الحدائق الناضرة - ج ٢٥

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٥

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٩٦

ولا يقبح لها وجها ، فإذا فعل ذلك فقد أدى والله إليها حقها ، قلت : فالدهن؟ قال : غبا يوم ولا يوم لا ، قلت : فاللحم؟ قال : في كل ثلاثة أيام فيكون في الشهر عشر مرات لا أكثر من ذلك في كل ستة أشهر ، ويكسوها في كل سنة أربعة أثواب ثوبين للشتاء وثوبين للصيف ، ولا ينبغي أن يقفر بيته من ثلاثة أشياء : دهن الرأس والخل والزيت ويقوتهن بالمد ، فإني أقوت به نفسي ، وليقدر لكل إنسان منهم قوته فإن شاء أكله وإن شاء وهبه وإن شاء تصدق به ، ولا تكون فاكهة عامة إلا أطعم عياله منها ، ولا يدع أن يكون للعيد عندهم فضلا في الطعام أن ينيلهم من ذلك شيئا لا ينيلهم في سائر الأيام».

أقول : ما اشتمل عليه الخبر من التقدير بالمد في النفقة لم يقف على قائل به إلا الشيخ ـ رحمة الله عليه ـ في الخلاف ، وفي المبسوط فصل فجعل على الموسر مدين كل يوم وعلى المتوسط مدا ونصفا وعلى المعسر مدا.

أقول : أما التقدير بالمد كما ذكره في الخلاف فقد عرفت مستنده ، وأما التفصيل الذي ذكره في المبسوط فلم نقف له على مستند في الأخبار إلا أن يكون نوع من الاعتبار.

وقال في المسالك ـ بعد نقل ذلك عن الشيخ ـ : والأصل في هذا التقدير أن المد قدره الشارع في الكفارات قوتا للمسلمين فاعتبرت النفقة به ، لأن كل واحد منهما مال يجب بالشرع لأجل القوت ، ويستقر في الذمة ، وربما أوجب الشارع في بعض الكفارات لكل مسكين مدين ، فجمع في القول الثاني بين الأمرين فجعل المدين على الموسر ، والمد على المعسر وجعل المتوسط بينهما ، فألزمه بمد ونصف ، والأقوى ما اختاره المصنف من عدم التقدير ، والرجوع إلى قدر الكفاية وسد الخلة وهي الحاجة وهو اختيار ابن إدريس وسائر المتأخرين لأن التقدير رجوع إلى تخمين وضرب من القياس لا يطابق أصول مذهبنا ، انتهى.

والظاهر أن شيخنا المذكور غفل عن الخبر الذي نقلناه ، وإنما التجأ

١٢١

في توجيه كلام الشيخ إلى الحمل على الكفارة ، وقد عرفت ورود النص به.

نعم ما ذكره في المبسوط خال من النص ، والإيراد عليه إنما هو بالنسبة إلى ما ذكره في المبسوط خاصة ، إلا أنه يمكن حمل الخبر المذكور على أن ذلك كان عادتهم في تلك الأوقات كما يستفاد من جملة من الروايات بالنسبة إلى الكفارات والصدقات كما في حديث ضيعة الصادق عليه‌السلام المسماة بعين زياد.

وأما قوله في الخبر «والصبغ في كل ستة أشهر» فالظاهر أن المراد به مثل الحناء والوسمة والثياب المصبوغة ، وأما ما اشتمل عليه من أن اللحم في كل ثلاثة أيام ، فلا أعلم به قائلا على هذا الإطلاق ، والمنقول عن الشيخ أنه اعتبر اللحم في كل أسبوع مرة محتجا بأنه المعروف قال : ويكون يوم الجمعة.

وعن ابن الجنيد أنه أوجب اللحم على المتوسط في كل ثلاثة أيام.

وكيف كان فالعمل على ما دل عليه الخبر من كونه في كل ثلاثة أيام متوسطا أو غيره ، والظاهر أن المراد بالدهن الذي حكم بكونه غبا هو دهن البدن ، فإنه في الصدر الأول متعارف ليبوسة أهوية تلك البلدان.

ثم إن الظاهر من كلام العلامة في المختلف أنه لم يقف أيضا على الخبر المذكور كما لا يخفى على من راجعه ، ونحوه ابن إدريس في رده على الشيخ في ما ادعاه من الدليل على هذه المسألة بإجماع الفرقة وأخبارهم ، وأنكر وجود الأخبار بذلك ، والكل صادر عن غفلة عن النص المدعى ، ومع أنه صحيح السند صريح الدلالة ، إلا أن الظاهر أن الوجه فيه ما ذكرناه.

تنبيهات

الأول : لا يخفى أن في النساء من لا تخدم نفسها بحسب عادة أمثالها وأهل بلدها لشرفها وعلو منزلتها بل لها من يخدمها ، فهذه يجب على الزوج أن يتخذ لها خادما بآية المعاشرة بالمعروف ، ولا فرق عند الأصحاب بين كون الزوج معسرا

١٢٢

أو موسرا ، حرا أو عبدا ، لأن الاعتبار بحال المرأة في بيت أبيها ، ويجب أن يكون الخادم امرأة أو صبيا أو محرما لها ، وفي جواز مملوكها الخصي نظر ، ينشأ من جواز نظره إليها وعدمه ، وقد تقدم الكلام فيه في بعض فوائد المقدمة ، وأما من تخدم نفسها بحسب العادة فلا تجب في حقها ذلك إلا لمرض ونحوه ، فعلى الزوج حينئذ إقامة من يخدمها.

