الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : هو الأب أو الأخ أو الرجل يوصى إليه ، والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها ، فتجيز ، فإذا عفا فقد جاز». وفي الفقيه عوض قوله «فتجيز» «ويتجر» وهو أظهر.

قال في الفقيه (١) : وفي خبر آخر «يأخذ بعضا ويدع بعضا ، وليس له أن يدع كله».

وما رواه في التهذيب (٢) في الصحيح عن ابن مسكان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح ، قال : هو الأب والأخ والرجل يوصى إليه ، والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها ويشتري فأي هؤلاء عفا فقد جاز».

وما رواه العياشي في تفسيره (٣) عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه‌السلام «في قول الله عزوجل «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : هو الأب والأخ والرجل يوصى إليه» الحديث كما هنا.

وعن أبي بصير ومحمد بن مسلم (٤) في الصحيح كلاهما عن أبي جعفر عليه‌السلام «في (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) ، فقال : هو الأب والأخ والموصى إليه ، والذي يجوز أمره في مال المرأة من قرابتها فيبيع لها ويشتري ، قال : فأي هؤلاء عفا فعفوه جائز في المهر إذا عفا عنه».

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣٢٧ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٣ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٣ ح ٤٩ وفيه «عن أبى بصير» ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٣ ح ٤.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٥ ح ٤٠٦ وفيه «والأخ والموصى إليه» ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١١ ب ٣٧ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٤٨٤ ح ١٥٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٣ ح ٥.

٥٦١

وعن ابن أبي عمير (١) عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قوله تعالى «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : يعني الأب والذي توكله المرأة وتوليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما».

وعن عبد الله بن سنان (٢) في الصحيح «قال (الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو ولي أمرها».

ورواه العياشي في تفسيره (٣) عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وعن رفاعة (٤) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذي بيده عقدة النكاح ، قال : الولي الذي يأخذ بعضا ويترك بعضا ، وليس له أن يدع كله».

ورواه العياشي في تفسيره (٥) عن رفاعة مثله ، إلا أن فيه قال : «هو الولي الذي يزوج ، ويأخذ بعضا ويترك بعضا». إلى آخر ما هنا.

وما رواه العياشي في تفسيره (٦) عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام «في قوله «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : هو الولي والذين يعفون عن الصداق أو يحطون عنه بعضه أو كله».

وعن إسحاق بن عمار (٧) قال : «سألت جعفر بن محمد عليه‌السلام عن قول الله «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ» قال : المرأة تعفو عن نصف الصداق ، قلت «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : أبوها إذا عفا جاز ، وأخوها إذا كان يقيم بها وهو القائم عليها فهو

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٥١ ذيل حديث ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٠ ب ٧ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٢ ح ٤٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٢ ح ٢.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٥ ح ٤٠٤ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٦٤ ب ٧ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٩٢ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٣ ح ٣.

(٥) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٥ ح ٤٠٧ ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٦١١ ب ٣٧ ح ٣.

(٦) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٥ ح ٤٠٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٣ ح ٤.

(٧) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٦ ح ٤١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٣ ح ٥.

٥٦٢

بمنزلة الأب يجوز له ، وإذا كان الأخ لا يقيم بها ولا يقوم عليها لم يجز عليها أمره».

وعن محمد بن مسلم (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام «في قوله «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : الذي يعفو عن الصداق أو يحط بعضه أو كله».

وعن سماعة (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : هو الأب والأخ والرجل الذي يوصى إليه والذي يجوز أمره في مال المرأة فيبتاع لها ويشتري فأي هؤلاء عفا فقد جاز ، قلت : أرأيت إن قالت ، لا أجيزها ، ما يصنع؟ قال : ليس لها ذلك ، أتجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا».

وعن أبي بصير (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في قول الله «أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» قال : هو الأخ والأب والرجل يوصى إليه ، والذي يجوز أمره في مال يتيمة ، قلت : أرأيت إن قالت : لا أجيز ، ما يصنع؟ قال : ليس ذلك لها ، أتجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا».

هذا ما حضرني من أخبار المسألة ، والكلام فيها يقع في مواضع :

الأول : لا يخفى أن أكثر هذه الروايات إنما تدل على القول الثاني الذي هو خلاف المشهور بينهم ، والأصحاب لم يذكروا دليلا عليه إلا صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم ، ورواية أبي بصير عارية عن الوصف بالصحة ، والعلامة في المختلف حيث اختار القول المشهور رد رواية أبي بصير بأنها مرسلة.

وبالجملة فإنهم لعدم إعطاء الوسع حقه في تتبع الأخبار يقعون في مثل هذه الإشكالات ، وسوء الاختيار ، كما لا يخفى على من نظر ما نقلناه من أخبار المسألة هنا من الكتب الأربعة وغيرها ، وليس فيها على تعددها ما تدل على المشهور

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٦ ح ٤١١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٣ ح ٣.

(٢) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٦ ح ٤١٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٣ ح ٣.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ١٢٥ ح ٤٠٨ وفيه «في ما له بقيمة» مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٦٣ ح ٦.

٥٦٣

إلا صحيحة عبد الله بن سنان وصحيحة رفاعة ، مع أنهما غير صريحتين في الحصر في الولي ، بل غايتهما أنهما بالنسبة إلى غيره مطلقات ، وقضية الجمع بينهما وبين باقي الأخبار حمل إطلاقهما على ما فصلته الأخبار الباقية ، سيما مع ما عرفت من صحة أسانيد كثيرة منها.

وبالجملة فالظاهر بالنسبة إلى ما ذكرناه من الأخبار هو القول الثاني لما عرفت ، وإلا فالعمل بما دلت عليه هاتان الروايتان وطرح باقي أخبار المسألة على كثرتها وصحة أكثرها مما لا يتجشمه محصل ، على أنه متى كان جواز عفوه مشروطا بكونه وكيلا من جهتها في ذلك ، فإنه لا مانع حينئذ من ذلك كما سيأتي ذكره.

