الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

أو إحدى زوجاتي طالق ، فالمشهور أنه باطل لوجوب التعيين ، وهو مذهب الشيخ المفيد والسيد المرتضى وابن إدريس والشيخ في أحد قوليه والمحقق في أحدهما ، والعلامة في أحدهما وكذا الشهيد في أحدهما وهو اختيار السيد السند في شرح النافع ، وهو الأظهر لما قدمنا ذكره سابقا من أن النكاح والطلاق أمور توقيفية يجب الوقوف فيها على ما رسمه الشارع صحة وبطلانا ، ولا ريب أن النكاح عصمة مستفادة من الشرع فلا بد في زواله من سبب شرعي قد علم من الشارع ، والقدر المعلوم إجماعا ونصا كما هو المفهوم من أخبار أهل البيت عليهم‌السلام هو المعين ، فمن ادعى سببية غيره فعليه الدليل ، وليس له إلى ذلك سبيل.

وقال الشيخ في المبسوط : إنه يصح. واختاره ابن البراج وتبعهما المحقق والعلامة والشهيد في أقوالهم الأخر ، واحتجوا بأصالة عدم الاشتراط ، وعموم مشروعية الطلاق.

ويرد على الأول ما أشرنا إليه من أن الطلاق من الأمور التوقيفية ، لا مدخل للأصل فيها ، بل المدار فيه على وجود السبب الذي جعله الشارع لذلك ، وحيث لم يوجد فلا يمكن الحكم به.

وعلى الثاني منع العموم على وجه يتناول ما ذكروه ، بل منع كون ذلك طلاقا ، ولهم بناء على هذا القول تفريعات قد اختلفت فيها أنظارهم واضطربت فيها أفكارهم.

منها أنه متى طلق ولم يعين فهل يستخرج المطلقة بالقرعة أو يرجع في ذلك إلى تعيينه؟ قولان : اختار أولهما المحقق في الشرائع ، وثانيهما العلامة في القواعد.

ومنها أنه على القولين المذكورين ، فهل يحكم بوقوع الطلاق من حين اللفظ أو من حين التعيين؟ قولان آخران : اختار أولهما الشيخ في المبسوط ، وثانيهما العلامة في القواعد والتحرير ، ويتفرع على ذلك العدة ، فعلى الأول تعتد من حين

١٨١

اللفظ ، وعلى الثاني من حين التعيين. إلى غير ذلك من التفريعات والمباحث الطويلة المتفرعة على هذا القول ، وحيث قد عرفت أنه لا دليل على القول المذكور. فلا ضرورة إلى التشاغل بما يتفرع عليه.

الخامس : أن تكون طاهرة من الحيض والنفاس بشرط أن تكون مدخولا بها وزوجها حاضرا ، فلو طلقها في حال الحيض والنفاس مع عدم الأمرين المذكورين فلا خلاف في عدم وقوعه طلاقا ، وبه تظافرت الأخبار.

فروى الشيخ (١) في الصحيح عن محمد الحلبي قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرجل يطلق امرأته وهي حائض؟ قال : الطلاق على غير السنة باطل».

وقد تقدم في صحيحة عمر بن أذينة (٢) الثانية عن الجماعة المتقدم ذكرهم إذا طلق الرجل في دم النفاس أو طلقها بعد ما يمسها فليس طلاقة إياها بطلاق.

وما رواه في الكافي (٣) عن الحلبي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل طلق امرأته وهي حائض ، فقال : الطلاق بغير السنة باطل».

وقد تقدم أيضا في رواية ابن أذينة في الصحيح عن بكير (٤) وغيره ما يدل على ذلك ، إلى غير ذلك من الأخبار.

وأما ما يدل على صحة طلاق الحائض غير المدخول بها والغائب عنها زوجها فهو ما تقدم من الأخبار الدالة على أن خمسا يطلقن على كل حال ، وعد منهن

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٥٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٧ ح ٦٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٧٧ ب ٨ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١١ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٧ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٧٧ ب ٨ ح ٥.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٥٨ ح ٦ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٧ ح ٦٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٧٧ ب ٨ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١٧ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٧ ح ٦٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٧٩ ب ٨ ح ٩.

١٨٢

التي لم يدخل بها والغائب عنها زوجها.

وبالجملة فالحكم المذكور مما لا خلاف فيه ولا إشكال ، وإنما محل البحث والاشكال الذي طال فيه النزاع والجدال وكثر فيه القيل والقال قدر الغيبة الموجبة لجواز الطلاق في المحيض ، وتفصيل الكلام في المقام أن يقال :

لا خلاف نصا وفتوى في جواز طلاق الحائض إذا كان الزوج غائبا في الجملة فلو أراد أن يطلق زوجته وقد خرج عنها في طهر جامعها فيه ، فهل يكفي في الجواز مجرد الغيبة؟ أم لا بد من أمر آخر وتربص مدة معينة؟

وها أن أنقل ما وصل إلى من الأقوال والأخبار صحيحها وضعيفها بناء على ما هو المختار ، فأقول :

قد ذهب الشيخ المفيد (١) وسلار والشيخ علي بن الحسين بن بابويه وابن أبي عقيل وغيرهم إلى جواز طلاق الغائب إذا كانت بحيث لا يمكنه استعلام حالها من غير تربص ، وادعى ابن أبي عقيل تواتر الأخبار بذلك.

وقال الصدوق في الفقيه (٢) : وإذا أراد الغائب أن يطلق امرأته ، فحد غيبته التي إذا غابها كان له أن يطلق متى شاء ، أقصاه خمسة أشهر أو ستة أشهر ،

__________________

(١) أقول : قال الشيخ المفيد ـ قدس‌سره ـ : ومن كان غائبا عن زوجته فليس يحتاج في طلاقها إلى ما يحتاج اليه الحاضر من الاستبراء ، لكنه لا بد له من الإشهاد ، فإذا أشهد رجلين من المسلمين على طلاقه لها وقع بها الطلاق ان كانت طاهرا وحائضا وعلى كل حال.

