الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

وبالجملة فالخبر صريح في أن نحو ذلك ليس بإجبار ، وليس الوجه فيه إلا ما ذكرناه.

وأما الحكم الأول فالظاهر أنه لا إشكال فيه أيضا إلا أنه يجب تقييد المال بكونه مضرا به كما تقدم ، ويمكن الاستدلال عليه بما رواه في الكافي (١) عن منصور بن يونس في الموثق قال : «سألت العبد الصالح عليه‌السلام وهو بالعريض فقلت له : جعلت فداك إني قد تزوجت امرأة وكانت تحبني فتزوجت عليها ابنة خالي وقد كان لي من المرأة ولد فرجعت إلى بغداد فطلقتها واحدة ثم راجعتها ، ثم طلقتها الثانية ثم راجعتها ، ثم خرجت من عندها أريد سفري هذا حتى إذا كنت بالكوفة أردت النظر إلى ابنة خالي ، فقالت أختي وخالتي : لا تنظر إليها والله أبدا حتى تطلق فلانة ، فقلت : ويحكم والله مالي إلى طلاقها من سبيل ، فقال لي : هو من شأنك ليس لك إلى طلاقها من سبيل ، فقلت : جعلت فداك إنه كانت لي منها ابنة وكانت ببغداد وكانت هذه بالكوفة وخرجت من عندها قبل ذلك بأربع ، فأبوا علي إلا تطليقها ثلاثا ، ولا والله جعلت فداك ما أردت الله وما أردت إلا أن أداريهم عن نفسي وقد امتلأ قلبي من ذلك جعلت فداك. فمكث طويلا مطرقا ، ثم رفع رأسه إلى وهو متبسم فقال : أما ما بينك وبين الله عزوجل فليس بشي‌ء ، ولكن إذا قدموك إلى السلطان أبانها منك».

والتقريب فيه أن مرجع المسألة إلى التخيير بين الطلاق وبين ما هو غير مستحق عليه شرعا ، فإنه في هذه الحال يكون إكراها ، وما دل عليه الخبر من هذا القبيل ، فإن منعه من زوجته التي هي ابنة خاله أمر محرم كالمثال الذي ذكروه من دفع مال غير مستحق بخلاف ما إذا كان مستحقا عليه شرعا ، فإنه ليس بإكراه كالرد المتقدم.

الثاني : لو اكره على الطلاق فطلق ناويا له قيل : يقع صحيحا ، وهو اختيار

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢٧ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٢ ب ٣٨ ح ١ مع اختلاف يسير.

١٦١

العلامة في التحرير ، وبه جزم شيخنا الشهيد الثاني في الروضة ، وفي المسالك أنه الأصح ، لحصول اللفظ والقصد ، ولأن القصد لا إكراه عليه ، فلو لا حصول الرضا بالعقد لما قصد إليه. وقيل بالبطلان إذ المفروض أنه لو لا الإكراه لما فعله ، وعقد المكره باطل بالنص والإجماع.

قال في شرح النافع ـ بعد نقل القولين ـ : وحجتيهما والمسألة محل إشكال ، وهو كذلك ، ويمكن تأييد القول الثاني بقوله عليه‌السلام في رواية يحيى بن عبد الله ابن الحسن المتقدمة «وإنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه ولا إضرار». فإنه وإن صدق على هذا الطلاق المفروض أنه أريد به الطلاق ، بمعنى أنه حصل القصد إليه ، لكنه ناش عن الاستكراه والإضرار ، فالقصد إليه مع كونه ناشئا عن الإكراه غير مجد في صحته ، وكيف كان فالمسألة باقية في غشاوة الإشكال.

الثالث : قالوا : لو أكرهه على طلاق امرأته بعينها فطلق غيرها صح ، وكذا لو أكرهه على أن يطلق طلقة واحدة فطلق أزيد ، والوجه فيه أنه يشعر باختياره فيما أتى به (١) إذ لم يتعلق الإكراه بذلك ، والظاهر أنه لا إشكال فيه. أما لو أكرهه على طلاق إحدى الزوجتين فطلق معينة ، فالذي اختاره السيد السند في شرح النافع وقبله جده في الروضة أنه إكراه (٢) وعلله في شرح النافع بأنه لا يمكن التخلص من الضرر المتوعد به بدون ذلك. قيل بأنه يقع الطلاق لأنه مختار في تعيينها ، ولأنه لما عدل من الإبهام إلى التعيين فقد زاد على ما أكرهه

__________________

(١) وتوضيحه : انا نمنع وقوع الطلاق بالإكراه إذا لم يظهر ما يدل على اختياره ، وأما إذا ظهر بأن خالف المكره وأتى بغير ما حمله عليه فلا مانع لوقوع الطلاق ، لان مخالفته له يشعر باختياره فيما أتى به ، وذكروا لذلك أمثلة منها ما ذكرناه في الأصل.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) وعلله في الروضة قال : والأقوى أنه إكراه ، إذ لا يتحقق فعل يقتضي أمره بدون أحدهما ، وهو يرجع الى ما ذكره سبطه كما نقلناه في الأصل. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

١٦٢

عليه لأن الإكراه على طلاق إحداهما لا على طلاق هذه ، وطلاق هذه طلاق إحداهما مع زيادة. وقد تقرر في الأصول أن الأمر بالكلي ليس أمرا بجزئي معين.

ورد بأن متعلق الإكراه وإن كان كليا لكنه يتأدى في ضمن طلاق كل واحدة بعينها ، وطلاق واحدة غير معينة. فكل واحد من الافراد داخل في المكره عليه ، ومدلول عليه بالتضمن.

