الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

عليه‌السلام قال : «النشوز قد يكون من الرجل والمرأة جميعا ، فأما الذي من الرجل فهو ما قال الله عزوجل في كتابه «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ» (١) وهو أن تكون المرأة عند الرجل لا تعجبه فيريد طلاقها فتقول له : أمسكني ولا تطلقني وادع لك ما على ظهرك ، وأحل لك يومي وليلتي ، فقد طاب له ذلك».

وما رواه العياشي (٢) في تفسيره عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام «في قول الله عزوجل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» فقال : النشوز : الرجل يهم بطلاق امرأته ، فتقول له : ادع ما على ظهرك ، وأعطيك كذا وكذا ، وأحللك من يومي وليلتي على ما اصطلحا ، فهو جائز».

وعن زرارة (٣) قال : «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن النهارية ـ إلى أن قال : ـ ولكنه إن تزوج امرأة فخافت منه نشوزا أو خافت أن يتزوج عليها أو يطلقها فصالحته من حقها على شي‌ء من نفقتها أو قسمتها ، فإن ذلك جائز لا بأس به».

أقول : وهذه الأخبار بعد حمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مبينها ظاهرة الاتفاق في تخصيص صحة الصلح ـ وبراءة ذمة الزوج مما أسقطته عنه المرأة ـ بما لو كرهها أو أراد التزويج عليها أو نحو ذلك مما لا يتضمن إخلالا بواجب أو ارتكاب محرم.

وبذلك يظهر ضعف قول من قال : إنه لو أخل الزوج بحقوقها الواجبة أو بعضها فتركت له بعض الحقوق جاز ذلك وبرءت ذمته ، وإن كان آثما في نشوزها ،

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ١٢٨.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٧٨ ح ٢٨١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩١ ح ٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٠٣ ح ٤ ، وفيه «المهارية» و «إذا تزوج» ، التهذيب ج ٧ ص ٣٧٢ ح ٦٨ ، تفسير العياشي ج ١ ص ٢٧٨ ح ٢٨٣ مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٩١ ح ٧ وص ٤٨ ح ٣.

٦٢١

لأن الآية بمقتضى الروايات التي وردت بتفسيرها أكثرها صريح في تخصيص ذلك بكراهته لها ونحو ذلك دون الإخلال بالحقوق الواجبة عليه لها ، وما أطلق فقرائن ألفاظه ظاهر في ذلك أيضا.

وبالجملة فإن المستفاد من الآية والأخبار ـ بتقريب ما قلناه ـ أن النشوز الموجب لصحة الصلح بإسقاط بعض الحقوق هو ما لم يتحقق إخلال الزوج بشي‌ء من الحقوق الواجبة عليه ، على أنه متى كان القسم والنفقة من الأمور الواجبة عليه ، فتركت له النفقة مثلا لأجل القسم ، فإنه يكون هذا الترك لا في مقابلة عوض ، لأن القسم واجب عليه تركت النفقة أم لم تتركها ، فيكون إسقاط النفقة من غير سبب يوجبه قبيحا ، ولو قهرها على بذل ما تركت له فلا ريب في عدم حله. لأنه إكراه بغير حق شرعي.

المقام الثاني في الشقاق : وهو أن يكره كل واحد من الزوجين صاحبه ، فيكون كل واحد منهما بكراهيته للآخر في شق عنه ـ أي ناحية ـ والحكم في ذلك ، بعث كل واحد منهما حكما من أهله حسبما يأتي تفصيله.

والأصل في هذا المقام الآية أعني قوله عزوجل «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما» (١).

والأخبار ومنها ما رواه في الكافي (٢) عن علي بن أبي حمزة قال : «سألت العبد الصالح عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» فقال : يشترط الحكمان إن شاءا فرقا وإن شاءا جمعا ، ففرقا أو جمعا جاز».

وعن سماعة (٣) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٣٥.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٩ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٤ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٣ ح ١.

٦٢٢

«فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» أرأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل والمرأة : أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق؟ فقال الرجل والمرأة : نعم ، فأشهدا بذلك شهودا عليهما ، أيجوز تفريقهما عليهما؟ قال : نعم ، ولكن لا يكون إلا على طهر من المرأة من غير جماع من الزوج ، قيل له : أرأيت إن قال أحد الحكمين : قد فرقت بينهما ، وقال الآخر : لم أفرق بينهما ، فقال : لا يكون تفريقا حتى يجتمعا جميعا على التفريق ، فإذا اجتمعا على التفريق جاز تفريقهما».

وعن محمد بن مسلم (١) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها»؟ قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمروا».

وما رواه المشايخ الثلاثة (٢) عن الحلبي في الصحيح ، وفي آخر في الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا الرجل والمرأة ، ويشترطا عليهما إن شئنا جمعنا وإن شئنا فرقنا فإن جمعا فجائز ، وإن فرقا فجائز».

وما رواه في الكافي (٣) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قول الله عزوجل «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» قال : الحكمان يشترطان إن شاءا فرقا وإن شاءا جمعا ، فإن جمعا فجائز ، وإن فرقا فجائز».

وفي كتاب الفقه الرضوي (٤) «وأما الشقاق فيكون من الزوج والمرأة جميعا كما

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٧ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٣ ح ٢٩ ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٩ ح ١.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٢ ح ٢.

(٤) فقه الرضا ص ٢٤٥ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١٣ ب ٨ ح ١.

٦٢٣

قال الله تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» يختار الرجل رجلا والمرأة تختار رجلا فيجتمعان على فرقة أو على صلح ، فإن أرادا إصلاحا أصلحا من غير أن يستأمرا ، وإن أرادا التفريق بينهما فليس لها إلا بعد أن يستأمرا الزوج والمرأة». انتهى.