الثاني : لا يخفى أن ما ذكره جملة من أصحابنا كما عرفت من كلام الشيخ ـ رحمة الله ـ في التبيان وابن إدريس من ورود الرواية من طرقنا بتفسير «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» بالزوج ، لم نقف عليها فيما وصل إلينا من أخبار المسألة وهي هذه التي ذكرناها ، ولو ثبت ورود خبر بذلك فالظاهر خرج مخرج التقية لاختصاص هذا القول بالعامة وروايتهم له عن علي عليه‌السلام كما تقدم في كلام الشيخ في التبيان ، على أن انطباق الآية على ذلك لا يخلو من تعسف ، لأن العفو حقيقة إنما هو بمعنى الاسقاط ، فمعنى عفو الزوجة عن النصف الباقي لها في ذمة الزوج بعد الطلاق يعني إسقاطه فيكون الجميع للزوج ، وليس للزوجة شي‌ء بالكلية ، وعفو الزوج ليس بهذه الكيفية ، بل هو عبارة عن التزامه ما سقط بالطلاق ورده على على الزوجة ، فيكون المهر كملا للزوجة ، وهذا ليس بإسقاط ، بل هو عكسه ، على أن صدق من بيده عقدة النكاح على الزوج أيضا لا يخلو من تكلف ، فإن الظاهر أن الذي بيده عقدة النكاح إنما هو الموجب له ، وهو الذي يعقده كالمرأة أو الولي دون القابل الذي هو الزوج.

وبالجملة فإن هذا القول وإن طال في المسالك الذب عنه فهو بمحل من

٥٦٤

الضعف ، لخلو أخبارنا عنه ، وعدم قائل به فيما أعلم ، فالاشتغال بغيره أهم.

الثالث : لا يخفى أن ظاهر هذه الأخبار أن أحد أفراد من بيده عقدة النكاح الذي يقوم على المرأة ويبيع ويشتري لها قريبا كان كما تضمنه صحيح أبي بصير ومحمد بن مسلم ، وغيره كما هو ظاهر الأخبار الباقية ، والأصحاب حملوه على أن يكون وكيلا في النكاح أو العفو ، وإلا فمجرد قيامه بأمرها والبيع والشراء لها لا يسوغ له العفو عن مهرها ، لعدم دخوله في من بيده عقدة النكاح ، إذ لا يسوغ له تزويجها بمجرد ذلك ، إلا أن الحمل على ذلك في غاية البعد عن ظواهر سياق أكثر الأخبار ، مثل رواية إسحاق بن عمار المنقولة من تفسير العياشي وقوله في الأخ إن كان يقيم بها وهو القائم عليها «فهو بمنزلة الأب يجوز له ، وإذا كان لا يقيم بها ولا يقوم عليها لم يجز عليها أمره» فجعل مناط صحة العفو إنما هو القيام بأمرها وعدمه ، ولو كان الأمر منوطا بالتوكيل ـ كما ذكره الأصحاب ـ لما حسن هذا الترديد ، ونحو ذلك قوله في روايتي سماعة وأبي بصير المنقولتين من تفسير العياشي أيضا «أرأيت إن قال (١) لا أجيز». إلى آخره ، وتعليله عليه‌السلام إن ذلك ليس لها بأنها تجيز بيعه في مالها ولا تجيز هذا ، فإنه لو كان الأمر كما ذكره الأصحاب من أنه وكيل من جهتها في العقد والعفو أو في العفو خاصة لكان الظاهر الرد لما قالته إنما هو ليس لها ذلك لأنها وكلته ، وجعلته قائما مقامها في ذلك إلا أن مرسلة ابن أبي عمير ظاهرة فيما ذكره الأصحاب.

وبالجملة فإن الأحوط هو ما ذكروه ، وإن كان انطباق أكثر الأخبار عليه في غاية البعد.

الرابع : أكثر الأخبار مطلق بالنسبة إلى عفو غيرها بأنه يعفو عن الكل أو البعض ، وربما ظهر من بعضها جواز عفوه عن الكل أيضا ، إلا أن صحيحة رفاعة قد صرحت بأنه ليس له العفو عن الكل ، وعليها ظاهر كلام الأصحاب ،

__________________

(١) الصحيح «قالت» ولعل اشتباه وقع من النساج.

٥٦٥

بل ربما ظهر من المبسوط والتبيان ومجمع البيان والراوندي في فقه القرآن دعوى الإجماع عليه ، وفي المختلف وفاقا للجامع أن المصلحة إن اقتضت العفو عن الكل جاز ، ومورد الصحيحة المذكورة هو الولي الشرعي ، وإطلاقها يقتضي جواز عفوه ، سواء كان فيه مصلحة المولى عليه أم لا ، وأما هي فلها أن تعفو عن الجميع لأنه مالها ، ثم إن الظاهر من الآية وأكثر الأخبار أن عفوها من النصف الذي لها إنما هو على جهة الفضل والاستحباب ، وظاهر روايتي سماعة وأبي بصير المنقولتين عن تفسير العياشي تحتم الإجازة عليها والرضاء اللهم إلا أن يحملا على الوكالة ، وأن الوكيل إذا تصرف بعد الوكالة فليس للموكل فسخه ، بل يجب عليه إمضاؤه ، وربما قيد تحتم ذلك عليها بما إذا اقتضته المصلحة ، قال في كتاب مجمع البيان : فإن امتنعت المرأة عن ذلك لم يكن لها ذلك إذا اقتضته المصلحة عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

أقول : وهذه الرواية لم تصل إلينا ولا وقفنا عليها ، فإن هذه روايات المسألة التي قدمناها ، والروايتان الدالتان على ذلك خاليتان من هذا القيد.

