الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

ضعف قوله في المسالك بعد الخلاف في أن الناصب هل هو المعلن بعداوة أهل البيت عليهم‌السلام أو لا يشترط الإعلان؟ وعلى التقديرين فهذا أمر عزيز في المسلمين الآن لا يكاد يتفق إلا نادرا ، فلا تغتر بمن يتوهم خلاف ذلك ، انتهى.

فإنه كلام باطل لا يلتفت إليه وعاطل لا يعرج عليه ، وإنما نشأ من عدم التعمق في الأخبار وملاحظتها بعين الاعتبار ، وذيل البحث في المقام واسع ، ومن أراد الاستقصاء في ذلك فليرجع إلى كتابنا المذكور ، وإلى كتاب الأنوار الخيرية والأقمار الدرية في أجوبة المسائل الأحمدية.

وبالجملة فالحكم بالكفر وتحريم المناكحة مما لا ريب فيه ولا شك يعتريه.

وبذلك يظهر لك ما في كلامه في المسالك من المجازفة حيث نقل بعض الروايات الضعيفة السند وردها بذلك ، ونقل بعض روايات «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه» ورده بما قدمنا نقله عنه ، وقد عرفت جوابه ، ونقل من جملة ذلك

__________________

ـ عليه‌السلام ـ : أحببتمونا وأبغضنا الناس ، وصدقتمونا وكذبنا الناس ، ووصلتمونا وجفانا الناس. الحديث. وفي الحديث عن إسماعيل الجعفي قال : قلت لأبي عبد الله ـ عليه‌السلام ـ : رجل يحب أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ولا يتبرء من عدوه ، يقول : هو أحب الى ممن خالفه ، فقال : هو مخلط هو عدو لا تصل خلفه ولا كرامة الا أن تتقيه. والاخبار في ذلك أكثر من أن يسع المقام ذكرها ، وقد أتينا إليها في كتابنا المشار إليه في الأصل ، ومنها أخبار عديدة في تفسير قوله عزوجل «ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» (١) ففي بعضها (٢) عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) يحب بهذا قوما ويحب بهذا أعداءهم ، وفي أخرى (٣) عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ قال : لا يجتمع حبنا وحب عدونا في جوف إنسان ، ان الله لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه فيحب بهذا ويبغض بهذا. الى غير ذلك من الاخبار. (منه ـ قدس‌سره ـ)

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٤.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٣٣٦.

(٣) تفسير القمي ج ٢ ص ١٧١.

٦١

رواية أبي بصير المروية في الكافي (١) الدالة على النهي عن تزويج الشكاك معللا بأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه ، وردها بضعف السند ثم طعن في متنها بأن النهي عن الشكاك لا يستلزم النهي عن غيرهم ، وقد عرفت أنها وإن كانت ضعيفة برواية صاحب الكافي إلا أن الصدوق رواها في الفقيه كما قدمناه عن صفوان عن زرارة وطريقه إلى صفوان حسن بإبراهيم بن هاشم الذي هو في حكم الصحيح على المشهور ، وصحيح على القول الآخر.

وأما طعنه في متنها فستعرف ما فيه إن شاء الله ثم ، نقل صحيحة عبد الله بن سنان (٢) ، وهي الأخيرة من الروايات التي قدمناها الدالة على أنه لا يتزوج المستضعف مؤمنة ، ثم قال : وهي وإن كانت صحيحة إلا أن المستضعف يطلق على معان ، منها ما هو أسوء حالا من المخالف العارف ، فلا يلزم من النهي عن نكاح المستضعف النهي عن نكاح غير المؤمن مطلقا ، وإن كان في أفراده ما هو أحسن حالا من المخالف. انتهى ، ثم نقل موثقة الفضيل بن يسار (٣) الدالة على أن العارفة لا توضع إلا عند عارف ، ثم طعن في سندها ، ثم حمل النهي على الكراهة ، واستدل برواية الفضيل الأخرى (٤) الدالة على أن «غيره أحب إلي منه».

والعجب أنه بعد نقل هذه الروايات التي ذكرناها عنه قال : فهذه جملة الروايات للقول المشهور في هذا الباب إيذانا بأنه لا دليل للقول المشهور سواها ، وهو غلط محض وسهو صرف ناش من عدم إعطاء التأمل حقه في تتبع الأخبار

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٤٨ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٥٨ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٨ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٤٩ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٠٢ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٩ ح ٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٥٠ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٤ ح ٥.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٠٣ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٧ ح ١٥.

٦٢

كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، والموجود في الأخبار مما يدل على تحريم المناكحة ما يزيد على ما قدمناه أضعافا مضاعفة ، ثم أنه استدل على القول الذي اختاره بما قدمنا نقله عنه في صدر المسألة من الإجماع على اعتبار الإسلام ، وعدم الدليل الصالح لاعتبار غيره ، ثم قال في آخر البحث : وروى عبد الله بن سنان (١) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : بم يكون الرجل مسلما يحل مناكحته وموارثته ، وبم يحرم دمه؟ فقال : يحرم دمه بالإسلام إذا أظهر وتحل مناكحته وموارثته». وهو أصح ما في الباب سندا وأظهر دلالة ، فقد ظهر بذلك قوة ما اختاره المصنف وإن كان الاحتياط في الفروج أولى ، انتهى.

