الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

والمستند في ذلك ما رواه في الكافي (١) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : هل للرجل أن يتزوج النصرانية على المسلمة والأمة على الحرة؟ فقال : لا يتزوج واحدة منهما على المسلمة ، ويتزوج المسلمة على الأمة والنصرانية ، وللمسلمة الثلثان ، وللأمة والنصرانية الثلث».

وبذلك يظهر ما في كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك من إنكار النص في هذه المسألة حيث قال : مساواة الحرة الكتابية للأمة في القسمة لا نص عليه ظاهرا ، لكنه مشهور بين الأصحاب ، وذكر ابن إدريس أنه مروي ، وربما استدل له باقتضاء الإسلام أن يعلو على غيره ، ولا يعلى عليه ، فلو ساوت المسلمة لزم عدم العلو ، وفيه نظر ، لأن مثل ذلك لا يقاوم الأدلة العامة المتناولة لها إلى آخره.

والعجب أيضا من سبطه السيد السند في شرح النافع حيث قال ـ بعد أن أورد الرواية المذكورة مستندا للحكم المذكور ـ ما لفظه : وسندها معتبر إذ ليس فيه من يتوقف في حاله سوى عبد الله بن محمد بن عيسى الأشعري ، فإنه غير موثق ، لكن كثيرا ما يصف الأصحاب روايته بالصحة ، مع أن عدم ظهور الخلاف في المسألة كاف في إثبات هذا الحكم ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما فيه على الفطن النبيه من الوهن والتستر بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت ، ولكن هذا عادة أصحاب هذا الاصطلاح المحدث إذا ضاق عليهم الخناق واضطروا إلى العمل بالرواية الضعيفة باصطلاحهم لستروا بأمثال هذه الأعذار السخيفة ، وهو أظهر دليل على ضعف اصطلاحهم كما تقدم تحقيقه في غير موضع.

وكذا قوله «مع أن عدم ظهور الخلاف في المسألة كاف في إثبات الحكم» فإن فيه أن غاية ما يستندون إليه مع فقد النصف بالإجماع ، وهو هنا مما لم يدعه أحد ، ومجرد عدم ظهور الخلاف لا يدل على العدم ، والأحكام الشرعية مطلوب فيها وجود الأدلة الشرعية ، وإلا كان قولا على الله بغير علم ، فيدخل قائله تحت

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٥٩ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤١٩ ح ٣.

٦٠١

ذم الآيات والروايات المتضمنة لذلك.

وبالجملة فإن كلامه ـ رحمة الله عليه ـ هنا بمحمل من الضعف والقصور.

قالوا : ولو كانت الزوجة أمة كتابية ، فالظاهر أنها تستحق من القسم نصف ما تستحقه الأمة المسلمة فيكون لها مع الحرة المسلمة ربع القسمة ، فتصير القسمة من ستة عشر ليلة للأمة الكتابية منها ليلة ، وللحرة المسلمة أربع ، والباقي للزوج ، حيث لا يكون له غيرهما ، ولا يخفى أن اجتماع المختلفات يتشعب إلى صور كثيرة تعرف أحكامها بالمقايسة إلى ما ذكرناه.

الثامن : المشهور بين الأصحاب أن البكر تختص عند الدخول بسبع ، والثيب بثلاث ، وبه صرح المحقق في الشرائع ، وقال في النافع : وتختص البكر عند الدخول بثلاث إلى سبع ، والثيب بثلاث. ونقل عن الشيخ في النهاية وكتابي الأخبار أن اختصاص البكر بالسبع على وجه الاستحباب ، وأما الواجب لها ثلاث ، والظاهر أن عبارة النافع مبنية على هذا القول.

وقال ابن الجنيد : إذا دخل ببكر وعنده ثيب واحدة فله أن يقيم عند البكر أول ما يدخل بها سبعا ثم يقسم ، وإن كان عنده ثلاث ثيب أقام عند البكر ثلاثا حق الدخول ، فإن شاء أن يسلفها من يوم إلى أربعة تتمة سبعة ويقيم عند كل واحدة من نسائه مثل ذلك ثم يقسم لهن جاز ، والثيب إذا تزوجها فله أن يقيم عندها ثلاثا حق الدخول ، ثم يقسم لها ولمن عنده واحدة كانت أو ثلاثا قسمة متساوية ، انتهى.

والأصل في ذلك الأخبار وباختلافها ، اختلفت هذه الأقوال في مقام الجمع بينها ، فالواجب أولا نقل ما وصل إلينا من أخبار المسألة ، ثم الكلام بما وفق سبحانه لفهمه منها ببركة أهل الذكر عليهم‌السلام.

فمنها ما رواه في الكافي (١) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٦٥ ح ٤٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٢ ح ٤.

٦٠٢

«في الرجل تكون عنده المرأة فيتزوج اخرى ، كم يجعل للتي يدخل بها؟ قال : ثلاثة أيام ، ثم يقسم». وهذه الرواية كما ترى مطلقة ، وليس فيها دلالة على خصوص شي‌ء من الفردين اللذين هما محل البحث.

وما رواه في الكافي (١) عن هشام بن سالم في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يتزوج البكر ، قال : يقيم عندها سبعة أيام».

وما رواه الشيخ في التهذيب (٢) عن الحضرمي عن محمد بن مسلم قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : رجل تزوج امرأة وعنده امرأة؟ فقال : إن كانت بكرا فيلبت عندها سبعا ، وإن كانت ثيبا فثلاثا».

