الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

يحصل الجواب عن الوجه الثاني.

وفي الثالث : أنه قد يؤدي إلى بقاء النزاع لعدم بدءة أحدهما ولا بد من نصب طريق شرعي يحسم مادته ، وهذه الأوجه قد مضى نقلها في البيع ، انتهى كلامه علت في الخلد أقدامه.

وقال سبطه السيد السند والعلامة الأوحد السيد محمد في شرح النافع ـ بعد ذكر ذلك ، ونعم ما قال ، فإنه الأصح من هذه الأقوال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق ، لا الحق بالرجال ـ ما صورته : إنا لم نقف في هذه المسألة على نص ، والذي يقتضيه النظر فيها أن تسليم الزوجة نفسها حق عليها ، وتسليم المهر إليها حق عليه ، فيجب على كل منهما إيصال الحق إلى مستحقه ، وإذا أخل أحدهما بالواجب عصى ، ولا يسقط بعصيانه حق الآخر ، فإن تم الإجماع على أن لها الامتناع من تسليم نفسها إلى أن تقبض المهر كما ذكره الأكثر أو إلى أن يحصل التقابض من الطرفين فلا كلام ، وإلا وجب المصير إلى ما ذكرناه. انتهى وهو جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه.

وما اعترضه به هنا بعض مشايخنا المعاصرين من المحدثين (١) ـ حيث قال بعد نقله ما صورته : وقد ظهر من كلامه أنه مخالف للأصحاب في المسألة ، وإنما خالفهم لعدم وقوفه في المسألة على نص ، مع أن الذي ذكره أيضا خال من النص ، فلا وجه لترجيحه على كلامهم ، انتهى ـ ظاهر السقوط ، وذلك لأن ما ذكره السيد المزبور وإن كان خاليا من النص على الخصوص ، إلا أنه الموافق للقواعد الشرعية والضوابط المرعية ، إذ لا يخفى أن قضية العقد أوجبت استحقاق الزوج البضع ، واستحقاق المرأة المهر ، فليس لأحدهما الإخلال بما وجب عليه في مقابلة امتناع الآخر ، وإخلاله بما وجب عليه ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ناظر.

__________________

(١) هو الشيخ المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني في جواب المسائل الحسينية. (منه ـ رحمة الله عليه ـ).

٤٦١

وما ذكره السيد المشار إليه هنا قد سبقه إليه أستاذه المحقق الأوحد المولى أحمد الأردبيلي ـ رحمه‌الله عليه ـ في كتاب البيع في شرحه على الإرشاد كما ذكره ثمة حيث قال ـ بعد نقل قول المصنف «ويجب على المتبايعين دفع العوضين من غير أولوية» إلى آخره ـ ما صورته : اعلم أن الأكثر هكذا قالوا :

وحاصله أنها يجب عليها معا الدفع ، أو بعد أخذ العوض ، ويجوز لكل المنع حتى يقبض ، وكأنهم نظروا إلى أن البيع معاوضة محضة ، ولا يجب على كل منهما الدفع ، لأن العوض مال الآخر ، فما لم يأخذ العوض لا يجب إعطاء العوض ، والمسألة مشكلة كسائرها لعدم النص ، وثبوت الانتقال بالعقد يقتضي وجوب الدفع على كل واحد منهما عند طلب الآخر ، وعدم جواز الحبس حتى يقبض ، وجواز الأخذ لكل حقه من غير إذن الآخر إن أمكن له على أي وجه كان ، لأن ذلك هو مقتضى الملك ، ومنع أحدهما حق الآخر وظلمه لا يستلزم جواز الظلم للآخر ، ومنعه من حقه فيجبرهما الحاكم معا على ذلك إن امتنعا ، فيعطي من يد ويأخذ من أخرى ، أو يقبض لأحدهما ، ويأمره بالإعطاء ، انتهى كلامه.