وقال الشيخ على بن الحسين بن بابويه : واعلم يا بنى أن خمسا يطلقن على كل حال ولا يحتاج الرجل أن ينتظر طهرهن. وعد الخمس المذكورات في الاخبار.

وقال ابن أبي عقيل : وقد تواترت الاخبار عن الصادقين عليهم‌السلام أن خمسا يطلقن على كل حال إذا شاء أزواجهن أي وقت شاءوا وهي التي قد يئست من المحيض. ثم ساق باقي الأفراد كما ورد في تلك الاخبار ، ولم يقدر مدة الغيبة بقدر معين.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٥ ذيل ح ١.

١٨٣

وأوسطه ثلاثة أشهر ، وأدناه شهر.

وقال الشيخ في النهاية : ومتى لم يكن دخل بالمرأة وطلقها وقع الطلاق وإن كانت حائضا ، وكذلك إن كان غائبا شهرا فصاعدا وقع طلاقه إذا طلقها وإن كانت حائضا ـ وقال في موضع آخر منها : ـ إذا خرج إلى السفر وقد كانت طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع جاز له أن يطلقها أي وقت شاء ، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع فلا يطلقها حتى يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، ثم يطلقها بعد ذلك أي وقت شاء.

وكلامه الأول يرجع إلى ما ذكره الصدوق في الفقيه ، وبه صرح ابن حمزة أيضا ، فقدر مدة التربص بشهر فصاعدا.

وبما ذكره من الكلام الثاني صرح ابن البراج (١) وقال ابن الجنيد : والغائب لا يطلق حتى يعلم أن المرأة برية من الحمل أو هي حامل ، فإن علم ذلك فأوقع الطلاق على شرائطه وقع ، ثم قال : وينتظر الغائب بزوجته من آخر جماع أوقعه ثلاثة أشهر إذا كانت ممن تحمل ، وإن كانت آيسة أو لم تبلغ إلى حال الحمل طلقها إذا شاء وهو ظاهر في تقدير مدة التربص بثلاثة أشهر وعلم براءة رحمها من الحمل.

واختار هذا القول العلامة في المختلف ، وذهب الشيخ في الاستبصار وابن إدريس والعلامة في أكثر كتبه ، والمحقق وهو المشهور بين المتأخرين إلى اعتبار مضي مدة يعلم انتقالها من الطهر الذي واقعها فيه إلى آخر بحسب عادتها ، ولا يتقدر بمدة مخصوصة.

والأصل في اختلاف هذه الأقوال اختلاف الأخبار الواردة عن الأئمة عليهم‌السلام ومنها ما تقدم في الشرط الثالث من الأخبار الدالة على أن خمسا يطلقن على

__________________

(١) فقال : ان كان لما خرج كانت طاهرة طهرا لم يقربها فيه بجماع طلقها أي وقت أراد وان كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع فلا يطلقها حتى تمضى لها ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ويطلقها بعد ذلك أى وقت أراد ، انتهى. (منه ـ رحمة الله عليه ـ).

١٨٤

كل حال (١).

والظاهر أنه بإطلاق هذه الأخبار أخذ الشيخ المفيد ومن تبعه من المشايخ المتقدم ذكرهم كما هو صريح عبارتي ابن أبي عقيل والشيخ علي بن بابويه.

ونحو هذه الأخبار أيضا ما رواه في الكافي (٢) عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن الرجل يطلق امرأته وهو غائب؟ قال : يجوز طلاقه على كل حال ، وتعتد امرأته من يوم طلقها».

وما رواه في التهذيب (٣) «في الرجل يطلق امرأته وهو غائب ، فيعلم أنه يوم طلقها كانت طامثا ، قال : يجوز».

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٤) : «واعلم أن خمسا يطلقن على كل حال ، ولا يحتاج أن ينتظر طهرهن : الحامل والغائب عنها زوجها والتي لم يدخل بها والتي لم تبلغ الحيض والتي قد يئست من الحيض».

أقول : وبهذه العبارة عبر الشيخ علي بن الحسين بن بابويه في رسالته إلى ابنه كما تقدمت الإشارة إليه فقال ـ على ما نقله في الفقيه ـ : واعلم يا بني أن خمسا يطلقن على كل حال ، ولا يحتاج الرجل أن ينتظر طهرهن ، ثم عد هؤلاء المذكورات ، وهو مؤيد لما قد تقدم ذكره في غير مقام من إفتائه بعبارات الكتاب المذكور.

ومنها ما رواه في الكافي (٥) في الموثق عن إسحاق عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٩ ح ١ و ٢ و ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٥ و ٣٠٦ ب ٢٥ ح ١ و ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٨٠ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٧ ب ٢٦ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٦٢ ح ١٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٦.

(٤) فقه الرضا ص ٢٤٤ ، مستدرك الوسائل ج ٣ ص ٦ ب ١٩ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

(٥) الكافي ج ٦ ص ٨٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٧ ب ٢٦ ح ٣.

١٨٥

قال : «الغائب إذا أراد أن يطلقها تركها شهرا».

وعن حميد عن ابن سماعة (١) قال : «سألت محمد بن أبي حمزة : متى يطلق الغائب؟ قال : حدثني إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله أو أبي الحسن عليهما‌السلام قال : إذا مضى له شهر».

وما رواه الشيخ (٢) في الصحيح عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الرجل إذا خرج من منزله إلى السفر فليس له أن يطلق حتى تمضي ثلاثة أشهر».

وما رواه في الفقيه والتهذيب (٣) عن إسحاق بن عمار في الموثق قال : «قلت لأبي إبراهيم عليه‌السلام : الغائب الذي يطلق كم غيبته؟ قال : خمسة أشهر أو ستة أشهر ، قلت : حد دون ذا؟ قال : ثلاثة أشهر».

