتب المأثورة ، والرواية صحيحة باصطلاح أصحابنا المتقدمين الذي عليه العمل دون هذا الاصطلاح المحدث فيثبت بها المدعى ، والعلامة مع كونه أصل هذا الاصطلاح المحدث قد اعتمد عليها ، واستدل بها في المقام.

وبالجملة فالأقرب في المسألة هو ما ذهب إليه ابن إدريس إلا إذا علمنا أنه

٢٠٨

لم يقع منه غيره ، وينبغي تقييد إطلاق كلام ابن إدريس بذلك ، والعلامة قيده بقصد الإقرار كما تقدم في كلامه.

قال في المسالك : ولا إشكال مع القصد ، إنما الكلام مع الجهل بحاله ، والوجه ما قلناه من الحكم بكونه إقرارا إلا مع العلم بانتفاء سابق ، ويرجع في ذلك إلى القرائن المفيدة لكونه مريد الإنشاء أو الإقرار. انتهى ، وهو مؤيد لما قلناه وواضح فيما ادعيناه.

ثم إنه بعد الوصول إلى هذا المكان اتفق وقوع النظر على جملة من الأخبار الظاهرة فيما ذهب إليه الشيخ زيادة على رواية السكوني التي طعنوا فيها بضعف السند.

ومنها ما رواه الكافي (١) عن عثمان بن عيسى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : فرجل طلق امرأته من هؤلاء ولي بها حاجة ، قال : فيلقاه بعد ما طلقها وانقضت عدتها عند صاحبها فتقول له : أطلقت فلانة؟ فإذا قال نعم فقد صار تطليقة على طهر ، فدعها من حين طلقها تلك التطليقة حتى تنقضي عدتها ، ثم تزوجها ، فقد صارت تطليقة بائنة».

وما رواه في الكافي والفقيه (٢) في الحسن أو الموثق عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته ثلاثا فأراد رجل أن يتزوجها ، فكيف يصنع؟ فقال : يدعها حتى تحيض وتطهر ، ثم يأتيه ومعه رجلان شاهدان فيقول : أطلقت فلانة؟ فإذا قال نعم تركها ثلاثة أشهر ، ثم خطبها إلى نفسه».

وما رواه في التهذيب (٣) عن إسحاق بن عمار في الموثق «في الرجل يريد

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٢٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٨٣ ب ٣٦ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٢٤ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٥٧ ح ٤ مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢٣ ب ٣١ ح ٢ مع اختلاف يسير وج ١٤ ص ٣٨٢ ب ٣٦ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٧٠ ح ٩٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢٣ ب ٣١ ذيل ح ٢.

٢٠٩

أن يتزوج المرأة وقد طلقت ثلاثا فأراد رجل أن يتزوجها ، كيف يصنع فيها؟ قال : يدعها حتى تطهر ، ثم يأتي زوجها ومعه رجلان يقول : قد طلقت فلانة؟» الحديث. كما في سابقه.

وعن حفص بن البختري (١) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته ثلاثة ، فأراد رجل أن يتزوجها ، كيف يصنع؟ قال : يأتيه فيقول : طلقت فلانة؟ فإذا قال نعم تركها ثلاثة أشهر ، ثم خطبها إلى نفسه».

أقول : قد اشتركت هذه الأخبار مع تعددها وقوة أسانيدها في الدلالة على وقوع الطلاق بلفظ نعم بعد السؤال عن أنه هل طلق أم لا ، وأن ذلك يقع طلقة واحدة بقرينة الأمر بإحضار الشاهدين بسماع ذلك ، وإيجاب العدة بعد سماع ذلك من الزوج. ومن الظاهر البين الظهور أن لفظ نعم هنا إنما وقع جوابا للسؤال عن طلاق سابق ، وأن الزوج المخبر بقوله نعم إنما قصد ذلك ، لا أنه قصد الإنشاء ، لأن المفروض في الاخبار أنه مخالف ، وقد طلقها بمقتضى مذهبه ، واللازم من ذلك صحة الطلاق الثاني من غير اعتبار قصد الإنشاء ، وفيه رد على الأصحاب فيما ادعوه من وجوب قصد الإنشاء في صحة الطلاق ، فإنه عليه‌السلام قد حكم بصحة الطلاق في هذه الأخبار مع معلومية قصد الاخبار كما عرفت ، وهذا مما يؤكد ما قدمناه ذكره في غير موضع سيما في كتب المعاملات من أنه ينبغي أن يكون المدار على ما ترد به الأخبار وإن خالف ذلك مقتضى قواعدهم المقررة وضوابطهم المعتبرة.