وقد تكلف بعض المجتهدين من مشايخنا المعاصرين (١) في الاستدلال للقول المشهور بأدلة لا يخلو من القصور حيث سئل عن هذه المسألة فأجاب ـ رحمة الله عليه ـ بأن لها الامتناع حتى تقبضه هي أو وكيلها وفاقا للمشهور ، قال : لأن تقديم المهر أو بعضه هو المتعارف في جميع الأعصار وبه جرت السنة ، فعند إطلاق العقد يكون بمنزلة ما شرط تقديمه ، فلها الامتناع حتى تقبضه أو ترضى بشي‌ء عملا لمقتضى الشرط ، وما كان بمنزلته.

ويدل عليه ما رواه الشيخ (٢) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا

__________________

(١) هو شيخنا الشيخ أحمد الجزائري المجاور بالنجف الأشرف حيا وميتا قدس الله سره. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٥٧ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٢ ح ١.

٤٦٢

تزوج الرجل المرأة فلا يحل له فرجها حتى يسوق إليها شيئا درهما فما فوقه أو هدية من سويق أو غيره». والمعنى لا يحل له جبرها على فرجها حتى يسوق إليها مهرها أو شيئا ترضى به ، وأما إذا رضيت فهي حلال له ، ولا تحرم بلا خلاف ، ويكون المهر دينا عليه كما تدل عليه الأخبار.

ويدل عليه أيضا قول أبي جعفر عليه‌السلام في صحيحة الفضيل بن يسار (١) «فالذي أخذت من الزوج قبل أن يدخل بها حل للزوج به فرجها قليلا كان أو كثيرا إذا هي قبضته منه وقبلت ودخلت عليه ، ولا شي‌ء لها بعد ذلك».

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام في صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٢) «إذا أهديت إليه ودخلت بيته ثم طلبت بعد ذلك فلا شي‌ء لها». فإن فيه إشعارا وواضحا بأن لها الامتناع من الدخول حتى تقبض ما ترضى به ، ويرشد إلى ذلك ، أن فائت المال يستدرك بإقامة مثله ، وفائت البضع لا يستدرك ، لعدم إمكان قيام مثله مقامه. فينبغي أن يسلم المهر إليها أولا ثم هي تسلم نفسها ، فإذا أرادت مهرها وبذلت نفسها فعلى الحاكم أن يجبره على التسليم أولا إذا امتنع ، كما يجبره على الحقوق ، فإن بذله لها مقدما فعلى الحاكم أن يجبرها على تسليم نفسها إن امتنعت ، وهذا هو الموافق للعدل ، والمأمور به من قوله «(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، والمفتي به عند الكل ، انتهى.

أقول : الظاهر عندي أن ما تكلفه من هذا الدليل ، فإنه لا يشفي العليل ، ولا يبرد الغليل ، ولا يفي بالهداية إلى ذلك السبيل.

أما (أولا) فإن ما ذكره من أن تقديم المهر أو بعضه لما كان هو المتعارف في جميع الأعصار ، وبه جرت السنة ، فهو كالشرط في إطلاق العقد ، فلها الامتناع

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٥ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٩ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٧ ح ١٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٨٥ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٩ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٥ ح ١٨.

٤٦٣

حينئذ حتى تقبض المهر ، لا يخفى ما فيه بعد تسليم ما ذكره على من راجع الآيات والأخبار الدالة على التشديد في الفتوى ، فإنه لا بد من العلم واليقين فيما يحكم به ويفتي به ، ووجوب الوقوف مع الاشتباه ، وهي مستفيضة في الكافي وغيره.

ومن ذلك ما رواه في الكافي (١) بإسناده إلى زرارة قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام : ما حق الله على العباد؟ فقال : أن يقولوا ما يعلمون ، ويقفوا عند ما لا يعلمون».

وعن هشام بن سالم (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله.

وعن زياد بن أبي رجا (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «ما علمتم فقولوا ، وما لم تعلموا فقولوا : الله أعلم».

وعن إسحاق بن عبد الله (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إن الله خص عباده بآيتين من كتابه «أن لا يقولوا حتى يعلموا ، ولا يردوا ما لم يعلموا ، وقال الله تعالى «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ» (٥).

وعن حمزة الطيار (٦) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه ، والتثبت والرد إلى أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد».

وفي حديث صاحب البريد المروي في الكافي (٧) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أما إنه شر عليكم أن تقولوا بشي‌ء ما لم تسمعوه منا». إلى غير ذلك من الأخبار.