الثاني : قالوا : إذا أخدمها بحرة أو أمة مستأجرة فليس عليه سوى الأجرة وإن أخدمها بجاريته كانت نفقتها عليه من جهة الملك ، وإن كان يخدمها بكفاية مؤنة خادمها فهذا موضع نفقة الخادم ، والقول في جنس طعامها وقدره كما هو في جنس طعام المخدومة ، ولو قال الزوج : أنا أخدمها لإسقاط مؤنة الخدمة عن نفسه فله ، لأن ذلك حق عليه يجب عليه وفاؤه بنفسه أو غيره ، هذا مما لا يستحيى منه كغسل الثوب واستسقاء الماء وكنس البيت وطبخ الطعام ، أما ما يستحيى منه كالذي يرجع إلى خدمة نفسها من صب الماء على يدها وحملها إلى الخلاء وغسل خرق الحيض والجماع ونحو ذلك فلها الامتناع من خدمته لأنها تحتشمه وتستحيي منه فيضر بحالها ، وأطلق جماعة تخيره في الخدمة بنفسه مطلقا لأن الحق عليه فالتخيير في جهاته إليه.

الثالث : قد عرفت أنه يرجع في جنس المأكول والملبوس والإدام إلى عادة أمثالها من أهل البلد ، وكذا في المسكن ، قالوا : ولها المطالبة بالتفرد بالمسكن عن مشارك غير الزوج ، والمراد من المسكن ما يليق بها من دار وحجرة وبيت فالتي يليق بها الدار والحجرة لا يسكن معها غيرها في دار واحدة بدون رضاها ، لكن لو كان في دار حجرة مفردة المرافق فله أن يسكن ، وكذا لو أسكن واحدة في العلو وواحدة في السفل والمرافق متميزة ، ولا تجمع بين الضرتين ، ولا بين المرأة وغيرها في بيت واحد مطلقا إلا بالرضا.

الرابع : قالوا : تختلف الكسوة باختلاف الفصول والبلدان في الحر والبرد فيعتبر في الشتاء زيادة الحشو بالقطن ونحوه ، ويرجع في جنسه من القطن

١٢٣

والكتان والحرير إلى عادة أمثالها ، وكذا يجب في الصيف الثياب اللائقة بحالها من الكتان والحرير ونحوه مما يعتاد ، ويعتبر مع ذلك ثياب التجمل زيادة على ثياب البدلة إذا كانت من أهل التجمل ، ولو كانت البلاد باردة ولم يستغن بالثياب عن الوقود وجب لهن الحطب والفحم بقدر الحاجة ، ويجب أيضا مراعاة ما يفرش على الأرض من البساط والحصير والملحفة والنطع والمخدة واللحاف بما يليق بحالها عادة بحسب الفصول ، وقد عد الفقهاء في هذا الباب أشياء كثيرة بحسب ما اتفق اعتياده عندهم ، ومرجعه إلى ما يعتبر في العادة لأمثالها في بلدها في كل وقت بما يناسبه.

المسألة الرابعة : وهي تتضمن حكمين (أحدهما) لا خلاف بين الأصحاب في أن الزوجة تملك نفقة يومها مع التمكين ، فلو منعها وانقضى اليوم أو الأيام وجب قضاؤها.

قال في المسالك : لما كان المقصود من النفقة القيام بحاجتها وسد خلتها لكونها محبوسة لأجله فالواجب منها أن يدفع يوما فيوما ، إذ لا وثوق باجتماع الشرائط في باقي الزمان ، والحاجة تندفع بهذا المقدار ، فيجب دفعها في صبيحة كل يوم إذا طلع الفجر ولا يلزمها الصبر إلى الليل ليستقر الوجوب لتحقق الحاجة لأنها تحتاج إلى الطحن والخبز والطبخ ، إذ الواجب عليه دفع الحب ونحوه ومؤنة إصلاحه لا عين المأكول عملا بالعادة ، فلو لم يسلم إليها أول النهار لم تنله عند الحاجة ، ولو منعها من النفقة وانقضى اليوم ممكنة استقرت ذلك اليوم في ذمته لأن نفقة الزوجة اعتياض في مقابلة الاستمتاع ، فتصير بمنزلة الدين ، وكذا نفقة الأيام المتعددة إذا مضت ولم ينفق عليها ، انتهى.

أقول : لا أعرف لما ذكره من هذا التفصيل نصا واضحا ولا دليلا صالحا ، فإن الظاهر من الأخبار المتقدمة سيما صحيحة شهاب بن عبد ربه أن الواجب شرعا إنما هو عين المأكول لا الحب وأمثاله مما يحتاج إلى علاج ومزاولة

١٢٤

واستناده ـ في الوجوب لما ذكره إلى العادة ـ مردود ، بأن ذلك إنما هو من حيث المسامحة والتراضي وعدم المضايقة في الحقوق الشرعية ، ألا ترى أن العادة قاضية بتكلف المرأة في خدمة البيت بما لا يجب عليها شرعا من طبخ وخبز وغسل ثياب لنفسها وزوجها ونحو ذلك.

وبالجملة فإن الظاهر أن الحق الشرعي لها إنما هو شي‌ء يوكل بغير مؤنة ولا كلفة من خبز أو تمر أو نحوهما ، وهذا هو ينطبق عليه حديث المد وهو الظاهر من تلك الأخبار المطلقة من قوله «يشبعها ويقيم صلبها» ونحو ذلك والتكليف بما زاد مما ذكره هو وغيره ـ رحمه‌الله ـ محتاج إلى دليل ولا دليل ، والتمسك بقضية العادة بين الناس قد عرفت أنه غير خال من وصمة الشك والالتباس إلا أني أظن أن ما ذكرناه مما يكبر في صدور بعض الناظرين في المقام ممن تألف متابعة الشهرة في الأحكام وكل ميسر لما خلق له.

نعم ما ذكره من قضاء النفقة لو أخر دفعها عن وقتها لا ريب فيه لما ذكره ، ثم إنه قال في المسالك أيضا : ثم استحقاق الزوجة المئونة على وجه التمليك لا الإمتاع ، لأن الانتفاع به لا يتم إلا مع ذهاب عينه ، وكذا حكم كلما يستهلك من آلة التنظيف والدهن والصابون والطين ونحو ذلك ، فإذا دفعه إليها ملكت نفقة اليوم وتخيرت بين التصرف فيه أو في بعضه واستفضال بعضه وجميعه والإنفاق على نفسها من مالها كما تخير في جهات أموالها ، انتهى.