وكيف كان فلا أعرف للزوم ذلك إلا الوجه الذي ذكرته ، وهو أعم من أن تقتضيه المصلحة أم لا ، وربما أشعر ظاهر هذا الكلام الذي ذكره في مجمع البيان بأن ذلك في صورة عفو الولي بالنسبة إلى الصغيرة ، وأنه ليس لها بعد البلوغ رده إذا اقتضته المصلحة ، حيث إن فعل الولي منوط بها ، إلا أن مورد الأخبار كما عرفت إنما هو بالنسبة إلى البالغة ، والقائم بأمرها في بيع وشراء ونحوه كما عرفت.

الخامس : مقتضى إطلاق الآية والأخبار انتقال الجميع إلى الزوج بالعفو عن النصف الباقي لها ، أعم من أن يكون المهر دينا أو عينا ، وبهذا صرح الشيخ في المبسوط وأكثر الأصحاب وحمل على أن العفو بمعنى العطاء ، فيتناول الأعيان ، قال في المسالك : وهو قوي لوروده بمعنى العطاء لغة كما سننبه عليه.

وقيل : إن العفو مختص بالدين ، وأما العين فلا تنتقل إلا بلفظ الهبة أو

٥٦٦

التمليك أو نحوهما ، لا بالعفو ، لأنه لا مجال فيه للأعيان ، كلفظ الإبراء فلا يتناول إلا الدين.

وأجابوا عن الآية بأن المراد من العفو معناه لا لفظه ، بمعنى إرادة حصول الملك للعفو عنه ، بعبارة تقيد ذلك ، ولو كان المراد لفظه لتعين في الموضعين ، وهو منفي بالإجماع ، وسمي نقله منها عفوا تنبيها على حصول فضيلة العفو والمدح ، فإن توقف النقل له على صيغة شرعية ـ كما لو قال : ملكه هذا ـ فإنه يريد نقل ملكه إليه بلفظ شرعي يفيده بأي لفظ ادعى معناه وإن لم يكن بلفظ التمليك.

أقول : الظاهر عندي قوة هذا القول : وإن كان خلاف ما عليه الأكثر ، فإن الأول مبني على صحة كون العفو بمعنى الإعطاء ، وما ادعاه شيخنا المتقدم ذكره من وروده بمعنى العطاء لغة لم أقف عليه في كلام أحد من أهل اللغة ، والمذكور في كلامهم إنما هو الاسقاط.

قال في كتاب المصباح المنير (١) «وعفوت عن الحق : أسقطته» وغاية ما استند إليه ـ رحمه‌الله عليه ـ وهو الذي أشار إليه بقوله «كما سننبه عليه» هو ما ذكره أخيرا حيث قال : والعفو كما يطلق على الاسقاط ، يطلق على الإعطاء كما أشرنا إليه سابقا ، ومن الأول قوله تعالى «وَالْعافِينَ عَنِ النّاسِ» (٢) أي التاركين ما لهم عندهم من مظلمة. ومن الثاني قوله تعالى «يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ» (٣) أي الفضل من الأموال الذي يسهل إعطاؤه. وقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ» (٤) أي خذ ما أعطاك الناس من ميسور أخلاقهم ولا تنقص عليهم ، وغير ذلك فيصلح للأمرين.

أقول : لا يخفى أن غاية ما تدل عليه الآيتان هو كون العفو هنا بمعنى الميسور.

__________________

(١) المصباح المنير ص ٥٧٢.

(٢) سورة آل عمران ـ آية ١٣٤.

(٣) سورة البقرة ـ آية ٢١٩.

(٤) سورة الأعراف ـ آية ١٩٩.

٥٦٧

وعن الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية الأولى قال : العفو الوسط من غير إسراف ولا إفتار.

وبالجملة فالمراد ما يسهل إعطاؤه ، فأين هذا مما يدعيه من أن العفو بمعنى الإعطاء ، والإعطاء إنما استفيد من لفظ آخر كقوله خذ في قوله «خُذِ الْعَفْوَ» وينفقون في قوله «ما ذا يُنْفِقُونَ» لا من لفظ العفو.

وبالجملة فإن الاستدلال بذلك من مثله ـ رحمه‌الله ـ غريب عجيب كما لا يخفى على الأديب اللبيب والموافق المصيب ، وحينئذ فالواجب على ما اخترناه أنه متى كان المهر دينا فإنه يصح بلفظ العفو والهبة والإبراء ، والترك والاسقاط والتمليك ، لإفادة كل من هذه الألفاظ المعنى المراد من إسقاط حقها الذي في ذمته (١) ، وإن كان عينا وكان في يده فبلفظ التمليك والهبة ، ولا يصح بلفظ الإبراء والاسقاط والترك لأن هذه الألفاظ ظاهرة عندهم في إسقاط ما في الذمة ، وكذا لو كان في يدها فإنه يكفي التمليك والهبة بشرط القبض له من يدها كما تقدم في الهبة دون التمليك ، قالوا : ولا بد من القبول على التقديرين إذا كان عينا ، والنصوص لا دلالة لها عليه.