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٤٣ ح ٧ ، الوسائل ج ١٨ ص ١١ ح ٩.

(٢) الكافي ج ١ ص ٥٠ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٢ ب ٤ ح ١٠.

(٣) الكافي ج ١ ص ٤٢ ح ٤ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٠ ب ٤ ح ٥.

(٤) الكافي ج ١ ص ٤٣ ح ٨.

(٥) سورة الأعراف ـ آية ١٦٩.

(٦) الكافي ج ١ ص ٥٠ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٨ ص ٥٩ ح ٢٩.

(٧) الكافي ج ٢ ص ٤٠٢ ذيل ح ١ ط طهران ، الوسائل ج ١٨ ص ٤٧ ب ٧ ح ٢٥.

٤٦٤

وحينئذ فكيف يمكن التجاسر على الحكم لها بالامتناع من تسليم نفسها بعد ملك الزوج للبضع بالعقد ، وأنه هو الناقل له ، والمبيح أن يقال فيه أنه محتمل لذلك ، لا أنه دليل شرعي يصح تأسيس الأحكام الشرعية به وترتبها عليها ، ولو صح الاعتماد على مثل هذه التخريجات في الأحكام الشرعية لاتسع المجال وعظم الاشكال ، سيما مع ما عرفت من استفاضة الآيات والروايات بالنهي عن القول والفتوى بغير علم قطعي ، ويقين شرعي كما عرفت.

وأما (ثانيا) فإن ما استند إليه من رواية أبي بصير ـ وأن المعنى أنه لا يحل له جبرها على فرجها حتى يسوق إليها مهرها أو شيئا ترضى به ـ ففيه أن المراد من الرواية كما ذكره الأصحاب قديما وحديثا إنما هو كراهة الدخول بها قبل ذلك ، وكيف لا ، وهو قد استباح فرجها بالعقد ، وملك بضعها بذلك ، فكيف يتوقف حلها على دفع المهر أو شي‌ء آخر مع اتفاق الأصحاب على أن المهر ليس ركنا في العقد ، ويملك البضع بدون ذكره بالكلية.

ويوضح ذلك بأتم إيضاح قيام غير المهر مقامه في ذلك ، فإن الاتفاق قائم على أن حل الفرج لا يتوقف على ذلك بالكلية ، فكيف يتوهم من لفظ لا يحل هنا التحريم ، والحال كما عرفت.

ومن الأخبار الظاهرة فيما ذكرناه صحيحة بريد العجلي (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله ، فقال : ما أحب أن يدخل حتى يعلمها السورة أو يعطيها شيئا ، قلت : أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ قال : لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٧ ح ٥٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٢ ح ٢.

٤٦٥

وروى أحمد بن محمد بن عيسى (١) في كتاب النوادر عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل تزوج امرأة بنسية ، فقال : إن أبا جعفر عليه‌السلام تزوج امرأة بنسية ، ثم قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : يا بني ليس عندي من صداقها شي‌ء أعطيها إياه وأدخل عليها ، فأعطني كساءك هذا فأعطيها إياه ، فأعطاها ثم دخل بها».

وفي موثقة أبي بصير (٢) قال : «تزوج أبو جعفر امرأة فزارها وأراد أن يجامعها ، فألقى عليها كساه ثم أتاها ، قلت : أرأيت إذا أوفى مهرها إله أن يرتجع الكساء؟ قال : لا إنما استحل به فرجها».

وإنما حملنا هذه الأخبار على الكراهة ، لما بإزائها من الأخبار الدالة على جواز الدخول بها من غير أن يعطيها شيئا.

ومنها رواية عبد الحميد بن عواض (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام الدالة على أنه يصلح أن يواقعها ولم ينقدها من مهرها شيئا.

وفي رواية أخرى (٤) له عنه عليه‌السلام قال : «قلت له : أتزوج المرأة وأدخل بها ولا أعطيها شيئا؟ قال : نعم يكون دينا لها عليك».