ولو ادعى إرادة الإنشاء بعد التلفظ بهذا القول فمقتضى قواعد الأصحاب وبه صرح بعضهم قبول قوله ، لأنه منوط بنيته ، ولا يمكن استعلام ذلك إلا منه كما تقدم مثله مرارا.

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٥٩ ح ١١٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٢٣ ب ٣١ ح ١.

٢١٠

(ومنها) أن الشيخ في النهاية قال : وينوب مناب قوله أنت طالق بغير العربية بأي لسان كان فإنه تحصل به الفرقة ، وأطلق. ونحوه كلام ابن حمزة وابن البراج وغيرهما ، وقال ابن إدريس : وما ينوب مناب قوله أنت طالق بغير العربية بأي لسان كان فإنه تحصل به الفرقة إذا تعذر عليه لفظ العربية ، فأما إذا كان قادرا على التلفظ بالطلاق بالعربية فطلق بلسان غيرها ، فلا تقع الفرقة بذلك ، لأنه ليس عليه دليل ، والأصل بقاء العقد.

احتج الشيخ على ما نقل عنه ، بأن المقصود في المحاورات بالذات إنما هو المعاني دون الألفاظ ، لأنها دلائل ، ونسبة الألفاظ متساوية ، وبما رواه وهب ابن وهب (١) عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : «كل طلاق بكل لسان فهو طلاق».

وقال في المختلف بعد أن نقل احتجاج الشيخ المذكور ونقل عن ابن إدريس الاحتجاج بأن الأصل عصمة الفروج ، والاستصحاب يدل على بقاء العقد ، والفرقة أمر شرعي ولم يثبت ، ونحن في هذه المسألة من المتوقفين.

أقول : والعجب منه ـ قدس‌سره ـ من توقفه في هذه المسألة مع أن مقتضى اصطلاحه الحكم بضعف الرواية المذكورة ، سيما وراويها أكذب البرية ، وهو يرد الروايات الموثقات بل الحسنة في بعض الأوقات ، اعتمادا على هذا الاصطلاح ، فما باله يتوقف هنا ، وأدلة ابن إدريس واضحة الظهور ، وموافقة للقواعد الشرعية ، لو لا ظاهر الرواية المذكورة ، على أن الرواية غير صريحة في المدعى ، وظاهرها إنما هو عدم إمكان العربية ، لأن الظاهر أن المراد منها إنما هو أن أهل كل لسان من عربي أو عجمي أو تركي أو نحوها فله أن يطلق بلسانه ، ومن الغالب اختصاص أهل كل لسان بذلك اللسان لا يتجاوزونه إلى غيره ، ومعرفة بعضهم لألسن متعددة أمر على خلاف الغالب لا يحمل عليه الإطلاق.

وما ذهب إليه ابن إدريس هو المشهور بين المتأخرين كما نقله في المسالك ،

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٣٨ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٧ ب ١٧ ح ١.

٢١١

وزاد في الاحتجاج على ما ذكره ابن إدريس بأن اللفظ العربي هو الوارد في القرآن والأخبار المتكرر في لسان أهل الشرع ، والظاهر هو ما ذهب إليه ابن إدريس لما عرفت ، وما علل به الشيخ من قوله «إن المقصود في المحاورات بالذات هو المعاني دون الألفاظ» وأورد عليه في سائر العقود ، وهو لا يقول به.