أقول : ويدل عليه قوله عليه‌السلام في صحيحة شهاب المتقدمة «ويقدر لكل إنسان منهم قوته فإن شاء أكله وإن شاء وهبه وإن شاء تصدق به».

و (ثانيهما) قد اختلف الأصحاب في كون الكسوة تمليكا أو إمتاعا ، وبالأول قال الشيخ في المبسوط ، والمحقق والعلامة في غير التحرير والقواعد والثاني (١) خيرة العلامة في القواعد وشيخنا الشهيد الثاني في الروضة والمسالك ،

__________________

(١) وعلى هذا القول فليس لها بيعها ولا التصرف فيها بغير اللبس من أنواع التصرفات ،

١٢٥

وتردد العلامة في التحرير.

احتج من قال بالأول بقوله تعالى «وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» والتقريب فيها أنه عطفها على الرزق ، فيكون الواجب فيهما واحدا لاقتضاء العطف التسوية في الحكم وهو في الرزق التمليك فيكون كذلك في الكسوة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «ولهن عليكم (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» فاللام للملك.

وتنظر فيه في المسالك قال : لمنع اقتضاء العطف التسوية في جميع الأحكام وجميع الوجوه سلمنا ، لكن المعتبر الاشتراك في الحكم المذكور دون صفته وكيفيته ، فإن قولنا : أكرم زيدا وعمرا يقتضي اشتراكهما في أصل الإكرام لا التسوية فيه من كل وجه. والظاهر من الحكم هنا هو كون الرزق مستحقا عليه فيكون الكسوة كذلك ، وأما كيفية الاستحقاق فأمر آخر خارج عن أصل الحكم ، ومن الجائز أن يريد بقوله «وَكِسْوَتُهُنَّ» جعلهن مكتسئين وهو يتم بالامتاع. وأما الخبر فمع قطع النظر عن إسناده يجوز أن تكون اللام للاستحقاق لا الملك أو الاختصاص بل هو الأصل فيها ، كما حققه جماعة وهما يتحققان بالإمتاع ، انتهى.

أقول : والمسألة عندي محل توقف وإشكال لعدم النص القاطع لمادة القيل والقال ، والركون إلى هذه التعليلات المتعارضة في كلامهم والجارية على رؤوس أقلامهم في تأسيس الأحكام الشرعية مجازفة محضة. ثم إنهم ذكروا بناء على القولين المذكورين فروعا يظهر فيها فائدة الخلاف.

(منها) ما لو دفع إليها كسوة لمدة جرت العادة ببقائها إليها فتلفت في يدها

__________________

ولا لبسها زيادة على المعتاد كيفية وكمية ، فإن فعلت فأبلتها قبل المدة التي تبلى فيها عادة لم يجب عليه إبدالها بغيرها ، وكذا لو أبقتها زيادة على المدة وله إبدالها بغيرها مطلقا وتحصيلها بالإعادة والاستيجار وغيرهما ، ولو طلقها وماتت ونشزت استحق ما يجده منها مطلقا. وأيد هذا القول بأن الغاية من الكسوة الستر وهو يحصل بالإمتاع كالسكنى وأصالة براءة الذمة من التمليك. (منه ـ قدس‌سره ـ).

١٢٦

قبل مضي المدة من غير تقصير ، فعلى القول بالتمليك لا يجب عليه إبدالها لأنه قد وفى ما عليه فأشبه ما إذا ملكها النفقة فتلفت في يدها. وعلى القول بالإمتاع يجب عليه إبدالها قالوا : ولو أتلفتها بنفسها فلا إبدال على القولين لأنه على الإمتاع يلزمها ضمانها فكأنها لم تتلف ، وأما على الملك فظاهر مما تقدم.

(ومنها) لو انقضت المدة والكسوة باقية لرفقها بها فعليه كسوة أخرى على الأول وهو الذي حكم به في الشرائع لأن ملكها لها مترتب على المدة المعتادة لها كما لو استفضلت من طعام يومها ، وعلى الثاني لا تلزمه حتى يبلى عندها.

(ومنها) ما لو مات في أثناء المدة أو ماتت هي أو طلقها والكسوة باقية في المدة التي تصلح لها فعلى القول بالإمتاع تسترد مطلقا. وعلى القول بالتمليك قال في المسالك : يحتمل قويا ذلك. يعني الاسترداد مطلقا لأنه أعطاها للمدة المستقبلة وهو غير واجبة كما لو أعطاها نفقة أيام ، وهو الذي جزم به المصنف فيما يأتي وعدمه لأن تلك المدة بالنسبة إلى الكسوة كاليوم بالنسبة إلى النفقة ، وسيأتي أن النفقة لا تسترد لو وقع ذلك في أثناء النهار.

(ومنها) إذا لم يكسها مدة صارت الكسوة دينا عليه على الأول كالنفقة ، وعلى الإمتاع لا يصير دينا.

(ومنها) أنه يجوز له أخذ المدفوع إليها ويعطيها غيره على القول بالامتناع وعلى القول بالتمليك لا يجوز ذلك إلا برضاها.

(ومنها) أنه لا يصح لها بيع المأخوذ ولا التصرف فيه بغير اللبس إن قلنا بالإمتاع ، ويصح على القول بالتمليك ، إن لم يناف غرض الزوج من التزين والتجمل.

(ومنها) جواز إعطائها الكسوة بالإعارة والإجارة على تقدير القول بالتمليك دون القول بالإمتاع ، ولو تلف المستعار فضمانه على الزوج.