نعم لو صرح له بالحمل على طلاق واحدة مبهمة بأن يقول : أحدا كما طالق مثلا فعدل عنه إلى طلاق معينة فلا شبة هنا في وقوع الطلاق على المعينة لأنه غير المكره عليه جزما.

وأنت خبير بأنه بالنظر إلى هذه التعليلات فإن القول الأول هو الأقرب ، إذ هو الأربط بالقواعد والأنسب ، إلا أنك قد عرفت في غير موضع مما تقدم ما في البناء على أمثال هذه التعليلات.

الرابع : قال في المسالك : لا يعتبر في الحكم ببطلان طلاق المكره التورية ، وإن كان يحسنها عندنا ، لأن المقتضي لعدم وقوعه هو الإكراه الموجب لعدم القصد إليه ، فلا يختلف الحال بين التورية وعدمها ، ولكن ينبغي التورية للقادر عليها بأن ينوي بطلاق فاطمة المكره عليها غير زوجته ممن يشاركها في الاسم ، أو ينوي طلاقها من الوثاق ، أو يعلقه في نفسه بشرط ، ولو كان جاهلا بها أو أصابه دهشة عند الإكراه ـ كسل السيف مثلا ـ عذر إجماعا ، انتهى.

وربما كان في قوله «عندنا» إيماء إلى أنه عند المخالفين ليس كذلك ، فتعتبر التورية عندهم في بطلان العقد ، ويكون منشأ بطلانه ذلك ، ولا ريب في ضعفه لما ذكره ـ رحمة الله عليه.

الخامس : قال في الكتاب المتقدم ذكره أيضا : يستثني من الحكم ببطلان فعل المكره ما إذا كان الإكراه بحق ، فإنه صحيح كإكراه الحربي على الإسلام والمتردد ، إذ لو لم يصح لما كان للإكراه عليه معنى ، وله موارد كثيرة ذكرناها

١٦٣

فيما سلف من هذا الكتاب ، والعبارة الجامعة لها مع السابقة أن يقال : ما لا يلزمه في حال الطواعية لا يصح منه إذا أتى به مكرها. وما يلزمه في حال الطواعية يصح مع الإكراه عليه ، ولا يخلو الحكم بإسلام الكافر مع إكراهه عليه من غموض من جهة المعنى ، وإن كان الحكم به ثابتا من فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فما بعده ، لأن كلمتي الشهادة نازلتان في الاعراب عما في الضمير منزلة الإقرار ، والظاهر من حال المحمول عليه بالسيف أنه كاذب ، لكن لعل الحكمة فيه أنه مع الانقياد ظاهرا وصحبة المسلمين والاطلاع على دينهم يحصل له التصديق القلبي تدريجا ، فيكون الإقرار اللساني سببا في التصديق القلبي ، انتهى.

أقول : لا ريب أن محل الاشكال عنده هنا إنما هو إسلام المنافقين المقرين بمجرد اللسان مع عدم التصديق القلبي ، والأخبار قد دلت على أن فائدة هذا الإسلام إنما هو بالنسبة إلى الأمور الدنيوية من حقن الدم والمال والطهارة ، وجواز المناكحة ونحو ذلك ، وأما بالنسبة إلى الآخرة فإنهم من أهل النار والإكراه حينئذ إنما تعلق بإظهاره وإن كان كاذبا بحسب الواقع ، وهذا مما لا غموض فيه ، ويصير من قبيل الإكراه على الحقوق الواجبة كأداء الدين ونحوه ، فإنه كما يجب على المديون أداء ما يلزمه شرعا كذلك يجب على الكافر الانقياد بهذا الدين والدخول فيه ، وإن كان الأول حقا لغيره سبحانه ، والثاني حقا له جل شأنه.

بقي الكلام في أنه مع عدم تصديقه بالإسلام واعتقاده له وإذعانه به فالفائدة في مجرد إظهاره لأجل هذه الأمور الدنيوية قليل الجدوى.

والجواب عن ذلك أن الفائدة فيه (أولا) إعراضه عن المنازعة والمقاومة بالحرب لهذا الدين وأهله ، وهي من أهم الفوائد.

(وثانيا) ما ذكره شيخنا المذكور من رجاء دخوله في هذا الدين وتصديقه به ، وتدل عليه الأخبار الواردة في تألف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منافقي قريش بدفع

١٦٤

الزكوات لهم ، كما ورد في تفسير (الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) ، وقد تقدمت الأخبار بذلك في كتاب الزكاة ، وفي بعضها ، فأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتألفهم بالمال والعطاء لكي يحسن إسلامهم ، ويثبتوا على دينهم الذي دخلوا فيه وأقروا به ، وإن كان أصحابنا لم يطلعوا على هذه الأخبار ، حيث فسروا (الْمُؤَلَّفَةِ) في آية الزكاة بالتأليف للجهاد ، ومورد الأخبار المذكورة أنما هو التأيف للبقاء على دين الإسلام والتصديق به كما قدمنا تحقيقه في الكتاب المذكور.

السادس : قال في المسالك : لو تلفظ بالطلاق ثم قال كنت مكرها وأنكرت المرأة ، فإن كان هناك قرينة تدل على صدقه بأن كان محبوسا أو في يد متغلب دلت القرينة على صدقه قبل قوله بيمينه ، وإلا فلا.

ولو طلق في المرض فقال كنت مغشيا على أو مسلوب القصد لم يقبل قوله إلا ببينة تقوم على أنه كان زائل العقل في ذلك الوقت ، لأن الأصل في تصرفات المسلم الصحة إلى أن يثبت خلافها ، وإنما عدلنا في دعوى الإكراه عن ذلك بالقرائن لظهورها وكثرة وقوعها ، ووضوح قرائنها بخلاف المرض ، انتهى.