وثالثها : أنه لا خلاف بين الأصحاب في عدم وقوع الطلاق بالكتابة من الحاضر القادر على النطق ، إنما الخلاف في أنه هل يقع من الغائب القادر على اللفظ أم لا؟ فالمشهور العدم ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط والخلاف مدعيا عليه الإجماع ، وقال في النهاية ، فإن كتب بيده أنه طلق امرأته وهو حاضر ليس بغائب لم يقع الطلاق ، فإن كان غائبا وكتب بخطه أن فلانة طالق وقع الطلاق ، وإن قال لغيره : اكتب إلى فلانة امرأتي بطلاقها لم يقع الطلاق. فإن طلقها بالقول ثم قال لغيره اكتب إليها بالطلاق كان الطلاق واقعا بالقول دون الأمر ، وتبعه على ذلك جملة من أتباعه ، والأصل في هذا الاختلاف اختلاف أخبار المسألة.

والذي وقفت عليه منها ما رواه في الكافي والفقيه (١) عن أبي حمزة الثمالي في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل قال لرجل : اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها ، أو اكتب إلى عبدي بعتقه ، يكون ذلك طلاقا أو عتقا؟ فقال : لا يكون طلاقا ولا عتقا حتى ينطق به بلسانه ، أو يخطه بيده وهو يريد به الطلاق أو العتق ، ويكون ذلك منه بالأهلة والشهور ، ويكون غائبا عن أهله». أقول : وهذه الرواية هي مستند الشيخ في النهاية ومن تبعه.

وما رواه في الكافي (٢) في الصحيح أو الحسن عن زرارة قال : «قلت لأبي جعفر

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٤ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٢٥ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٨ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩١ ب ١٤ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٤ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩١ ب ١٤ ح ٢.

٢١٢

عليه‌السلام : رجل كتب بطلاق امرأته أو بعتق غلامه ، ثم بدا له فمحاه ، قال : ليس ذلك بطلاق ولا عتاق حتى يتكلم به».

وما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن ابن أذينة قال : «سألته عن رجل كتب إلى امرأته بطلاقها أو كتب بعتق مملوكه ولم ينطق به لسانه ، قال : ليس بشي‌ء حتى ينطق به».

وما رواه بسند آخر عن زرارة (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل» الحديث.

وأجاب العلامة في المختلف عن صحيحة الثمالي بالحمل على حالة الاضطرار ، قال : وتكون لفظة «أو» للتفصيل لا للتخيير ، لا يقال : هذه الرواية مختصة بالغائب ، والرواية الأولى مطلقة ، والمقيد مقدم ، لأنا نقول : الغيبة والحضور لا تأثير لهما في السبب ، فإنا نعلم أن اللفظ لما كان سببا في البينونة استوى إيقاعه من الغائب والحاضر ، وكذا الكتابة لو كانت سببا لتساوي الحال فيهما ، مع أن في روايتنا ترجيحا بسبب موافقته للأصل ، وتأيدها بالنظر والشهرة في العمل ، انتهى.

واعترضه في المسالك فقال : وفيه نظر ، لأن الرواية صريحة في أن المطلق يقدر على التلفظ ، لأنه قال : اكتب يا فلان إلى امرأتي بطلاقها. إلخ ، فلا وجه لحمله على حالة الاضطرار ، ومع ذلك ففي هذه الرواية ترجيح على السابقة لصحة سندها ، وأنها مقيدة بالنية والغيبة وتلك مطلقة فيهما ، فجاز كون منعه من وقوع الطلاق لعدم النية بالكتابة ، أو لعدم العلم بالنية ، أو يحمل على حال الحضور جمعا ، على أنه مع ثبوت المرجح لا ضرورة إلى الجمع. وأما ما قيل : إن الغيبة والحضور لا تأثير لهما في السببية فهو مصادرة ومحضة ، لأن الخصم يدعي

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٥٣ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٠ ب ١٤ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٣٨ ح ٣٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩١ ب ١٤ ح ٢.