أقول : ووجه النظر يتطرق إلى مواضع من هذا الكلام : الأول : ما قدمنا نقله من قوله في الجواب عن رواية أبي بصير المروية في الفقيه عن صفوان عن زرارة ـ أن النهي عن الشكاك لا يستلزم النهي عن غيرهم ـ فإن فيه منعا ظاهرا ، كيف وتعليله عليه‌السلام ذلك بأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه ، ينادي باستلزام النهي عن تزويج الشكاك النهي عن تزويج المخالفين الذين هم أسوء حالا وأثقل أحمالا وأسوء عقيدة من الشكاك كما لا يخفى على من له أدنى ذوق وروية ، وقد ساعدنا على هذه المقالة سبطه السيد السند ـ قدس‌سره ـ في شرح النافع ، فقال بعد نقله الصحيحة المذكورة : ووجه الدلالة أن المنع من تزويج الشكاك يقتضي المنع من تزويج غيره من المعتقدين لمذهب أهل الخلاف بطريق أولى ، ويؤيده التعليل المستفاد من قوله عليه‌السلام : لأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه ، انتهى.

الثاني : ما أجاب به عن صحيحة عبد الله بن سنان من قوله : إن المستضعف يطلق ـ إلى آخر ما قدمنا نقله عنه ـ فإن فيه أن ما ذكره من هذا المعنى لم ينقله ناقل من علمائنا ، ولا ورد به خبر من أخبارنا ، والظاهر أنه ألجأته إليه ضرورة التعصب لهذا القول الضعيف والمذهب السخيف ، فإن جملة من الأصحاب

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٠٣ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٧ ح ١٧.

٦٣

فسروا المستضعف بتفسيرات متقاربة ومعان متناسبة ، لا مدخل لهذا القول الذي تحمله فيها ، وقد فسره ابن إدريس ـ طاب ثراه ـ بمن لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب ولا يبغض أهل الحق على اعتقادهم.

وعرف في الذكرى بأنه الذي لا يعرف الحق ولا يعاند عليه ، ولا يوالي أحدا بعينه.

وعرفه الشيخ المفيد في المسائل الغرية بأنه لا يعرف بالولاء ، ويتوقف عن البراءة ، وهذه التعاريف كلها متقاربة في المعنى ، وتعاريف الأصحاب كلها من هذا القبيل ، كما صرحوا به في بحث الصلاة على الأموات ، وأما الأخبار في تفسيره فمن هذا القبيل أيضا ، وقد عقد له في الكافي بابا وسماه باب المستضعف (١) وأخباره كلها كما ذكرناه ، ففي جملة منها أنه عبارة «عمن لا يستطيع أن يؤمن ، ولا يستطيع أن يكفر» وفي بعضها هم النساء والأولاد ، وفي بعضها من لم يعرف اختلاف الناس ، وفي بعضها من لم ترفع له حجة ، ومرجعها كلها إلى ضعف العقل ، على أن ما ذكره من المعنى فاسد في حد ذاته ، حيث إنه لا يفهم من الأسوء حالا من المخالف العارف ، وهو المعنى الذي فسر به المستضعف هنا إلا الأشد عنادا في مذهبه الباطل وتعصبا في دينه العاطل ، وليس ذلك إلا بعداوة أهل البيت أو عداوة شيعتهم لأجلهم ، لأنا لا نعقل من المخالف متى أطلق إلا المخالف في الإمامة ، والمقدم فيها سيما مع وصفه بالعارف ، وحينئذ فالأسوء حالا منه إنما هو الناصب المجاهر بالعداوة ، وقد عرفت أن الرواية تضمنت حكم الناصب أولا فلا معنى لذكره ثانيا. وبالجملة فإن كلامه هنا مختبط لا يظهر له وجه استقامة بالكلية.

الثالث : فيما استند اليه من رواية الفضيل بحمل قوله عليه‌السلام ـ بعد قول السائل فأزوجها الغير الناصب ولا العارف ـ : «وغيره أحب إلي منه» على إرادة التفضيل من هذه الصيغة ، فإنه يقتضي كون تزويج الغير الناصب والعارف وهو المستضعف

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٤٠٤ ح ١.

٦٤

والشكاك محبوبا في الجملة ، فإن فيه أنه يجب حمل أفعل التفضيل هنا على غير بابه جمعا بين هذا الخبر وغيره مما دل على اشتراط الايمان في الرجل فإن ذلك شائع ذائع ، ومن ذلك قوله عزوجل «ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ» (١) الآية ، وقوله عليه‌السلام في صحيحة عبد الله بن سنان (٢) وقد سأله أبوه عن نكاح اليهودية والنصرانية ، فقال عليه‌السلام «نكاحهما أحب إلي من نكاح الناصبية». فإنه بمقتضى ما قاله يدل على جواز نكاح الناصبية مع أنه حرام نصا وإجماعا. ونحوها رواية أبي بصير المتقدمة الدالة على أن تزويج اليهودية والنصرانية أفضل ، أو قال : خير من تزويج الناصب والناصبية.

وبذلك يظهر لك أن الاستدلال بهذه الرواية على إسلام المخالفين أشد بعدا ، لأن موردها المستضعف ، فإنه هو المراد من غير الناصب ولا العارف ، والناصب هنا بقرينة المقابلة بالعارف إنما أريد به المخالف كما تقدم في أخبار زرارة من قوله عليه‌السلام «اللواتي لا يعرفن ولا ينصبن». فإن ذلك مبني على نصب المخالفين وكفرهم ، فلا يعبر عنهم إلا بهذا اللفظ.

وأما ما اشتهر بين المتأخرين من تخصيص الناصب بفرد آخر غير المخالف فهو باطل لا دليل عليه كما تقدمت الإشارة إليه.