أقول : ما ذكره من قبول قوله «بيمينه» في المسألة الاولى مع انضمام القرائن المذكورة إلى الدعوى مقطوع به في كلام الأصحاب ، واحتجوا عليه بأن القصد إلى العقد والرضا به شرط في صحة العقد. لكن لما لم يمكن الاطلاع على الرضا غالبا إلا باللفظ الدال عليه اكتفى الشارع به إذا لم تقم قرينة على عدم الرضا ، أما مع وجود القرينة الدالة على انتفائه فلا يكفي التعويل على دلالة اللفظ لانتفاء الدليل عليه ، والأصل عدمه.

وأما ما ذكره في المسألة الثانية من عدم قبول قوله «إلا بالبينة» فهو على إطلاقه محل نظر ، وذلك لأنه إن طابق الظاهر فالأمر كما ذكره ، وإن ظهر من حال المريض اضطراب واختلاط كعدم انتظام كلامه وتغير أحواله ثم ادعى زوال العقل والحال كما فرضنا فإن الظاهر قبول قوله ـ لعين ما ذكر في المسألة الأولى ـ اعتمادا على القرائن في الموضعين.

١٦٥

الرابع : من الشروط المتقدمة القصد ، وهو لا يختص بالطلاق بل يشترط القصد في صحة التصرفات اللفظية من الطلاق وغيره إجماعا كما نقله بعضهم ، وتدل عليه من الأخبار الواردة في الطلاق

رواية زرارة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال : لا طلاق إلا ما أريد به الطلاق».

ورواية هشام بن سالم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق».

وفي رواية محمد بن مسلم (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام «أنه قال : لا يقع الطلاق بإكراه ولا إجبار ولا على سكر ولا على غضب».

وقد تقدم في حديث يحيى بن عبد الله بن الحسن (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «إنما الطلاق ما أريد به الطلاق من غير استكراه ولا إضرار».

ورواية عبد الواحد بن مختار الأنصاري (٥) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : لا طلاق إلا لمن أراد الطلاق».

ورواية اليسع (٦) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول في حديث : ولو أن رجلا طلق على سنة وعلى طهر من غير جماع وأشهد ولم ينو الطلاق لم يكن طلاقه طلاقا».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٦ ب ١١ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٨ ص ٥١ ح ٧٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٦ ب ١١ ح ٤.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣٢١ ح ٥ لكن الظاهر أن هذا كلام الصدوق لا من جزء الرواية.

(٤) الكافي ج ٦ ص ١٢٧ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ٧٤ ح ١٦٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣١ ب ٣٧ ح ٤.

(٥) الكافي ج ٦ ص ٦٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٥١ ح ٨١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٥ ب ١١ ح ٢ وص ٢٨٦ ح ٥.

(٦) الكافي ج ٦ ص ٦٢ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٥١ ح ٨٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٥ ب ١١ ح ١.

١٦٦

وقال الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) : «ولا يقع إلا على طهر من غير جماع بشاهدين عدلين مريدا للطلاق». ومما يترتب على ذلك طلاق الساهي والنائم والغالط والهازل ، وحال الغضب الذي يرتفع معه القصد ، ومنه أيضا الأعجمي الذي لقن الصيغة ولا يفهم معناها.

بقي الكلام في أنه لو ادعى المطلق عمد القصد ، فقيل : بأنه لا يقبل منه كما في سائر التصرفات القولية من بيع ونحوه ، لأن الظاهر من حال العاقل المختار القصد إلى مدلول اللفظ الذي يتلكم به ، فإخباره بخلاف ذلك مناف للظاهر ، وهو ظاهر اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه في شرح النافع.

وأطلق جمع من الأصحاب منهم المحقق في الشرائع أن المطلق لو قال «لم أقصد الطلاق» قبل منه ظاهرا ، ودين بنيته باطنا ، وإن تأخر تفسيره ما لم يخرج العدة ، لأنه إخبار عن نيته ، وظاهره أن العلة في قبول قوله هو كون ذلك إخبارا عن نيته ، إذ لا يمكن الاطلاع عليها إلا من قبله ، فكان قوله مقبولا كنظائره من الأمور التي لا تعلم إلا من المخبر ، وهو جيد فيما إذا وقع ذلك في العدة الرجعية لأن ذلك يعد رجعة كإنكار الطلاق.

وإنما الإشكال في العدة البائنة ، فإن ظاهر كلامه أن العدة فيه أعم من الرجعية والبائنة ، ووجه الاشكال فيها أن الزوجية فيها زائلة بالكلية ، فحكمها في ذلك حكم ما بعد العدة الرجعية ، فكيف يتم قبول قوله في هذه الحال؟ على أنك قد عرفت معارضة ما ذكره من العلة بما قدمنا ذكره في علة القول الأول من أن الظاهر من حال العاقل المختار. إلخ.

ولو قيل : إن الأصل مرجح عليه هنا ، للزم مثله في البيع ونحوه من العقود والإيقاعات ، مع الاتفاق منهم على عدم قبول قبوله في عدم القصد فيها ،

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٤١ ، مستدرك الوسائل ج ٣ ص ٤ ب ١٠ ح ٦.

١٦٧

واختصاص الطلاق بذلك مشكل.

قيل : وربما كان مستند حكمهم بذلك وتخصيص الطلاق بذلك موثقة منصور بن يونس (١) المتقدمة من حيث دلالتها على أنه طلق امرأته ولم يكن له في طلاقها نية ، وإنما حمله عليه بعض أقاربه ، فقال عليه‌السلام «ما بينك وبين الله فليس بشي‌ء» وهو مشعر بقبول قوله ، وفيه : إنا قد بينا أن مورد الخبر المذكور إنما هو الإكراه ـ بالتقريب الذي ذكرناه ذيله ـ وجواب الامام عليه‌السلام له بذلك إنما هو بناء على ما نقله من القصة المتضمنة لاكراهه على الطلاق لا من حيث مجرد دعواه عدم القصد.