وفي تفسير العياشي (١) عن محمد بن سيرين عن عبيدة قال : «أتى علي بن أبي طالب عليه‌السلام رجل وامرأة ، ومع كل واحد منهما فئام من الناس فقال عليه‌السلام : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها ، ثم قال للحكمين : هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن يجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن يفرقا فرقتما ، فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله علي ولي ، فقال الرجل : أما في الفرقة فلا ، فقال علي عليه‌السلام : ما تبرح حتى تقر بما أقرت به».

وروى في الكتاب المذكور عن زيد الشحام (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قوله تعالى «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» قال : ليس للحكمين أن يفرقا حتى يستأمرا الرجل والمرأة».

قال : وفي خبر آخر عن الحلبي عنه عليه‌السلام «ويشترط عليهما إن شاءا جمعا وإن شاءا فرقا» فإن جمعا فجائز ، فإن فرقا فجائز ، قال : وفي رواية فضالة «فإن رضيا وقلداهما الفرقة ففرق فهو جائز». انتهي.

هذا ما حضرني من أخبار المسألة ، وقال الشيخ علي بن إبراهيم في تفسيره (٣) «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» فما حكم به الحكمان فهو جائز ، يقول الله «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما» يعني الحكمان ، فإذا كان الحكمان عدلين دخل حكم المرأة على المرأة فيقول : أخبرني ما في نفسك فإني لا أحب أن أقطع شيئا دونك ، فإن كانت هي الناشزة قالت :

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٤١ ح ١٢٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٤ ح ٦.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٤١ ح ١٢٤ و ١٢٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٣ و ٩٤ ح ٣ و ٥.

(٣) تفسير القمي ج ١ ص ١٣٧ مع اختلاف يسير ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١٤ ب ١١ ح ١.

٦٢٤

أعطه من مالي ما شاء وفرق بيني وبينه ، وإن لم تكن ناشزة قالت : أنشدك الله أن لا تفرق بيني وبينه ، ولكن استزد لي في نفقتي ، فإنه إلى مسي‌ء ، ويخلو حكم الرجل بالرجل ، فيقول : أخبرني بما في نفسك ، فإني لا أحب أن أقطع شيئا دونك ، فإن كان هو الناشز قال : خذ لي منها ما استطعت وفرق بيني وبينها فلا حاجة لي فيها ، وإن لم يكن ناشزا قال : أنشدك الله أن لا تفرق بيني وبينها فإنها أحب الناس إلي ، فأرضها من مالي بما شئت ، ثم يلتقي الحكمان وقد علم كل واحد منهما ما أوصى به إليه صاحبه ، فأخذ كل واحد منهما على صاحبه عهد الله وميثاقه لتصدقني ولأصدقنك ، وذلك حين يريد الله أن يوفق بينهما ، فإذا فعلا وحدث كل واحد منهما صاحبه بما أفضي إليه عرفا من الناشز ، فإن كانت المرأة هي الناشزة قالا : أنت عدوة الله الناشزة العاصية لزوجك ليس لك عليه نفقة ولا كرامة لك وهو أحق أن يبغضك أبدا حتى ترجعين إلى أمر الله ، وإن كان الرجل هو الناشز قالا له : يا عدو الله أنت العاصي لأمر الله المبغض لامرأته فعليك نفقتها ولا تدخل لها بيتا ولا ترى لها وجها أبدا حتى ترجع إلى أمر الله عزوجل وكتابه.

وقال : وأتى علي بن أبي طالب عليه‌السلام رجل وامرأة على هذه الحال فبعث حكما من أهله وحكما من أهلها ، وقال للحكمين هل تدريان ما تحكمان؟ احكما ، إن شئتما فرقتما ، وإن شئتما جمعتما ، فقال الزوج : لا أرضى بحكم فرقة ولا أطلقها ، فأوجب عليه نفقتها ، ومنعه أن يدخل عليها ، وإن مات على ذلك الحال الزوج ورثته ، وإن ماتت لم يرثها إذا رضيت منه بحكم الحكمين وكره الزوج ، فإن رضي الزوج وكرهت المرأة أنزلت هذه المنزلة إن كرهت ولم يكن لها عليه نفقة ، وإن مات لم ترثه ، وإن ماتت ورثها حتى ترجع إلى حكم الحكمين ، انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن تحقيق الكلام في المقام يقع في مواضع :

الأول : هل المراد من خوف الشقاق في الآية هو خشية الشقاق كما هو ظاهر اللفظ ، أو العلم به؟ قولان ، وإلى الأول يميل كلام أمين الإسلام الطبرسي

٦٢٥

في كتاب مجمع البيان حيث قال «وَإِنْ خِفْتُمْ» أي خشيتم ، وقيل علمتم ، والأول أصح ، لأنه لو علم الشقاق يقينا لما احتيج إلى الحكمين.

وإلى الثاني يميل كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، حيث حمل الآية أولا على المعنى الظاهر من اللفظ مع تقدير الاستمرار بمعنى أنه إن خشيتم استمرار الشقاق ، لأن ظهور النشوز منها موجب لحصول الشقاق.

أقول : فالمراد حينئذ خوف استمراره ، ثم قال : ويجوز أن يراد من خشية الشقاق العلم به كما سلف ، وهو أولى من إضمار الاستمرار ، وكلام سبطه في شرح النافع يميل إلى الأول حيث قال : والظاهر أن المراد والله أعلم «إن خفتم استمرار الشقاق بينهما» أو يقال : إن الشقاق إنما يتحقق مع تمام الكراهة بينهما ، فيكون المراد أنه إذ حصلت كراهة كل منهما لصاحبه وخفتم حصول الشقاق بينهما «فَابْعَثُوا حَكَماً» وقيل : معنى خفتم علمتم.