وما رواه في الكافي (٤) عن بكير في الحسن قال : «أشهد على أبي جعفر عليه‌السلام أني سمعته أنه يقول : الغائب يطلق بالأهلة والشهور».

وجمع الشيخ بين هذه الأخبار المختلفة في مدة التربص بحملها على اختلاف عادات النساء في الحيض ، وعلم الزوج بحال زوجته في ذلك فقال : فمن يعلم من حال زوجته أنها تحيض في كل شهر يجوز له أن يطلقها بعد انقضاء الشهر ، ومن يعلم أنها لا تحيض إلا في كل ثلاثة أشهر لم يجز له أن يطلقها إلا بعد انقضاء ثلاثة أشهر ، وكذلك من تحيض في كل ستة أشهر ، وحينئذ فالمراعى في جواز ذلك مضي حيضة وانتقالها إلى طهر لم يقربها فيه بجماع. واقتفاه

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨١ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٥.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٦٢ ح ١٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٧.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٥ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٦٢ ح ١٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٨ وما في المصادر اختلاف يسير.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٧٩ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٦٣ ح ١٢٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٧ ب ٢٦ ح ٢.

١٨٦

في هذا أكثر المتأخرين.

قال المحقق الشيخ علي ـ رحمة الله عليه ـ : وهو الذي يقتضيه النظر الصحيح والوقوف مع القوانين الأصولية ، لأن الأخبار الدالة على وجوب التربص مدة ليصح الطلاق لا يجوز إجراؤها على ظاهرها من الاختلاف والتنافي ، ولا إطراح بعضها ، فلم يبق إلا الجمع بينها بالحمل على أن المراد مراعاة زمان يعلم الزوج الغائب حصول الحيض بعد طهر الجماع ، والانتقال عنه إلى الطهر ، وأن الاختلاف ينزل على اختلاف عادة النساء في حصول الحيض باعتبار شهر أو ثلاثة أشهر أو خمسة أو ستة ، فقد اشتركت أخبار التربص في أن الانتقال من طهر إلى طهر آخر شرط في صحة الطلاق من الغائب ولو ظنا مستفادا من عادة المرأة إن كانت معلومة ، وإلا فمن غالب عادات النساء. ودلت رواية أبي بصير (١) على أنه لو طلقها وعلم يوم طلقها أنها كانت طامثا يجوز الطلاق. ولا ريب أن ما اشتركت فيه هذه الأخبار مخصوص لعموم الخبرين الدالين على جواز تطليق زوجة الغائب على كل حال ، انتهى كلامه.

أقول : لا ريب أن تلك الأخبار المطلقة التي دلت على مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه من أولئك الفضلاء دالة على جواز الطلاق على كل حال ، والأخبار الدالة على التربص بالنظر إلى القاعدة الأصولية يجب أن تكون مخصصة لها ، لكن الإشكال في هذه الأخبار الدالة على التربص من حيث اختلافها ، فإن التخصيص بها يتوقف على جمعها على وجه يرفع الاختلاف بينها. والجمع بينها بما ذكروه من اختلاف عادات النساء بناء على الغائب بعيد جدا ، فإنه وإن قرب في رواية الشهر إلا أنه بعيد في رواية الثلاثة الأشهر ، وأبعد منه في رواية الخمسة والستة الأشهر ، فإن الغالب في هذا المقدار ممنوعة أشد المنع ، بل هو مخالف للغالب ، على أن تلك الأخبار ليس فيها سؤال عن واقعة مخصوصة حتى تنزيلها على كون المرأة

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٦٢ ح ١٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٦.

١٨٧

معتادة بتلك العادة ، وإنما وقع السؤال في كل خبر منها عن مطلق النساء ومطلق الغائب ، فكأنه بمنزلة القاعدة الكلية (١) والضابطة الجلية لا اختصاص له بفرد دون فرد.

وبالجملة فإن تخصيص إطلاق تلك الأخبار بأخبار التربص مع اختلافها غير تام ، فلا بد من جمعها على وجه تلتئم به ، وهذا الوجه الذي ذكروه قد عرفت ما فيه.

نعم يتجه عند من يعمل بهذا الاصطلاح المحدث ترجيح روايات الثلاثة الأشهر لصحة بعضها ، فيخصص بها هذا الإطلاق ، ولهذا قال السيد ـ في شرح النافع حيث إنه من أرباب هذا الاصطلاح ـ ما لفظه : والذي يقتضيه الجمع بين الأخبار الصحيحة بعد طرح غيرها اعتبار الثلاثة الأشهر حملا لما أطلق فيه من الأخبار جواز طلاق الغائب على هذا المقيد ، ويعضده أن الغالب من حال الغائب وزوجته أن يكون حالها مجهول عنده فتكون كالمسترابة التي يجب التربص بها ثلاثة أشهر ومع ذلك فما ذهب إليه شيخنا المفيد ـ قدس‌سره ـ ومن تبعه من عدم اعتبار التربص غير بعيد عن الصواب حملا لما تضمن ذلك على الأفضلية ، إذ من المستبعد جدا إطلاق صحة طلاق الغائب على كل حال في الأخبار الصحيحة الواردة في مقام البيان مع أنها مشروطة بأمر آخر غير مذكور ، وفي موثقة إسحاق بن عمار إشعار بذلك أيضا ، والمسألة محل تردد ، ولا ريب أن اعتبار الثلاثة أشهر كما تضمنته صحيحة جميل بن دراج أولى وأحوط ، انتهى.