٢١٣

الفرق ، ويحتج عليه بالخبر الصحيح ، وهو الفارق بين الكتابة واللفظ المشترك في السببية بين الغائب والحاضر ، فكيف يدعى عدم تأثير الغيبة والحضور؟ وبذلك انقطع الأصل الذي ادعوه ، وثبت سببية الطلاق.

وأما دعوى ترجيح الأول بموافقة الأصل والشهرة في العمل ففيه : أن الصحيح مقدم على الحسن ، فلا تعارض ، ثم إن المقيد مقدم على المطلق ، انتهى.

أقول : ما ذكره ـ رحمه‌الله ـ وإن ترائي أنه جيد ، ولذا تبعه فيه جملة ممن تأخر عنه كالمحدث الكاشاني في المفاتيح والفاضل الخراساني في الكفاية ، إلا أنه لا يخفى على المتتبع أن الذي عهد من الشارع في أبواب العقود والإيقاعات والإقرارات ونحوها إنما هو الألفاظ والأقوال الدالة على هذه المعاني دون مجرد الكتابة ، ولهذا لم يجوزها أحد بالكتابة ، ويبعد اختصاص الطلاق بهذا الحكم لعدم ظهور خصوصيته له بذلك ، ويعضده ما ورد في بعض الأخبار إنما يحرم الكلام ، ويؤكده أيضا الحصر في أنت طالق المستفاد من الروايات المتقدمة حسبما تقدم تحقيقه ، فإنه كما يكون الحصر في هذه الصيغة موجبا لنفي ما سواها من الصيغ اللفظية فكذلك الكتابة ، لأنها عندهم من جملة الصيغ الموجبة للطلاق. هذا مع ما في تحقق الشهادة في هذه الصورة من الإشكال ، فإن الإشهاد إنما يطلق حقيقة على سماع لفظ الطلاق من المطلق ، فإنه بمجرد سماع ذلك منه يجب بشهادة الشاهدين الحكم عليه بوقوع الطلاق.

وأما في الكتابة حيث قيدوها بالقصد إلى الطلاق الذي لا يعلم إلا بإقراره واعترافه ، فيشكل الشهادة على مجرد رؤية الكتابة حال الكتابة أو بعدها ، على أن ما ذكره من جواز كون منعه عليه‌السلام من وقوع الطلاق لعدم النية بالكتابة ، أو لعدم العلم بالنية أو الحضور جمعا بين الأخبار مدخول بأن قوله عليه‌السلام «ليس ذلك بطلاق حتى يتكلم به في صحيحة زرارة ، وقوله في صحيحة ابن أذينة «ليس بشي‌ء حتى ينطق به» ظاهر في أن عدم الصحة إنما استند إلى عدم النطق والتكلم

٢١٤

ـ نوى أو لم ينو ، حفر أو غاب ، علمت البينة (النية خ ل) أم لا ـ لا إلى عدم النية أو عدم العلم بها أو عدم الحضور كما ادعاه ، وأن المدار إنما هو على النطق ، والكلام وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لذوي الأفهام ، وبه يظهر بطلان ما ادعاه من الجمع في المقام.

وهل يشترط في الشهادة أيضا رؤية حال الكتابة أو يكفي رؤيتها بعد ذلك ، قال في المسالك : وجهان ، والأول لا يخلو من قوة ، لأن ابتداءها هو القائم مقام اللفظ لا استدامتها ، وإنما تعلم النية بإقراره ، ولو شك فيها فالأصل عدمها ، وحينئذ فتكون الكتابة كالكناية ، ومن ثم ردها الأصحاب مطلقا اطرادا للقاعدة مع أنهم نقضوها في مواضع كما ترى.

أقول : وهذا أيضا مما يوهن هذا القول لما صرحوا به بل أجمعوا عليه من اشتراط الصراحة في صيغة الطلاق وعدم جواز وقوعه بالكتابة.

وبالجملة فالمسألة عندي محل توقف ، ولعل الخبر المذكور إنما خرج مخرج التقية ، ولا يحضرني الآن أقوال العامة في المسألة ، فليلاحظ ذلك.