وبالجملة فالأظهر عدم القبول ـ كما هو القول الأول ـ إلا مع قيام القرينة على صدقه ، أو كونها في عدة رجعية فيجعل ذلك بمنزلة الرجعة ، والظاهر أنه لو صادقته المرأة على ذلك فهو كما ذكرنا أيضا لكون الحق منحصرا فيهما ، فيعاملان بما اتفقا عليه ، ويرجع أمرهما في صدقهما وكذبهما إلى الله عزوجل.

تنبيهان

الأول : لا خلاف بين الأصحاب في جواز الوكالة في الطلاق الغائب ، وإنما الخلاف في الحاضر ، فالمشهور الجواز ، وذهب الشيخ وأتباعه إلى المنع. قال في النهاية : إذا وكل الرجل غيره بأن يطلق عنه لم يقع طلاقه إذا كان حاضرا في البلد ، فإن كان غائبا جاز توكيله في الطلاق. وتبعه ابن حمزة وابن البراج.

احتج الأصحاب على ما هو المشهور بينهم بأصالة صحة الوكالة ، وصحة إيقاع الصيغة المشترطة في نظر الشارع ، ووجود المقتضي وهو الصيغة ، وانتفاع المعارض وهو اشتراط المباشرة ، إذ لا تعلق لغرض الشارع في إيقاع هذا الفعل

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢٧ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٢ ب ٣٨ ح ١.

١٦٨

من مباشر دون غيره ، وما رواه سعيد الأعرج (١) في الصحيح عن الصادق عليه‌السلام «في رجل يجعل أمر امرأته إلى رجل ، فقال : اشهدوا إني قد جعلت أمر فلانة إلى فلان فيطلقها ، أيجوز ذلك للرجل؟ قال : نعم». قالوا : وترك الاستفصال في الحال يدل على عموم المقال.

وأنت خبير بأن ظاهر هذا الخبر أن الوكالة فيه ليست على النهج المبحوث عنه ، فإن ظاهره إنما هو جعل الاختيار في الطلاق وعدمه إلى ذلك الرجل ، فإن شاء طلق وإن شاء لم يطلق إلا أن الرجل اختار الطلاق فطلق ، ومحل البحث إنما هو توكيل الغير في إيقاع صيغة الطلاق ، والذي يدل على الجواز هنا جملة من الأخبار منها :

ما رواه المشايخ الثلاثة (٢) في الصحيح في بعضها عن ابن مسكان عن أبي هلال الرازي ـ والظاهر أنه مجهول ـ قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل وكل رجلا بطلاق امرأته إذا حاضت وطهرت وخرج الرجل ، فبدا له ، فأشهد أنه قد أبطل ما كان أمره به ، وأنه قد بدا له في ذلك ، قال : فليعلم أهله والوكيل».

وما رواه في الكافي (٣) عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل جعل طلاق امرأته بيد رجلين فطلق أحدهما وأبى الآخر ، فأبى أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يجيز ذلك حتى يجتمعا جميعا على الطلاق».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٢٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٩ ح ٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٣ ب ٣٩ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٢٩ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٤٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٩ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٣ ب ٣٩ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٢٩ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٩ ح ٣٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٣ ب ٣٩ ح ٢.

١٦٩

وما رواه الشيخ (١) عن اليقطيني قال : «بعث إلى أبو الحسن الرضا عليه‌السلام رزم ثياب وغلمانا ودنانير وحجة لي وحجة لأخي موسى بن عبيد وحجة ليونس بن عبد الرحمن ، فأمرنا أن نحج عنه ، وكان بيننا مائة دينار أثلاثا فيما بيننا ، فلما أردت أن أعبي الثياب رأيت في أضعاف الثياب طينا ، فقلت للرسول (٢) : ما هذا؟ فقال : ليس يوجه بمتاع إلا جعل فيه طينا من قبر الحسين عليه‌السلام ، ثم قال الرسول : قال أبو الحسن عليه‌السلام : هو أمان بإذن الله ، وأمرنا بالمال بأمور من صلة أهل بيته وقوم محاويج لا مؤنة لهم ، وأمر بدفع ثلاثمائة دينار إلى رحم امرأة كانت له ، وأمر لي أن أطلقها عنه وأمتعها بهذا المال ، وأمرني أن اشهد على طلاقها صفوان بن يحيى وآخر نسي محمد بن عيسى اسمه».

أما ما استدل به الشيخ وأتباعه على ما ذهبوا إليه فهو ما رواه في الكافي والتهذيب (٣) عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا تجوز الوكالة في الطلاق». قال في التهذيب ـ بعد نقل هذا الخبر ـ : وهذا الحديث لا ينافي الأخبار الأولة ، لأنا نحمل هذا الخبر على الحال التي يكون الرجل فيها حاضرا غير غائب ، فإنه متى كان الأمر على ما وصفناه لم يجز وكالته في الطلاق. والأخبار الأولة في تجويز الوكالة مختصة بحال الغيبة ولا تنافي بين الأخبار. وقال ابن سماعة : إن العمل على الذي ذكر فيه أنه لا يجوز الوكالة في الطلاق ولم يفصل ، وينبغي أن يكون العمل على الأخبار كلها حسبما قدمناه ، انتهى.

وقال في الكافي ـ بعد نقل الأخبار الدالة على الجواز ـ : وروي أنه لا يجوز الوكالة في الطلاق ـ ثم أورد خبر زرارة المذكور ثم قال : ـ وقال الحسن بن سماعة :

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٤٠ ح ٤٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٤ ب ٣٩ ح ٦.