المسألة الخامسة : قد صرح بعض الأصحاب بأنه إذا ادعت البائن أنها حامل صرفت إليها النفقة يوما فيوما ، فإن تبين الحمل ، وإلا استعيدت. ومقتضى هذا الكلام وجوب النفقة بمجرد دعواها ، وإن لم يتبين أو يظن صحة ذلك ، قيل :

١٢٧

ووجهه أن الحمل في ابتدائه لا يظهر إلا لها ، فقبل قولها فيه كما يقبل في الحيض والعدة ، لأن الجميع من الأمور التي يختص بها ولا يعلم إلا من قبلها ، وأيضا فإن في ذلك جمعا بين الحقين ، وحق الزوج على تقدير عدم ظهور ذلك ينجبر بالرجوع عليها ، وفي التأخير إلى أن يتحقق إضرار لها مع حاجتها إلى النفقة ، وعدم وجوب قضائها لو قلنا إن النفقة للحمل ، لأن نفقة الأقارب لا تقضى.

ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه علق وجوب الإنفاق على ظهور الحمل ، وعن العلامة في التحرير أنه علقها على شهادة أربع من القوابل ، وهو ظاهر اختياره في المسالك قال : لأن وجوب الإنفاق على الزوجة انقطع بالطلاق البائن ، ووجوبه عليها مشروط بالحمل ، والأصل عدمه إلى أن يتحقق ، وحكم الزوجة به في الابتداء ظني ، والظن قد يكذب ، ولأنه تعالى قال «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» (١) شرط في الإنفاق عليهن كونهن أولات حمل ، وهذا الوصف لا يتحقق بمجرد الدعوى ، انتهى.

أقول : والمسألة لما عرفت من تقابل هذه التعليلات في المقام وعدم النص الواضع عنهم عليهم‌السلام محل توقف وإشكال ، وما ذكره في المسالك جيد ، إلا أنه يمكن تخصيصه بما تقدم أولا من التعليلات ، ثم إنه على تقدير وجوب الإنفاق عليها بمجرد دعواها هل تطالب بكفيل لجواز ظهور خلاف ما ادعته؟ قال في المسالك : فيه وجهان منشأهما أنها استولت على مال الغير بسبب لم يثبت في نفس الأمر ، وإنما حكم به الشارع لتعذر إثبات موجبها قطعا ، فلو أخرت إلى الوضع لزم الإضرار بها كما قررناه ، فيجمع بين الحقين بالدفع إليها بكفيل ، ومن حيث عدم ثبوت استحقاق الرجوع عليها الآن ، والأول لا يخلو من قوة ، انتهى.

المسألة السادسة : المشهور بين الأصحاب أنه لا نفقة للبائن إلا المطلقة الحامل ، لأن أسباب النفقة منحصرة في الثلاثة المتقدم ذكرها التي أحدها الزوجية ،

__________________

(١) سورة الطلاق ـ آية ٦.

١٢٨

والبائن ليست زوجة فتزول السببية ، خرج من ذلك بالنص والإجماع الحامل المطلقة ، فيبقى ما عداها على حكم الأصل.

وقيل بوجوب النفقة على البائن بغير الطلاق إذا كانت حاملا ، نظرا إلى أن وجوب النفقة على المطلقة الحامل لأجل الحمل من حيث كونه ولدا للمنفق لا لأجلها ، وهذه العلة موجودة في الحامل منه غير المطلقة ، وبذلك أفتى في المبسوط حتى في الحامل من نكاح فاسد كنكاح الشغار مع الجهل محتجا بعموم الأخبار الدالة على وجوب الإنفاق على الحامل.

قال في المسالك : ويضعف الأول بأنه مبني على العمل بالقياس ، وإلا فالآية صريحة في الحامل المطلقة ، ومع ذلك فكون النفقة للحمل غير معلوم ، وإنما المعلوم أنها للحامل وإن كان ذلك بسببه.

وأما الأخبار التي ادعى الشيخ عمومها فذكرها في التهذيب ، وكلها مقيدة بالطلاق إلا رواية محمد بن قيس (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الحامل أجلها أن تضع حملها وعليه نفقتها بالمعروف حتى تضع حملها».

فهذه شاملة بإطلاقها لغير المطلقة ، لكنها ضعيفة السند بمحمد بن قيس فإنه مشترك بين الثقة وغيره ، ويمكن حملها على المطلقة حيث يستقل بنفسها.

نعم لو ثبت أنها للحمل اتجه ذلك ، والذي دلت عليه النصوص وجوبها للمطلقة الحامل فيقتصر عليها لكونه على خلاف الأصل ، انتهى.

أقول : مرجع الكلام في هذا المقام إلى الخلاف المتقدم في أن النفقة هل هي للحامل أو الحمل؟ وقد قدمنا في تلك المسألة أن ظاهره في المسالك هو التوقف حيث اقتصر على نقل القولين وأدلتهما ، ولم يتعرض لترجيح شي‌ء منهما وظاهره هنا ترجيح كونها للحامل. والذي يقرب عندي الرجوع في ذلك إلى

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٠٣ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١٣٣ ح ٦٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣١ ح ٣.

١٢٩

الأخبار ، فإن المستفاد من أكثرها هو كون موردها المطلقة كما هو ظاهر الآية وليس فيها ما ربما ينافي ذلك إلا إطلاق صحيحة محمد بن قيس وهو محمول على ما دل عليه غيرها من التقييد بالمطلقة لأنه هو الفرد الشائع المتكثر ، وقضيته الجمع بين الأخبار ذلك.

وأما طعنه في الصحيحة المذكورة باشتراك محمد بن قيس فقد تكرر منه في هذا الكتاب في غير موضع وقد نبهنا على أنه غلط محض كما اعترف به سبطه أيضا في شرح النافع.