قال في المسالك : ولا فرق في الغائب بين البعيد بمسافة القصر وعدمه ، مع احتمال شموله للغائب عن المجلس لعموم النص ، والأقوى اعتبار الغيبة عرفا ، ولتكن الكتابة للكلام المعتبر في صحة الطلاق كقوله : فلانة طالق ، أو يكتب إليها : أنت طالق ، ولو علقه بشرط كقوله : إذا قرأت كتابي فأنت طالق ، فكتعليق اللفظ.

أقول : احتمال شموله للغائب عن المجلس غير جيد ، فإن النص وهو صحيحة الثمالي تضمن الغائب عن أهله ، وهو لا يصدق إلا على المسافر عن بلده. نعم لو كان بلفظ الغائب خاصة ، لربما أمكن ما ذكره.

وأما ما ذكره من كون الكتابة بالكلام المعتبر في صحة الطلاق كقوله فلانة طالق ففيه : أن تعين هذه الصيغة بمقتضى الدليل إنما هو بالنسبة إلى

٢١٥

التلفظ بالطلاق ، وأما أحاديث الكتابة فهي مطلقة وتخصيصها يحتاج إلى دليل ، وكما خرج عن أخبار وجوب اللفظ بهذا الخبر فليخرج عنها أيضا بالعمل بإطلاق هذه الأخبار من إيقاع الكتابة بأي لفظ من هذه المادة عملا بإطلاق الأخبار المذكورة والتقييد إنما ثبت في العبارة اللفظية.

إتمام

نعم لو تعذر النطق كفت الكتابة والإشارة من غير خلاف يعرف ، ومنه الأخرس ، فيصح طلاقه بذلك كما تصح سائر عقوده وأقاريره وعباراته ، ولا بد من فهم الشاهدين ذلك منه ليحكم عليه به ، والظاهر تقديم الكتابة إذا كان ممن يكتب على الإشارة كما اختاره ابن إدريس ، لأنها أقوى في الدلالة على المراد ، لكن لا بد أن يفهم أنه نوى بها الطلاق.

ومن الأخبار الواردة في المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (١) عن البزنطي في الصحيح في بعض الطرق قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن الرجل تكون عنده المرأة ثم يصمت ولا يتكلم ، قال : يكون أخرس؟ قلت : نعم ، فيعلم منه بغضا لامرأته وكراهته لها ، أيجوز أن يطلق عنه وليه؟ قال : لا ، ولكن يكتب ويشهد على ذلك ، قلت :

أصلحك الله فإنه لا يكتب ولا يسمع كيف يطلقها؟ قال : بالذي يعرف منه به من فعاله ، مثل ما ذكرت من كراهته وبغضه لها».

وما رواه في الكافي (٢) عن أبان بن عثمان قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن طلاق الأخرس ، قال : يلف قناعها على رأسها ويجذبه».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢٨ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٣ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٤ ح ١٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٩ ب ١٩ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٢٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٠ ب ١٩ ح ٢.

٢١٦

وعن السكوني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «طلاق الأخرس أن يأخذ مقنعتها فيضعها على رأسها ويعتزلها».

ورواه الشيخ (٢) بسند آخر عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما رواه في الكافي (٣) عن يونس «في رجل أخرس كتب في الأرض بطلاق امرأته فقال : إذا فعل في قبل الطهر بشهود ، وفهم عنه كما يفهم عن مثله ويريد الطلاق جاز طلاقه على السنة».

وهذه الأخبار كلها متفقة الدلالة على ما ذكره ، ونقل عن الصدوقين وجماعة من الأصحاب أنهم اعتبروا فيه إلقاء القناع على المرأة ، يري أنها قد حرمت عليه لرواية السكوني وأبي بصير ، ومنهم من خير بين الإشارة وإلقاء القناع ، ومنهم من جمع بينهما ، والتحقيق الاكتفاء بما يفهم ذلك كائنا ما كان ، وذكر بعض الأفراد في الأخبار إنما خرج مخرج التمثيل.