الرابع : ما استدل به على ما اختاره من القول بالإسلام من الإجماع على اعتبار الإسلام ، وعدم الدليل الصالح لاعتبار غيره فإنه باطل مردود بالأخبار الدالة على كفر القوم ونصبهم وشركهم ، وحل أموالهم ودمائهم ، كما أوضحناه في كتابنا المتقدم ذكره بما لا يحوم حوله شبهة للناظرين ، والدليل الصالح لاعتبار الايمان قد عرفته ساطع البيان مشيد الأركان.

وأما صحيحة عبد الله بن سنان التي نوه بأنها أصح ما في الباب سندا وأظهر

__________________

(١) سورة الجمعة ـ آية ١٠.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٥١ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٦ ح ١٠.

٦٥

دلالة ، فأما ما ذكره من أنها أصح ما في الباب سندا فهو جيد بالنسبة إلى ما أورده من الروايات التي ادعى أنها هي الروايات القول المشهور ، وأنه ليس غيرها في الباب ، وإلا فإن فيما قدمناه من الأخبار ما هو مثلها ، وكذا ما لم ننقله من أخبار المسألة.

وأما ما ذكره من أنها أظهر دلالة على مدعاه ، فهو على الضد والعكس مما قاله وادعاه ، بل هي أخفى من السهى الذي لا يكاد أحد يراه.

وبيان ذلك أن السائل سأل عما به يحصل الإسلام لتجري عليه تلك الأحكام ، لأنه قال : بم يكون الرجل مسلما تحل مناكحته ، والامام عليه‌السلام لم يجبه عن سؤاله ، وإنما ذكر له أن هذه الأحكام مترتبة على الإسلام ، وهذا ليس من محل السؤال في شي‌ء.

وبالجملة فإن السؤال عن معنى الإسلام وبيان حقيقته ، ونحن لا نخالف في أنه متى ثبت الإسلام لأحد فإنه يجب أن تجري عليه تلك الأحكام ، والمدعى في المقام ثبوت الإسلام لأولئك المخالفين ، وليس في الخبر دلالة عليه بوجه ، لأنه عليه‌السلام لم يذكر أن الإسلام يحصل بكذا وكذا ، وأن هذا الذي يحصل به الإسلام موجود في المخالفين ليحكم بإسلامهم لذلك ، ولعل في عدول الامام عليه‌السلام عن صريح الجواب إلى التعمية والإبهام ما ينبئ عن تقية في المقام ، فإن السائل سأل عن الإسلام بم يحصل ويتحقق حتى يحكم بإسلام المتصف به وإجراء أحكام الإسلام عليه ، ولم يجب عن أصل السؤال ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح ، ولما ذكره من الاستدلال بالرواية على مدعاه فاضح ، والله العالم.

تنبيهات

الأول : حيث إن السيد السند صاحب المدارك في شرح النافع إختار عدم الحكم بمناكحة المخالفين مع قوله بإسلامهم أجاب عن صحيحة عبد الله بن سنان المذكورة ، قال : الظاهر أن المراد من حل المناكحة والموارثة الحكم بصحة

٦٦

نكاحهم وموارثتهم ، لا جواز تزويجهم ، انتهى.

وأنت خبير بما فيه من البعد ، ولكنه لا مندوحة له عن ارتكابه حيث إنه ممن يحكم بإسلام أولئك المخالفين.

والتحقيق أن الرواية المذكورة بمعزل عن الدلالة على ما ذكروه ، فلا يحتاج إلى تأويل لما أوضحناه من الاشتباه فيها المؤدي إلى طرحها والاعراض عنها في هذا المقام ، كما هو ظاهر لمن سرح بريد النظر فيما قدمناه من الكلام.

الثاني : قد عرفت دلالة صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة على أنه لا يتزوج المستضعف المؤمنة ، ونحوها صحيحة زرارة المروية في الفقيه الدالة على جواز التزويج في الشكاك ، وعدم جواز نكاحهم المؤمنة ، المعلل بأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه ، وهو مشكل غاية الإشكال ، حيث إنه لا خلاف ولا إشكال في كون الشكاك والمستضعفين من أفراد المسلمين ، وقد استفاضت الأخبار بأنه متى حكم بإسلام أحد وجب أن تجري عليه أحكامه من حل المناكحة والموارثة ، وحقن المال والدم ونحوها ، فكيف يتم المنع من مناكحته ، وتؤيد الصحيحتين المذكورتين أيضا قوله عليه‌السلام في بعض روايات الفضيل المتقدمة «العارفة لا توضع إلا عند عارف». وقوله في أخرى «غيره أحب إلي منه». أي غير المستضعف كما تقدم بيانه ، ويؤكده أيضا الأخبار الكثيرة الدالة على أنه «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، وإلا تفعلون تكن فتنة في الأرض وفساد كبير». فإن مفهومها أن من لا يرضى دينه لا يزوجوه ، والشكاك والمستضعفين ممن لا يرضى دينه البتة فلا يزوجوه ، وحمل النهي على الكراهة وإن أمكن لكنه بعيد عن سياق نظامها ومقتضى مقامها ، والاحتياط لا يخفى.

الثالث : قد عرفت أن المشهور بين المتأخرين هو المنع من مناكحة المخالفين مع قولهم بإسلامهم ، لاشتراطهم ، الايمان في صحة المناكحة ، ولم يذهب منهم

٦٧

إلى الاكتفاء بالإسلام إلا المحقق والشهيد الثاني والمحدث الكاشاني كما قدمنا ذكره.