المطلب الثاني ، في نفقة الأقارب : والكلام في هذا المطلب يقع في مواضع :

الأول : المفهوم من كلام الأصحاب أن نفقة الإنسان على نفسه مقدمة على غيره من زوجة أو غيرها من الآباء والأولاد بل على جميع الحقوق من الديون وغيرها ولا إشكال فيه ، ونفقة الزوجة مقدمة على نفقة الأقارب ، قال السيد السند في شرح النافع : إن هذا الحكم مقطوع به في كلام الأصحاب وظاهرهم أنه موضع وفاق واستدلوا على ذلك بأن نفقة الزوجة وجبت على وجه المعاوضة في مقابل الاستمتاع بخلاف نفقة القريب ، فإنها إنما وجبت لمجرد المواساة ، وما كان وجوبه على وجه المعاوضة أقوى مما وجب على وجه المواساة ، ولهذا لم تسقط نفقة الزوجة بغنائها ولا بمضي زمان بخلاف نفقة القريب.

أقول : المفهوم من الأخبار وجوب النفقة للجميع ، وقضية الاشتراك في الوجوب تساوي الجميع في ذلك من غير تقديم لبعض على بعض ، ومجرد قوة النفقة على الزوجة وأنها أقوى بهذه الوجوه المذكورة لا تصلح لتأسيس حكم شرعي عليه كما عرفت في غير موضع مما تقدم.

والذي حضرني من الأخبار هنا ما رواه الكليني (١) في الصحيح أو الحسن عن

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١٣ ح ١ وفيه «من الذي احتن» ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٣ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣٧ ح ٣.

١٣٠

حريز عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : من الذي أجبر عليه وتلزمني نفقته؟ فقال : الوالدان والولد والزوجة».

وروى الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه (١) في الصحيح عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما رواه في الكافي (٢) عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت : من يلزم الرجل من قرابته ممن ينفق عليه؟ قال : الوالدان والولد والزوجة». وزاد في الفقيه «والوارث الصغير ، يعني الأخ وابن الأخ ونحوه» والظاهر أن التفسير من الراوي كما جزم به في الوافي ، ويحتمل أن يكون من كلام الصدوق.

وعن جميل (٣) في الصحيح عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «لا يجبر الرجل إلا على نفقة الأبوين والولد ، قلت لجميل : والمرأة؟ قال : روى بعض أصحابنا وهو عنبسة بن مصعب وسورة بن كليب عن أحدهما عليهما‌السلام أنه إذا كساها ما يواري عورتها وأطعمها ما يقيم صلبها أقامت معه وإلا طلقها ، قال : قلت لجميل : فهل يجبر على نفقة الأخت؟ قال : إن أجبر على نفقة الأخت لكان ذلك خلاف الرواية».

والمراد من الخبر المذكور أنه يجبر على نفقة الوالدين والوالد ، وأما المرأة فإنه يخير بين الإنفاق عليها وبين طلاقها ، وأما ما ذكر بالنسبة إلى الأخت فالمراد أنه لو قيل بوجوب النفقة عليها لكان ذلك خلاف ظاهر النصوص حيث إن ظاهرها مشعر بالحصر في العمودين والزوجة.

وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة فيما ذكرناه من اشتراك الجميع في الوجوب ، فترجيح بعضها على بعض بالتقديم يحتاج إلى دليل من النصوص ، والمسألة لا تخلو

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٥٩ ح ١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٣ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣٧ ح ٦.

(٢) الكافي ج ٤ ص ١٣ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣٧ ح ٥.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٥١٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٤ ح ٢٢ و ٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٢٤ ح ٤.

١٣١

من الإشكال ، لأن الخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل ومتابعتهم من غير دليل أشكل.

الثاني : لا خلاف ولا إشكال في وجوب النفقة على الأبوين وإن ارتفعا ، والأولاد وإن سفلوا ، ولم يظهر من أحد من الأصحاب خلاف في ذلك إلا ما يتراءى من تردد المحقق في الشرائع والنافع ، ثم جزم بعد ذلك بالحكم المذكور ووافق القول المشهور.

قال السيد السند في شرح النافع : أجمع العلماء كافة على وجوب النفقة على الأبوين والأولاد ـ إلى أن قال : ـ وهل يتعدى الوجوب إلى من علا من الآباء والأمهات أو سفل من الأولاد؟ المشهور بين الأصحاب ذلك ، بل لم أقف فيه على مخالف صريح أو تردد سوى المصنف ، وكأن منشأ التردد من الشك في صدق الآباء والأمهات والأولاد على من علا أو سفل منهم بطريق الحقيقة ، وهو في محله ، وإن كان الأقرب وجوب النفقة على الجميع. انتهى ، وبنحو ذلك صرح جده في المسالك أيضا.

أقول : وقد تقدم تحقيق القول في هذه المسألة ـ أعني إطلاق الأب على من علا والابن على من سفل ـ في مواضع ، ولا سيما في كتاب الخمس. وأوضحنا بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة أن الإطلاق المذكور حقيقة في الموضعين بما لا يعتريه للناظر المنصف شك في البين ، ولا يخفى أن جزم هؤلاء السابقين ثمة من صدق الإطلاق حقيقة بوجوب الإنفاق (١) في هذه المسألة على من علا من الآباء وسفل من الأبناء لا يخلو من مدافعة ومناقضة لأن الوجوب مترتب على الصدق حقيقة وهم لا يقولون به ، والفرق بين هذا الموضع وتلك المواضع المتقدمة غير ظاهر ، بل صريح كلامهم هنا هو صحة ما ذكرنا (٢) ولكن لا أعرف لهم وجه عذر في

__________________

(١) كأن في العبارة سقط ونحن صححناها.

(٢) من ترتب الحكم بالعموم على الدخول تحت الإطلاق المذكور حقيقة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

١٣٢

الخروج عما حكموا به ثمة إلا ما ربما يدعى من الإجماع هنا على العموم ، وظاهره في المسالك أن تردد المصنف إنما هو لذلك حيث قال : إنا لا نعلم مخالفا من أصحابنا في دخولهم هنا ، وإنما تردد المصنف لضعف الدليل ، ومن أصوله ـ رحمة الله عليه ـ أنه لا يعتد بحجية الإجماع بهذا المعنى كما نبه عليه في مقدمة المعتبر ، وهو الحق الذي لا يحيد عنه المنصف ، انتهى.