ورابعها : أنه لا خلاف بين علماء العامة في صحة التخيير بمعنى تفويض الزوج أمر الطلاق إلى المرأة وتخييرها في نفسها قاصدا بذلك الطلاق ، فإذا اختارت نفسها وقع الطلاق ، وأن ذلك بمنزلة توكيلها في طلاق نفسها ، فالتخيير كناية عن ذلك ، واحتجوا بآية التخيير النازلة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد اعتزاله أزواجه.

وأما أصحابنا فقد اختلفوا في ذلك ، فذهب جمع منهم ابن الجنيد وابن أبي عقيل والسيد المرتضى ، ونقل عن ظاهر الصدوق إلى وقوع الطلاق به إذا اختارت نفسها بعد تخييره لها على الفور مع اجتماع الشرائط من الاستبراء وسماع الشاهدين ،

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٤ ح ١٦٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٠ ب ١٩ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٩٢ ح ٢٣٣ عن على بن أبي حمزة عن أبى عبد الله عليه‌السلام مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠١ ب ١٩ ح ٥.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٧٤ ح ١٦٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٠ ب ١٩ ح ٤.

٢١٧

والمشهور ـ وهو مذهب الشيخ ، وبه صرح الشيخ علي بن بابويه في الرسالة وجملة المتأخرين ـ عدم وقوع الطلاق به.

قال ابن الجنيد على ما نقله في المختلف : إذا أراد الرجل أن يخير امرأته اعتزلها شهرا وكان على طهر من غير جماع في مثل الحالة التي لو أراد أن يطلقها فيه طلقها ، ثم خيرها فقال لها : قد خيرتك أو جعلت أمرك إليك ، ويجب أن يكون ذلك بشهادة ، فإن اختارت نفسها من غير أن تشاغل بحديث من قول أو فعل كان يمكنها أن لا تفعل صح اختيارها ، وإن اختارت بعد فعلها ذلك لم يكن اختيارها ماضيا ، وإن اختارت في جواب قوله لها ذلك وكان مدخولا بها وكان تخييره إياها عن غير عوض أخذه منها كان كالتطليقة الواحدة التي هو أحق برجعتها في عدتها ، وإن كانت غير مدخول بها فهي تطليقة بائنة ، وإن كان تخييره عن عوض فهي بائن وهي أملك بنفسها ، وإن جعل الاختيار إلى وقت معينة واختارت قبله جاز اختيارها ، وإن اختارت بعده لم يجز.

وقال ابن أبي عقيل : والخيار عند آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخير الرجل امرأته ويجعل أمرها إليها في أن تختار نفسها أو تختاره بشهادة شاهدين في قبل عدتها ، فإن اختارت المرأة نفسها في المجلس فهي تطليقة واحدة وهو أملك برجعتها ما دامت لم تنقض عدتها ، وإن اختارت فليس بطلاق ، ولو تفارقا ثم اختارت المرأة نفسها لم يقع شي‌ء ، ولو قال لها : قد جعلت أمرك بيدك فاختاري نفسك في مجلسك ، فسكتت أو تحولت عن مجلسها بطل اختيارها بترك ذلك ، وإن سمى الرجل في الاختيار وقتا معلوما ثم رجع عنه قبل بلوغ الوقت كان ذلك له ، وليس يجوز للزوج أن يخيرها أكثر من واحدة بعد واحدة ، وخيار بعد خيار بطهر وشاهدين ، فإن خيرها أكثر من واحدة أو خيرها أو تخير نفسها في غير عدتها كان ذلك ساقطا غير جائز ، وإن خير الرجل أباها أو أخاها أو أحد من أوليائها كان اختيارها.