وفيه (أولا) إن هذا القول بالنظر إلى الأخبار لا يخلو من تدافع وتناقض ، فإن مقتضى الحكم بالإسلام جواز المناكحة وغيرها من الأحكام المترتبة على الإسلام كما عرفت آنفا ، ففي رواية حمران بن أعين (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «والإسلام ما ظهر من قول أو فعل وهو الذي عليه جماعة الناس من الفرق كلها وبه حقنت الدماء وعليه جرت المواريث وجاز النكاح» الحديث.

وفي رواية سماعة (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله ، والتصديق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبه حقنت الدماء وعليه جرت المناكح والمواريث وعلى ظاهره عامة الناس».

وفي حسنة الفضيل بن يسار (٣) «والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدماء». إلى غير ذلك من الروايات التي يقف عليها المتتبع.

و (ثانيا) إنه من المعلوم في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله جواز مناكحة المنافقين المظهرين للإسلام مع العلم بنفاقهم ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قد نكح وأنكح بناء على ظاهر الإسلام ، وإن علم بالنفاق ، وليس ذلك إلا باعتبار الاكتفاء بالإسلام في صحة المناكحة ، وعدم اشتراط الايمان.

وبالجملة فالقول بالإسلام والمنع من المناكحة مما لا يجتمعان ، فالقائل بإسلامهم يتحتم عليه القول بجواز مناكحتهم كما هو أحد القولين ، والقائل بالمنع من مناكحتهم لا يتم له إلا مع القول بكفرهم وعدم إسلامهم بالكلية كما هو القول الفصل ، والمذهب الجزل ، المؤيد بتظافر الآيات والروايات ، وهذه الأخبار المانعة من المناكحة إنما منعت من حيث الكفر ، ولكن جل هؤلاء القائلين بالإسلام قد وقعوا لذاك في مضيق الإلزام ، فاختل نظامهم وانحل زمامهم ،

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٢ ص ٢٦ ح ٥ وص ٢٥ ح ١ وص ٢٦ ح ٣.

٦٨

وقد وقع لهم مثل هذا الخبط والخلط في مسألة غسل المخالفين كما تقدم في غسل الأموات من كتاب الطهارة ، وكذا الصلاة على الأموات ، حيث منعوا من الغسل والصلاة أو توقفوا مع حكمهم بالإسلام.

الرابع : روى الصدوق (١) ـ عطر الله مرقده ـ في الصحيح عن العلاء بن رزين «أنه سأل أبا جعفر عليه‌السلام عن جمهور الناس ، فقال : هم اليوم أهل هدنة ترد ظالتهم وتؤدى أمانتهم وتجوز مناكحتهم وموارثتهم في هذه الحال».

وهذه الرواية بحسب ظاهرها منافية لما قدمناه ، والأظهر عندي حملها على التقية ، وإلى ذلك أشار صاحب الوسائل أيضا حيث قال : باب جواز مناكحة الناصب عند الضرورة والتقية ، ثم أورد الرواية المذكورة وأورد فيها برواية تزويج عمر أم كلثوم (٢) ، وظاهر السيد السند في شرح النافع حمل هذه الرواية على ما حمل عليه صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة من أن المراد بجواز مناكحتهم يعني بعضهم في بعض ، قال بعد ذكر ما قدمنا نقله عنه في التنبيه الأول : وأوضح منها دلالة على هذا المعنى ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن العلاء بن رزين. ثم ساق الرواية إلى آخرها ، وهو بعيد بل الأظهر إنما هو الحمل على التقية ، ويؤيده ما رواه الشيخ (٣) عن محمد بن علي الحلبي قال : «استودعني رجل من بني مروان ألف دينار ، فغاب فلم أدر ما أصنع بالدنانير ، فأتيت أبا عبد الله عليه‌السلام فذكرت ذلك له ، وقلت : أنت أحق بها ، فقال : لا إن أبي عليه‌السلام كان يقول : نحن فيهم بمنزلة هدنة نؤدي أمانتهم ونرد ضالتهم ونقيم الشهادة لهم وعليهم ، فإذا تفرق الأهواء لم يسمع أحد المقام».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٠٢ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣٣ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٤٦ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣٣ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٣٥٠ ح ١١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٤ ح ١٠.

٦٩

وعن الحسين الشيباني (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل من مواليك يستحل مال بني أمية ودماءهم ، وإنه وقع لهم عنده وديعة ، فقال : أدوا الأمانات إلى أهلها وإن كان مجوسيا ، فإن ذلك لا يكون حتى يقوم قائمنا فيحل ويحرم».

المسألة الثانية : المشهور بين الأصحاب ـ رضي‌الله‌عنهم ـ أن التمكن من النفقة ليس شرطا في الكفاءة بل يحصل الكفاءة ويصح العقد وإن كان عاجزا عن ذلك ، وقيل باشتراط ذلك ، وظاهرهم أنه شرط في صحة النكاح ، وهو منقول عن الشيخ في المبسوط والعلامة في التذكرة ، قال في المبسوط على ما نقله في المختلف : والكفاءة معتبرة في النكاح ، وهي عندنا شيئان : الايمان وإمكان القيام بالنفقة واليسار المراعى ما يملك القيام بمئونة المرأة وكفايتها لا أكثر من ذلك.

وقيل وهو ظاهر ابن إدريس : إن ذلك ليس شرطا في صحة العقد وإنما للمرأة الخيار إذا تبين كونه غير مؤسر بنفقتها ، ولا يكون العقد باطلا بل لها الخيار وليس كذلك خلاف الإيمان الذي هو الكفر إذا بان كافرا فإن العقد باطل ولا يكون للمرأة الخيار كما كان لها في اليسار ، ثم أمر بأن يلحظ ذلك ويتأمل (٢).