أقول : ومرجع كلامه هنا في توجيه كلام الشيخ المفيد إلى وجه آخر في الجمع بين المطلق والمقيد ، وهو العمل بالمطلق على إطلاقه ، وحمل المقيد على

__________________

(١) وذلك فان اللام فيها لام التحلية ، وهو للعموم في المقامات الخطابية ، كقولهم «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء» وهكذا في الإضافة أيضا ، وحينئذ فيكون ذلك بمنزلة القاعدة الكلية كما ذكروه في حديث إذا بلغ الماء كرا. (منه ـ قدس‌سره ـ).

١٨٨

الاستحباب ، المنع في كلامهم إنما هو من الحمل على القاعدة الأصولية من حمل المطلق على المقيد ، وبعض الأخبار يشير إليه ويعضده ، وما ذكره من الاستبعاد غير جيد ، فإن نظيره في الأحكام غير عزيز بل شائع كثير ، وما ذهب إليه الشيخ في الاستبصار ومن تبعه ممن تقدم ذكره جيد ، إلا أن الكلام في تطبيق أخبار التربص عليه ، فإن فيه ما عرفته من أن مبنى كلامه إلى أن اختلاف الأخبار مبنى على اختلاف عادات النساء ، فمن كانت عادتها في الشهر مرة لا يجوز طلاقها إلا بعد شهر ، ومن كانت في كل ثلاثة أشهر فلا يجوز إلا بعد الثلاثة ، وهكذا وقد تقدم ما فيه.

وبالجملة فالمسألة محل إشكال ، ولا يحضرني الآن مذهب العامة في المسألة فلعل أخبار التربص إنما خرجت مخرج التقية ، أو اختلافها إنما كان من حيث ذلك.

بقي في المقام مسائل

الاولى : إذا قلنا بوجوب التربص مدة فطلق الغائب زوجته ، فلا يخلو إما أن يطلق بعد مضي المدة المعتبرة أو قبلها ، وعلى كل من التقديرين المذكورين إما أن يوافق فعله كونها جامعة لشرائطه في الواقع ، بأن تكون قد حاضت بعد طهر المواقعة فوقع الطلاق حال الطهر ، أو لا يوافق ، بأن تبين وقوعه في طهر المواقعة أو حالة الحيض أو يستمر الاشتباه ، وحينئذ فهنا صور :

الاولى : أن يطلقها بعد المدة المعتبرة ثم تظهر الموافقة بأن كانت قد انتقلت من طهر المواقعة إلى طهر آخر ، وأن الطلاق وقع حال الطهر ، ولا إشكال هنا في صحة الطلاق إجماعا لاجتماع شرائطه المعتبرة في صحته ظاهرا وفي نفس الأمر.

الثانية : الصورة بحالها ، ولكن ظهر بعد ذلك كونها حائضا حال الطلاق ، ولا إشكال هنا أيضا في صحة الطلاق لأن المعتبر في صحة طلاق الغائب مراعاة المدة

١٨٩

المعتبرة ، وهو حاصل هنا ، وظهور الحيض هنا غير مانع لعدم العلم به حال الطلاق ، وظهوره بعد ذلك مستثنى بالنص والفتوى كما تقدمت به الأخبار ومنها رواية أبي بصير (١) المصرحة بكونه قد طلق امرأته وهو غائب ثم علم بعد ذلك أنها يوم طلقها كانت طامثا فأجاز عليه‌السلام الطلاق. وبالجملة فإن الصحة في هذه الصورة مجمع عليها نصا وفتوى.

الثالثة : الصورة الأولى بحالها ، لكن ظهر بعد ذلك كونها باقية في طهر المواقعة لم تنتقل منه إلى حيض ولا طهر آخر.

قال في المسالك : وهو صحيح أيضا لعين ما ذكر في سابق هذه الصورة ، وهو وقوعه على الوجه المعتبر شرعا ولأن الطلاق إذا حكم بصحته في حالة الحيض بالنص والإجماع فلأن يحكم بصحته في حال الطهر أولى ، لما قد عرفت من أن شرط الطلاق في غير الغائب أمران : وقوعه في طهر ، وكون الطهر غير طهر المواقعة ، فإذا اتفق وقوعه في حالة الحيض تخلف الشرطان لعدم طهر آخر غير طهر المواقعة وعدم الخلو من الحيض ، وإذا اتفق وقوعه في حالة الطهر فالمتخلف شرط واحد ، وهو كون الطهر غير طهر المواقعة ، فإذا كان تخلف الشرطين في الغائب غير مانع فتخلف أحدهما أولى بعدم المنع ، انتهى.

وعورض بأن شرط الطلاق من غير الغائب أمران : الانتقال من طهر المواقعة ، ووقوع الطلاق في الطهر ، فإذا اتفق وقوعه في حال الحيض تخلف الثاني ، وإذا اتفق في طهر المواقعة تخلف الأول : فلا تتم الأولوية المذكورة.

واستظهر المحقق الشيخ علي ـ رحمه‌الله ـ عدم الوقوع لانتفاء شرط الصحة ، وهو استبراء الرحم خرج منه حال الحيض ، فيبقى الباقي ، ونمنع من وجود الشرط فإن الاذن في الطلاق استنادا إلى الظن لا يقتضي الحكم بالصحة إذا ظهر بطلان الظن.

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٦٢ ح ١٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٦.

١٩٠

وأجيب عنه بأن الشرط المعتبر في طلاق الغائب ليس إلا مراعاة المدة المعتبرة وهو حاصل كما هو المفروض ، وصحة الطلاق لو ظهر وقوعه حال الحيض المستفادة من رواية أبي بصير وغيرها ، وعمل الأصحاب مبنية عليه ، وحينئذ فلا يقدح ظهور بطلان الظن ولا يؤثر فيما حكم بصحته كما ظنه ـ رحمه‌الله.

وبالجملة فإن الشرط المعتبر حاصل كما هو التقدير ، والمانع وهو ظهور الخطأ لا يصلح للمانعية ، كيف وقد تخلف فيما هو أولى بالحكم أو مساو في المنع. والفصل بين الحالين ـ مع تخلف الشرط فيهما ، والقول بصحة أحدهما دون الآخر تعلقا بفقد الشرط لظهور بطلان الظن ـ تحكم محض.