(٢) يعني الذي بعثه الامام الرضا عليه‌السلام.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٣٠ ح ٦ ، التهذيب ج ٨ ص ٣٩ ح ٣٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٤ ب ٣٩ ح ٥.

١٧٠

وبهذا الحديث نأخذ.

أقول : وقد ظهر من ذلك أن في المسألة أقوالا : القول المشهور وهو الجواز ، ومذهب الشيخ وأتباعه وهو التفصيل بين الحضور والغيبة ، ومذهب الحسن بن سماعة وهو المنع والتوقف في المسألة ، وهو ظاهر الكليني ، حيث نقل الرواية المخالفة لما ذكره أولا ولم يجب عنها بشي‌ء ، ويرد على ما ذهب إليه الشيخ أنه لا قرينة في الأخبار المذكورة تؤنس بهذا التفصيل ، وأكثر الأخبار مطلق ، وإن كان مورد بعضها الغيبة ، ويرد على ما ذكره ابن سماعة أن فيه طرحا للأخبار الدالة على القول المشهور ، وهي أكثر عددا وأوضح سندا.

وبالجملة فظهور الخبر الأخير في المعارضة مما لا ينكر ، ولا يحضرني الآن محمل صحيح يحمل عليه ، قال في الوافي ـ بعد ذكر استبعاد حمل الشيخ ـ : ولو جاز تقييد الخبر بحال الحضور استنادا إلى ظهور بعض ما يخالفه في الغائب لجاز تقييده بالنساء في كله أمر الطلاق إليهن استنادا إلى ورود ما يوافقه فيهن كما يأتي في الباب الآتي من التخيير ، انتهى.

ومراده أنه لو صح حمل الشيخ ـ والحال أنه لا قرينة تؤنس به في هذه الأخبار إلا مجرد ورود بعض الأخبار في طلاق الغائب كذلك ـ لجاز أيضا أن يحمل إطلاق هذا الخبر على ما دلت عليه الأخبار الدالة على عدم جواز التخيير للنساء في الطلاق ، وأنه موكول لهن ، كما سيأتيك الاخبار به إن شاء الله قريبا ، ويأتي بيان الوجه فيها ، فيكون هذا الخبر من الأخبار الدالة على القول المشهور من أنه لا يجوز للنساء الوكالة في الطلاق بأن يتولين ذلك مباشرة أو وكالة.

وأنت خبير بما فيه من البعد كما في مذهب الشيخ ، وبالجملة فالمسألة عندي لا تخلو من نوع توقف ، والأنسب بقواعد الأصحاب كما هي قاعدتهم في جميع الأبواب هو حمل النهي في هذا الخبر على الكراهة ، لكن من قواعدهم أنهم لا يرتكبون الجمع إلا مع التكافؤ في السند ، فاكتفوا هنا برد الخبر المذكور

١٧١

لضعف سنده ، وأعرضوا عنه لذلك ، قال في المسالك : وعلى قول الشيخ يتحقق الغيبة بمفارقة مجلس الطلاق وإن كان في البلد.

أقول : فهم هذا المعنى من عبارة الشيخ التي قدمنا نقلها عنه لا يخلو من إشكال ، بل ظاهرها إنما هو الغيبة عن البلد لا عن مجلس الطلاق ، فإنه بعد أن صرح بأنه لم يقع طلاقه إذا كان حاضرا في البلد قال : وإن كان غائبا جاز ، المتبادر منه يعني غائبا عن البلد ، ومفهومه أنه متى كان حاضرا في البلد لم يجز. وحينئذ فإن كان ما ذكره ـ رحمه‌الله ـ مأخوذا من كلام آخر غير هذه العبارة فيمكن صحة ما ادعاه ، وإن كان من هذه العبارة فالأمر كما ترى.

الثاني : المشهور بين الأصحاب أنه يجوز جعل الأمر إليها في طلاق نفسها وقال الشيخ في المبسوط : وإن أراد أن يجعل الأمر إليها فعندنا لا يجوز على الصحيح من المذهب ، وفي أصحابنا من أجازه.

قال في المختلف ـ في الاحتجاج لما اختاره من القول المشهور ـ : لنا أنه فعل يقبل النيابة ، والمحل قابل فجاز كما وكل غيرها من النساء أو توكلت في طلاق غيرها.

واحتج في المسالك بما دل على جواز النيابة فيه مطلقا قال : وهو يشمل استنابتها كغيرها. ثم نقل عن الشيخ أنه استند في تخصيصها بالمنع إلى أن القابل لا يكون فاعلا ، وظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) «الطلاق بيد من أخذ بالساق». فإنه يقتضي عدم صحة التوكيل مطلقا ، خرج عنه غير المرأة بدليل من خارج ، فتبقى هي على أصل المنع. ثم رده فقال : ولا يخفى ضعف الدلالة ، فإن المغايرة بين القابل والفاعل يكفي فيه الاعتبار ، وهما مختلفان بالحيثية ، والخبر مع تسليمه لا يفيد الحصر ، وعلى تقدير تسليم إفادته فما أخرج غيرها من الوكلاء عنه يخرجها لتناوله لها ، انتهى.

__________________

(١) الجامع الصغير ج ٢ ص ٥٧.

١٧٢

وعندي في المسألة نوع توقف ، وإن كان القول المشهور لا يخلو من قوة بالنظر إلى هذه التعليلات ، إلا أن الاعتماد عندنا في الأحكام الشرعية إنما هو على النصوص ، والزوجية قد ثبتت وتحققت ، فرفعها ورفع ما يترتب عليها يتوقف على دليل واضح من النصوص.