السادس : قد صرحوا بأنه ليس لولي الزوج العفو من حقه كلا أو بعضا مع الطلاق ، لأن العفو عن مال الغير بغير إذن المالك على خلاف الأصل ، فيجب الاقتصار فيه على مورد الاذن والرخصة ، وهو ولي المرأة خاصة ، ولأنه لا غبطة للمولى عليه في ذلك ، وتصرف الولي منوط بالمصلحة ، وإنما خرج عنها ولي المرأة بالنص الخاص ، ومن ثم منع بعضهم من عفو ولي المرأة أيضا لذلك ، كما

__________________

(١) قال الشيخ في المبسوط : لو كان المهر دينا على الزوج فطلق قبل الدخول كان لها العفو عن الباقي بألفاظ منه العفو والتمليك والهبة والاسقاط والتبرئة والإبراء ، وهل يفتقر الى قبوله؟ قال : فيه وجهان : الأول أن نقول يفتقر الى قبوله ، والوجه عندي عدم الافتقار ، لأنه إسقاط وإبراء فأشبه الطلاق والعتاق ، وانتهى. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٥٦٨

تقدم في كلام ابن إدريس ، قالوا : ويتصور الولاية على الزوج مع وقوع طلاقه عن مولى عليه فيما إذا بلغ فاسد العقل ، فإن للولي أن يطلق عنه مع المصلحة كما سيأتي بخلاف الصبي ، ولو فسرنا من بيده عقدة النكاح بما يشتمل الوكيل كما هو القول الآخر ، وهو الذي قد عرفت دلالة جل الأخبار عليه وإن كان خلاف المشهور دخل وكيل الزوج في الحكم المذكور هنا كما يدخل وليه.

السابع : ظاهر الآية والأخبار المتقدمة هو أن القدر المعفو عنه ينتقل بمجرد العفو إلى من عفي له من زوج أو زوجة ، ولا يتوقف على أمر آخر ، وهو لا يوافق ما فصله الأصحاب في هذا الباب مما تقدمت الإشارة إليه ، وبسط جملة من الأصحاب الكلام عليه.

ونحن نذكر هنا ملخص ما ذكره شيخنا في المسالك الذي أوضح فيه طرق الأحكام لكل قاصد وسالك ، قال : ليس المراد من العفو الموجب لبراءة كل من الزوجين من حق الآخر كونه سببا تاما بمجرده في نقل الملك أو البراءة منه ، بل المراد كونه سببا في ذلك ، أعم من أن يكون تاما أو ناقصا أو متوقفا على شرط آخر ، وإن كان قد أطلق في الآية كون العفو موجبا لسقوط الحق أو نقله ، لأن إطلاقه كذلك لا ينافي اعتبار أمر آخر.

إذا تقرر ذلك فنقول : المهر إما أن يكون عينا أو دينا ، وعلى الأول إما أن يكون في يدها أو في يده ، والثاني إما أن يكون في ذمتها ـ بأن قبضته وتلف في يدها ـ أو في ذمته ، وعلى التقادير الأربعة إما أن يكون العافي الزوج أو أو الزوجة أو من يقوم مقامهما في معناهما ، فتحقق الملك وانتقاله وسقوطه عن الذمة يتم بثمان صور :

الاولى : أن يكون دينا في ذمة الزوج ، والعافي المرأة ، فتحصل براءة ذمته بمجرد عفوها ، لأن العفو حينئذ بمنزلة الإبراء ، فلا يشترط فيه سوى اللفظ الدال عليه وإن لم يقبل من عليه الحق على الأقوى ، وقد تقدم تحقيقه في باب

٥٦٩

الهبة ، ويصح ذلك بلفظ العفو والإبراء والاسقاط والترك والهبة والتمليك لاشتراك الجميع في الدلالة عليه.

الثانية : الصورة بحالها ويكون عينا في يده فلا يكفي مجرد العفو ، لأن ذلك بمنزلة الهبة لغيره ، بل لا بد من لفظ يدل عليه ، كلفظ الهبة والتمليك أو العفو على قول قوي ، لا الإبراء والاسقاط وما شاكلهما ، ويشترط أيضا قبول المتهب ، ولا يشترط قبض جديد ، لأنه مقبوض بيده بالفعل ، ويلحقه حينئذ أحكام الهبة من اللزوم والجواز على ما سبق تفصيله.

الثالثة : الصورة بحالها بأن كان عينا في يده لكن كان هو العافي عن حقه ، فيشترط فيه ما اشترط في السابقة من الإيجاب والقبول ، ويزيد اشتراط إقباضها إياه ، لأنه خارج عن يدها.

الرابعة : الصورة بحالها بأن كان هو العافي ، ولكن كان دينا في ذمته ، ولا ينقل بالإبراء وما في معناه قطعا لاختصاصه بالدين في ذمة المعفو عنه لا العافي ، وينتقل بلفظ الهبة لكن بشرط التسليم.

الخامسة : أن يكون دينا في ذمتها وتكون هي العافية ، والحكم فيه كالسابقة ، والأقوى افتقاره إلى العقد بعد التعيين فيهما لأن ذلك مقتضى الهبة ، ولا وجه هنا سواها ، وهذا هو الذي اختاره الشيخ في المبسوط.

السادسة : الصورة بحالها وهو كونه دينا في ذمتها لكن العافي هو الزوج ، وهنا ينزل منزلة الإبراء كما مر في نظيره ، ويصح بجميع الألفاظ الستة ، ولا يفتقر إلى القبول على الأقوى.

السابعة : أن يكون عينا في يدها ، وهي العافية أيضا ، ويشترط فيه ما يشترط في الهبة من العقد والإقباض.

الثامنة : الصورة بحالها ، والعافي هو الزوج فيشترط فيه عقد الهبة ، ولا يشترط تجديد الإقباض لحصوله في يدها ، واشترط الشيخ مضي مدة يمكن فيها قبض من

٥٧٠

هي في يده ، والأقوى عدم اشتراطه ، وقد تقدم البحث في بابه ، انتهى ملخصا.

المسألة الثانية عشر : المشهور في كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه ، كما يفهم من المسالك ونقل عن التذكرة أنه استند إلى علمائنا مؤذنا بدعوى الإجماع عليه أنه إن زوج الرجل ولده الصغير وللولد مال ، فإن المهر في مال الولد ، وإن كان الولد فقيرا فالمهر لازم للأب يخرج من أصل ماله لو مات ولم يدفعه ، وإن بلغ الولد وأيسر أو مات قبل ذلك.