وأما حديث كون الحكمة ـ في انتظار المدة المقررة ـ هو استبراء الرحم ، فحديث شعري ، والعلة المذكورة مستنبطة محضة لا منصوصة ، فلا يلزم اطرادها. وإنما المنصوص فيما وصل إلينا من الأخبار اعتبار انقضاء المدة واستنبط منها الاكتفاء بظن الانتقال من طهر إلى آخر ، وكلاهما متحقق.

أقول : لا ريب أنه بالنظر إلى ظاهر أخبار المسألة مطلقها ومقيدها يظهر قوة القول الأول ، لأن المطلق منها قد دل على أن الغائب يطلق زوجته على كل حال ، وهذه الحال المفروضة التي هي محل البحث داخلة في العموم بلا ريب ، والمقيد بالتربص دل على أنه يتربص بها المدة المعتبرة وبعدها يجوز له طلاقها ، ولا استفصال فيها بين ظهور كونها وقت الطلاق حائضا أو في طهر المواقعة أو غير ذلك ، وعدم الاستفصال دليل العموم في المقال.

الرابعة : أن يطلقها مراعيا للمدة المعتبرة ، ويستمر الاشتباه فلا يعلم كونها حال الطلاق ذات حيض أم لا ، في طهر المواقعة أم لا ، والطلاق هنا صحيح قولا واحدا كما ذكره في المسالك ، ووجهه وجود المقتضي ، وهو مضي المدة المعتبرة ، لأن شرط صحة طلاق الغائب مراعاة مضي المدة المعتبرة مع عدم العلم بكونها وقت الطلاق حائضا أو باقية في طهر المواقعة ، وهو حاصل كما هو المفروض ، وعدم

١٩١

المانع ، إذ ليس إلا الاشتباه ، وهو غير صالح للمانعية ، فإنه مع الظهور كما تقدم لا يبطل الطلاق ، فبطريق الأولى مع الاشتباه.

الخامسة : أن يطلقها قبل مضي المدة المعتبرة إلا أنه ظهر بعد الطلاق وقوعه في طهر لم يقربها فيه ، قالوا : وفي صحة الطلاق وجهان : من حصول شرط الصحة في نفس الأمر وظهور ذلك ، ومن عدم وجود الشرط المعتبر في صحة الطلاق حال إيقاعه.

ورجح الأول في المسالك بأنه يمكن أن يجعل ظهور اجتماع الشرائط بعد ذلك كاشفا عن صحته ، خصوصا مع جهله ببطلان الطلاق من دون مراعاة الشرط ، لقصده حينئذ إلى طلاق صحيح ، ثم ظهر اجتماع شرائطه ، ثم قال : فالأظهر الصحة.

واعترضه سبطه في شرح النافع بأنه مشكل لإطلاق النص الدال على اعتبار المدة في الغائب ولم تحصل هنا ، وهو جيد.

السادسة : الصورة بحالها إلا أنه تبين عدم الانتقال من طهر المواقعة أو كونها حائضا أو استمر الاشتباه ، والظاهر أنه لا إشكال في بطلان الطلاق لعدم حصول الشرط ، وهو مضي المدة المعتبرة ، وأكده ظهور كون الطلاق في طهر المواقعة أو حال الحيض أو استمرار الاشتباه ، فالإشكال في الأول باحتمال الصحة إنما نشأ من انكشاف الحال بما يقتضي الصحة ، والأمر هنا بالعكس.

المسألة الثانية : لو تربص بها المدة المعتبرة وأخبره من يعتد بقوله شرعا أنها حائض بسبب تغيير عادتها ، وكذا لو أخبره ببقائها في طهر المواقعة ، أو بكونها حائضا حيضا آخر بعد الطهر ، فطلقها والحالة هذه ، فهل يصح أم لا؟ إشكال ، وجزم المحقق الشيخ علي وشيخنا الشهيد الثاني بالعدم.

احتج المحقق المذكور بأن ظاهر الأخبار يقتضي العلم بطهرها وقت الطلاق أو ظنه ، ولعموم الدلائل الدالة على المنع من طلاق الحائض ، خرج ما دل عليه

١٩٢

أخبار الخمس (١) اللاتي يطلقن على كل حال ، ومنها زوجة الغائب بعد التربص إذا ظهر كونها حائضا عند الطلاق. لرواية أبي بصير (٢) فيبقى الباقي على أصله ، انتهى.

وقيل : بأن فيه وجها آخر بالصحة لحصول الشرط ، وهو انقضاء المدة المعتبرة ، ولا يخلو من قوة ، لما عرفت من أن المستفاد من النصوص إنما هو التربص المقدار المذكورة وظن الانتقال من طهر إلى آخر إنما استفيد استنباطا كما اعترف به في المسالك ، وما ذكره المحقق المزبور من أن ظاهر الأخبار يقتضي العلم بطهرها وقت الطلاق ، أو ظنه إنما يسلم له بالنسبة إلى أخبار الحاضر ، وهو غير محل البحث ، وإلا فأخبار طلاق الغائب لا إشعار فيها بما ذكره إن لم يكن فيما إشعار بخلافه ومع تسليم عموم الدلائل الدالة على المنع من طلاق الحائض يجب تخصيصه بما دل على صحة طلاق الغائب إما مطلقا أو بعد مدة التربص مطلقا وإن ظهر كونها حائضا.