وقال في الكفاية : ولو وكلها في طلاق نفسها ففي صحته قولان ، والأدلة من الجانبين محل البحث. انتهى ، وفيه إيذان بتوقفه في المسألة. ونحوه المحدث الكاشاني في المفاتيح حيث إنه اقتصر على نقل القولين من غير ترجيح في البين ، وهذا في محله كما عرفت.

الركن الثاني : المطلقة ، ويشترط فيها أمور الأول : أن تكون زوجة فلا أثر لطلاق الموطوءة بالملك ولا الأجنبية ، وكذا لو علق الطلاق بالتزويج بأن قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، أو كل من أتزوج فهي طالق ، والأصل في ذلك أن كلا من النكاح والطلاق أحكام شرعية يتوقف ثبوتها والحكم بها على الأسباب والعلل المنوطة بها شرعا فهي توقيفية ، والنكاح لما ثبت بما رسمه الشارع من الأسباب والشروط ، فرفعه ورفع ما يترتب عليه متوقف على ما ثبت من الشارع كونه رافعا مزيلا لحكمه. والذي علم من الشارع هو ورود الطلاق على الأزواج خاصة دون ملك اليمين والأجانب ، واستصحاب الحل فيهن باق لا رافع له شرعا ، وإلحاقهن بحكم الزوجات قياس لا يوافق أصول المذهب وبذلك صرحت الأخبار أيضا.

ومنها ما رواه في الكافي (١) عن عبد الله بن سليمان عن أبيه قال : «كنا في المسجد ، فدخل علي بن الحسين عليه‌السلام ولم أثبته وعليه عمامة سوداء قد أرسل

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٦٣ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٧ ب ١٢ ح ٣ وفيهما اختلاف يسير.

١٧٣

طرفيها بين كتفيه (١) فقلت لرجل قريب المجلس مني : من هذا الشيخ؟ فقال : ما لك لم تسألني عن أحد دخل المسجد غير هذا الشيخ؟ فقلت : لم أر أحدا دخل المسجد أحسن هيئة في عيني من هذا الشيخ ، فقال : إنه علي بن الحسين عليه‌السلام فقمت وقام الرجل وغيره فاكتنفناه وسلمنا عليه ، فقال له الرجل : ما ترى في رجل سمى امرأته بعينها وقال يوم يتزوجها هي طالق ثلاثا ثم بدا له أن يتزوجها ، أيصلح له ذلك؟ فقال : إنما الطلاق بعد النكاح ، قال عبد الله : فدخلت أنا وأبي على أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه‌السلام فحدثه أبي بهذا الحديث ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : أنت تشهد على علي بن الحسين عليه‌السلام بهذا الحديث؟ قال : نعم».

قال الكاشاني ـ في الوافي ذيل هذا الخبر ـ : أراد أبو عبد الله عليه‌السلام بهذا السؤال تسجيل الحكم عليه حيث إنه مخالف لمذاهب العامة وعملهم ، وكان المخاطب منهم ، ولعله ممن يحسن اعتقاده في علم علي بن الحسين عليه‌السلام ، انتهى.

وعن سماعة (٢) قال : «سألته عن الرجل يقول يوم أتزوج فلانة فهي طالق ، فقال : ليس بشي‌ء ، إنه لا يكون طلاق حتى يملك عقدة النكاح».

وعن محمد بن قيس (٣) في الصحيح أو الحسن عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق وإن اشتريت فلانا فهو حر ، وإن اشتريت هذا الثوب فهو في المساكين ، فقال : ليس بشي‌ء ، لا يطلق إلا ما يملك ، ولا يعتق إلا ما يملك ، ولا يتصدق إلا بما يملك».

__________________

(١) أقول : في هذا الحديث دلالة على أن السنة في التعمم هو دون التحنك ، كما اشتهر بين جملة من الأصحاب ، فإنه ناش عن الغفلة عن ملاحظة الاخبار ، ونحو هذا الخبر غيره كما تقدم في كتاب الصلاة من هذا الكتاب. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٨ ب ١٢ ح ٥.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦٣ ح ٥ وليس فيه «ولا يعتق الا ما يملك» ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٧ ب ١٢ ح ٢ وفيهما اختلاف يسير.

١٧٤

وما رواه الصدوق (١) في الصحيح عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه سئل عن رجل قال : كل امرأة أتزوجها ما عاشت أمي فهي طالق ، فقال : لا طلاق إلا بعد نكاح ، ولا عتق إلا بعد ملك». ورواه في المقنع عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلا.

وعن النضر بن قرواش (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «لا طلاق قبل نكاح ، ولا عتق قبل ملك».

وروى في كتاب قرب الاسناد (٣) عن الحسن بن ظريف عن الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام «أنه كان يقول : لا طلاق لمن لا ينكح ، ولا عتاق لمن لا يملك».

أقول : المراد بالنكاح في هذه الأخبار الثلاثة مع رواية عبد الله بن سليمان المتقدمة هو العقد لا الوطء ، وإلا لم يتم الحصر في الأولين ولا السلب في الآخرين ، ويؤيده ما تقدم في موثقة سماعة من قوله «عقدة النكاح» وحينئذ ففي هذه الأخبار دلالة ظاهرة على تمام المدعى من عدم الطلاق بالمملوكة والأجنبية والمعلق طلاقها بالتزويج ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه.

وروى الفضل بن الحسن الطبرسي في كتاب مجمع البيان (٤) عن حبيب بن أبي ثابت قال : «كنت عند علي بن الحسين عليه‌السلام فقال له رجل : إني قلت يوم أتزوج فلانة فهي طالق ، فقال : اذهب فتزوجها ، فإن الله بدأ بالنكاح قبل الطلاق فقال «إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ» (٥).