وعن ابن أبي عمير عن غير واحد عن محمد بن مسلم (٣) قال : «قلت : الرجل يكون عنده المرأة يتزوج الأخرى ، أله أن يفضلها؟ قال : نعم ، إن كانت بكرا فسبعة أيام ، وإن كانت ثيبا فثلاثة أيام». وهذه الرواية رواها الصدوق في كتابه عن ابن أبي عمير ، وطريقه اليه صحيح ، فتكون الرواية صحيحة ، ولا يضر الإرسال إن لم يكن مؤكدا للصحة ، لأن الرواية عن غير واحد مما يؤذن بالاستفاضة ، وهي أظهر في الصحة عن الرواية عن الثقة المتحد ، وهذه روايات السبع.

وما رواه الشيخ في التهذيب (٤) عن الحسن بن زياد عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قد تقدم قريبا ، قال فيه : «قلت : فيكون عنده المرأة فيتزوج جارية بكرا؟ قال : فليفضلها حين يدخل بها بثلاث ليال» الخبر.

وعن سماعة (٥) في الموثق قال : «سألته عن رجل كانت له امرأة فيتزوج عليها ، هل يحل له أن يفضل واحدة على الأخرى؟ قال : يفضل للمحدثة حدثان

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٦٥ ح ٣٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٢ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٢ ح ٥.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٠ ح ٤ بتفاوت في السند والمتن ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٩ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨١ ح ١.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ٤١٠ ح ١ و ٢، الوسائل ج ١٥ ص ٨٢ ح ٧ و ٨.

٦٠٣

عرسها بثلاثة أيام إذا كانت بكرا ثم يسوي بينهما بطيبة نفس إحداهما للأخرى».

وعن الحلبي (١) في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث تقدم ، قال فيه :

«وقال : إذا تزوج الرجل بكرا وعنده ثيب فله أن يفضل البكر ثلاثة أيام». وهذه الروايات الثلاث.

هذا ما وقفت عليه من الأخبار في المسألة ، والشيخ قد جمع بينها بحمل أخبار السبع على الجواز ، والثلاث على الأفضل ، قال : لأن الأفضل أن لا يفضل البكر أكثر من ثلاث ليال عندنا في عرسها.

أقول : ظاهر حسنة محمد بن مسلم وجوب السبع للبكر والثلاث للثيب ، لقوله فيها «فليبت» وهو أمر باللام ، إلا أنه يعارضها في ذلك لفظ الأمر أيضا بالتفضيل بثلاث في رواية الحسن بن زياد ، والظاهر أنه لا مندوحة عما ذكره الشيخ من الجمع المذكور ، وأن البكر أكثر ما تفضل به السبع ، وأقله الثلاث ، والثيب بالثلاث خاصة.

إنما يبقى الكلام في الوجوب ، وأكثر أخبار المسألة ظاهر في الجواز مثل قوله «وله أن يفضل» ويحمل الأمر في الروايتين اللتين ذكرناهما على على الاستحباب ، وأن أقل مراتبه الثلاث وأكثرها السبع ، ولم أقف على مصرح بالوجوب صريحا في كلامهم.

بقي الكلام هنا في مواضع : الأول : ظاهر النص والفتوى أنه لا فرق في الزوجة بين الحرة والأمة ، ولا في الثيب بين من ذهب بكارتها بجماع أو غيره ، ونقل عن العلامة في النهاية أنه استقرب تخصيص الأمة بنصف ما تختص به ، لو كانت حرة ورجح في القواعد المساواة ، والروايات كما ترى مطلقة.

الثاني ، قال في المسالك : يجب التوالي في الثلاث والسبع ، لأن الغرض لا يتم إلا به ، ويتحقق بعدم خروجه في الليل إلى عنده واحدة من نسائه مطلقا

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٠ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٢ ح ٦.

٦٠٤

على حد ما يعتبر في القسمة ، ولا إلى غيرها لغير ضرورة أو طاعة كصلاة جماعة ونحوها مما لا يطول زمانه ، وإن كان طاعة لأن المقام عندها واجب فهو أفضل من المندوب.

أقول : ظاهر هذا الكلام وجوب السبع والثلاث ، وهو مشكل لعدم الدليل الواضح عليه من الأخبار ، وجملة منها إنما دلت على أن له أن يفضل ، وظاهر هذه العبارة إنما هو الجواز ، وأما بعض الأخبار الدالة على ذلك بلفظ الأمر فقد عرفت ما فيه من تعارض الخبرين بالثلاثة في أحدهما والسبعة في الآخر ، ولا طريق في الجمع بينهما إلا بحمل الأمر على الاستحباب والترتيب فيه بمعنى أن أقل أفراد الفضل ثلاثة وأكثرها سبعة.

وبالجملة فالقول بالوجوب يحتاج إلى دليل من النصوص واضح الدلالة صريح المقالة ، وظاهر كلامه أن مستنده في الوجوب إنما هو الغرض المترتب على ذلك ، وهو إشارة منه إلى ما قدمه في صدر البحث حيث قال ـ بعد ذكر تخصيص البكر بسبع ، والثيب بثلاث ـ ما لفظه : والمقصود منه أن ترتفع الحشمة وتحصل الألفة والانس ، وخصت البكر بزيادة ، لأن حياءها أكثر. انتهى ، وفيه أن هذه العلة غير منصوصة بل هي مستنبطة فلا يكون حجة.

وبالجملة فإني لا أعرف على الوجوب دليلا واضحا ، وأصالة براءة الذمة أقوى متمسك حتى يقوم دليل واضح على ما يوجب شغلها. نعم ما ذكره من من التوالي هو المتبادر من ظواهر الأخبار المذكورة ، وأما كونه على جهة الوجوب فغير واضح.

ووجه استفادة التوالي منها كما ذكرنا هو قوله عليه‌السلام في رواية عبد الرحمن ابن أبي عبد الله «ثلاثة أيام ثم يقسم». وفي موثقة سماعة «ثلاثة أيام ثم يسوي بينهما». فإن ظاهرهما هو توالي الثلاثة ثم القسمة الشرعية بعد ذلك ، على أنهم صرحوا في مسألة ثلاثة أيام التي هي أقل الحيض وعشرة أيام الإقامة بأن المتبادر

٦٠٥

من ذلك هو التوالي ، والظاهر أنه هنا كذلك.