والتحقيق أن هنا عمومين قد تعارضا (أحدهما) عموم المنع من طلاق الحائض الشامل لطلاق الغائب وغيره (وثانيهما) عموم جواز طلاق الغائب على كل حال مطلقا أو بعد المدة المعتبرة الشامل حالي ظن الحيض وعدمه ، وتخصيص أحدهما بالآخر يحتاج إلى مخصص من خارج ، ومنه يظهر بقاء المسألة في قالب الاشكال وإن كان مقتضى الاحتياط سيما في الفروج تخصيص العموم الثاني بالأول

المسألة الثالثة : ظاهر الأصحاب أنه لو خرج في طهر لم يقربها فيه فإنه يصح طلاقها من غير تربص وإن اتفق في الحيض ، وبه صرح الشيخ في النهاية فيما قدمنا من عبارته ، ونحوها عبارة ابن البراج.

وقال في المسالك : لو كان خروج الزوج في طهر آخر غير طهر المواقعة

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٩ ح ١ و ٢ و ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٥ و ٣٠٦ ب ٢٥ ح ١ و ٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٦٢ ح ١٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٨ ب ٢٦ ح ٦.

١٩٣

يصح طلاقها من غير تربص ما لم يعلم كونها حائضا ، ولا يشترط هنا العلم أو الظن بعدم الحيض لأن شرط الصحة هنا موجود ، وهو استبراؤها بالانتقال من طهر إلى آخر ، وإنما الحيض بعد ذلك مانع من صحة الطلاق ، ولا يشترط في الحكم بصحة الفعل العلم بانتفاء موانعه ، بل يكفي عدم العلم بوجودها.

وظاهر سبطه السيد السند في شرح النافع التوقف والاستشكال في هذا المقام ، حيث إنه بعد نسبة أصل الحكم المذكور إلى الشيخ في النهاية وجماعة قال : وهو مشكل ، لإطلاق ما تضمن اعتبار مضي المدة في الغائب ، فإنه يتناول بإطلاقه من خرج في طهر المواقعة وغيره ، ولأن ما تضمن بطلان طلاق الحائض متناول لهذه الصور كما يتناول غيرها ، فيتوقف الحكم بالصحة في هذه الصورة على وجود دليل عليه. نعم لو قيل : بأن من هذا شأنه يصح طلاقه من غير تربص إذا اتفق وقوع الطلاق في الطهر كان متجها ، لأن الحاضر يقع طلاقه على هذا الوجه ، فالغائب أولى ، لأنه أخف حكما منه ، انتهى وهو جيد.

ويزيده إيضاحا وبيانا أنه لا ريب في صحة هذا القول بناء على مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه من أولئك الأفاضل من صحة الطلاق مع عدم التربص ، إنما الإشكال بناء على وجوب التربص ، فإن فيه :

(أولا) أن ظاهر أخبار التربص هو وجوب ذلك أعم من هذه الصورة المفروضة وغيرها ، وتخصيصها يحتاج إلى دليل.

(وثانيا) أنه كما أن من شروط صحة الطلاق العلم بانتقال المرأة من طهر المواقعة إلى طهر آخر كذلك من شروطه العلم بكونها غير حائض وقت الطلاق كما قدمنا بيانه ـ ودلالة الأخبار عليه ـ في الشرط الخامس.

وغاية ما يفهم من الأخبار بالنسبة إلى الفرق بين الحاضر والغائب هو أن الغائب يصح طلاقه بعد التربص للمدة المعتبرة ، وإن اتفق كون الطلاق في طهر المواقعة أو اتفق كونها حائضا وقت الطلاق. وأما الحاضر فلا بد من تقدم العلم

١٩٤

بعدم الأمرين المذكورين ، وحينئذ فالحكم بصحة الطلاق مع الغيبة وعدم التربص بل بمجرد العلم بكونها في غير طهر المواقعة ، وإن كان حائضا يحتاج إلى دليل لكونه على خلاف ما يظهر من أدلة وجوب التربص ، فيبقى على الأصل من اشتراط العلم بعدم الحيض الذي قامت الأدلة على أنه شرط في صحة الطلاق.

قوله ـ رحمه‌الله ـ : ولا يشترط هنا العلم أو الظن بعدم الحيض لأن شرط الصحة هنا موجود ، وهو استبراؤها بالانتقال من طهر إلى آخر مردود بأنه كما أن من الشروط الانتقال من طهر إلى آخر كذلك منها العلم بكونها طاهرا وقت الطلاق كما عرفت ، وغاية ما دل عليه الدليل سقوط هذين الشرطين في الغائب مع التربص لا مع عدمه ، وبالجملة فالأظهر عندي ما ذكره السيد السند المذكور ـ رحمه‌الله.

المسألة الرابعة : لو كان حاضرا لكن لا يمكنه الوصول إلى الزوجة واستعلام حالها لحبس ونحوه ، فهو بمنزلة الغائب فيما عرفت من حكمه والأقوال فيه ، كما أنه لو كان غائبا ولكن يمكنه استعلام أحوالها لورود الأخبار عليه ممن يعتقد صدقة ، ويركن في صحة الأخبار إليه ، فإنه يكون في حكم الحاضر.

والذي يدل على الحكم الأول من الأخبار ما رواه في الكافي والفقيه (١) في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل تزوج امرأة سرا من أهلها وهي في منزل أهلها ، وقد أراد أن يطلقها وليس يصل إليها ليعلم طمثها إذا طمثت ولا يعلم بطهرها إذا طهرت ، قال : فقال : هذا مثل الغائب عن أهله ، يطلقها بالأهلة والشهور ، قلت : أرأيت إن كان يصل إليها الأخبار الأحيان والأحيان لا يصل إليها فيعلم حالها ، كيف يطلقها؟ فقال ، إذا مضى له شهر لا يصل إليها فيه فيطلقها إذا نظر إلى غرة الشهر الآخر بشهود ، ويكتب الشهر الذي يطلقها فيه ويشهد على طلاقها رجلين ، فإذا مضى ثلاثة أشهر

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٨٦ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣١٠ ب ٢٨ ح ١.