وفي ثالثة له (٥) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتزوج المرأة فلا يكون

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ١٣ ح ٥.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٨ ح ٥٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٣ ب ٣٣ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤١٣ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٨ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٦ ب ٨ ح ١٠.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤١٣ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٧ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٦ ب ٨ ح ٩.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٤١٤ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٨ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٤ ب ٨ ح ٢.

٤٦٦

عنده ما يعطيها فيدخل بها؟ قال : لا بأس ، إنما هو دين لها عليه».

وما رواه أحمد بن محمد بن عيسى (١) في كتاب النوادر في الموثق عن زرارة قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تزوج امرأة ، أيحل له أن يدخل بها قبل أن يعطيها شيئا؟ قال : نعم».

ولو تم ما ذكره من أنه لا يحل له جبرها على فرجها حتى يسوق إليها مهرها أو شيئا ترضى به ، للزم طرح هذه الأخبار ، مع أنها هي المعتضدة بالاتفاق على التحليل بالعقد ، وأنه هو المبيح لذلك لا غير.

وأما ما اشتمل عليه خبر أبي بصير من أنه لا يرتجع الكساء ، لأنه إنما استحل فرجها به ، فإنه محمول على تأكد استحباب الدفع إليها شيئا قبل الدخول ، وذلك لأنه إنما استحل فرجها بالعقد لا بما دفعه أخيرا من مهر أو هدية ، وما استند إليه من لفظ «لا تحل» وأنه محمول على ظاهره من التحريم فهو مما لا يتجسمه محصل ، للاتفاق نصا وفتوى على التحليل بالعقد ، فلا بد من الحمل على المجاز كما ورد في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تدع عانتها فوق عشرين يوما». رواه في الكافي (٢) ، على أن ما اعتمده من هذه الأخبار مدخول أيضا من وجهين :

أحدهما : إن مقتضى كلامه أن الأمر بدفع هذه الأشياء قبل الدخول إنما هو ليرضيها ، وإلا فلو رضيت من غير شي‌ء فهي له حلال ، والمفهوم من الأخبار التي تلوناها أن دفع ذلك إنما هو من حيث إنه السنة في الدخول قبل دفع المهر ، فإنه يدفع لها ذلك ، وإن رضيت بالدخول بغير شي‌ء بالكلية إذ لا إشعار في شي‌ء منها بأن الدفع إنما هو لامتناع المرأة من الدخول ، وأن الإعطاء إنما هو لاسترضائها ، وأخبار الكساء الذي ألقاه الباقر عليه‌السلام على امرأته ثم أتاها ظاهرة

__________________

(١) الوسائل ج ١٥ ص ١٨ ح ١٧.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٥٠٦ ح ١١ ، الوسائل ج ١ ص ٤٣٩ ب ٨٦ ح ١.

٤٦٧

فيما قلناه ، وكذا غيرها.

وثانيهما : إن محل البحث ومطرح الكلام هو أن لها الامتناع حتى تقبض المهر ، والذي دلت عليه هذه الأخبار هو الاكتفاء بدفع شي‌ء على جهة الهدية ، وأنه ليس لها الامتناع بعد ذلك ، وأحدهما غير الآخر ، وحينئذ فلا دلالة فيها على ما ادعوه.

وأما (ثالثا) فإن ما استند إليه من صحيحة الفضيل بن يسار وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج الدالتين على سقوط المهر بالدخول ، فمع أنهما لا إشعار فيهما بما نحن فيه كما ادعاه وسجل عليه بأنه إشعار واضح ، فالقول بما دلا عليه مرغوب عنه كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله.

وكيف كان فما ادعاه من إشعارهما بما ذكره لا أعرف له وجها ، ولعل وجه الاشعار عنده بهذه العبارة التي نقلها من صحيحة الفضيل (١) وهي قوله : فالذي أخذت من الزوج قبل أن يدخل بها ، حل للزوج به فرجها من حيث الاشعار بتحريم الفرج على الزوج مع عدم الأخذ ، وإذا كان الفرج حراما بدون ذلك فلها الامتناع حينئذ قبل الأخذ ، وفيه ما عرفت من أن حل الفرج هنا إنما حصل بالعقد ، لا بدفع المهر كلا أو بعضا أو غيره من هدية ونحوها ، وهذا الكلام في جملة هذه الاخبار إنما خرج مخرج التجوز في الكناية عن استحباب تقديم المهر أو بعضه أو غيره من هدية ونحوها لا أنه محمول على ظاهره فإنه باطل اتفاقا إذ لا خلاف ولا إشكال في أن تحليل الفرج إنما حصل بالعقد ، وتؤيده الأخبار المتقدمة الدالة على جواز الدخول بها وإن لم يدفع إليها شيئا.