واستوجهه العلامة في المختلف ، وقال : إن المرأة لو نكحت ابتداء بفقير

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ١٣٢ ح ٢ ، التهذيب ج ٦ ص ٣٥١ ح ١١٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٢ ح ٥.

(٢) قال في السرائر : عندنا أن الكفاءة المعتبرة في النكاح أمران : الايمان واليسار بقدر ما يقوم بأمرها ، والإنفاق عليها ، ولا يراعى ما وراء ذلك من الأنساب والصنائع ، والاولى أن يقال : ان اليسار ليس بشرط في صحة العقد ، وانما للمرأة الخيار إذا لم يكن موسرا بنفقتها ، ولا يكون العقد باطلا بل الخيار إليها ، وليس كذلك خلاف الإيمان الذي هو الكفر إذا بان كافرا فان العقد باطل ، ولا يكون للمرأة الخيار كما كان لها في اليسار ، ثم أمر ان يلحظ ذلك ويتأمل ، وما نقلناه في الأصل هو ملخص ذلك. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٧٠

عالمة بذلك صح نكاحها إجماعا ، ولو كانت الكفاءة شرطا لم يصح ، وإذا صح مع العلم وجب أن يصح مع الجهل ، لوجود المقتضى السالم عن معارضة كون الفقر مانعا. نعم أثبتنا لها الخيار دفعا للضرر عنها ، ودفعا للمشقة اللاحقة بها.

واستشكل السيد السند في شرح النافع في ثبوت هذا الخيار هنا ، من جهة التمسك بلزوم العقد إلى أن يثبت ما يزيله ، ومن لزوم الضرر ببقائها معه كذلك المنفي بالآية والرواية ، قال : والمسألة محل تردد.

وقال الشيخ المفيد : المسلمون الأحرار يتكافؤون بالإسلام والحرية في النكاح وإن تفاضلوا في الشرف والنسب ، كما يتكافؤون في الدماء والقصاص ، فالمسلم إذا كان واجدا طولا للإنفاق بحسب الحاجة إلى الأزواج مستطيعا للنكاح مأمونا على الأنفس والأموال ، ولم يلزمه آفة في عقله ولا سفه في رأيه ، فهو كفو في النكاح.

وقال ابن الجنيد : والإسلام جامع وأهلوه إخوة متكافؤ دماءهم إلا أن لمن حرمت عليه الصدقة فضلا على غيرهم ، فوجب ألا يتزوج فيهم إلا من هو منهم ، لئلا يستحل بذلك الصدقة من حرمت عليه إذا كان الولد منسوبا إلى من يحل له الصدقة ، انتهى.

أقول : ومما يدل على القول المشهور (أولا) إطلاق الأخبار الدالة على الاكتفاء في الكفاءة بمجرد الايمان ، كالأخبار المتقدمة الدالة على أنه (١) «إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، (إِلّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)».

ومنها زيادة على ما قدمناه ما رواه الكليني في الكافي (٢) مرسلا عن الصادق عليه‌السلام قال : «إن الله عزوجل لم يترك شيئا مما يحتاج إليه إلا علمه نبيه ، فكان من تعليمه إياه أنه صعد المنبر ذات يوم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٤٧ ح ١ و ٢ و ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٠ ح ١ وص ٥١ ح ٢ و ٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٣٧ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٩ ح ٢.

٧١

إن جبرئيل أتاني عن اللطيف الخبير فقال : إن الأبكار بمنزلة الثمر على الشجر ، إذا أدرك ثمرة فلم يجتنى أفسدته الشمس ونثرته الرياح ، وكذلك الأبكار إذا أدركن ما يدرك النساء فليس لهن دواء إلا البعولة ، وإلا لم يؤمن عليهن الفساد لأنهن بشر ، قال : فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن نزوج؟ فقال : الأكفاء ، فقال : يا رسول الله ومن الأكفاء؟ فقال : المؤمنون بعضهم أكفاء بعض».

وروى الصدوق في كتاب علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (١) بسنده عن أبي جون مولى الرضا عنه عليه‌السلام قال : «نزل جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ، ويقول : إن الأبكار من النساء بمنزلة الثمر على الشجر ، فإذا أينع الثمر فلا دواء له إلا اجتناؤه ، وإلا أفسدته الشمس وغيرته الريح ، وإن الأبكار إذا أدركن ما تدرك النساء فلا دواء لهن إلا البعول ، وإلا لم يؤمن عليهن الفتنة ، فصعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر فخطب الناس ثم أعلمهم ما أمر الله تعالى به ، فقالوا : ممن يا رسول الله؟ فقال : من الأكفاء ، فقالوا : ومن الأكفاء؟ فقال : المؤمنون بعضهم أكفاء بعض ، ثم لم ينزل حتى زوج ضباعة المقداد بن الأسود ، ثم قال : أيها الناس إنما زوجت ابنة عمي المقداد ليتصنع النكاح».

و (ثانيا) خصوص قوله عزوجل «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ» (٢).

وما رواه في الكافي (٣) في الصحيح عن أبي حمزة الثمالي قال : «كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام إذا استأذن عليه رجل فأذن له فدخل عليه فسلم فرحب أبو جعفر عليه‌السلام وأدناه وسأله ، فقال الرجل : جعلت فداك إني خطبت إلى مولاك فلان ابن أبي رافع ابنته ، فردني ورغب عني وازدرأني لدمامتي وحاجتي وغربتي ، وقد دخلني من

__________________

(١) العلل ص ٥٧٨ ح ٤ ، العيون ج ١ ص ٢٢٥ ح ٣٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣٩ ح ٣.

(٢) سورة النور ـ آية ٣٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٣٩ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣ ح ١.

٧٢

ذلك غضاضة هجمة غض لها قلبي تمنيت عندها الموت ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : اذهب فأنت رسولي إليه ، وقل له : يقول لك محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام زوج منجح بن رباح مولاي ابنتك فلانة ولا ترده ، قال أبو حمزة : فوثب الرجل فرحا مسرعا برسالة أبي جعفر عليه‌السلام فلما أن توارى الرجل قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن رجلا كان من أهل اليمامة يقال له جويبر أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله منتجعا للإسلام (١) فأسلم وحسن إسلامه وكان رجلا قصيرا دميما محتاجا عاريا ـ ثم ساق الخبر المشتمل على فقر جويبر وأنه من جملة أهل الصفة الذين كانوا يتعاهدهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبر والتمر والشعير إلى أن قال : فقال له : يا جويبر لو تزوجت امرأة فعففت بها فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك ، فقال له جويبر : يا رسول الله بأبي أنت وأمي من يرغب في؟ فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال ، فأية امرأة ترغب في؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا جويبر إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفا ، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعا ، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلا ، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها بعشائرها ، وباسق (٢) أنسابها ـ إلى أن قال ـ : ثم قال له : انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من أشرف بني بياضة حسبا فيهم فقل له : إني رسول الله إليك ، وهو يقول لك : زوج جويبرا ابنتك الذلفاء». ثم ساق الكلام بما يتضمن تزويج جويبر المرأة المذكورة.

والخبر المذكور ظاهر بالنظر الى صدره في المطلوب والمراد ، وصريح بالنظر إلى حكاية قصة جويبر بأوضح صراحة لا يعتريها الإيراد.

ومما يدل على ذلك قول الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) «إذا خطب

__________________

(١) انتجع القوم : إذا ذهبوا بطلب الكلاء ، وانتجع فلانا : طلب معروفه. «النهاية».

(٢) الباسق : المرتفع في علوه. «النهاية».

(٣) الفقه الرضوي ص ٣١ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٣٧ ب ٢٤ ح ٣.

٧٣

إليك رجل رضيت دينه وخلقه فزوجه ، ولا يمنعك فقره وفاقته ، قال الله تعالى «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» (١) ، وقال «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ، وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» (٢). وهو كما ترى أيضا صريح في المدعى ، وتؤيده الآيات والروايات الدالة على ضمان الله عزوجل الرزق لمن خلق وتكفله به.

واستدل للقول الثاني بما رواه في الكافي (٣) في الصحيح عن أبان عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «الكفو أن يكون عفيفا وعنده يسار».

ورواه الشيخ في التهذيب (٤) عن محمد بن الفضيل ، عمن ذكره عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وأجاب عنه في المختلف بالحمل على الأولوية والاستحباب ، وهو جيد ويشير إليه اشتراط العفة التي هي عبارة عن التقوى ، فإنه لم يشترطها أحد في الكفاءة وصحة النكاح ، وإلا لبطل بدونه ، وعلى هذا ينبغي حمل كلام الشيخ المفيد فيما قدمنا من عبارته.

وأما ما ذهب إليه ابن الجنيد فإنه استدل له في المختلف بما رواه في الكافي (٥) عن علي بن بلال قال : «لقي هشام بن الحكم بعض الخوارج فقال : يا هشام ما تقول في العجم يجوز أن يتزوجوا في العرب؟ قال : نعم ، قال : فالعرب يتزوجوا من قريش؟ قال : نعم ، قال : فقريش يتزوج في بني هاشم؟ قال : نعم ، قال : عمن أخذت هذا؟ قال : عن جعفر بن محمد عليه‌السلام سمعته يقول : أتتكافأ دماؤكم ، ولا تتكافأ فروجكم؟ قال : فخرج الخارجي حتى أتى أبا عبد الله عليه‌السلام فقال : إني لقيت هشاما فسألته

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ١٣٠.

(٢) سورة النور ـ آية ٣٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٤٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥١ ح ٤.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٢ ح ٥.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٣٤٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٦ ح ٣.

٧٤

عن كذا ، فأخبرني بكذا ، وذكر أنه سمعه منك ، قال : نعم قد قلت ذلك ، فقال الخارجي : فها أنا ذا قد جئتك خاطبا ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : إنك لكفو في دمك وحسبك في قومك ، ولكن الله عزوجل صاننا عن الصدقة ، وهي أوساخ أيدي الناس فنكره أن نشرك فيما فضلنا الله به من لم يجعل الله مثل ما جعل الله لنا ، فقام الخارجي وهو يقول : تالله ما رأيت رجلا مثله قط ردني والله أقبح رد ، وما خرج من قول صاحبه».

وحمله في المختلف على الأولوية أيضا ، ويحتمل أن هذا الكلام إنما خرج في مقام دفع الخارجي بما لا يستوحش منه من كفره وعدم جواز مناكحته ، ولا يراد به ظاهره بالنسبة إلى غيره من الإمامية ، فإنهم يتزوجون في بني هاشم من غير خلاف ولا كراهة ، كما دل عليه صدر الخبر المذكورة ، وحديث تزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب من المقداد بن الأسود ، كما دلت عليه جملة من الأخبار ، منها الخبر المتقدم.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب (١) عن أبي بكر الحضرمي «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوج المقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب وإنما زوجه لتتصنع المناكح وليتأسوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم».

ورواه في الكافي (٢) بسند آخر عن هشام بن سالم عن رجل عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، وزاد فيه «وكان الزبير أخا عبد الله وأبي طالب لأبيهما وأمهما».