والذي وقفت عليه من الأخبار في هذه المسألة ما رواه في الكافي (١) عن الفضل ابن عبد الملك قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يزوج ابنه وهو صغير؟ قال : لا بأس ، قلت : يجوز طلاق الأب؟ قال : لا ، قلت : على من الصداق؟ قال : على الأب إن كان ضمنه لهم ، وإن لم يكن ضمنه فهو على الغلام ، إلا أن يكون للغلام مال فهو ضامن له ، وإن لم يكن ضمن» الحديث.

هكذا صورة الخبر في الكافي على ما نقله في الوافي ، وفيه إشكال ، ونقله في المسالك «إلا أن لا يكون للغلام مال» وهو الظاهر ، وهذه الخبر وصفه في المسالك بالصحة مع أن في طريقه عبد الله بن محمد عن علي بن الحكم ، وعبد الله بن محمد هذا هو المشهور ببنان أخو أحمد بن محمد بن عيسى ، وهو مجهول في كتب الرجال.

وعن عبيد بن زرارة (٢) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يزوج ابنه وهو صغير؟ قال : إن كان لابنه مال فعليه المهر ، وان لم يكن للابن مال فالأب ضامن المهر ، ضمن أو لم يضمن».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٠ ح ١ وفيه «الا أن لا يكون للغلام مال» ، التهذيب ج ٧ ص ٣٨٩ ح ٣٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٠٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٨٩ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩ ح ١.

٥٧١

وما رواه في الكافي والتهذيب (١) في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «سألته عن رجل له ولد فزوج منهم اثنين وفرض الصداق ثم مات ، من أين يحسب الصداق من جملة المال أو من حصتهما؟ قال : من جميع المال إنما هو بمنزلة الدين».

ورواه الشيخ (٢) بطريق آخر في الموثق عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته» الحديث.

وفي آخر صحيحة أبي عبيدة الحذاء (٣) المتقدمة الواردة في تزويج الصغيرين «قلت : فإن كان أبوها هو الذي زوجها قبل أن تدرك؟ قال : يجوز عليها تزويج الأب ، ويجوز على الغلام ، والمهر على الأب للجارية».

وما رواه في التهذيب (٤) عن محمد بن مسلم في الصحيح قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الصبي يتزوج الصبية؟ قال : إذا كان أبواهما اللذان زوجاهما فنعم جائز ، ولكن لهما الخيار إذا أدركا ، فإن رضيا بذلك ، فإن المهر على الأب ، قلت له : فهل يجوز طلاق الأب على ابنه في صغره؟ قال : لا».

ولا يضر اشتمال الرواية على ما لا يقول به الأصحاب من ثبوت الخيار في صورة تزويج الأبوين لهما ، فإن طرح بعض الخبر لمعارض أقوى ، لا يستلزم طرح ما لا معارض له.

وما رواه علي بن جعفر في كتابه (٥) عن أخيه موسى بن جعفر عليه‌السلام قال : «

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٨٩ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٦٩ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٩ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٠١ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٨٨ ح ٣١ وج ٩ ص ٣٨٢ ح ٢ الوسائل ج ١٧ ص ٥٢٧ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٨٢ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٠٨ ح ٨.

(٥) بحار الأنوار ج ١٠ ص ٢٩٠ طبعة الاخوندى ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠ ح ٤.

٥٧٢

سألته عن الرجل يزوج ابنه وهو صغير ، فدخل الابن بامرأته ، على من المهر؟ على الأب أو على الابن؟ قال : المهر على الغلام ، وإن لم يكن له شي‌ء فعلى الأب ، ضمن ذلك على ابنه أو لم يضمن إذا كان هو أنكحه وهو صغير».

وما رواه أحمد بن محمد بن عيسى (١) في النوادر عن صفوان عن محمد عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «قلت : الرجل يزوج ابنه وهو صغير ، فيجوز طلاق أبيه ، قال : لا ، قلت : فعلى من الصداق؟ قال : على أبيه إذا كان قد ضمنه لهم ، فإن لم يكن ضمن لهم فعلى الغلام ، إلا أن لا يكون للغلام مال فعلى الأب ، ضمن أو لم يضمن».

والمفهوم من هذين الخبرين الأخيرين أن المهر يكون على الأب وإن كان للولد مال ، وأما في حال فقر الولد فإنه عليه ، ضمن أو لم يضمن ، وعلى هذا المعنى يحمل إطلاق رواية الفضل بن عبد الملك ، فإن قوله «قال : على الأب إن كان ضمنه لهم» يعني في صورة ما إذا كان للولد مال ، فإن وجوبه عليه مشروط بضمانه له ، فلو لم يضمنه فإنه على الولد ، ولهذا قال «فإن لم يكن ضمنه فهو على الغلام» ثم استثنى منه «إلا أن لا يكون للغلام مال» بالكلية ، فإن الأب ضامن وإن لم يضمن ، هذا على تقدير ما رواه في المسالك كما قدمنا ذكره ، وأما على ما نقله في الوافي ـ وهو الموجود في الكافي (٢) ـ فهو لا يخلو من الاشكال لعدم استقامة المعنى ، كما دلت عليه الروايات الأخر.

وأما ما أطلق في بعض هذه الروايات من كون المهر على الأب فيجب حمله على فقر الولد كما فصلته الأخبار الأخر.

بقي الكلام هنا في مواضع :

الأول : نقل عن العلامة في التذكرة أنه استثنى من الحكم بضمان الأب

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ٤٠ ح ٥.

(٢) لا يخفى أن الموجود في الكافي مطابق لنقل المسالك وكأن نقل الوافي من غلط النسخة ، والله العالم.