ويعضده أن التوالي هو المعمول عليه في جميع الأعصار والأمصار من زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى يومنا هذا ، وإطلاق الأخبار إنما يحمل على الأفراد المتعارفة المتكررة دون الفروض النادرة التي ربما لا توجد ، وإنما تذكر فرضا كما هنا.

الثالث : روى الصدوق في كتاب علل الشرائع (١) عن محمد بن الحسن عن الصفار عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن الحسين بن علوان عن الأعمش عن عباية الأسدي عن عبد الله بن عباس في حديث «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تزوج زينب بنت جحش فأولم وأطعم الناس ـ إلى أن قال : ولبث سبعة أيام بلياليهن عند زينب ثم تحول إلى بيت أم سلمة وكان ليلتها وصبيحة يومها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله».

أقول : ما دل عليه هذا الخبر من إقامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبعة أيام عند زينب مع كونها ثيبا ، ظاهر المخالفة لما تقدم من الأخبار المتفقة على أن الثيب ليس لها إلا ثلاثة أيام ، والأخبار إنما اختلفت في البكر دون الثيب ، إلا أن الخبر سنده غير نقي كما عرفت ، فإن صح وجب قصره على مورده وتخصيصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وأن مورد تلك الأخبار ما عداه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظاهر الخبر المذكور أن الدخول بزينب كان في ليلة أم سلمة ، وهي حقها من القسم ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد إقامة السبعة عند زينب تحول إلى بيت أم سلمة حيث كان الدخول بزينب في ليلتها ، والظاهر أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استمر على القسم بعد ذلك كما كان أولا.

وظاهره في المسالك أنه لو كان التزويج في أثناء القسم ظلم على من بقي بتأخير حقها بعد حضوره ، وأنه يجب التخلص بما ذكره في سابق هذا الكلام ، مما لا أعرف له وجه استقامة في المقام ، فليراجع إليه من أحب الوقوف عليه.

الرابع : ظاهر أكثر الأصحاب أنه لا فرق هنا في الزوجة بين الأمة والحرة عملا بعموم الأدلة.

__________________

(١) علل الشرائع ص ٦٥ ط النجف الأشرف ، الوسائل ج ١٥ ص ٨١ ح ٢.

٦٠٦

ونقل عن العلامة في التحرير أنه استقرب تخصيص الأمة بنصف ما يختص به لو كانت حرة كالقسم في دوام النكاح ، فكما أنها في القسم إنما لها نصف الحرة فكذا هنا ، وفي القواعد رجح المساواة.

ثم إنه على القول بالتشطير كما قربه في التحرير ففي كيفيته وجهان :

(أحدهما) أن يكمل المنكسر فيثبت للبكر أربع ليال ، وللثيب ليلتان.

و (ثانيهما) ـ وهو أصحهما على ما ذكره في المسالك ـ أن للبكر ثلاث ليال ونصفا ، وللثيب ليلة ونصفا ، قال : لأن المدة قابلة للتنصيف ، فيخرج عند انتصاف الليل إلى بيت منفردا ومتحدا ، ثم قال : وتعتبر الحرية والرقية بحال الزفاف ، فلو نكحها وهي أمة ، وزفت إليه وهي حرة فلها حق الحرائر ، انتهى.

التاسع : المفهوم من كلام جملة من الأصحاب سقوط القسمة بالسفر ، بمعنى أنه متى أراد سفرا وأحب أن يصحب بعض نسائه دون بعض فإن له ذلك ، ولا يجب عليه القضاء لمن خلفهن بعد الرجوع.

واحتجوا على ذلك بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفعل ذلك ، ولم ينقل عنه القضاء ، ولو وقع لنقل ، وقيد بعضهم عدم القضاء بما إذا صحب من أراده بالقرعة ، ولو صحبها بمجرد الميل القلبي قضى ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يخرج معه واحدة إلا بالقرعة ، ولهذا أنه لم يقض ، وصحبتها دون غيرها بمجرد الميل القلبي من غير قرعة لا يخلو من الظلم لغيرها والميل على الباقين ، ومن أطلق نظر إلى أن السفر لا حق للنساء فيه ، ومن ثم جاز انفراده به.

وأورد عليه بالفرق بين الأمرين ، فإن جواز ذلك له منفردا لا يستلزم جواز صحبة من أراد بمجرد الميل إليها.

ثم إنه مع الإطلاق أو التقييد بالقرعة هل يعم الحكم لكل سفر النقلة والإقامة كإرادة الانتقال إلى بلد والتوطن فيها ، وسفر الغيبة الذي يريد الرجوع بعد قضاء غرضه إلى بلده كسفره للتجارة ونحوها؟ قولان :

٦٠٧

(أحدهما) العموم ، معللا بأن السفر لا حق لهن فيه ، ولا مزية لسفر على سفر ، ولأن الاشتغال بمشقة السفر وعناية يمنع من حقوق القسمة وخلوص الصحبة ، والتفرد بالخلوة التي هي غاية القسمة.

و (ثانيهما) الاختصاص بسفر الغيبة فيقضى في سفر النقلة ، قالوا : والفرق بينهما أن سفر النقلة لا يختص ببعضهن ، بل يحتاج إلى نقلهن جميعا ، فلا يخصص واحدة بالاستصحاب كما في الحضر ، فإن صحب بعضهن قضى للباقين ، بخلاف السفر الآخر ، إذ لا حق لهن فيه.

قالوا : وفي حكم سفر النقلة الإقامة في سفر الغيبة بحيث يخرج عن اسم المسافر بالتمام أو ما في معناه : لأنه بالإقامة على ذلك الوجه يصير كالحاضر في التمتع بالزوجة ، والخروج عن مشقة السفر.