أقول : الظاهر أن المراد من قول شيخنا الطبرسي «لأنه لو علم الشقاق يقينا لما احتيج إلى الحكمين» هو أن الغرض من بعث الحكمين هو الإصلاح بينهما باجتماع أو فرقة ، ومتى كان الشقاق معلوما علم أنه لا يمكن الإصلاح بالاجتماع ، فموضع إرسالهما إنما هو في مقام يرجو فيه الاجتماع بأن يظهر الكراهة من كل منهما لصاحبه في الجملة إلا أنه يرجى الاجتماع حينئذ ، وهو يرجع إلى المعنى الثاني الذي ذكره في شرح النافع ، والظاهر قربه.

الثاني : اختلف المفسرون والفقهاء في المخاطب في الآية بإنفاذ الحكمين هل هو الحاكم الشرعي؟ أو الزوجان؟ أو أهل الزوجين؟ على أقوال ، وبالأول قطع المحقق في الشرائع والعلامة في القواعد ، ونسبه في المسالك إلى الأكثر ، قال : وجعلوا ضمير فابعثوا في الآية راجعا إلى الحكام.

والثاني اختيار ابن بابويه في الفقيه والمقنع وأبيه في الرسالة والمحقق في الشرائع ، إلا أنه في النافع قال : إذا امتنعا بعثهما الحاكم.

٦٢٦

قال في كتاب مجمع البيان (١) : «واختلف في المخاطب بإنفاذ الحكمين من هو؟ فقيل : السلطان الذي ترافع الزوجان إليه ، عن سعيد بن جبير والضحاك وأكثر الفقهاء ، وهو الظاهر في الأخبار عن الصادقين عليهما‌السلام وقيل : إنه الزوجان أو أهل الزوجين عن السدي ، واختلفوا في الحكمين هل لهما أن يفرقا بالطلاق إن رأيا أم لا؟ والذي في روايات أصحابنا عنهم عليهم‌السلام أنه ليس لهما ذلك إلا بعد أن يستأمراهما ويرضيا بذلك ، وقيل : إن لهما ذلك ، عن سعيد بن جبير والشعبي والسدي وإبراهيم ، ورووه عن علي عليه‌السلام ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : إن الحكمين وكيلان ، انتهى.

وأنت خبير بأنه ليس في الأخبار المتقدمة ما يدل على ما نحن فيه إلا كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه ، فإنه صريح في أن البعث من الزوجين ، وإنما نسب هذا القول إلى الصدوق في الفقيه (٢) لأنه قد عبر بهذه العبارة حيث قال : الشقاق قد يكون من المرأة والرجل جميعا ، وهو ما قال الله تعالى «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها» (٣) فيختار الرجل رجلا وتختار المرأة رجلا ، فيجتمعان على فرقة أو صلح ، فإن أرادا الإصلاح أصلحا من غير أن يستأمرا ، وإن أرادا أن يفرقا فليس لهما أن يفرقا إلا بعد أن يستأمرا الزوج والمرأة ، انتهى (٤).

والظاهر أن عبارة أبيه في الرسالة كذلك أيضا ، وأما عبارة المقنع فهي

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٤٤.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٧.

(٣) سورة النساء ـ آية ٣٤.

(٤) ثم قال في تمام هذا الكلام : وهو المناسب بمقام البعث والتحكيم واللائق بقطع التنازع والمروي. ثم ذكر القولين الآخرين وضعفهما ، وكلامه ظاهر في اختيار هذا القول ب ـ (منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٢٧

مثل عبارته في الفقيه ، وهو نظير ما قدمنا في غير موضع من إفتاء الصدوق وأبيه في الرسالة إليه بعبارات هذا الكتاب ، ومن أجل ذلك اعتمدنا عليه فيما تضمنه من الأحكام وظاهر الرواية المرسلة المذكورة في كلام علي بن إبراهيم ، هو أن المرسل هو الامام عليه‌السلام حيث تضمنت أنه بعد أن أتاه الرجل والمرأة على هذه الحالة بعث حكما من أهله وحكما من أهلها.

وأما رواية عبيدة المنقولة من تفسير العياشي فهي محتملة لكون خطابه عليه‌السلام للزوجين ، وإن كان الخطاب بضمير الجمع فإنه غير غريب في الكلام ، ويحتمل أن يكون لأهلها ، ولعله الأقرب.

وظاهر موثقة سماعة هو أن البعث من الزوجين أيضا كما دل عليه كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه حيث قال الراوي بعد ذكر الآية : أرأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل والمرأة : أليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح والتفريق إلى آخره ، فإنه ظاهر في كون البعث منهما كما لا يخفى بل هو ظاهر الروايات الدالة على اشتراط الحكمين على الزوجين قبول ما يحكمان به ، فإنه لو كان البعث إنما هو من الامام من غير تعلق بالزوجين بالكلية كما هو ظاهر القول المشهور ، لما كان لهذا الاشتراط هنا وجه كما لا يخفى (١).

ونقل عن ابن الجنيد أن الامام يأمر الزوجين أن يبعثا فيكون هذا قولا ثالثا ، ويدل عليه ظاهر رواية عبيدة المنقولة من تفسير العياشي بجعل الخطاب فيها للزوجين كما قدمنا ذكره.

وأما ما ذكره في كتاب مجمع البيان من أن القول بأن البعث من السلطان ـ يعني الإمام ـ «هو الظاهر في الأخبار عن الصادقين» فلا أعرف له وجها ، وهذه

__________________

(١) فان ظاهر هذه الاخبار أن البعث موقوف على رضاهما ومن قال بأن البعث من الحاكم فإنه يجعله مستقلا لا يتوقف على مراجعتهما ، رضياهما بذلك أو لا.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٦٢٨

أخبار المسألة كملا الموجودة في الكتب الأربعة وغيرها ، وليس فيها ما يدل على ذلك إلا المرسلة المذكورة في كلام علي بن إبراهيم ، مع معارضتها بما عرفت من ظاهر موثقة سماعة ، وصريح كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي ، وظواهر تلك الأخبار المشار إليها ، اللهم إلا أن يكون قد وصلت إليه أخبار لم تصل إلينا.