٥٧٣

له على تقدير فقر الابن ما لو صرح الأب بنفي الضمان ، فإنه لا يضمن ، وحمل قوله في الرواية «أولم يضمن» على عدم اشتراط الضمان لا على اشتراط عدمه.

واعترضه في المسالك بأنه لا يخلو من إشكال ، قال : لأن النص والفتوى متناول لما استثناه ، وحمله على غيره يحتاج إلى دليل نقلي يعارضه حتى يوجب حمله على ذلك ، ولأن الصبي لا يحتاج إلى النكاح فلا حظ له في التزام المهر في ذمته مع الإعسار عنه ، فتزويج الولي متوقف على وجود المصلحة ، بل وانتفاء المفسدة ، ولو قيد ذلك بما إذا كان في التزام الصبي بالمهر مصلحة ـ بأن كانت الزوجة مناسبة له وخاف فوتها بدون ذلك ، ونحوه ـ قرب من الصواب ، إلا أن تخصيص النصوص الصحيحة بذلك لا يخلو من إشكال ، انتهى.

وقال سبطه السيد السند في شرح النافع بعد أن نقل عن جده ـ أن النص والفتوى متناول لما استثناه ـ ما لفظه : وهو كذلك ، لكن لا يبعد المصير إلى ما ذكره في التذكرة لعموم قوله عليه‌السلام (١) «المؤمنون عند شروطهم». والرواية لا تنافيه صريحا ولا ظاهرا.

أقول : لا يخفى قوة ما ذكره شيخنا في المسالك فإن قوله عليه‌السلام «أو لم يضمن» شامل لكل من صورتي عدم الضمان واشتراط عدمه ، والتخصيص بالأول يحتاج إلى مخصص ، وبذلك يظهر ما في قول سبطه «والرواية لا تنافيه صريحا ولا ظاهرا» وكيف لا تنافيه ، وهي دالة بإطلاقها أو عمومها على الصورة المذكورة ، فإنه يصدق على من اشترط عدم الضمان أنه لم يضمن وحديث «المؤمنون عند شروطهم» إنما يتم الاستدلال به لو لم يكن له معارض ، والمعارض كما ذكرنا موجود ، فإن مقتضى إطلاق الروايات المتقدمة أنه يضمن في هذه الصورة أعني صورة فقر الولد أعم من أن يشترط الضمان على نفسه أو لا يشترط بأن اشترط عدمه أو لم يشترط ، والعجب من قوله ـ رحمة الله عليه ـ «والرواية لا تنافيه صريحا ولا ظاهرا» بعد اعترافه أولا بأن النص متناول لما استثناه ، فإنه إذا كان متناولا لذلك الفرد

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

٥٧٤

المستثنى فكيف لا تنافي استثناؤه ولو ظاهرا.

الثاني : قالوا : لو كان الصبي مالكا لبعض المهر دون بعض لزمه بنسبة ما بملكه ، ولزم الأب الباقي ، وهو جيد.

الثالث : إطلاق المال في الروايات ـ الدالة على أنه متى كان للولد مال فإن المهر على الأب شامل لما يؤخذ في الدين وما لا يؤخذ فيه ، مثل دار السكنى ودابة الركوب ونحوهما إلا أن ذلك لا يقتضي صرف الثاني من هذين الفردين في أداء دين المهر لو تزوج والحال كذلك ، فلو كان له دار سكنى وفرس ركوب ونحوهما ، فإن إطلاق النصوص والفتاوى يقتضي أن المهر عليه دون الأب ، ولكنه متى تزوج كذلك كان المهر في ذمته ، ولا يجب عليه صرف هذه الأشياء في أداء دين المهر لو طلبته الزوجة ، بل يبقى المهر ثابتا في ذمته إلى أن يتيسر له قضاؤه ، وقوفا على مقتضى الدليلين في كل من المقامين ، فإن غاية ما يدل عليه الدليل في هذه المسألة هو أنه متى كان له مال فالمهر عليه دون أبيه ، بمعنى أن المهر يكون في ذمته والحكم بوجوب المهر في ذمته لا يقتضي وجوب صرف هذه الأشياء في أدائه ، بل يرجع في ذلك إلى تلك المسألة الأخرى ، وهو استثناء هذه الأشياء من الصرف في الدين ، بل يبقي في ذمته إلى أن يقدر على الوفاء جمعا بين الأصلين المذكورين.

الرابع : لا ريب أن كل موضع لا يضمن الأب المهر فيه لو أداه تبرعا عنه فإنه لا رجوع له به ، كما لو أداه الأجنبي ، أما لو ضمنه صريحا وانتقل إلى ذمته بالضمان ، فلو ادى بعد ذلك فهل يرجع به أم لا؟ اختلف كلام العلامة في التذكرة في ذلك فقال في موضع منها بجواز رجوعه إذا قصد بالضمان الرجوع ، محتجا بأن قصد الرجوع هنا يجري مجري إذن المضمون عنه في الضمان ، وفي موضع آخر قطع بعد الرجوع محتجا بأنه أدى مالا وجب عليه بأصل الشرع.

وأورد عليه بأن في الفرق بين ضمانه لذلك وأدائه له ابتداء نظرا ، لأنه بالنظر إلى الطفل متبرع في الموضعين ، وبالنظر إلى كونه وليا منصوبا للنظر ،

٥٧٥

ورعاية المصلحة للابن ينبغي عدم الضمان في الموضعين إذا أدى وضمن بطريق الولاية على قصد الرجوع على الطفل.

ويتجه على هذا أن يقيد بكون ذلك مصلحة للطفل ، فإن مطلق وفاء الدين عن المعسر وانتقاله من مستحق إلى آخر لا يكون مصلحة مطلقا ، بل قد يكون ، كما لو كان المستحق الثاني أسهل من الأول ، وأرفق بالمديون ، وقد ينعكس ، فإن انضم إلى كون الأداء والضمان مصلحة للطفل مع قصد الرجوع عليه اتجه جوازه ، وإلا فلا.