أقول : ولم أقف بعد التتبع على نص في هذا المقام بحيث يمكن الرجوع إليه في استنباط شي‌ء من هذه الأحكام. نعم من المشهورات الذايعات بين الخاصة والعامة صحبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبعض نسائه في السفر ، وأن ذلك بالقرعة ، حتى أن أبا حنيفة ـ فيما نقله عنه العامة والخاصة ـ قد رد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مواضع منها هذا الموضع ، فقال : إنه كان يصحب بعض نسائه بالقرعة ، والقرعة عندي قمار ، والظاهر أن جميع ما ذكره الأصحاب هنا تبعا للشيخ في المبسوط وغيره إنما هو من تفريعات العامة على ما عرفت في غير مقام مما تقدم ، والاعتماد في تأسيس الأحكام على مجرد هذه التعليلات العقلية لا يوافق أصول مذهبنا المبنية على الكتاب والسنة ، وأن ما عداهما مما تكاثرت الآيات والأخبار بالمنع من الاعتماد عليه والرجوع في الأحكام الشرعية إليه ، والواجب الرجوع فيما لم ترد به النصوص إلى الاحتياط والوقوف فيه على سواء ذلك الصراط كما وردت به أخبارهم عليهم‌السلام.

العاشر : من المستحبات عند الأصحاب في هذا المقام أن يقرع بينهن إذا

٦٠٨

أراد أن يصحب بعضهن في السفر معه تأسيا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنه كان يقرع بينهن لذلك كما تقدم ، وكيفية القرعة هنا أن يكتب أسماء النسوة في رقاع بعددهن ، ويدرجها في بنادق متساوية ، ويضعها على وجه لا يتميز ويخرج منها واحدة على السفر ، فمن خرج منها صحبها ، وإن أراد استصحاب اثنتين معه أخرج رقعة أخرى ، وهكذا. وإن شاء أثبت الحضر في ثلاث رقاع والسفر في واحدة وأدرجها ثم يخرج رقعة على اسم واحدة فإن خرجت رقعة السفر صحبها ، وإن خرجت من رقاع الحضر أخرج رقعة أخرى على اسم اخرى. وهكذا حتى يبقى رقعة السفر ، فيتعين المتخلفة ، وإذا أراد السفر باثنتين أثبت السفر في رقعتين والحضر في رقعتين ، ثم إنه بعد خروج القرعة ، على من تخرج عليه من واحدة أو أكثر لا يكون ذلك موجبا لاستصحابها بل يجوز له أن يجعلها مع المتخلفات ، لكن هل يجوز له مع تركها أن يستصحب غيرها؟ منع منه الشيخ في المبسوط وإلا لانتفت فائدة القرعة.

وقيل : يجوز ذلك لأنها ليست من الملزمات ، فإن الاستصحاب تبرع ، حيث إن زمان السفر لا يستحق الزوجات فيه القسم ، وإنما فائدة القرعة دفع المشقة ، والشحناء عن قلوب المتخلفات حيث لم يصحبهن وصحب من يريد بمجرد الميل والهوى ، وإذا كان صحبتها بالقرعة التي هي من الله عزوجل ارتفع ذلك من قلوبهن ، والفرق بين تركها مع المتخلفات وعدم أخذ غيرها ، وبين تركها وأخذ غيرها ـ حيث جاز الأول بلا خلاف دون الثاني ـ أن القرعة لا يوجب الصحبة وإنما تعين من يستحق التقديم على تقدير إرادته ، وكيف كان فالأولى مراعاة القرعة.

ومنها استحباب التسوية بين الزوجات في الإنفاق وحسن المعاشرة وطلاقه الوجه والجماع ونحو ذلك ، لما في ذلك من رعاية العدل والإنصاف.

ومن الأخبار الجارية في هذا المضمار ما رواه الصدوق (١) مرسلا قال : «قال

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٨١ ح ١٣ و ١٤ وص ٣٦٢ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٢٢ ح ٥ و ٨ و ٩.

٦٠٩

الصادق عليه‌السلام : رحم الله عبدا أحسن فيما بينه وبين زوجته ، فإن الله تعالى قد ملكه ناصيتها وجعله القيم عليها. قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خيركم خيركم لنسائه ، وأنا خيركم لنسائي. قال : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عيال الرجل أسراؤه ، وأحب العباد إلى الله تعالى أحسنهم صنعا إلى أسرائه».

وروى الشيخ في التهذيب (١) عن عبد الملك بن عتبة الهاشمي قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يكون له امرأتان يريد أن يؤثر إحداهما بالكسوة والعطية ، أيصلح ذلك؟ قال : قال : لا بأس بذلك واجتهد في العدل بينهما».

وعن معمر بن خلاد (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام هل يفضل الرجل نساءه بعضهن على بعض؟ قال : لا ، ولكن لا بأس به في الإماء». والنهي في هذا الخبر محمول على الكراهة جمعا بينه وبين ما تقدمه ، وقد تقدمت الرواية عن علي (٣) أنه إذا كان يوم واحدة ، لا يتوضأ في بيت الأخرى.

ومنها أن يكون صبيحة ذلك اليوم عند صاحبة الليلة لما تقدم في المورد الخامس من رواية إبراهيم الكرخي الدالة على أنه إنما عليه أن يكون عندها في ليلتها ، ويظل عندها صبيحتها ، وقد تقدم أن الحمل على الاستحباب إنما هو من حيث ضعف سند الرواية ، وإلا فلو كانت صحيحة لحكم بالوجوب ، وحينئذ فمن لا يرى العمل بهذا الاصطلاح فالحكم عنده الوجوب كما هو ظاهر كلام الشيخ في المبسوط المتقدم ذكره ثمة.