وأما (رابعا) فإن ما ذكره ـ من أنه يرشد إلى ذلك أن فائت المال يستدرك إلى آخره ـ بمعنى أنه يجب تقديم المهر إليها أولا لأنه لو امتنعت من تسليم

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٥ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٩ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٧ ح ١٣.

٤٦٨

البضع يمكن استرجاعه منها ، بخلاف ما إذا قدمت البضع ودخل بها ، فإنه لا يمكن استدراكه إذا لم يدفع المهر.

فيه أنه أول المسألة ومحل البحث ، فإن الخصم يمنع ذلك ، ويقول : إن البضع هنا ليس بفائت ، بل هو تسليم للحق إلى مستحقه ، دفع الزوج المهر أم لم يدفع ، لأن الزوج قد ملك البضع بمجرد ، العقد ، كما أنها قد ملكت المهر في الصورة المفروضة كذلك ، وبما شرحناه وأوضحناه يظهر لك ما في قوله ، هذا هو الموافق للعدل والمأمور به من قوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) فإن فيه أن دعوى موافقته للعدل عدول عن المنهج الواضح ، بل الموافقة للعدل إنما تحصل بالجري على ما اقتضاه العقد من انتقال كل من العوضين إلى الآخر ، ووجوب تسليمه إليه من غير توقفه على شي‌ء ، وهذا هو المأمور به في قوله عزوجل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» حيث إن قضية العقد انتقال البضع إلى الزوج والمهر إلى الزوجة ، فيجب على كل منهما الوفاء بما اقتضاه العقد من الانتقال على الوجه المذكور من غير توقف لأحدهما على الأخر ، وحينئذ فالآية عليه لا له ، وبالجملة فإن جميع ما لفقه في هذا المقام وزعم أنه دليل واضح فهو من جملة الأوهام التي لا يعرج عليها في الأحكام.

الثاني : الصورة الأولى بحالها ولكن الزوج معسر ، والمشهور أن الحكم فيها كما تقدم من جواز الامتناع لها حتى تقبض المهر ، وإنما الفرق بين الصورتين عندهم بالإثم وعدمه ، فإنه مع اليسار وطالبتها يأثم الزوج بالمنع ، وتستحق عنده النفقة ، وإن لم تسلم نفسها إذا بذلت التمكين بشرط تسليم المهر ، وأما مع إعساره فلا إثم عليه بالتأخير.

وفي استحقاق النفقة وجهان (٢) وذهب ابن إدريس إلى أنه ليس لها الامتناع

__________________

(١) سورة المائدة ـ آية ١.

(٢) أحدهما : العدم لانتفاء التمكين حيث انه معلق بأمر ممتنع عادة ، وهو اختيار الشهيد في شرح الإرشاد ، وثانيهما : انها تستحق النفقة كما في الموسر لاشتراكهما في بذل

٤٦٩

مع الإعسار لمنع مطالبته ، فيبقى وجوب حقه بلا معارض ، واختاره السيد السند في شرح النافع ، وهو جيد ، واعترضه المحقق الشيخ علي ومثله الشهيد الثاني بأن منع المطالبة مع الإعسار لا يقتضي وجوب التسليم قبل دفع العوض ، ولأن النكاح نوع معاوضة ، فلا يجب تسليم أحد العوضين بدون الآخر ، وإلى ما ذكره يميل كلام شيخنا المحدث المعاصر المتقدم ذكره (١) حيث قال ـ في رد كلام ابن إدريس بناء على ما ذكره في المسألة السابقة ـ : إن الذي اقتضاه الدليل أمران ، أحدهما جواز الامتناع قبله ، والثاني جبره على تسليم المهر إليها إذا طلبته ، والإعسار إنما رفع الثاني ولا يستلزم رفع الأول.