الخامس : إذا دفع الأب عن ولده الصغير مع يسار الولد تبرعا أو مع فقره لكونه ضامنا له ، ثم بلغ الولد وطلق قبل الدخول ، فإنه يزول ملك المرأة عن نصف الصداق ، وهل يرجع في هذه الصورة إلى الأب أو الابن؟ الأقوى أنه يرجع إلى الابن ، وهو اختيار جمع من الأصحاب منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، وسبطه السيد السند في شرح النافع ، وتردد المحقق في الشرائع.

ووجه القوة فيما قويناه ما صرحوا به من أنه لا ريب أن المرأة قد ملكته بقبضها إياه من الأب ، سواء كان قد لزمه بالضمان أم دفعه تبرعا ، ومن ثم كان النماء لها ، وخروج النصف بالطلاق ثابت للزوج بالنص ، وهو ملك جديد ثبت له بعد ملك المرأة ، لا إبطال لملك المرأة السابق ، ليرجع إلى مالكه ، ولأن دفع الأب له كالهبة للابن التي لا يجوز الرجوع فيها.

والأظهر الاستناد إلى عموم النصوص الدالة على رجوع النصف إلى الزوج بالطلاق فإنه شامل لهذه الصورة ، لأن ترك الاستفصال دليل على العموم في المقال.

وأما ما ذكره المحقق من التردد في الحكم فإن منشأه مما ذكرناه ، ومن أن المهر عوض البضع ، والبضع ملك للولد قطعا ، فيكون عوضه عليه ، ولزومه للأب من حيث إلزامه ذمة الصغير الذي لا يحتاج إلى النكاح لا يوجب كون دفعه هبة له ، وإن نزل منزلتها ، فلا يلزم مساواتها في جميع الأحكام ، وإنما القصد منه

٥٧٦

وفاء دين الولد ، فإذا برءت ذمته من النصف بالطلاق ينبغي أن يعود إلى الأب.

ورد بمنع استلزام ملك الولد البضع كون عوضه عليه ، وانتفاضة ظاهر بالمتنازع ، فإن العوض على الأب إجماعا.

إنما الكلام في عوده بعد خروجه عن ملكه ، ووجوب وفائه ، ثم لا نقول : إن دفع الأب له هبة حتى يلزم ما ذكره ، وإنما فرضناه منزلا منزلة الهبة لما بينهما من المناسبة ، وإلا فهو دين وفاه المستحق عليه وانتقاله من المستحق له بالطلاق ملك آخر قهري إلى الزوج ، لا اختيار فيه لأحد.

أقول : والأظهر عندي ما تقدمت الإشارة إليه من أن الاعتماد في ذلك إنما هو على الأخبار الدالة على استحقاق الزوج للنصف بعد الطلاق قبل الدخول ورجوعه إليه ، وفيها غنية عن هذه التكلفات ولا نزاع في كونها بإطلاقها أو عمومها شاملة لموضع البحث.

السادس : لو لم يدفع الأب المهر مع لزومه له وطلقها قبل الدخول فقد قطع الشيخ في المبسوط وتبعه العلامة في القواعد بأنه لا يستحقه الابن ، وتبرأ ذمة الأب من النصف ويلزمه دفع النصف الآخر إلى الزوجة ، وعللوا ذلك بأن دفع المهر بمنزلة الهبة للولد ، فبعد قبضه لا رجوع فيها ، وقبله غير متحققة فتبرء ذمته من النصف ، فلا يملكه الولد لعدم القبض.

وفيه ـ على تقدير تسليم الاعتماد على مثل هذه التعليلات العليلة ـ أن هذا إنما يتم فيما إذا كان الأب متبرعا بالدفع عن الصغير ، كما إذا كان الصغير موسرا أو معسرا ، وقد شرط الأب عدم الضمان على القول به ، أما إذا لزمه ابتداء ، كما إذا كان الولد معسرا ولم يشترط عدم ضمانه ، فإن المهر يلزمه بالعقد سواء كان قبضته الزوجة أم لا ، حتى لو كان عينا ملكت نماؤها كما سلف ، فلا يظهر الفرق بين قبضها وعدمه هنا ، والتعليل بالهبة لا يظهر إلا مع التبرع به لا مع لزومه ابتداء وهو جيد.

٥٧٧

السابع : لو دفع الأب المهر عن الولد الكبير متبرعا ، ثم طلق قبل الدخول ، فهل يعود النصف إلى الدافع وهو الأب أو إلى الزوج وهو الابن؟ قولان ، وبالثاني قطع العلامة في التذكرة على ما نقل عنه ، وتردد فيه في الشرائع ، واستشكله في القواعد ، وفي التحرير قوى الأول ، وجزم الشهيد الثاني في المسالك وسبطه في شرح النافع بالحكم برجوعه إلى الزوج ، وهو الظاهر لعين ما تقدم من أن العين قد انتقلت إلى الزوجة وصارت ملكها بعد قبضها إياها ، والعود إلى الولد إنما وقع بملك جديد ، وفي معناه ما لو دفعه أجنبي تبرعا فإن الحكم فيه بعد القبض كذلك.

قالوا : ومن هنا ظهر الفرق بين دفع الأب المهر إلى الزوجة وعدمه ، لأنه لما لم يكن المهر لازما له فهو متبرع بالوفاء فلا يخرج عن ملكه إلا بدفعه ، فإن دفع الجميع كان الحكم كما سبق ، وإن دفع النصف وطلق الولد قبل الدخول سقط النصف الآخر عن ذمة الزوج ، ولم يجب على الأب دفعه إلى الولد بغير إشكال ، لانتفاء ما يقتضيه.