ومنها أنه يستحب له أن يأذن لها في عيادة مرض أبيها وأمها وحضور موتهما ونحوهما من أقاربها أيضا ، وله منعها عن ذلك ، كذا ذكره الأصحاب.

وعللوا الأول بما في عدم ذلك من التأدية إلى الوحشة وقطيعة الرحم.

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٢ ح ٩ و ١٠، الوسائل ج ١٥ ص ٨٣ ح ١ و ٢.

(٣) مجمع البيان ج ٣ ص ١٢١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٥ ح ٣.

٦١٠

وأما الثاني فيدل عليه ما رواه الكليني (١) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج في بعض حوائجه فعهد إلى امرأته عهدا أن لا تخرج من بيتها حتى يقدم قال : وإن أباها مرض فبعثت المرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إن زوجي خرج وعهد إلي أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم ، فإن أبي قد مرض ، فتأمرني أن أعوده؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك ، قال : فثقل فأرسلت إليه ثانيا بذلك ، فقالت : فتأمرني أن أعوده؟ فقال : اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك ، قال : فمات أبوها فبعثت إليه أن أبي قد مات فتأمرني أن أصلي عليه ، فقال : لا اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك ، قال : فدفن الرجل فبعث إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الله قد غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك».

أقول : ما عللوا به الحكم الأول عليل لا يصلح للاستدلال ، فإن الاستحباب حكم شرعي كالوجوب والتحريم لا يثبت إلا بدليل من الكتاب والسنة أو الإجماع عند من يرى حجيته ، لا بمثل هذه المناسبات والتقريبات العقلية.

وبالجملة فإني لم أقف على نص يدل على استحباب ذلك له مع عدم صراحة الرواية المذكورة في أن له المنع من ذلك.

الحادي عشر : لو وهبت إحدى الزوجات حقها من القسم للزوج أو لبعض نسائه

جاز ، لكن لا يجب على الزوج القبول لأن الاستمتاع بها حق له في الجملة ، فإن رضي بذلك جاز.

ويدل على جواز ذلك ما رواه الشيخ (٢) عن علي بن جعفر عن أخيه موسى ابن جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل له امرأتان ، قالت إحداهما ليلتي ويومي

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥١٣ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٨٠ ح ٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ١٢٥ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٧٤ ح ١١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٨٥ ح ٢.

٦١١

لك يوما أو شهرا أو ما كان ، أيجوز ذلك؟ قال : إذا طابت نفسها واشترى ذلك منها فلا بأس». وظاهر الخبر حصول المعاوضة عن الهبة المذكورة ، والتعبير بالشراء والبيع مجاز ، لأن البيع والشراء متعلقة بالأعيان المالية ، وإن كان للشيخ قول كما تقدم في كتاب البيع بتعلقه بالمنافع ونحوها. وكيف كان فالظاهر أن المراد المعاوضة عليه في الجملة.

هذا بالنسبة إلى هبته للزوج ، وفي معنى هذا الخبر أخبار أخر تأتي إن شاء الله تعالى في النشوز.

وأما الهبة لبعض الزوجات فيدل عليه ما نقله في المسالك من رواية سودة بنت زمعة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال بعد ذكر الحكم المذكور ، والأصل في ذلك ما روي (١) أن سودة بنت زمعة لما كبرت وهبت ليلتها لعائشة ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم لها يوما ويوم سودة.

أقول : الظاهر أن هذه الرواية من روايات العامة فإني لم أقف بعد التتبع عليها في شي‌ء من كتب أخبارنا ، وعلى هذا فلو كانت الهبة لبعض الزوجات ، فإن كانت ليلة الواهبة متصلة بليلة الموهوبة بات عند الموهوبة ليلتين متواليتين ، وإن كانت منفصلة فالأظهر أنه تبقى على ما كان سابقا ، بمعنى أنه يبيت عند الموهوبة فيها من غير أن يجوز له تقديمها وجعلها متصلة بليلة الموهوبة ، لأن من الجائز رجوع الواهبة في تلك الأيام للمتوسطة ، وبالتقديم يفوت حق الرجوع ولو كانت الهبة للزوج فهو مخير في وضعها حيث شاء ، لكن الظاهر أنه ليس تقديمها على ووقتها ، فينظر مع ذلك في ليلة التي يريد تخصيصها بها ، فإن كانتا متواليتين فلا إشكال ، وإلا أخر المبيت بها عندها إلى ذلك الوقت ، لعين ما تقدم ، وإن وهبتها لجميع نسوته كان القسم كما لو لم تكن ، واختص القسم بمن عداها.

بقي الكلام هنا في شيئين (أحدهما) أنه ينبغي أن يعلم أنه لما كانت الهبة

__________________

(١) سنن ابن ماجة ج ١ ص ٦٣٤ ب ٤٨ ح ١٩٧٢ ، سنن ابى داود ج ٢ ص ٢٤٣ ح ٢١٣٥.

٦١٢

مشروطة برضاء الزوج كما تقدم ، وكانت هذه الهبة في معنى الاسقاط للحق والمسامحة به ، فلزومها إنما يمكن باعتبار الزمان الماضي بمعنى أنه لو رجعت فيما مضى لم يجب قضاؤه لخروجه عن ملكها بالهبة والقبض وانتقاله إلى الموهوب ، وأما المستقبل فلا تلزم الهبة فيه ، بل لها الرجوع كما عرفت ، لأنه متجدد لا يمكن قبضة وإنما هو بمعنى الاسقاط لا هبة حقيقة ، حتى أنها لو رجعت في أثناء الليل وجب على الزوج الانتقال والخروج مع العلم من عند الموهوبة إليها ، وما مضى فلا تأثير للرجوع فيه لجريان الهبة فيه.