١٩٥

فقد بانت منه وهو خاطب من الخطاب ، وعليه نفقتها في تلك الثلاثة الأشهر التي تقعد فيها».

وأنت خبير بأن قوله عليه‌السلام أولا «يطلقها بالأهلة والشهور» أي بالأهلة مع معلوميتها ، أو العدد مع عدم المعلومية المؤذن بتعدد الشهور لا يخلو من مدافعة لقوله ثانيا «إذا مضى له شهر لا يصل إليها فيطلقها» المؤذن بكون مدة التربص شهرا خاصة ، إلا أن يحمل على أن أقل ذلك شهر وأكثره ثلاثة أشهر ، فتحمل الثلاثة على الاستحباب.

والظاهر أنه إلى ذلك يشير كلام الشيخ في النهاية حيث قال : ومتى كان للرجل زوجة معه في البيت غير أنه لا يصل إليها فهو بمنزلة الغائب عن زوجته ، فإذا أراد طلاقها فليصبر إلى أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ثم يطلقها إن شاء.

والقول بهذا الحكم والاستدلال عليه بالخبر المذكور مما جرى عليه من تأخر عن الشيخ ، إلا ابن إدريس فإنه اعترضه في ذلك ، فقال : الذي يقتضي أصول مذهبنا وإجماعنا منعقد عليه أنه لا يجوز للحاضر أن يطلق زوجته المدخول بها وهي حائض بغير خلاف ، وحمل الحاضرة في البلد على تلك قياس ، وهو باطل عندنا ، والأصل الزوجية ، فمن أوقع الطلاق يحتاج إلى دليل قاهر ، وما ذكره شيخنا خبر واحد أورده إيرادا لا اعتقادا كما أورد أمثاله مما لا يعول عليه ولا يعرج عليه ، ولو لا إجماعنا على طلاق الغائب وإن كانت زوجته حائضا لما صح ، فلا نتعداه ولا نتخطاه ، انتهى.

ورده العلامة في المختلف فقال : والمعتمد قول الشيخ ، لنا أن المقتضي معلوم الثبوت والمعارض لا يظن ثبوته ، بل يظن عدمه فيثبت الحكم ، أما وجود المقتضي فلأن لفظ الطلاق موضوع شرعا للبينونة وسبب تام فيها وقد وجد ، وأما انتفاء المعارض فلأنه ليس إلا الحيض وهو غير معلوم الثبوت بل مظنون العدم ،

١٩٦

إذ التقدير ذلك ، وأما ثبوت الحكم عند ذلك فهو ظاهر لأن المقتضي لجواز تطليق الغائب ـ وهو خفاء حالها عنه مع غلبة ظنه بالانتقال من طهر المواقعة إلى غيره ـ موجود هنا وبثبوت العلم يلزم ثبوت الحكم ولا يرجع ذلك إلى القياس بل إلى وجود ما جعله الشارع علة ، وما رواه الشيخ في الصحيح ـ ثم ساق الخبر كما قدمناه ثم قال : ـ وهذا نص في الباب ، وإذا وافق المعلوم المعقول الحديث الصحيح المنقول واشتهر بين الجماعة العمل به كان معينا ، انتهى وهو جيد.

أقول : ونظير الخبر المذكور ما رواه في الكافي (١) عن الحسن بن علي بن كيسان قال : «كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله عن رجل له امرأة من نساء هؤلاء العامة وأراد أن يطلقها وقد كتمت حيضها وطهرها مخافة الطلاق ، فكتب عليه‌السلام : يعتزلها ثلاثة أشهر ويطلقها».

وهذا الخبر مع كون مورده مورد الأول تضمن التربص بثلاثة أشهر ، والظاهر حمله على ما قدمناه من استحباب الثلاثة ، وأنها أكثر مدة التربص ، وأما الحمل على أن عادتها في كل ثلاثة أشهر فبعيد جدا.

الركن الثالث : الصيغة : ينبغي أن يعلم هنا وإن تقدمت الإشارة إليه أن النكاح لما كان عصمة مستفادة من الشرع وقف زواله على رافع شرعي ، وبسبب من جانب الشارع يوجب رفع ذلك ، وقد اتفق النص والفتوى على الصحة بلفظ الطلاق بإضافته إلى لفظ يدل على التعيين ، كقوله أنت أو فلانة أو هذه أو نحو ذلك ، وما عدا ذلك فيجب نفيه إلى أن يثبت دليل على صحة الوقوع به.

والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام ما رواه الصدوق في الفقيه (٢) في الصحيح عن حماد بن عثمان عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٩٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣١١ ب ٢٨ ح ٢.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٥٦ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٢ ب ١٥ ح ١.

١٩٧

قال لامرأته : أنت مني خلية أو برية أو بتة أو بائن أو حرام ، فقال : ليس بشي‌ء».

والعجب من صاحبي الوافي والوسائل أنهما لم ينقلا هذه الرواية في جملة روايات المسألة المذكورة ، وهذا المكان هو محلها اللائق بها.

وروى في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم «أنه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل قال لامرأته : أنت علي حرام أو بائنة أو بتة أو برية أو خلية ، قال : هذا كله ليس بشي‌ء ، إنما الطلاق أن يقول لها في قبل العدة بعد ما تطهر من حيضها قبل أن يجامعها : أنت طالق أو اعتدي ، يريد بذلك الطلاق ، ويشهد على ذلك رجلين عدلين».

ونقل العلامة في المختلف عن البزنطي قال : «روى أحمد بن محمد بن أبي نصر في كتاب الجامع عن محمد بن سماعة عن محمد بن مسلم (٢) عن الباقر عليه‌السلام «في رجل قال لامرأته : أنت حرام أو بائنة أو بتة أو برية أو خلية ، فقال : هذا ليس بشي‌ء إنما الطلاق أن يقول لها من قبل عدتها قبل أن يجامعها : أنت طالق ، ويشهد على ذلك رجلين عدلين». وهذه الرواية خالية من الزيادة التي في سابقتها وهي قوله : اعتدي يريد بذلك الطلاق.