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٢١ ذيل ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٦ ب ١٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٨ ص ١٦٩ ح ٢٣٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٧ ب ١٢ ح ٤.

(٣) قرب الاسناد ص ٤٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٨ ب ١٢ ح ٧.

(٤) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٦٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨٩ ب ١٢ ح ١٣.

(٥) سورة الأحزاب ـ آية ٤٩.

١٧٥

أقول : وهذا الخبر أيضا ظاهر فيما قلناه.

وبالجملة فالحكم المذكور اتفاقي نصا وفتوى فلا إشكال ، وإنما خالف في ذلك العامة ، فحكم بعضهم بوقوعه على الأجنبية مطلقا ، وبعضهم بوقوعه إذا علقه بتزويجها ، بمعنى احتساب ذلك من الطلقات الثلاث المحرمة على تقدير تزويجها. وضعف الجميع بما ذكرنا من الأخبار ظاهر.

الثاني : أن يكون العقد دائما ، فلا يقع الطلاق بالأمة المحللة ولا المتمتع بها ولو كانت حرة ، والحكم هنا أيضا موضع وفاق كما نقله في المسالك ، قال : ولأن التحليل نوع إباحة ، فمتى شاء الزوج تركها بغير طلاق فلا حاجة إليه ، والمتمتع بها تبين بانقضاء المدة وبإسقاطه لها كما مر ، وقد روى محمد بن إسماعيل (١) في الصحيح عن الرضا عليه‌السلام قال : «قلت : وتبين بغير طلاق؟ قال : نعم». والاعتماد على الاتفاق ، وإلا فتعدد الأسباب ممكن ، انتهى.

أقول : ومما يدل على عدم وقوع الطلاق بالمحللة الأخبار الأربعة المتقدمة الدالة على أن الطلاق إنما هو بعد النكاح ، والنكاح كما عرفت عبارة عن العقد وهو قسيم للتحليل ، فلا يدخل فيه.

ومما يدل على عدم وقوعه بالمتمتعة الصحيحة التي ذكرها ، وما رواه في الكافي (٢) عن هشام بن سالم قال : «قلت : كيف يتزوج المتعة؟ قال : تقول يا أمة الله أتزوجك كذا وكذا يوما ، فإذا مضت تلك الأيام كان طلاقها في شرطها».

وأما قوله «والاعتماد على الاتفاق ، وإلا فتعدد الأسباب ممكن» ففيه أنه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٥٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٦٦ ح ٧٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٧٨ ب ٢٥ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٥٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٦٦ ب ١٨ ح ٣ وفيهما «بكذا وكذا درهما» وكذلك في آخر الرواية «ولا عدة لها عليك».

١٧٦

وإن كان تعددها ممكنا إلا أن ذلك فرع ثبوت السببية ، وحيث لم يثبت هنا سببية الطلاق فالأصل عدمها لما تقدم من أن الأحكام المذكورة توقيفية ، فلا يحتاج إلى الاتفاق ، وفي معنى ما ذكرنا من الأخبار أخبار أخر لا ضرورة لا يرادها مع عدم المخالف.

الثالث : أن يطلقها في طهر لم يقربها فيه ـ بمعنى أن تكون مسترابة ـ فلو طلقها في طهر ومسها فيه لم يقع طلاق ، ويستثني من ذلك اليائسة والصغيرة والحامل والمسترابة على تفصيل يأتي ذكره إن شاء الله.

وأما ما يدل على الحكم الأول ـ أعني عدم صحة الطلاق في طهر واقعها فيه ـ فاتفاق الأصحاب وإجماعهم على ذلك أولا. وثانيا الأخبار المستفيضة بل قيل إنها ربما بلغت حد التواتر.

ومنها ما رواه الشيخ (١) في الصحيح عن عمر بن أذينة عن زرارة وبكير ابني أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار وإسماعيل الأزرق ومعمر بن يحيى بن بسام كلهم سمعوه من أبي جعفر عليه‌السلام ومن ابنه بعد أبيه عليهما‌السلام بصورة ما قالوا وإن لم أحفظ حروفه غير أنه لم يسقط جمل معناه : إن الطلاق الذي أمر الله به في كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه إذا حاضت المرأة وطهرت من حيضها أشهد رجلين عدلين قبل أن يجامعها على تطليقه ـ الحديث.

وما رواه في الكافي (٢) بالسند المذكور عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام «أنهما قالا : إذا طلق الرجل في دم النفاس أو طلقها بعد ما يمسها فليس طلاقه إياها بطلاق».

وما رواه في الكافي (٣) عن ابن أذينة في الصحيح عن بكير وغيره عن أبي جعفر

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٢٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥١ ب ٣ ح ٧ وفيهما اختلاف يسير.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٦٠ ح ١١ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٧ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٧٧ ب ٨ ح ٥.

(٣) الكافي ج ٦ ص ٦١ ح ١٧ ، التهذيب ج ٨ ص ٤٨ ح ٦٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٧٩ ب ٨ ح ٩.

١٧٧

عليه‌السلام قال : «كل طلاق لغير العدة فليس بطلاق ، أن يطلقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض ، فليس طلاقها بطلاق» الحديث. إلى غير ذلك من الأخبار كما تقدمت الإشارة إليه.

وأما ما يدل على الثاني ـ وهو استثناء اليائسة وما بعدها بعد الاتفاق على الحكم المذكور ـ فجملة من الأخبار :

ومنها ما رواه في الكافي (١) عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا بأس بطلاق خمس على كل حال : الغائب عنها زوجها ، والتي لم تحض ، والتي لم يدخل بها ، والحبلى ، والتي قد يئست».