و (ثانيهما) أنه لو طلبت عوضا عن هذه الهبة فأجابها الزوج والضرات. فهل يكون العوض المذكور لازما أم لا؟ نقل عن الشيخ في المبسوط الثاني محتجا بأن العوض إنما يكون في مقابلة عين أو منفعة ، وهذا الحق ليس عينا ولا منفعة ، وإنما هو مأوى ومسكن فلا تصح المعاوضة عليه بالمال.

والمحقق في الشرائع نقل هذا القول بلفظ «قيل» مؤذنا بتمريضه وتضعيفه أو تردده فيه ، ووجهه في المسالك بمنع انحصار المعاوضة في الأمرين المذكورين ، قال : لجواز المعاوضة بالصلح على حق الشفعة والتحجير وغيرهما من الحقوق.

أقول : قد عرفت من ظاهر رواية علي بن جعفر المتقدمة صحة ذلك ، وإن عبر عنه بالشراء مجازا والمراد الكناية عن المعاوضة عليه ، وبذلك يظهر قوة القول الأول.

الثاني عشر : لا قسمة للصغيرة ولا الناشزة عند الأصحاب ، وعلل بأن القسمة كالنفقة التي هي من جملة الحقوق الواجبة ، فمن لا يستحق النفقة لصغر أو نشوز لا تستحق القسمة.

وأما المجنونة فإن كان جنونها أدوارا فظاهرهم أن لها نصيب من القسمة ، وإن كان مطبقا فظاهر جمع منهم إطلاق عدم القسمة لها ، وإن استحقت النفقة ، إذ لا عقل لها حتى يدعوها إلى الانس بالزوج والتمتع به ، وفصل آخرون فخصوا عدم القسمة بما إذا كان يخاف أذاها ، ولم يكن لها شعور بالإنس به ، وإلا قسم لها.

٦١٣

وأما المسافرة فإن كان سفرها بغير إذنه في غير واجب فهي ناشزة لا تستحق قسمة ، وإن كان واجبا مضيقا كالحج الواجب بالأصل والنذر المعين فظاهرهم أنه لا يسقط حقها بل يجب القضاء لها بعد الرجوع ، ولو كان السفر بإذنه في غرض لها غير الواجب أو الواجب الموسع فهل تستحق قسمة أم لا؟ قولان : أولهما للعلامة في التحرير ، وثانيهما له في القواعد. ووجه الأول أنه بالإذن لها وإن فات حقه ، إلا أن حقها باق فيجب القسم لها ، ووجه الثاني فوات التمكين والاستمتاع المستحق عليها لأجل مصلحتها ، والاذن إنما يؤثر في سقوط الإثم عنها ، وفوات التسليم المستحق عليها ، وإن كان بسبب غير مأثوم فيه ، لكنه يوجب سقوط ما يقابله وهو القسم ، كما إذا فات تسليم المبيع قبل القبض بسبب تعذر التسليم فيه ، فإنه يسقط تسليم الثمن ، وحيث يحكم بالوجوب في هذه المواضع أو عدم الوجوب ، فالمراد وجوب القضاء وعدم وجوبه ، وظاهره في المسالك التوقف هنا حيث اقتصر على نقل القولين المذكورين والوجه فيهما ولم يرجح شيئا ، ولم أقف في هذا الموضع على شي‌ء من النصوص إلا أن جملة من الأحكام المذكورة في المقام مما تقتضيه القواعد الشرعية والضوابط المرعية.

المقالة الثانية في النشوز والشقاق ، والكلام فيها يقع في مقامين :

الأول في النشوز : وهو لغة الارتفاع ، وشرعا الخروج عن الطاعة ، يقال : نشز الرجل ينشز نشزا ، إذا كان قاعدا فنهض قائما ، ومنه قوله عزوجل «وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا» (١) أى انهضوا إلى أمر من أمور الله تعالى.

قالوا : وسمى خروج أحد الزوجين عن طاعة الآخر نشوزا ، لأنه بمعصيته قد ارتفع وتعالى عما أوجب الله عليه من ذلك ، ولذلك خص النشوز بما إذا كان الخروج من أحدهما ، لأن الخارج ارتفع على الآخر ، فلم يقم بحقه أو عن

__________________

(١) سورة المجادلة : آية ١١.

٦١٤

الحق ، ولو كان الخروج منهما معا خص باسم الشقاق ـ كما سيأتي ـ لا النشوز ، لاستوائهما معا في الارتفاع فلم يتحقق ارتفاع أحدهما عن الآخر.

أقول : في كتاب المصباح المنير (١) : نشزت المرأة من زوجها نشوزا ـ من بابي قعد وضرب ـ عصت زوجها وامتنعت عليه ، ونشز الرجل من امرأته نشوزا ـ بالوجهين ـ تركها وجفاها ، وفي التنزيل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» (٢) وأصله الارتفاع ، يقال : نشز من مكانه نشوزا ـ بالوجهين ـ إذا ارتفع عنه. انتهى ، ومقتضى هذا الكلام إطلاق النشوز لغة على المعنى الشرعي.

ونحو هذه العبارة فيما ذكرناه عبارة القاموس (٣) ، وحينئذ فما ذكره الأصحاب من أنه لغة بمعنى الارتفاع وشرعا بمعنى الخروج عن الطاعة غير جيد ، لما عرفت من أنه يطلق لغة على المعنيين المذكورين.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن النشوز قد يكون من الزوجة ، وقد يكون من الزوج ، وإلى الأول يشير قوله عزوجل «وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» (٤) وإلى الثاني يشير قوله عزوجل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما» الآية ، فالكلام هنا يقع في موضعين :

الأول : في نشوز المرأة ، والأصل في هذا المقام الآية المتقدمة ، وهي قوله تعالى «وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ» الآية ، إلا أنه قد وقع الكلام فيها في مواضع :

الأول : إنه هل تثبت هذه الأمور المذكورة في الآية مع تحقق النشوز أو ظهور أماراته قبل وقوعه أو معهما؟ فقيل : إن المراد بخوف النشوز توقعه ،

__________________

(١) المصباح المنير ص ٨٣١.