وكيف كان فالظاهر أن وجه الجمع بين الأخبار المذكورة هو كون البعث من الزوجين ، فإن أخلا به بعث الحاكم كما قدمنا نقله عن المحقق في النافع ، والظاهر أنه جعله وجه جمع بين الأخبار ، ولعله إلى ذلك يشير خبر عبيدة المنقولة عن تفسير العياشي حيث أمر عليه‌السلام غيره بأن يبعث ، وهو كما عرفت محتمل لأن يكون الزوجان أو أهلهما ، ويحتمل أيضا أن يكون البعث إنما هو من الامام ، ولكن مع تعذره فالزوجان ، وهذا أنسب بالقول المشهور من أن الباعث إنما هو الامام ، لكن رواية عبيدة المذكورة منافرة لهذا الحمل.

الثالث : المشهور بين الأصحاب القائلين بأن الباعث هو الامام أن ذلك على جهة التحكيم ، لا التوكيل ، بأن يكون الامام قد نصبهما وكيلين عن الزوج والزوجة ، لأن البضع حق للزوج ، والمال حق للزوجة ، وهما بالغان رشيدان ، فلا يكون لأحد ولاية عليهما ، فلا يكونا إلا وكيلين.

واعترض عليه بأن حكم الشارع قد يجري على غير المحجور عليه كالمماطل وبإصرار الزوجين على الشقاق قد صارا ممتنعين عن قبول الحق ، فجاز الحكم عليهما.

والقول بكونه توكيلا لابن البراج في الكامل ، إلا أنه عدل عنه في المهذب ووافق المشهور ، قال في كتاب المهذب : وقد ذكرنا في كتابنا الكامل في الفقه في هذا الموضع أنه على طريق التوكيل ، والصحيح أنه على طريق التحكيم ، لأنه لو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة وبحسب شرطها ، انتهى.

وقال الشيخ في المبسوط : الذي يقتضيه مذهبنا أن ذلك حكم لأنهم رووا أن لهما الإصلاح من غير استئذان ، وليس لهما الفرقة بالطلاق وغيره إلا بعد

٦٢٩

أن يستأذناهما ، ولو كان توكيلا لكان ذلك تابعا للوكالة وبحسب شرطها ، وبه قال ابن إدريس ، والعلامة وغيرهما.

وظاهر الأصحاب الاتفاق على أنه متى كان البعث من الزوجين فلا يكون إلا توكيلا. قال في المسالك : ولو جعلنا بعثهما من الزوجين فلا شبهة في كونه توكيلا ، لأنهما ليسا من أهل التفويض في الحكم الكلي وإن كان متعلقة جزئيا.

أقول ـ وبالله الثقة لإدراك كل مأمول : إنه لا يخفى على من راجع الأخبار التي قدمناها وهي أخبار المسألة التي وصلت إلينا أنها متفقة على كون ذلك تحكيما ، سواء كان الباعث الإمام أو الزوجين ، والذي يدل على كونه تحكيما لا توكيلا مع بعث الزوجين كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) وهو مذهب الصدوقين أيضا حيث عبرا بعبارته حسبما عرفت آنفا ، فإنه عليه‌السلام ذكر أن الحكمين بعد بعث الزوجين لهما يجتمعان على فرقة أو إصلاح ، فإن اجتمعا على الإصلاح لم يحتج إلى مراجعة ، وإن اجتمعا على الفرقة فلا بد لهما أن يستأمرا الزوج والزوجة ، وهذا هو الذي دلت عليه رواية محمد بن مسلم وحسنة الحلبي فإنهما دلتا على الاستئمار في الفرقة دون الإصلاح ، ولو كان ما يدعونه من أنه إذا كان البعث من الزوجين فإنه لا يكون إلا توكيلا ـ كما سمعته من كلامه في المسالك ـ لكان الواجب في كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه أن يجعل الحكم منوطا بما يأمران به ويعينانه لهما كما في سائر أفراد الوكالة ، لا أنه يجعل ذلك مفوضا لهما ، وأظهر من ذلك أنه عليه‌السلام قد جعل كلامه تفسيرا للآية ، الصريحة في التحكيم دون الوكالة.

وبالجملة فإنه لا شك في دلالة كلامه عليه‌السلام على أنه في صورة بعث الزوجين تحكيم لا توكيل ، كما ادعوه ، وإن كان ظاهرهم الاتفاق عليه ، وقد عرفت أيضا أن ظاهر موثقة سماعة هو كون الباعث الزوجين ، وقد اعترف بذلك أيضا في المسالك ، فقال بعد إيراد الرواية : ويمكن أن يستدل بها على أن المرسل الزوجان ،

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٤٥ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١٣ ب ٨ ح ١.

٦٣٠

مع أنه لا ريب في أن ما اشتملت عليه تحكيم بلا إشكال لا توكيل.

وبالجملة فإن ما ذكره ابن البراج في الكامل من كونه توكيلا مع كون الباعث الامام ، وما ذكروه من أنه أيضا توكيل مع كون الباعث الزوجين ، لا دليل عليه سوى هذه الوجوه الاعتبارية التي لفقوها ، والأخبار كما ترى على خلافها (١).