أقول : قد أجاد بما أفاد ولكنه قد خالف نفسه في ذلك في غير موضع كما لا يخفى على من مارس كلامه وتتبع كتابه ، وكيف كان فالحكم على ما اخترناه بحمد الله سبحانه واضح لا شك فيه ، ولا ريب يعتريه ، وأما ما عدا من ذكرنا من الأقارب فقد صرح الأصحاب بأنه لا تجب النفقة عليهم بل يستحب ، ولا سيما إذا كان وارثا ونقل العلامة في القواعد قولا بوجوب النفقة على الوارث ، وأسند شراحه هذا القول إلى الشيخ ، مع أنه على ما نقل عنه في المبسوط قطع باختصاصها بالعمودين ، وأسند وجوبها للوارث إلى الرواية وحملها على الاستحباب وأنكر جملة ممن تأخر عنه الوقوف على هذه الرواية.

أقول : يمكن أن تكون الرواية المذكورة هي ما رواه الشيخ في التهذيب (١) عن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «اتي أمير المؤمنين عليه‌السلام بيتيم فقال : خذوا بنفقته أقرب الناس إليه من العشيرة كما يأكل ميراثه».

ويؤكدها ما تقدم في آخر صحيحة محمد الحلبي (٢) برواية صاحب الفقيه ، والشيخ في الاستبصار حملها على الاستحباب ، أو على ما إذا لم يكن وارث غيره إن مات كل واحد منهما ورث صاحبه ولم يكن هناك من هو أولى منه ، وبهذا التقريب

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١٣ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٣ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣٧ ح ٤.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٥٩ ح ١ ، الاستبصار ج ٣ ص ٤٤ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤٧ ح ٦.

١٣٣

الذي ذكره ـ رحمة الله عليه ـ يتم الاستدلال ، وإلا في التوقف على سواها في هذا المجال ، وإلى القول بما تضمنته صحيحة الحلبي من وجوب الإنفاق على الوارث الصغير يميل كلام السيد السند في شرح النافع حيث إنه بعد أنه أنكر الوقوف على الرواية التي ادعاها في المبسوط قال : نعم مقتضى صحيحة الحلبي وجوب النفقة على الوارث الصغير ، والعمل بها متجه لصحتها ووضوح دلالتها ، انتهى.

ومما يدل على استحباب النفقة على من عدا من ذكر ما رواه الصدوق في الخصال (١) بسنده عن زكريا المؤمن رفعه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام «قال : من عال ابنتين أو أختين أو عمتين أو خالتين حجبتاه من النار بإذن الله».

وفي تفسير الإمام العسكري عليه‌السلام (٢) في قوله تعالى «وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» (٣) قال : من الزكاة والصدقات والحقوق اللازمات ـ إلى أن قال : ـ وذوي الأرحام القريبات والآباء والأمهات ، وكالنفقات المستحبة على من لم يكن فرضا عليهم النفقة وسائر القربات ـ الحديث.

الثالث : المفهوم من كلام الأصحاب هو أن نفقة الولد إنما تجب على أبيه دون أمه لقوله تعالى «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (٤) فأوجب أجرة الرضاع على الأب فكذا غيرها من النفقات.

أقول : ويؤيده أيضا عدم وجوب الإرضاع عليها ، بل لها الامتناع وأنها كغيرها من الأجانب المستأجرات ، ولو كانت النفقة عليها واجبة كالأب لما صح ذلك.

وبالجملة فالتمسك بأصالة براءة ذمتها من ذلك أقوى مستمسك حتى يقوم الدليل على الخروج عنه ، وقد صرحوا أيضا بأن النفقة الواجبة على الأب لو مات

__________________

(١) الخصال ج ١ ص ٣٧ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣٨ ح ١.

(٢) تفسير الإمام العسكري ص ٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٣٨ ح ٢.

(٣) سورة البقرة ـ آية ٣.

(٤) سورة الطلاق ـ آية ٦.

١٣٤

الأب أو كان فقيرا فإنها تنتقل إلى آبائه الأقرب فالأقرب ، واستندوا في ذلك إلى أن أب الأب أب فيدخل تحت ما دل على وجوب النفقة على الأب.

وأورد عليه في شرح النافع بأن هذا الاستدلال لو تم لاقتضى مساواة الجد وإن علا للأب ، لا تقدم الأب كما هو المدعي ـ ثم قال : ـ إلا أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على الحكم المذكور ولعله الحجة.

أقول : وفيه تأييد ظاهر لما اخترناه في المسألة من صدق الأب حقيقة على الجد وإن علا ، ونحوه الابن وإن سفل ، والركون إلى حجية الإجماع هنا قد تقدم قريبا ما فيه.

ثم إنهم قالوا : إنه مع عدم الآباء والأجداد أو فقرهم تجب النفقة على الام ، ومع عدمها أو فقرها فعلى آباء الام وأمهاتها وإن علوا مقدما في الوجوب الأقرب فالأقرب. كذا نص عليه الشيخ في المبسوط ، وكثير من المتأخرين لم يتعرضوا لحكم الآباء والأمهات من قبل الأم.

أقول : لم أقف في النصوص على ما يتضمن هذا الحكم ، أعني حكم الام وآبائها وأمهاتها ، والظاهر أن ذلك من تخريجات الشيخ ـ رحمة الله عليه.

ومما يتفرع على القرب والتساوي كما ذكروه أمور : (الأول) أنه لو كان الأب والام معسرين ولا يجد الولد سوى نفقة أحدهما فالظاهر أنهما يكونان فيه بالتساوي لتساوي رتبتهما وعدم الترجيح ، وكذا لو كان له أب معسر وابن كذلك ذكرا كان أو أنثى ، أما لو كان له أب معسر وجد كذلك وعجز عن نفقتهما جميعا فإنه يقدم نفقة الأب لأنه الأقرب ، وكذا لو كان له جد وجد أب أو ابن وابن ابن.