(٢) سورة النساء ـ آية ١٢٨.

(٣) القاموس المحيط ج ٢ ص ١٩٤.

(٤) سورة النساء ـ آية ٣٤.

٦١٥

وقال الفراء على ما نقله في كتاب مجمع البيان (١) تعلمون نشوزهن ، قال : وقد يكون الخوف بمعنى العلم ، وهو ظاهر جملة من الأصحاب كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.

الثاني : إن هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الآية على التخيير أو الجمع أو الترتيب بالتدرج من الأخف إلى الأثقل ، وهو جل شأنه قد ذكر الثلاثة متعاطفة بالواو ، والمفيدة للجمع ، وقد ذهب ابن الجنيد إلى الجمع في هذه الأمور الثلاثة كما هو ظاهر الواو ، وجعلها مترتبة على النشوز بالفعل ، ولم يتعرض للحكم مع ظهور أماراته ، وكأنه حمل الخوف على معنى العلم كما تقدم نقله عن الفراء ، وأبقى الواو على ظاهرها من إفادة الجمع ، وذهب جمع منهم المحقق في النافع إلى أن هذه الأمور الثلاثة مترتبة ، لكن المحقق اعتبر في الوعظ ظهور أمارة العصيان ، وفي الهجر عدم إفادة الوعظ ، وفي الضرب عدم إفادة الهجر.

وأنت خبير بأنه إذا لم يفد الوعظ يكون النشوز متحققا بالفعل.

والعلامة في الإرشاد جعل الأمور الثلاثة مترتبة على النشوز بالفعل مع كونها في نفسها مرتبة وهو ظاهر كلام الثقة الجليل علي بن إبراهيم الآتي إن شاء الله تعالى.

وظاهر جماعة منهم المحقق في الشرائع والعلامة في القواعد جعل الأمور الثلاثة منزلة على الحالين ـ أعني ظهور أمارات النشوز ، وتحققه بالفعل ـ فإنهم جعلوا الوعظ والهجر معلقا على ظهور أماراته ، والضرب منوطا بحصوله بالفعل ، والعلامة في التحرير وقوله جمع من الأصحاب فصلوا في المسألة تفصيلا آخر فجعلوه الأمور الثلاثة مترتبة على مراتب ثلاثة من حالها ، فمع ظهور أمارات النشوز يقتصر على الوعظ ، ومع تحققه قبل الإصرار ينتقل إلى الهجر ، فإن لم ينجع وأصرت انتقل إلى الضرب ، واستقر به السيد السند في شرح النافع قال : فيكون معنى الآية «وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ» فَعِظُوهُنَّ) ، فإن نشزن فاهجروهن

__________________

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٤٣.

٦١٦

في المضاجع فإن أصررن فاضربوهن ، انتهى.

وقال الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (١) «وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً» (٢) وذلك إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها ، قال زوجها ، اتقي الله وارجعي إلى فراشك ، فهذه الموعظة ، فإن أطاعته فسبيل ذلك ، وإلا سبها وهو الهجر ، فإن رجعت إلى فراشها فذلك ، وإلا ضربها ضربا غير مبرح ، فإن رجعت وأطاعت فضاجته ، يقول الله «فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً» يقول : لا تكلفوهن الحب ، فإنما جعل الموعظة والسب والضرب لهن في المضجع «إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً». انتهى ، وظاهره كما ترى ترتب هذه الأمور على النشوز بالفعل لا خوفه ، وهو محمول على ما تقدم نقله عن الفراء من أن الخوف بمعنى العلم.

الثالث : فيما هو المراد من هذه الأمور الثلاثة المذكورة في الآية ، (أما) الوعظ فظاهر ، وهو تخويفها بالله سبحانه وذكر ما ورد من حقوق الزوج على المرأة في الأخبار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبنائه الأطهار.

و (أما) الهجر فقد اختلف فيه كلامهم ، وظاهر كلام الشيخ علي بن إبراهيم المتقدم ، تفسيره بالسب وهو غريب ، ولم يذكره غيره فيما أعلم ولا ريب أنه أحد معاني الهجر لكنه هنا بعيد ، بل المراد إنما هو ما يؤذن بالصد والاعراض والقطعية ، وقيل : هو أن يحول ظهره إليها في المضجع ، وبه قال ابن بابويه (٣) ، ورواه

__________________

(١) تفسير القمي ج ١ ص ١٣٧.

(٢) سورة النساء ـ آية ٣٤.

(٣) قال في المختلف : قال الشيخ في المبسوط : الهجران في المضجع أن يترك قربها ، وقال الشيخ على بن بابويه في رسالته وابنه في مقنعه وابن البراج : أن يجعل إليها ظهره ، وابن إدريس قال بالأول ، وجعل الثاني رواية ، وكلامهما عندي جائز ، وتختلف ذلك باختلاف الحال في السهولة والطاعة وعدمها ، انتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ)

٦١٧

الطبرسي في كتاب مجمع البيان (١) عن الباقر عليه‌السلام ، ونسبه في الشرائع إلى الرواية.

وفي كتاب الفقه الرضوي (٢) : وأما النشوز ـ إلى أن قال ـ والهجران هو أن يحول إليها ظهره في المضجع والضرب بالسواك وشبهه ضربا رفيقا ،. انتهى.

وقيل : أن يعتزل فراشها ويبيت على فراش آخر ، إختاره الشيخ في المبسوط وابن إدريس ، وقيل : إنه كناية عن ترك الجماع.