وقال الشيخ علي بن بابويه : ولا يقع الطلاق بإجبار ولا إكراه ولا على

٢١٨

شك ، فمنه طلاق السنة ، وطلاق العدة ـ إلى أن قال : ـ ومنه التخيير. ولما بحث عن تلك الأقسام إلى أن وصل إلى التخيير فقال : وأما التخيير فأصل ذلك (١) : إن الله عزوجل أنف لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقالة قالها بعض نسائه : أترى محمدا لو طلقنا لا نجد أكفاءنا من قريش يتزوجونا ، فأمر الله عزوجل نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعتزل نساءه تسعة وعشرين يوما ، فاعتزلهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مشربة أم إبراهيم ثم نزلت هذه الآية «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» (٢) فاخترن الله ورسوله فلم يقع طلاق.

هذا ما حضرني من عبائر المتقدمين ، والواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام فيها بما يسر الله عزوجل فهمه منها وجمعها على وجه يرسل به غشاوة الاختلاف عنها.

فمنها ما رواه الصدوق في الفقيه (٣) في الصحيح عن ابن أذينة عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إذا خيرها وجعل أمرها بيدها في قبل عدتها من غير أن يشهد شاهدين فليس بشي‌ء ، وإن خيرها وجعل أمرها بيدها بشهادة شاهدين في قبل عدتها فهي بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن اختارت نفسها فهي واحدة ، وهو أحق برجعتها ، وإن اختارت زوجها فليس بطلاق».

وما رواه في الكتاب المذكور (٤) عن ابن مسكان عن الصيقل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الطلاق أن يقول الرجل لامرأته : اختاري ، فإن اختارت نفسها فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب ، وإن اختارت زوجها فليس بشي‌ء ، أو يقول : أنت طالق ، فأي ذلك فعل فقد حرمت عليه ، ولا يكون طلاق ولا خلع ولا مباراة

__________________

(١) مضمون ما جاء في الكافي ج ٦ ص ١٣٧ ح ١.

(٢) سورة الأحزاب ـ آية ٢٨ و ٢٩.

(٣ و ٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٥ ح ٢ و ٣، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٨ ب ٤١ ح ١٤ و ١٥.

٢١٩

ولا تخير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين».

وعن الحلبي (١) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يخير امرأته أو أباها أو وليها ، فقال : كلهم بمنزلة واحدة إذا رضيت».

وعن الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح عن الفضيل بن يسار (٢) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : قد جعلت الخيار إليك ، فاختارت نفسها قبل أن يقوم ، قال : يجوز ذلك عليه. قلت : فلها متعة؟ قال : نعم. قلت : فلها ميراث إن مات الزوج قبل أن تنقضي عدتها؟ قال : نعم ، وإن ماتت هي ورثها الزوج».

وأقول : ولتفرد صاحب الفقيه بهذه الأخبار نسب إليه القول بمضمونها كما تقدمت الإشارة إليه.

وما رواه في التهذيب (٣) عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل خير امرأته ، قال : إنما الخيار لها ما داما في مجلسهما ، فإذا افترقا فلا خيار لها».

وبسند آخر عن زرارة (٤) مثله ، وزاد «أصلحك الله ، فإن طلقت نفسها ثلاثا قبل أن يتفرقا من مجلسهما؟ قال : لا يكون أكثر من واحدة ، وهو أحق برجعتها قبل أن تنقضي عدتها ، قد خير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه فاخترنه ، فكان ذلك طلاقا ، قال : فقلت له : لو اخترن أنفسهن؟ فقال : ما ظنك برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو اخترن أنفسهن أكان يمسكهن».

وعن زرارة ومحمد بن مسلم (٥) في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «لا خيار إلا على طهر من غير جماع بشهود».

وعن زرارة (٦) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «إذا اختارت نفسها فهي تطليقة

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٥ ح ٤ و ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٨ ب ٤١ ح ١٦ و ١٧.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٨٩ ح ٢٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٧ ب ٤١ ح ٧ وفيهما «تفرقا».

(٤ و ٥) التهذيب ج ٨ ص ٩٠ ح ٢٢٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٨ ب ٤١ ح ١٢ وص ٣٣٧ ب ٤١ ح ٨.

(٦) التهذيب ج ٨ ص ٩٠ ح ٢٢٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٧ ب ٤١ ح ٩.

٢٢٠