وما رواه المشايخ الثلاثة (٢) عن إسماعيل بن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «خمس يطلقهن الرجل على كل حال : الحامل المتيقن حملها ، والغائب عنها زوجها ، والتي لم تحض ، والتي قد يئست من المحيض ، والتي لم يدخل بها».

وما رواه الشيخ (٣) في الصحيح عن محمد بن مسلم وزرارة وغيرهما عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام «قالا : خمس يطلقهن أزواجهن متى شاءوا ، الحامل المستبين حملها ، والجارية التي لم تحض ، والمرأة التي قعدت من المحيض ، والغائب عنها زوجها ، والتي لم يدخل بها».

وما رواه الصدوق في الخصال (٤) عن حماد بن عثمان في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خمس يطلقن على كل حال : الحامل ، والتي قد يئست من المحيض ، والتي لم يدخل بها ، والغائب عنها زوجها ، والتي لم تبلغ المحيض».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ٧٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٦ ب ٢٥ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٧٩ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٤ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٦١ ح ١١٧ وص ٧٠ ح ١٥٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٥ ب ٢٥ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٧٠ ح ١٤٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٦ ب ٢٥ ح ٤.

(٤) الخصال ج ١ ص ٣٠٣ ح ٨١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠٦ ب ٢٥ ح ٥.

١٧٨

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المذكور في كلام الأصحاب عد الصغيرة في جملة من استثني من الحكم المتقدم ، والمذكور في الأخبار عدا رواية الخصال كما عرفت إنما هو التي لم تحض ، وليس فيها تعرض لذكر الصغيرة ، والظاهر أن الشيخ ومن تأخر عنه من الأصحاب فهموا من هذا اللفظ الكناية عن الصغيرة فجعلوها من جملة الخمس ، ولم يذكروا التي لم تحض ، قال الشيخ في النهاية بعد عد الصغيرة : والمراد بالصغيرة من نقص سنها عن تسع سنين ، قال : ومن كان لها تسع سنين فصاعدا ، ولم تكن حاضت بعد وأراد طلاقها فليصبر عليها ثلاثة أشهر ، ثم يطلقها بعد ذلك.

واعترضه في شرح النافع فقال : وعندي في التخصيص نظر ، ولا يبعد أن يكون المراد بمن لم تحض التي لم تحض مثلها عادة وإن زاد سنها عن التسع ، ومراده ـ رحمه‌الله ـ أن تفسيره من لم تحض الوارد في الأخبار بالصغيرة خاصة محل نظر ، بل الأولى في تفسيره هو الحمل على ما هو أعم ، وهي التي لم تحض مثلها عادة ، سواء كان لنقص سنها عن التسع أو لم يكن ، فيكون أعم من الصغيرة والمسترابة.

ولقائل أن يقول : إن رواية الخصال قد تضمنت على التي لم تبلغ المحيض وهي عبارة ، عن الصغيرة ، وحينئذ فيحمل عليها إطلاق الأخبار الباقية ، وبه يظهر صحة ما ذكره الأصحاب من عد الصغيرة في هذا الباب ويزول ما ذكره السيد المذكور من الإيراد.

وكيف كان فإنهم عدوا المسترابة في جملة من استثني بشرط مضي ثلاثة أشهر ، وهي عندهم من كانت في سن من تحيض وهي لا تحيض ، سواء كان عدم حيضها لعارض من رضاع أو مرض أو يكون خلقيا ، قالوا : وإطلاق المسترابة عليها مجرد اصطلاح ، وإلا فقد يحصل مع انقطاع الحيض استرابة الحمل وقد

١٧٩

لا يحصل ، إلا أنه لا بد في طلاقها من مضي ثلاثة أشهر ولا يقع قبلها وهو مقطوع به (١) في كلامهم بل الظاهر أنه موضع وفاق.

ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام (٢) في الصحيح عن داود بن أبي يزيد العطار عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن المرأة يستراب بها ، ومثلها تحمل ومثلها لا تحمل ولا تحيض وقد واقعها زوجها ، كيف يطلقها إذا أراد طلاقها؟ قال : فليمسك عنها ثلاثة أشهر ثم يطلقها».

وما رواه الشيخ (٣) في الصحيح عن إسماعيل بن سعد الأشعري قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن المسترابة من المحيض كيف تطلق؟ قال : تطلق بالشهور». والظاهر أن المراد بالشهور الأشهر الثلاثة.

ويؤيده ما رواه في الكافي (٤) عن الحسن بن علي بن كيسان قال : «كتبت إلى الرجل عليه‌السلام أسأله عن رجل له امرأة من نساء هؤلاء العامة ، وأراد أن يطلقها ، وقد كتمت حيضها وطهرها مخافة الطلاق ، فكتب عليه‌السلام : يعتزلها ثلاثة أشهر ثم يطلقها.

الرابع : أن يعين المطلقة ، على خلاف في ذلك ، وتوضيح ذلك : إنه قد اختلف الأصحاب في أنه لو كان له أكثر من زوجة فقال : إحداكن طالق ،

__________________

(١) قال المحقق ـ قدس‌سره ـ في الشرائع بعد ذكر الشرط المذكور : ويسقط اعتبار ذلك في اليائسة ، وفيما لم تبلغ المحيض. وفي الحامل والمسترابة بشرط أن يمضي عليها ثلاثة أشهر لم تر دما معتزلا لها ، ولو طلق المسترابة قبل مضى ثلاثة أشهر من حين المواقعة لم يقع الطلاق ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) الكافي ج ٦ ص ٩٧ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ٦٩ ح ١٤٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣٥ ب ٤٠ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٦٨ ح ١٤٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤١٤ ب ٤ ح ١٧.

(٤) الكافي ج ٦ ص ٩٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣١١ ب ٢٨ ح ٢.

١٨٠