(الثاني) لو كان له ولدان ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما وله أب موسر ، وجب على الأب نفقة الآخر ، فإن اختلفا في قدر النفقة وكان مال الأب يسع أحدهما بعينه كالأقل نفقة اختص به ووجبت نفقة الآخر على جده ، وإن تساويا

١٣٥

في النفقة واتفقا على الشركة أو على أن يختص كل واحد منهما بواحد فذاك ، وإلا رجعا إلى القرعة.

(الثالث) لو كان للمعسر أب وابن موسران كانت النفقة عليهما بالسوية لتساويهما في المرتبة ، أما لو كان له أب وجد فالنفقة على أبيه دون جده ، وكذا القول فيما لو كان له أب وابن ابن فإن النفقة على الأب لأنه الأقرب.

(الرابع) لو كان فقيرا وله أم وابن موسران قيل ـ في تساويهما في وجوب الإنفاق أو تقدم الولد على الام ـ وجهان : منشأهما اتحاد المرتبة ، وكون الولد مقدما على الجد المقدم عليها ، فيكون أولى بالتقدم أقول : يمكن أن يقال بترجيح تقديم الولد في وجوب الإنفاق ، لأنه المستفاد من النصوص المتقدمة ، وأما الأم فلم يقم دليل على وجوب الإنفاق عليها على الولد كما عرفت ، غاية الأمر أنهم ذكروا أنه مع فقد من يجب عليه من الأب وإن علا والابن وإن سفل فإنه يجب على الام ثم آبائها وأمهاتها الأقرب فالأقرب ، والولد هنا موجود.

الموضع الرابع : أنه يشترط في المنفق عليه الفقر والعجز عن الاكتساب ، فلو لم يكن كذلك لم يجب الإنفاق عليه ، وربما قيل باشتراط الفقر خاصة وأنه لا يشترط عدم القدرة على الاكتساب لحصول الحاجة بالفعل ، وهو مردود بأن النفقة معونة على سد الخلة ، والمكتسب قادر فهو كالغني ، ومن ثم منع من الزكاة ومن الكفارات المشروطة بالفقر.

نعم يعتبر في الكسب كونها لائقا بحاله عادة ، فلا يكلف من كان شريف القدر والعالم الكنس والدباغة ونحوهما ، ولو أمكن المرأة الكسب بالتزويج بمن يليق بها تزويجه عادة فهي قادرة بالقوة ، وهل يشترط عدم تمكن القريب من أخذ نفقته من الزكاة ونحوها من الحقوق؟ احتمالان ، قال في شرح النافع : أظهرهما العدم ، تمسكا بالإطلاق.

١٣٦

الخامس : أنه يجب الإنفاق على القريب المبغض وإن كان فاسقا أو كافرا لعموم الآية وسائر الأدلة مما تقدم وغيره كقوله عزوجل «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» (١) وموردها الكافران ، والفاسقان بطريق أولى ، ومن المصاحبة بالمعروف الإنفاق عليهما.

قالوا : ولا يقدح كونهما غير وارثين لعدم الملازمة بينهما ، وبذلك صرح الأصحاب وأكثر العلماء من غيرهم ، قال الشيخ في المبسوط : كل سبب يجب به الإنفاق من زوجية ونسب وملك يمين فإنا نوجبها مع اختلاف الدين ، كما توجبها مع اتفاقه لأن وجوبها بالقرابة ، وتفارق الميراث لأنه يستحق بالقرابة في الموالاة ، واختلاف الدين يقطع الموالاة.

وأغرب المحقق الشيخ فخر الدين في شرحه على ما نقل عنه في المسالك حيث جعل المانع من الإرث كالرق والكفر والقتل مانعا من وجوب الإنفاق ، قال : وربما نقل عنه أن ذلك إجماعي ، والأمر بخلافه ، لتصريح الأصحاب بنحو ما قلناه ، ولم نقف على مخالف لهم فيه. انتهى ، وأشار بقوله «بنحو ما قلناه» إلى ما قدمه أولا من نحو ما ذكرناه في صدر الكلام.

السادس : المشهور أنه لا يجب إعفاف من تجب نفقته ، والمراد بالإعفاف أن يصيره ذا عفة إما بتزويجه أو يعطيه مهرا يتزوج به أو يملكه جارية أو يعطيه ثمن جارية صالحة له ، ونقل عن بعض الأصحاب القول بالوجوب للأب وإن علا ، لأن ذلك من أهم المصاحبة بالمعروف المأمور بها في الآية ، ولأنه من وجوه حاجاته المهمة ، فيجب على الابن القيام به كالنفقة والكسوة ، والمشهور الاستحباب وهو الأظهر.

وتؤيده الأخبار الدالة على أنه لا يجوز له التصرف في جارية ابنه إلا أن

__________________

(١) سورة لقمان ـ آية ١٥.

١٣٧

يقومها على نفسه ، ولو كان ذلك واجبا على الابن لجاز له التصرف فيها مطلقا كما في غيرها من النفقة الواجبة ، فإنه مع إخلال الابن بها يجوز له أخذها ، ويقبل قوله في الحاجة إلى النكاح والرغبة فيه على ما صرح به الأصحاب.

قالوا : ونفقة الزوجة تابعة للاعفاف ، فإن وجب وجبت ، وإلا استحبت ، وكذا القول في نفقة زوجة الأب التي تزوجها بغير واسطة الابن ، وأوجب الشيخ في المبسوط نفقة زوجته وإن لم يجب إعفافه ، قال : لأنها من جملة مؤنته وضروراته ، كنفقة خادمه حيث يحتاج إليه.