الرابع : المفهوم من كلام الأصحاب أنه لا إشكال في أن الحكمين لو رأيا الصلح واجتمعا عليه ، فإنه لا يتوقف على الاستئذان من الزوجين ، وإنما الخلاف فيما لو رأيا الفرقة بخلع أو طلاق فهل لهما الاستقلال بذلك أم يتوقف على الاستئذان؟ قولان ، قال في المسالك بعد كلام في المقام : ثم إن رأيا الإصلاح هو الأصلح فعلاه ، وإن رأيا الأصلح لهما الفراق فهل يجوز لهما الاستبداد به فيباشر حكمه الطلاق وحكمها بذل عوض الخلع إن رأيا الخلع هو الصلاح؟ أم يختص بحكمهما بالإصلاح دون الفراق؟ قولان مرتبان على كونهما وكيلين أو حكمين ، فعلى الأول لا إشكال في وجوب مراعاة الوكالة ، فإن تناولت الفراق فعلاه وإلا فلا.

وعلى الثاني ففي جواز الفراق أيضا قولان مبنيان على أن مقتضى التحكيم على الإطلاق تسويغهما فعل ما يريانه صلاحا ، فيتناول الطلاق والبذل حيث يكون صلاحا ، وبأن أمر طلاق المكلف إلى الزوج لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) «الطلاق بيد من أخذ بالساق». وهذا هو الأشهر.

أقول : لا يخفى أن ما يكررونه في هذا المقام من احتمال التوكيل ويفرعون

__________________

(١) قال السيد السند في شرح النافع : الأقرب أن المرسل لهما ان كان هو الحاكم كان بعثهما تحكيما ، وليس لهما التفريق قطعا ، وان كان الزوجان كان توكيلا ، فيجوز لهما التصرف فيما تعلقت به الوكالة من صلح أو طلاق أو بذل صداق أو غير ذلك ، وليس لهما تجاوز عما تعلقت به الوكالة. انتهى ، وظاهر كلامهم كلها على هذا المنوال ، وفيه ما عرفت في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) في هامش الجامع الصغير ج ٢ ص ٩ عن الطبراني ط القاهرة ١٣٧٣ ه‍.

٦٣١

عليه فروعا مثل ما ذكره هنا قد عرفت ما فيه ، وليس في أخبار المسألة ما يشير إليه فضلا عن الدلالة عليه ، بل هي ظاهرة في خلافه حيث إنهم قد ادعوا أنه متى كان البعث من الزوجين فإنه لا يكون إلا توكيلا ، مع أنا بينا دلالة كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي ، ونحوه موثقة سماعة على خلافه بل هو ظاهر تلك الأخبار التي أشرنا إليه آنفا ، وبذلك يظهر لك أن ما ذكره من البناء في الخلاف ـ الأول ـ على كونهما وكيلين أو حكمين لا وجه له بالكلية ، والتحقيق إنما هو ما ذكره ثانيا من أن القولين المذكورين إنما هما على تقدير كونهما حكمين ، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار المتقدمة ، فإن بعضها قد دل على الاستئذان متى اختارا الفراق ، وبعضها قد دل بظاهره على العدم.

ومن هنا علم دليل كل من القولين ، إلا أن المفهوم منها بعد التأمل في مضامينها إنه إن شرط الحكمان على الزوجين الرضاء بكل ما فعلاه ، وقبول كل ما رأياه من فرقة أو اجتماع فإن تفريقهما جائز لا يتوقف على المراجعة متى رأيا ذلك صلاحا وإن لم يشترطا فإنه يجب عليهما الاستئذان في الفراق متى رأيا المصلحة فيه ، وعلى الأول من هذين الأمرين تدل رواية علي بن أبي حمزة (١) وموثقة سماعة (٢) ورواية أبي بصير (٣) فإنهما قد اشتركت في أنه متى وقع الاشتراط كان ما فعلاه من أي الأمرين جائزا وإن لم يحصل الاستئذان ، ألا ترى أنه في موثقة سماعة لم يستثن بعد الاشتراط إلا كونها على طهر لو أراد الطلاق أو الخلع ، وأظهر من ذلك مرسلة فضالة المنقولة في آخر كلام العياشي ، وقوله فيها «فإن رضيا وقلداهما الفراق ففرقا فهو جائز».

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٥ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٠ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ٤ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٤ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٣ ح ١.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٢ ح ٢.

٦٣٢

وعلى الثاني تدل رواية محمد بن مسلم (١) وصدر حسنة الحلبي (٢) ورواية زيد الشحام المنقولة من تفسير العياشي (٣) ، وعبارة كتاب الفقه الرضوي (٤) والظاهر أن حسنة الحلبي قد جمعت الأمرين باعتبار صدرها وعجزها ، وأن العطف بالواو في قوله «وإن يشترطا» وقع سهوا من النساخ ، وإنما هو «بأو» المخيرة ، ويكون حاصل المعنى أنه ليس لهما أن يفرقا حتى يستأمرا ، أو أنهما يشترطان إن شاءا جمعا وإن شاءا فرقا ، فلا يتوقف التفريق على الاستئذان ، بل إن جمعا فجائز وإن فرقا فجائز ، وعلى تقدير العطف بالواو كما هو الموجود فيما حضرني من نسخ الخبر لا يخلو معنى الخبر من إشكال ، لما عرفت من الأخبار الأخر.

وبما ذكرنا يظهر أنه لا معنى للخلاف المذكور ، بل الحكم هو ما صرحت به هذه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه وعليه تجتمع الأخبار.

وأما ما علله في المسالك من بناء القولين المذكورين على ما ذكره من العلتين فكلام قشري ناش عن عدم تتبع الأخبار والتأمل فيما دلت عليه.

أما ما ذكره من تعليل جواز الفراق بغير استئذان بأن مقتضى التحكيم على الإطلاق تسويغها ، ففيه إن جملة من الأخبار قد صرحت بوجوب الاستئذان مع إرادة الفراق ، وحينئذ فيجب تقييد هذا الإطلاق بها فلا معنى للاستدلال به.