ووجه تردد المحقق هنا واستشكال العلامة ما ذكروا من الأصل بقاء الملك على مالكه حيث لم يتحقق قصد التمليك ، بل غايته إرادة إبراء ذمته من الدين ، فإذا برءت بالطلاق عاد المال إلى أصله ، ودفعه في قضاء الدين عنه لا يستلزم أن يكون هبة ، حتى أنه يقال : إن الولد ملكه ، ولا يصح للأب الرجوع في هبة الولد.

ورد بما عرفت من أنه بالدفع إلى المرأة قد انتقل عن ملكه ، وصار ملكا لها قطعا.

وأما الولد فلا دخل له في ذلك ، ليقال إنه هبة أو إنه صار مملوكا للولد. بل الزوج إنما استحقه بملك جديد بعد أن صار للمرأة ، للأخبار الدالة على رجوع النصف له بالطلاق.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك : واعلم أن الشيخ في المبسوط قطع في المسألتين بعدم عود النصف المدفوع إلى الوالد كما ذكر المصنف من غير تردد ،

٥٧٨

واتفق كلام العلامة في كتبه في أن الحكم في الصغير كذلك ، واختلف كلامه في الكبير ، ففي التذكرة والإرشاد قطع بكون حكمه حكم الصغير في عود النصف إليه ، وفي التحرير قوى رجوعه إلى الأب بعد أن حكم بكونه للولد ، وفي القواعد استشكل بعد حكمه بكونه للولد أيضا.

وبالجملة فلم يتحقق في الصغير خلاف ، وإنما هو ظاهر في الكبير ، وإنما تردد المصنف نظرا إلى ما يظهر من عدم إفادة تعليلهم المدعى ، فإن الشيخ وغيره إنما عللوه بكونه هبة ، والهبة لا يرجع فيها بعد إقباضها للرحم ، أو بعد التصرف فيها ، ولا يخفى قصور التعليل ، انتهى.

البحث الرابع : في التنازع ، وفيه مسائل :

الاولى : لو اختلفا في أصل المهر بأن ادعته المرأة وأنكر الزوج ، فقال : لا مهر لك عندي ، وما أشبهه ، فإن كان ذلك قبل الدخول فالظاهر أنه لا إشكال ولا خلاف في أن القول قول الزوج بيمينه ، لأن مجرد العقد لا يستلزم المهر لانفكاكه عنه في صورة التفويض ، ثم يمكن استمرار براءته إلى أن يموت أحدهما قبل الدخول.

وإن كان بعد الدخول فقد أطلق الأكثر أنه كذلك أيضا ، وهو على إطلاقه مشكل ، لأن العقد إن اشتمل على مهر فهو الواجب ، والأصل بقاؤه ، وإن لم يشتمل على مهر كان مهر المثل واجبا بالدخول ، فالقول بأن القول قول الزوج بيمينه ـ والحال كما عرفت ـ مشكل.

وربما أجيب بالتمسك بالبراءة الأصلية ، وتوضيحه أن العقد لا يستلزم وجوب المهر على الزوج وكذا الدخول لا يستلزمه بل هو أعم منه ، والعام لا يدل على الخاص ، وبيان العموم أن الزوج قد يكون صغيرا معسرا زوجه أبوه ، فإن المهر في ذمة الأب ، أو يكون عبدا زوجه مولاه ، فكان المهر على المولى.

وبذلك يظهر أن الدخول لا يستلزم ثبوت المهر في ذمة الزوج ، ومنه يظهر

٥٧٩

صحة التمسك بأصالة البراءة في مقام الاختلاف.

وفيه أنه لا خلاف نصا وفتوى في أن تفويض البضع موجب لمهر المثل مع الدخول ، وهذا هو الذي تمسكنا به ، وما ذكر من هذين الموضعين لا ينافي ذلك ، فإنا نقول بموجبهما ، فإن ثبت هنا أن النكاح كان على أحد هذين الوجهين فلا نزاع في أن القول قول الزوج بيمينه ، أما لو علم انتفاؤهما فهو محل الاشكال ، فلا يتم ما ذكروه كليا.

وبالجملة فإن ما ذكروه جيد إن ثبت انتفاء التفويض ، إما باتفاقهما على ذلك ، أو قيام البينة وما في معناها على ذلك ، لجواز أن يكون المهر المسمى دينا في ذمة المرأة أو عينا في يدها ، فلا يكون العقد المشتمل على التسمية بمجرده مقتضيا لاشتغال ذمة الزوج بشي‌ء من المهر.

ونقل عن العلامة في التحرير قول آخر في المسألة ، وهو أنه إذا وقع الاختلاف في أصل المهر بعد الدخول يستفسر ، هل سمى أو لا؟ فإن ذكر تسميته كان القول قوله مع اليمين ، وإن ذكر عدمها لزم مهر المثل ، وإن لم يجب بشي‌ء حبس حتى يبين. واعترضه في المسالك بوجوه ، من أحب الوقوف عليها فليرجع إلى الكتاب المذكور.

وفي القواعد فصل تفصيلا آخر ، فقال : والتحقيق أنه إن انكسر التسمية صدق باليمين ، لكن يثبت عليه ـ قبل الدخول مع الطلاق ـ المتعة ، ومع الدخول مهر المثل ، والأقرب أن دعواها إن قصرت عنهما ثبت ما ادعته ، ولو أنكر لاستحقاق عقيب دعواها إياه أو دعواها التسمية ، فإن اعترفا بالنكاح فالأقرب عدم سماعه.

قال في المسالك : وهو أقل إشكالا من الأول. ثم أطال في الكلام عليه وبيان ما اختاره في المسألة بتفصيل يقف عليه من أحب الرجوع إليه ، والملخص عندي ما قدمنا ذكره.

وأما ما أضيف إلى ذلك من التفريعات في المسألة فمحل إشكال ، ولو كان

٥٨٠