وروى في التهذيب (٣) عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٤٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٩٥ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٤٤ ح ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٧ ح ٥.

٧٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوج ضبيعة بنت الزبير بن عبد المطلب من مقداد بن الأسود ، فتكلمت في ذلك بنو هاشم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني إنما أردت أن تصنع المناكحة». وبالجملة فإن القول المذكور بمكان من الضعف والقصور.

وأما ما ذهب إليه ابن إدريس والعلامة في المختلف من الخيار للمرأة لو ظهر كون الزوج فقيرا بعد عقدة عليها ، فإن أثر له في أخبار المسألة ، وما استدلوا به من دفع الضرر عن المرأة مدفوع بما ذكرنا من الآيات والأخبار الدالة على أن الله سبحانه ضامن بالرزق ومتكفل به سواء أجراه على يد الزوج أو غيره ، ألا ترى إلى قوله عزوجل «وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» (١) ، فإن فيه إشارة إلى أن التفرق الموجب لقطع إنفاق الزوج على المرأة أو استعانة الزوج بالمرأة على ذلك لا يكون موجبا لاحتياج كل منهما وفقره بالله سبحانه يغني كلا من سعته وكرمه وكذا قوله «إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ» (٢) فإن فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي الرد عن التزويج لأجل الفقر ، فإن الله عزوجل هو الرزاق لا الزوج ، وقد ضمن ذلك في كتابه وهو لا يخلف الميعاد ، فلا يمنعه التزويج لأجل فقره ، والآية ظاهرة في الرد على هذا القائل بأوضح ظهور ، الظاهر أنه إلى ما ذكرنا يشير كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (٣) حيث استدل بهذه الآية والآية التي بعدها على عدم منع الفقير من تزويج من رضي دينه ، وبذلك يظهر قوة التمسك بلزوم العقد حتى يقوم دليل على جواز فسخه ، ويظهر أيضا ضعف استشكال السيد السند في المسألة كما قدمنا نقله عنه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد صرحوا بأن هذا الشرط ليس على نهج ما قبله من شرط الايمان أو الإسلام للاتفاق هنا على جواز تزويج الفقير المؤمن ،

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ١٣٠.

(٢) سورة النور ـ آية ٣٢.

(٣) الفقه الرضوي ص ٢٣٧.

٧٦

وإنما يظهر فائدة هذا الاشتراط هنا على تقدير القول به في الوكيل المطلق والولي ، فإنه ليس لهما أن يزوجاها إلا من كفو ، فإذا اعتبرنا اليسار في الكفاءة لم يصح لهما تزويجهما بالفقير ، وإن زوجاها تخيرت في الفسخ كما تتخير في العيوب.

واختلف كلام العلامة في كتبه هذه المسألة ففي التذكرة اشتراط في الكفاءة اليسار كما قدمنا نقله عنه ، وجوز للولي أن يزوجها بالفقير ، ولو كان الذي يزوجها السلطان لم يكن له أن يزوجها إلا بكفو في الدين واليسار ، وهذا الكلام لا يخلو من تدافع كما عرفت ، وفي المختلف لم يعتبر اليسار ، واكتفي بالايمان لكنه حكم بأنها لو تزوجت الفقير جاهلة بفقره كان لها الخيار إذا علمت ، وهو قول ابن إدريس كما تقدم ، وفي القواعد لم يجعل اليسار شرطا ولا أثبت لها الخيار.

وكيف كان فالظاهر أن اليسار شرط في وجوب الإجابة عليها أو على الولي فلو لم يكن ذا يسار لم تجب إجابته ، لأن الصبر على الفقر ضرر يدفع الوجوب ، وإن ترجحت الإجابة مع كمال دينه كما في قضية جويبر ونحوه ، والمعتبر في اليسار من النفقة كونه مالكا لها بالفعل أو القوة القريبة منه ، بأن يكون قادرا على تحصيلها بحرفة يحترفها أو تجارة يتجرها ، ولا يشترط اليسار في المهر وإنما محل البحث والخلاف في النفقة خاصة ، والله العالم.

المسألة الثالثة : المشهور بين الأصحاب أنه لو تجدد عجز الزوج عن النفقة فليس للمرأة الفسخ ، ونقل عن ابن الجنيد أنها تتخير بين الفسخ وعدمه ، وقيل : بأن الحاكم يبينهما ، وهذا القول نقله السيد السند في شرح النافع ، قال : نقل المحقق الشيخ فخر الدين عن المصنف أنه نقل عن بعض علمائنا قولا بأن الحاكم يبينهما.

حجة القول المشهور أن النكاح عقد لازم ، فيستصحب ، ولظاهر قوله تعالى

٧٧

«وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» (١) وما رواه الشيخ في التهذيب (٢) عن السكوني «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أن امرأة استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها وكان زوجها معسرا ، فأبى علي عليه‌السلام أن يحبسه ، وقال : إن مع العسر يسرا». ولو كان لها الفسخ لعرفها به ليندفع عنها الضرر الذي استعدت لأجله ، وحجة ما ذهب إليه ابن الجنيد ما رواه الصدوق (٣) في الصحيح عن ربعي والفضيل بن يسار «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اللهُ» قال : إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة ، وإلا فرق بينهما».