وأما ما ذكره من تعليل عدم الجواز بأن الطلاق بيد الزوج للخبر النبوي ، ففيه أنه لا عام إلا وقد خص ، على أن ما نحن فيه لا ينافي الخبر حقيقة لأن الطلاق إنما وقع عن إذنه ، حيث إنه جعل اختياره إلى من حكمه ، وقد شرط

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٧ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٦ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٣ ح ٢٩ وفيهما «ان شئنا جمعنا وان إلخ» ، الفقيه ج ٣ ص ٣٣٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٩ ح ١.

(٣) العياشي ج ١ ص ٢٤١ ح ١٢٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٣ ح ٣.

(٤) فقه الرضا ص ٢٤٥ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١٣ ب ٨ ح ١.

٦٣٣

عليه الحكم الذي عينه قبول الفراق إن رأيا المصلحة فيه فرضي وقبل بذلك كما أشارت إليه الأخبار المتقدمة سيما مرسلة فضالة.

وبالجملة فإن الظاهر عندي من الأخبار هو ما ذكرته (١) وافق كلامهم أو خالفه.

الخامس : المشهور بينهم أنه لا يتعين كون الحكمين من أهل الزوجين ، بأن يكون المبعوث من قبل الزوج من أهله والمبعوث من قبل الزوجة من أهلها ، وهو قول الشيخ في المبسوط وابن البراج وتبعهما الأكثر ، وإن دل ظاهر الآية على ذلك ، لحصول الغرض بهما وإن كانا أجنبيين ، وأجابوا عن الآية بأنها مسوقة للإرشاد ، فلا يدل الأمر فيها على الوجوب ، بل هي من قبيل «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ» (٢).

__________________

(١) أقول : ما اخترناه نقله في المختلف عن ابن حمزة ، قال : المشهور أنه ليس للحكمين التفريق إلا بإذن الزوجين ، وقال ابن حمزة يبعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها لتدبير الأمر ، فإن جعل إليهما الإصلاح والطلاق أنفذا ما رأياه صلاحا من غير مراجعة ، وأن لهما القول وحضر كل الزوجين ولم يكن أحدهما مغلوبا على عقله ، وان كان ما رأياهما الإصلاح أصلحا من غير مراجعة ، فان رأيا التفريق بينهما بطلاق أو خلع لم يمضيا الا بعد المراجعة ، فإن رضيا فذاك وان أبيا ألزمهما الحاكم القيام بالواجب.

لنا ما رواه الحلبي في الخبر ، ثم أورد حسنة الحلبي ثم قال : احتج ابن حمزة بما رواه سماعة ، ثم ذكر موثقة سماعة ، ثم أجاب عنها بمنع صحة السند.

أقول : قد عرفت أن المفهوم من الاخبار أن الوجه في عدم الاستئذان في الفراق انما هو من حيث اشتراط الحكمين على الزوجين الرضا بكل ما حكما به ، وقبول الزوجين ذلك ، لا من حيث إطلاق أمر الإمام لهما كما ذكره ابن حمزة ، وبالجملة فإن كلامهم في المقام على غاية من البعد عن ظواهر الاخبار كما أوضحناه في الأصل. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) سورة البقرة ـ آية ٢٨٢.

٦٣٤

وقيل : بوجوب كونهما من أهلهما ، وقوفا على ظاهر الآية ، وهو مذهب ابن إدريس ، وقواه العلامة في المختلف فلا يتحقق الامتثال بدونه ، وأيد بأن الأهل أعرف بالمصلحة من الأجانب.

أقول : لا يخفى أن المسألة لا تخلو من نوع إشكال ، والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.

ويمكن تأييد القول الثاني بأن المأمور به وجوبا أو استحبابا إنما هو من كان من الأهل ، فإجزاء غيره يتوقف على دليل ، ومجرد ما ذكر من الاحتمال لا ينهض قوة بالاستدلال ، وإلى ما ذكرنا يميل كلام السيد السند في شرح النافع حيث قال : وهل يجوز كونه أجنبيا؟ قيل : نعم ، وبه قطع المصنف في الشرائع لحصول الغرض بهما.

وقيل : يعتبر كونهما من أهلها لدلالة الآية عليه ، ولأن الأهل أعرف بالمصلحة من الأجانب ، وهو جيد خصوصا بعد حمل الأمر على الوجوب ، ثم نقل عن جده في المسالك أنه قال : ولو تعذر الأهل فلا كلام في جواز الأجانب ، ثم قال : وقد يناقش فيه بعد تعلق الأمر بذلك ، انتهى وهو جيد.

السادس : قد وقع الخلاف أيضا في أن بعث الحكمين هل هو واجب أو مستحب؟ فقيل بالأول نظرا إلى ظاهر الأمر في الآية الذي هو حقيقة في الوجوب. وقيل بالثاني نظرا إلى أن الغرض منه مصلحة دنيوية فيكون الأمر للإرشاد كما في قوله «وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ».

أقول : يمكن أن يستدل على الوجوب بما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى من أن الامام يجبر المتخلف عن حكم الحكمين بعد التحكيم على القبول ، ويعاقبه ، فإنه لو كان البعث مستحبا لما حسن ترتب هذا التكليف عليه.

وربما علل الوجوب بأن الظاهر من حال الشقاق وقوع الزوجين أو أحدهما في المحرم فيجب تخليصهما منه حسبة ، وعلل العدم بإمكان الإصلاح

٦٣٥

بدون ذلك فلا يكون واجبا ، وإن كان راجحا نظرا إلى ظاهر الآية ، وفي الأول منهما نظر (١).

قال في المسالك : والوجه ـ بناء على أن البعث من وظائف الحاكم ـ الوجوب ، ولو جعلنا متعلق الأمر الزوجين فالاستحباب أوجه ، لإمكان رجوعهما إلى الحق بدون الحكمين. نعم لو توقف الرجوع إلى الحق عليهما وجب بعثهما مطلقا من باب المقدمة ، انتهى.