وأما الضرب فقد تقدم في كلام علي بن إبراهيم أنه يضربها ضربا غير مبرح ، وبه صرح غيره أيضا ، والمراد من غير المبرح ما لا يدمي لحما ، ولا يهشم عظما ، ويكون كضرب الصبيان للتأديب بحيث يتألم منه المضروب ، ولا يوجب ضررا في بدنه.

وفي تفسير مجمع البيان (٣) عن الباقر عليه‌السلام «أنه الضرب بالسواك». ومثله ما عرفت من كلام الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي.

قال في المسالك ونعم ما قال : وفي بعض الأخبار أنه يضربها بالسواك ، ولعل حكمته توهمها إرادة المداعبة ، وإلا فهذا الفعل بعيد عن التأديب والإصلاح ، انتهى وهو جيد.

وقيل : إن الضرب يكون بمنديل ملفوف ، أو درة ، ولا يكون بسياط ولا خشب ،

__________________

أقول : صورة العبارة هكذا : وأما النشوز فقد يكون من الرجل ، وقد يكون من المرأة. فأما الذي من الرجل فهو انه يريد طلاقها فنقول : أمسكني ولك ما عليك وقد وهبت ليلتي لك. ويصطلحان على هذا ، فإذا نشزت المرأة كنشوز الرجل فهو الخلع إذا كان من المرأة وحدها فهو أن لا تطيعه ، وهو ما قال الله تبارك وتعالى «وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ» فالهجران الى آخر ما في الأصل.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(١) مجمع البيان ج ٣ ص ٤٤.

(٢) فقه الرضا ص ٢٤٥.

(٣) مجمع البيان ج ٣ ص ٤٤.

٦١٨

نقله الشيخ في المبسوط عن قوم ، وأظهر هذه الأقوال الأول فإنه هو الذي يرجى به الرجوع إلى الطاعة. ولو حصل بالضرب تلف ، قيل : وجب عليه الغرم لأنه قد تبين بذلك أنه إتلاف لا إصلاح بخلاف الولي إذا أدب الطفل ، وفرق بينهما بأن تأديب المرأة لحظ نفسها ، والولد لحظه لا لحظ الولي.

وأورد عليه بأن في الفرق نظرا ، قال في شرح النافع : وينبغي القطع بعدم غرمه لأنه بتأديب الطفل محسن ، وما على المحسنين من سبيل ، ولا يبعد إلحاق الزوج به في ذلك ، خصوصا إن كان المقصود من الضرب تأديبها على فعل محرم انتهى.

أقول : يمكن أن يقال : إنه إن كان الضرب المذكور ليس مما يترتب عليه التلف بحسب العادة ، وإنما اتفق التلف بعده اتفاقا فهذا لا يترتب عليه ضمان ، وإن كان مما يمكن ترتب التلف عليه فلا يبعد وجوب الضمان.

الثاني : في نشوز الزوج ، وهو المشار إليه بقوله عزوجل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» (١) الآية : قالوا : وهو عبارة عن أن يتعدى الزوج عليها ويمنعها بعض حقوقها الواجبة من نفقة أو كسوة أو قسم أو نحو ذلك أو أنه يضربها ويؤذيها بغير سبب مبيح له ذلك ، وحينئذ فترفع أمرها إلى الحاكم ، فإن ثبت عنده ما ادعته ببينة أو اعتراف أو نحو ذلك عزره بما يراه ، وأجرى عليها النفقة من ماله ولو ببيع عقاره عليه ، وإلا نصب بينهما ثقة يستعلم صدق ما ادعته ، ويكون الحكم كما تقدم ، ولو لم يكن يؤذيها ولا يمنعها شيئا من حقوقها الواجبة إلا أنه يكرهها لكبر أو مرض أو غيرهما فلا يدعوها إلى فراشه ويهم بطلاقها ، فلها أن تسترضيه بإسقاط بعض حقوقها من القسم أو النفقة أو نحوهما ويحل له ذلك ، وهذا هو الصلح الذي أشارت إليه الآية بقوله «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً».

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ١٢٨.

٦١٩

وعلى ذلك تدل جملة من الأخبار ، منها ما رواه في الكافي (١) في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» فقال : هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها : إني أريد أن أطلقك ، فتقول له : لا تفعل إني أكره أن تشمت بي ، ولكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من شي‌ء فهو لك ، ودعني على حالتي ، فهو قوله تبارك وتعالى «فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً» وهذا هو الصلح».

وعن علي بن أبي حمزة (٢) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قول الله عزوجل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» فقال : إذا كان كذلك فهم بطلاقها قالت له : أمسكني وادع لك بعض ما عليك وأحللك من يومي وليلتي ، حل له ذلك ولا جناح عليهما».

وعن أبي بصير (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن قول الله عزوجل «وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً» قال : هذا تكون عنده المرأة لا تعجبه فيريد طلاقها فتقول له : أمسكني ولا تطلقني وادع لك ما على ظهرك ، وأعطيك من مالي وأحللك من يومي وليلتي ، فقد طاب ذلك له كله».

ما رواه في الفقيه (٤) عن المفضل بن صالح عن زيد الشحام عن أبي عبد الله

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٤٥ ح ٢ ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٣ ح ٢٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٠ ح ١.

(٢) الكافي ج ٦ ص ١٤٥ ح ١ ، العياشي ج ١ ص ٢٧٨ ح ٢٨٢ وفيه «عن أبى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : سألته» مع فرق يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٩٠ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٤٥ ح ٣ وفيه «هذا كله» ، التهذيب ج ٨ ص ١٠٣ ح ٢٨ وفيه «الحسن بن هاشم» ، الوسائل ج ١٥ ص ٩١ ح ٣.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٣٦ ب ١٦٧ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٩١ ح ٤.

٦٢٠