وما رواه في الكافي (٣) عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الطلاق أن يقول لها : اعتدي أو يقول : أنت طالق».

وعن محمد بن قيس (٤) في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الطلاق

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٩ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٨ ح ٢٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٥ ب ١٦ ح ٣.

(٢) المختلف ص ٥٨٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٥ ب ١٦ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٧ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٥ ب ١٦ ح ٤.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٧٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٦ ب ١٦ ح ٥.

١٩٨

للعدة أن يطلق الرجل امرأته عند كل طهر ، ويرسل إليها أن اعتدي فإن فلانا قد طلقك ، قال : هو أملك برجعتها ما لم تنقض عدتها».

وعن عبد الله بن سنان (١) في الموثق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «يرسل إليها فيقول الرسول : اعتدي فإن فلانا قد فارقك. قال ابن سماعة : وإنما معنى قول الرسول اعتدي فإن فلانا قد فارقك ـ يعني الطلاق ـ إنه لا يكون فرقة إلا بطلاق».

قال في الكافي بعد هذا الخبر : حميد بن زياد عن ابن سماعة عن علي بن الحسن الطاطري قال : الذي أجمع عليه في الطلاق أن يقول : أنت طالق أو اعتدي ، وذكر أنه قال لمحمد بن أبي حمزة : كيف يشهد على قوله : اعتدي؟ قال : يقول : اشهدوا اعتدي ، قال ابن سماعة : غلط محمد بن أبي حمزة أن يقول : اشهدوا اعتدي ، قال الحسن بن سماعة : ينبغي أن يجي‌ء بالشهود إلى حجلتها أو يذهب بها إلى الشهود إلى منازلهم ، وهذا المحال الذي لا يكون ، ولم يوجب الله عزوجل هذا على العباد ، فقال الحسن : ليس الطلاق إلا كما روى بكير بن أعين أن يقول لها وهي طاهر من غير جماع : أنت طالق ، ويشهد شاهدين عدلين ، وكل ما سوى ذلك فهو ملغى» انتهى ، ومقتضاه عدم وقوع الطلاق حتى من هذه المادة إلا بهذا اللفظ بخصوصه فلا يصح بلفظ أنت طالق أو من المطلقات أو أنت مطلقة على خلاف في هذه اللفظة يأتي إن شاء الله ذكره ، وهو جيد.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن تحقيق الكلام هنا يقع في مواضع :

أحدها : المشهور بين الأصحاب انحصار صيغة الطلاق في لفظ الطلاق بالتقريب المذكور آنفا ، وذهب ابن الجنيد إلى وقوعه أيضا بلفظ اعتدي قال : الطلاق لا يقع إلا بلفظ الطلاق أو قوله اعتدي ، وأما ما عدا ذلك فلا يقع به ، واحتجوا له بروايتي

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٩٥ ب ١٦ ح ٢.

١٩٩

محمد بن مسلم والحلبي الصحيحتين أو الحسنتين ، وحملهما الشيخ في كتابي الأخبار على أن لفظ اعتدي إنما يعتبر إذا تقدم قول الرجل أنت طالق ثم يقول اعتدي قال : لأن قوله لها اعتدي ليس له معنى لأن لها أن تقول : من أي شي‌ء أعتد؟ فلا بد أن يقول اعتدي لأني طلقتك ، فالاعتبار إذا بلفظ الطلاق لا بهذا القول إلا أنه يكون هذا القول كالكاشف عن أنه لزمها حكم الطلاق الموجب لها ذلك.

واعترضه الشهيد الثاني في المسالك وسبطه في شرح النافع حيث إنهما ممن يدور مدار صحة الأسانيد بناء على هذا الاصطلاح المحدث ، فمالا إلى قول ابن الجنيد لهذين الخبرين من حيث اعتبار سنديهما ، فأجابا عن كلام الشيخ بما ملخصه : أنه لا يخفى ما فيه من البعد وشدة المخالفة للظاهر ، لأنه عليه‌السلام جعل قوله اعتدي معطوفا على قوله أنت طالق ب «أو» المفيدة للتخير في إحدى الروايتين ومعطوفا عليه في الرواية الأخرى ، فكيف ينحصر وقوعه بأحد اللفظين الذي خير بينه وبين اللفظ الآخر وقوله ـ رحمه‌الله ـ «أنه لا معنى لقوله اعتدي» غير جيد لأنه إذا نوى به الطلاق وحكم الشارع بحصول البينونة به يصير في معنى أنت طالق ، فإذا قالت من أي شي‌ء أعتد؟ يقول : من هذا الطلاق الواقع بهذا اللفظ ، غاية الأمر أنها لم تفهم ذلك من قوله اعتدي ، فسألت عنه ، وذلك لا يوجب أن لا يكون له معنى ، ولا يمكن الجواب عن هاتين الروايتين بالحمل على التقية لأن في إحدى الخبرين ما ينافي ذلك ، وهو أنه لا يقع الطلاق بقوله أنت حرام أو بائنة أو برية أو خلية ، فإن الطلاق عند المخالفين يقع بجميع ذلك مع النية ، انتهى.

أقول : لا ريب أن ظاهر الروايتين المذكورتين هو الدلالة على مذهب ابن الجنيد ، ومقتضى العمل بهذا الاصطلاح المحدث القول بما دل عليه هذان الخبران لأنهما أصح أخبار المسألة ، ولكن الأصحاب قديما وحديثا قد اعترضوا عنهما ، ولم يقل بهما من المتقدمين إلا ابن الجنيد الذي قد علم من تتبع أحواله وأقواله الميل إلى مذهب المخالفين والعمل بأخبارهم والاستناد إليها والاستدلال بها ،

٢٠٠