السابع : المفهوم من خبر عبيدة المنقول عن العياشي (٢) وكذا الخبر المرسل المنقول في كلام الشيخ الجليل علي بن إبراهيم (٣) أن الامام يجبر الزوجين على الرضا بما حكم به الحكمان ، أعم من أن يكونا مبعوثين من الامام أو الزوجين.

أما الأول فلأنه لما رضيت المرأة بما حكم به الحكمان لها أو عليها يعني من اجتماع أو فرقة ، وامتنع الزوج من الرضاء بالفراق فقال له عليه‌السلام : لا تبرح حتى تقر بما أقرت به ، أي ترضى بما رضيت به ، وظاهره الحبس حتى يرضى بذلك.

وأما الثاني فإنه لما علم عليه‌السلام الحكمين الحكم بأنكما إن شئتما فرقتما وإن شئتما اجتمعا ، امتنع الزوج من الحكم بالفراق فأوجب عليه نفقتها ، ومنعه الدخول عليها وأنه إن مات الزوج على تلك الحال ورثته المرأة ، وإن ماتت لم يرثها ، وهكذا لو كان الامتناع من جهة المرأة وهو ظاهر في أن الحكم الشرعي فيما لو امتنع أحدهما هو حصول الفرقة من جانب الممتنع بحيث إنه لا يرث من صاحبه لو مات ، وصاحبه يرثه ، ولم أقف على ذلك في غير الكتاب المذكور والشيخ المذكور من الثقات المعتمدين ، وكتابه مشهور معمول عليه ، ومن الأصول

__________________

(١) وجه النظر أن الوجوب انما يترتب على تحقق الوقوع في المحرم لا على خوف الوقوع فيه ، لإمكان عدم الوقوع كما في الثاني. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ٢٤١ ح ١٢٧.

(٣) تفسير على بن إبراهيم ج ١ ص ١٣٧ وفيه «جمعتما».

٦٣٦

المعتمدة ، وهو ظاهر في كون ذلك مذهبه في هذه المسألة ، ولم أقف في كلام أحد من الأصحاب على من تعرض للكلام في هذه الصورة إلا ما يظهر من كلام ابن الجنيد حيث أوجب على الزوجين إنفاذ ما حكم به الحكمان من فرقة أو اجتماع من غير استئذان متى اشترط الحكمان عليهما ذلك ، فإنه يشعر بأنه مع إخلال أحدهما بهذا الواجب فعلى الامام أن يجبره على القيام به ، بل صرح بذلك في كلامه كما سيأتي نقله إن شاء الله تعالى قريبا.

والعجب أنه مع حرص أصحابنا على نقل الأقوال وبيان الخلاف في جميع المسائل كيف غفلوا عن نقل ذلك والتنبيه عليه وبيان ما فيه من صحة أو بطلان ، مع أن الشيخ المذكور من أساطين الفرقة الناجية ، وكتابه مشهور متداول بينهم ، ومثل ذلك أيضا ما اشتمل عليه صدر كلامه الذي جعله تفسيرا للآية فإنه لا خلاف بين الأصحاب في أن الشقاق عبارة عن النشوز من كل من الزوجين عن الآخر والبغض من كل منهما لصاحبه ، وهو صريح كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه (١) كما قدمناه ، وهذا الكلام الذي ذكره ـ رحمه‌الله ـ يرجع إلى أن النشوز إنما هو من أحدهما ، وأيضا مقتضى ما دلت عليه الأخبار وصرح به الأصحاب أن الحكمين بعد أن يجتمعا ويتفقا على الحكم فهو إما صلح وجمع بينهما ، وإما فرقة وطلاق ، وظاهر كلامه ـ رحمة الله عليه ـ هنا أنه بعد اجتماعهما وظهور الناشز منهما وأنه الزوج أو الزوجة فإنهما ينكران على الناشز منهما ، وأن الحكم الشرعي فيه إن كان الناشز هو الزوج أن تجب عليه النفقة وحقوق الزوجية ولا يمكن من المرأة ، وإن كانت الزوجة فإنها لا تستحق عليه نفقة ولا يجب لها شي‌ء من الحقوق ، وأيد ذلك بما رواه عن علي عليه‌السلام كما قدمنا إيضاحه ، ومن ذلك تفسيره الهجر في المضاجع بالسب كما قدمنا ذكره.

وبالجملة فإن جميع ما ذكره في هذا المقام من الأحكام الغريبة التي لم نقف

__________________

(١) فقه الرضا ص ٢٤٥ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١٣ ب ٨ ح ١.

٦٣٧

عليها في كلام غيره ، والشيخ المذكور كما عرفت على غاية من الجلالة وهو من أرباب النصوص ومن معاصري الأئمة عليهم‌السلام ومن الظاهر أنه لا يفتي بذلك إلا عن خبر وصل إليه.

الثامن : قال ابن الجنيد على ما نقله العلامة في المختلف عنه : وإن كان النشوز منهما ولم يرجعا بالوعظ من الوالي ولا الذي يتحاكمان إليه أمر الرجل بأن يختار من أهله من لا يتهم على المرأة ولا عليه ، وكذلك تؤمر المرأة بأن تختار من أهلها ويشترط الوالي أو المرتضي بحكمه على الزوجين أن للمختارين جميعا أن يفرقا بينهما أو يجمعا إن رأيا ذلك صوابا ، وكذلك إن رأيا إيقاع شروط بينهما لا يردها كتاب ولا سنة ولا إجماع ، وعلى كل واحد من الزوجين إنفاذ ذلك والرضاء به ، وأنهما قد وكلاهما في ذلك ، ومهما فعلاه فهو جائز عليهما ، ثم يخلو كل واحد من المختارين بصاحبه ، فيعلم ذات نفسه ويشير عليه بالصواب ثم يجتمعان فيحكمان ، وعلى الوالي إن كان التحاكم إلى غيره أن يأخذ الزوجين بالعمل بذلك ، إلا أن يكون المختاران أو أحدهما قد تجاوز شيئا رسماه أو رسمه صاحبه له.