وما رواه في الفقيه (٤) أيضا عن عاصم بن حميد عن أبي بصير ـ والظاهر أنه ليث المرادي ـ فتكون الرواية صحيحة قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الامام أن يفرق بينهما». والظاهر أن هذه الرواية هي مستند القول الثالث ، وإلى هذا القول ـ بما نقل عن ابن الجنيد ـ مال السيد السند في شرح النافع للصحيحتين المذكورتين ، قال : والروايتان صحيحتا السند ، فيتجه العمل بهما مضافا إلى ما يلزم في كثير من الموارد من الحرج العظيم المنفي بقوله تعالى «وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» (٥) والعسر الزائد الذي هو غير مراد لله عزوجل.

أقول : والرواية الأولى قد رواها في الكافي (٦) أيضا عن روح بن عبد الرحيم قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله عزوجل «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» الحديث. كما تقدم.

__________________

(١) سورة البقرة ـ آية ٢٨٠.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩ ح ٤٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٤٨ ح ٢.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٢٧٩ ح ٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٢٣ ح ٢.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٢٧٩ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٦٢ ح ٦١ مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٢٣ ح ١.

(٥) سورة الحج ـ آية ٧٨.

(٦) الكافي ج ٥ ص ٥١٢ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٢٤ ح ٦.

٧٨

ويقرب من هذين الخبرين ما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن ابن أبي عمير عن جميل بن دراج قال : «لا يجبر الرجل إلا في نفقة الأبوين والولد ، قال ابن ابي عمير : قلت لجميل : والمرأة؟ قال : قد روى عنبسة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كساها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها أقامت معه وإلا طلقها» الحديث ،. وحاصل معنى الخبر أنه في العمودين يجبر على النفقة ، وأما في الزوجة فإنها ليست لازمة له لزوم العمودين ، بل يجبر على النفقة أو الطلاق.

ويعضد ذلك ما ورد في خبر رواه في أصول الكافي (٢) في باب سيرتهم عليهم‌السلام مع الناس إذا ظهر أمرهم «قال فيه : والرجل ليس له على عياله أمر ولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة» (٣).

والعلامة في المختلف بعد أن نقل الاستدلال للقول المشهور باستصحاب لزوم العقد ورواية السكوني ، ولابن الجنيد بلزوم الضرر ، والرواية عن الصادق عليه‌السلام وعارضها برواية السكوني (٤) قال في آخر كلامه : ونحن في المسألة من المتوقفين.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥١٢ ح ٨ ، التهذيب ج ٦ ص ٢٩٣ ح ٢٢ وص ٢٩٦ ح ٢٣ وص ٣٤٨ ح ٩٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٢٤ ح ٤.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٤٠٦ ح ٦.

(٣) أقول. والحديث المذكور مروي عن أبى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قال : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه ، وعلى أولى به من بعدي ، فقيل له : ما معنى ذلك؟ فقال : قول النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ من ترك دينا أو ضياعا فعلى ، ومن ترك مالا فلورثته ، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال ، وليس له على عياله أمر ولا نهى إذا لم يجر عليهم النفقة والنبي وأمير المؤمنين ـ عليهما‌السلام ومن بعدهما ألزمهم هذا ، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم ، وما كان سبب إسلام عامة اليهود الا من بعد هذا القول من رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ وأنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٤) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٩ ح ٤٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٤٨ ح ٢.

٧٩

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف ايضا حيث اقتصر على نقل الأقوال وأدلتها ولم يرجح شيئا في البين ، إلا أن الظاهر أنه لم يقف على صحة الخبرين اللذين قدمناهما دليلا لابن الجنيد ، فإنه إنما نقل رواية ربعي والفضيل عارية عن وصفها بالصحة ، والظاهر أنه أخذها من التهذيب ، فإنها فيه ضعيفة وإلا فهي في الفقيه صحيحة ، وأما صحيحة أبي بصير فلم يتعرض لها ، والظاهر أنه لو وقف على صحة هاتين الروايتين لما عدل عنها بناء على عادته وطريقته كما علمته من سبطه في شرح النافع.

إذا عرفت هذا فاعلم أن الظاهر عندي في المقام بالنظر إلى هذه الأخبار ـ بناء على قاعدتنا في العمل بجميع الأخبار من غير التفات إلى هذا الاصطلاح المحدث ـ أمر آخر غير ما ذكروه ، وذلك فإن صريح رواية السكوني كون الزوج معسرا ، وأما صحيحة ربعي والفضيل وكذا صحيحة أبي بصير فإنهما مطلقتان ، وحينئذ فيمكن حمل إطلاقهما على ما صرحت به رواية السكوني من التقييد ، فينتج من ذلك أن الزوج متى كان معسرا وجب عليها الصبر ، عملا باستصحاب لزوم العقد ولا تتخير في فسخ عقدها ، ولا يجوز أن يفرق بينهما ، وأما إذا كان ذا يسار ولم ينفق عليها فإن الحكم فيه ما دلت عليه الصحيحتان من التفريق بينهما ، ويؤيد ما ذكرناه ما هو المفهوم من رواية جميل بن دراج كما ذيلناها به من أنه يجبر على الإنفاق عليها أو الطلاق ، ومن الظاهر أن الخبر على الإنفاق إنما هو مع إمكانه ، وعلى ما ذكرناه لا تكون الصحيحتان من محل البحث في شي‌ء لتخصيصهما بمن كان ذا يسار ، ومحل البحث إنما هو العاجز عن الإنفاق.

وبالجملة فالأظهر عندي في الجميع بين الأخبار هو ما ذكرته ، وبه يظهر قوة القول المشهور ، وأنه هو المؤيد المنصور.

ثم أنه لا يخفى أن الذي ذكروه هنا ـ بناء على قول ابن الجنيد ـ هو تخير المرأة في فسخ العقد وعدمه ، والذي دلت عليه الصحيحتان التفريق ، وهو

٨٠