قال في المختلف : لا يجب على الولد الغني الإنفاق على زوجة والده المعسر ، ولا على الوالد وجوب الإنفاق على زوجة ولده المعسر لأصالة البراءة ، وأوجب الشيخ في المبسوط النفقة فيها (١) لأنها من مؤنة والده.

أقول : لا أعرف له دليلا غير ما ذكر من هذا الدليل الاعتباري الذي لا يخفى ضعفه مع ما عرفت من عدم الدليل في أصل المسألة (٢).

السابع : قالوا : لو دافع من وجبت عليه النفقة أجبره الحاكم ، فإن امتنع حبسه ، وقيل : يتخير بين حبسه وتأديبه لينفق بنفسه ، وبين أن يدفع من ماله قدر النفقة إن كان له مال ظاهر ، وإن توقف على بيع شي‌ء من عقاره وماله جاز ، لأن حق النفقة واجب فكان كالدين ، ولو كان من تجب عليه النفقة غائبا تولى الحاكم الإنفاق من ماله كالحاضر الممتنع. قيل : وللحاكم أن يأذن له في الاستدانة والإنفاق ثم الرجوع عليه بعد حضوره.

قال في المسالك : ولو لم يقدر على الوصول إلى الحاكم ففي جواز استقلاله بالاستقراض عليه أو البيع من ماله مع امتناعه أو غيبته وجهان ، أجودهما الجواز ،

__________________

(١) هكذا في الأصل والصحيح «النفقة عليها».

(٢) وهو وجوب الإعفاف. (منه ـ قدس‌سره ـ).

١٣٨

لأن ذلك من ضروب المقاصة حيث يقع أخذ القريب في الوقت والزوجة مطلقا ، انتهى.

المطلب الثالث ، في نفقة المملوك : وهو إما أن يكون من الأناسي أو غيره من سائر الحيوانات ، فالكلام هنا في موضعين :

الأول ـ في المملوك الأناسي وفيه مسألتان :

الاولى : لا خلاف نصا وفتوى في وجوب النفقة عليه إذا لم يكن له مال.

روى ثقة الإسلام (١) في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خمسة لا يعطون من الزكاة شيئا الأب والام والولد والمرأة والمملوك ، وذلك أنهم عياله لازمون له».

وعن جميل بن دراج (٢) في الصحيح أو الحسن قال : «لا يجبر الرجل إلا على نفقة الأبوين والولد» الحديث.

وروى الصدوق في العلل (٣) في الصحيح عن عبد الله بن الصلت عن عدة من أصحابنا يرفعونه إلى أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال : خمسة لا يعطون من الزكاة الولد والوالدان والمرأة والمملوك ، لأنه يجبر على النفقة عليهم». إلى غير ذلك من الأخبار.

وقد نقل غير واحد من أصحابنا أنه لا خلاف بين علماء الإسلام في الحكم المذكور ولا فرق في المملوك بين الصغير والكبير ، والصحيح والأعمى ، والمدبر والمرهون والمستأجر وغيرها ، وكذا لا فرق بين الكسوب وغيره ، لكن متى كان كسوبا يخير المولى بين الإنفاق عليه من ماله وأخذ كسبه وبين الإنفاق عليه من كسبه ،

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٥٥٢ ح ٥ ، التهذيب ج ٤ ص ٥٦ ح ٧ ، الوسائل ج ٦ ص ١٦٥ ب ١٣ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٥١٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٤ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٢٤ ح ٤.

(٣) علل الشرائع ص ٣٧١ ب ٩٤ ح ١ ط النجف الأشرف ، الوسائل ج ٦ ص ١٦٦ ب ١٣ ح ٤.

١٣٩

والمرجع إلى واحد لأن الكسب أحد أموال السيد ، ولهذا لو قصر كسبه وجب الإتمام على السيد ، ولو تعدد المالك وزعت النفقة على الجميع بحسب الملك ، ويرجع في قدر النفقة إلى عادة مماليك أمثال المولى من أهل بلاده لأنها غير متعددة شرعا على المشهور ، فيجب الرجوع فيها إلى العادة كما قلنا ، فيعتبر قدر ما يكفيه من طعام وكسوة ، ويرجع في الكيفية إلى ما تقدم من عادة أمثال مماليك الموالي من أهل بلاده ، ولو كان السيد ممن يتنعم في الطعام والإدام والكسوة استحب له التوسعة على مملوكه كذلك.

وروي عنه (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إخوانكم حولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، ويلبسه مما يلبس».

قال في المسالك بعد نقله : أنه محمول على الاستحباب ، أو على أن الخطاب للعرب الذين مطاعمهم وملابسهم متقاربة ، أو على أنه جواب سائل علم حاله ، فأجاب على ما اقتضاه الحال كما وقع في كثير من أجوبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

أقول : الظاهر أن الخبر المذكور عامي لعدم وجوده في كتب أخبارنا كما لا يخفى على من راجعها ، فلا ضرورة إلى ارتكاب هذه التكلفات في تأويله ، ولو امتنع السيد عن الإنفاق عليه خيره الحاكم بين بيعه وبين الإنفاق عليه وجبره على أحدهما إن لم يكن له مال.

المسألة الثانية : قالوا : يجوز مخارجة المملوك على شي‌ء فما فضل يكون له ، فإن كفاه لنفقته وإلا أتمه المولى ، والمراد بالخارجة ضرب خراج معلوم على المملوك يؤديه كل يوم أو كل سنة أو مدة مما يكسبه ، وما فضل عن ذلك الذي ضربه عليه فإنه يكون للعبد ، وهل للسيد إجبار العبد على ذلك؟ قولان ، اختار في المسالك الثاني ، ومثله سبطه السيد السند في شرح النافع ، وعلله بأنه يملك استخدامه المعتاد لا تحصيل ذلك القدر المطلوب منه بالكسب.

__________________

(١) صحيح البخاري ج ١ ص ١١ ب ٢٢ من الايمان.

١٤٠