قال العلامة بعد نقله : وهذا الكلام يعطي أنه توكيل ، وأن لها أن يفرقا.

أقول : الظاهر أن قوله «وأنهما وكلاهما في ذلك» إنما خرج مخرج التجوز بمعنى أنه في حكم الوكالة ، وإلا فصدر الكلام ظاهر بل صريح في أنه تحكيم ، ثم إن في هذا الكلام دلالة على ما قدمنا ذكره في وجه الجمع بين أخبار المسألة ، من أنه متى شرط الحكمان على الزوجين الرضاء بما حكما به ، فلهما أن يفرقا بينهما من غير استئذان ، وهو جيد كما عرفت ، وإن كان خلاف المشهور بينهم ، وأما قوله «وكذلك إن رأيا إيقاع شروط بينهما لا يردها كتاب ولا سنة» فهو مما صرح به غيره أيضا ، كما إذا شرطا على الزوج أن يسكنها في البلد الفلاني ، أو المسكن الفلاني ، أو لا يسكن معها ضرة في دار واحدة أو

٦٣٨

نحو ذلك ، أو شرطا على الزوجة أن يؤجل عليه الحال من المهر إلى أجل ، أو ترد عليه ما قبضته منه قرضا أو نحو ذلك ، لعموم الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بالشروط ، ويلزم الزوج والزوجة القيام بذلك حسبما اشترطا عليهما أولا.

وأما الشروط المخالفة للمشروع كعدم التزويج والتسري ونحو ذلك مما تقدم الكلام فيه ، أو ترك بعض حقوقها من القسم أو النفقة أو المهر أو نحو ذلك ، فهو غير لازم إجماعا.

وأما قوله «ثم يخلو كل واحد. إلى آخره» فإن ظاهر الأصحاب أن هذا من مستحبات التحكيم.

قال في المسالك : وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة خلوة غير محرمة ليعرفا ما عندهما ، وما فيه رغبتهما وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما على الآخر ليتمكنا من الرأي الصواب. انتهى ، والظاهر أن الأصل في ذلك ما قدمنا نقله عن الثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره.

التاسع : من المستحبات عندهم أيضا في هذا المقام ما ذكره شيخنا في المسالك : قال : وينبغي للحكمين إخلاص النية في السعي وقصد الإصلاح ، فمن حسنت نيته فيما يتحراه أصلح الله مسعاه ، وكان ذلك سببا لحصول مبتغاه كما ينبه عليه قوله تعالى «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما» (١) ومفهوم الشرط أن عدم التوفيق بين الزوجين يدل على فساد قصد الحكمين ، وأنهما لم يجتمعا على قصد الاصطلاح بل في نية أحدهما أو هما فساد ، فلذا لم يبلغا المراد ، انتهى.

أقول : ومما يزيد ما ذكره تأييدا ويعليه تشييدا ما رواه الصدوق في الفقيه في هذا الباب عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم (٢) أنه تناظر هو وبعض المخالفين في الحكمين بصفين عمرو بن العاص وأبي موسى الأشعري ، فقال المخالف : إن الحكمين لقبولهما الحكم كانا مريدين الإصلاح بين الطائفتين ، فقال هشام ، بل

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٣٥.

(٢) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٨ ح ٢.

٦٣٩

كانا غير مريدين للإصلاح بينهما ، قال المخالف : من أين قلت هذا؟ قال هشام : من قول الله في الحكمين «إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما». فلما اختلفا ولم يكن اتفاق على أمر واحد ولم يوفق الله بينهما ، علمنا أنهما لم يريدا الإصلاح.

العاشر : لو غاب الزوجان أو أحدهما بعد بعث الحكمين فهل ينفذ حكمهما أم لا؟ صرح الشيخ في المبسوط بالثاني ، فقال : لا يجوز الحكم مع غيبة أحدهما لأن الحكم حينئذ مشروط ببقاء الشقاق والخصومة بينهما ، ومع الغيبة لا يعرف بقاء ذلك ، ولأن كل واحد منهما محكوم له وعليه ، ولا يجوز القضاء للغائب وإنما يجوز عليه.

وجوز المحقق والمتأخرون الحكم مع الغيبة ، لأنه مقصور على الإصلاح وهو غير متوقف على الحضور ، وأجابوا عن دليل الشيخ بأن الأصل بقاء الشقاق استصحابا لما كان قبل الغيبة.

قال في المسالك : وفيه نظر ، لجواز أن يشمل الحكم مع الإصلاح على شرط لأحدهما ، فيكون حكما للغائب وإن حصل معه الإصلاح.

أقول : لا يخفى أن كلام المجوزين مبني على ما تقدم نقله عنهم من أنه لا يجوز للحكمين الحكم بالفرقة إلا بعد الاستئذان ، فلذا خصوا الجواز بالإصلاح.

والتحقيق أنك قد عرفت أن أخبار المسألة قد خرجت على نوعين (أحدهما) ما إذا اشترط الحكمان على الزوجين قبول ما يحكمان به ، وأنه ليس في هذه الصورة مراجعة ، لا في فرقة ولا إصلاح ، كما دلت عليه الأخبار المذكورة ، وقضية ذلك جواز الحكم مع الغيبة ، لأنه بالاشتراط عليهما وقبولهما الشرط لزم قبولهما لما يحكمان به ، حضرا أو غابا كما اعترفوا به في صورة الإصلاح ، اشتمل الحكم على شروط أو لم يشتمل ، والفرق بين الحكم له وعليه لا أعرف له دليلا واضحا ، فإن قضية التحكيم قبول ما يحكم به الحكمان كيف كان ، وبأي صورة كان ، هذا مقتضى ظاهر الأخبار المذكورة.

٦٤٠