وأنت خبير بعد الإحاطة بما أسلفناه ما في كلاميهما من النظر الظاهر ، ومن ثم مال إلى ما اخترناه في هذه المسألة وفي السابقة المولى الفاضل ملا محمد باقر الخراساني في كتاب الكفاية.

قال السيد السند في شرح النافع ـ بعد نقل كلام المحقق الشيخ علي المتقدم ـ ما صورته : وهو مدفوع بعموم ما دل على أنه يجب للزوجة طاعة الزوج خرج من ذلك ما إذا امتنع من تسليم المهر إليها مع يسار ، فيبقى ما عداه مندرجا في العموم ، انتهى.

واعترضه هنا أيضا شيخنا المحدث المذكور بأن فيه نظرا ، لأن مقتضى هذا الدليل يتناول المعسر والموسر معا ، وقد تقرر سابقا أن مقتضى النظر أن ليس

__________________

التمكين بشرط تسليم المهر ، وامتناع التسليم عادة ، ولا دخل له في الفرق سيما أنه يمكن الاجتماع بالعرض ونحوه ، وهو اختيار شيخنا الشهيد الثاني ـ قدس‌سره ـ في المسالك.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(١) هو شيخنا المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني ـ قدس‌سره ـ وشيخنا المعاصر الأخر الذي قدمنا ذكره أيضا انما هو من المجتهدين ، والإشارة بالمحدث قرينة إرادة الأول دون الأخر. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٧٠

لها الامتناع وإن عصى ، لعدم النص على ذلك ، وليس الإجماع عنده متحققا ، فما باله يرد كلام الشيخ بحجة لم يتحقق عنده ، فإما أن يقول الأصحاب مطلقا ، أو يخالفهم مطلقا ، فإن التفصيل مدخول ، والدليل معلول. انتهى ، وظني أن ما اعترضه به ـ رحمة الله عليه ـ لا وجه له.

أما (أولا) فلأن كلام السيد ـ رحمة الله عليه ـ في المسألة الاولى ليس بصريح في الجزم والفتوى بما ذكره بل علق على ثبوت الإجماع وعدمه ، فإن ثبت الإجماع على ما ادعوه كان الأمر على ما قالوه ، وإلا وجب المصير إلى ما ذكره ، ولم يصرح بأن الإجماع عنده متحقق أو غير متحقق ، بل الإجماع عنده في مقام الاحتمال ، فلذا جعل الحكم في قالب الإجمال.

و (ثانيا) إن كلامه هنا إنما جرى فيه على طريق المماشاة مع الأصحاب فيما ذكروه في تلك المسألة فإنه على تقدير صحة كلامهم في المسألة السابقة لا يتم إلحاق هذه بها ، وجعلها مثلها ـ كما ادعوه ـ لظهور الفرق بينهما بما ذكره من أن ما دل (١) على عموم إطاعة الزوجة للزوج وإن خصص في تلك المسألة بالإجماع المدعى على جواز امتناعها ، إلا أنه لا مخصص هنا له ، لعدم تحقق الإجماع في المسألة ، وهو كلام صحيح لا غبار عليه ، ولا يتطرق القدح بوجه من الوجوه إليه ، ثم إن شيخنا المحدث المذكور ، قال ـ بعد البحث في المسألة الذي من جملته ما نقلناه عنه ـ ما صورته : وعندي في كلا الحكمين توقف ، لعدم الظفر بشي‌ء من النصوص من أهل العصمة عليهم‌السلام فيها وقد أرجيت حكمها إلى العالم من أهل بيت محمد ـ عجل الله فرجه ـ ورددتها إلى الله ورسوله وإليه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ انتهى كلامه.

أقول : ما ذكره من التوقف ـ وإن كان لا يخلو من وجه ـ لعدم النص في المسألة على الخصوص ، إلا أن ما ذكره السيد السند المتقدم ذكره جريا على ما ذكره

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥١٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ١١١ ب ٧٩.

٤٧١

شيخه المحقق الأردبيلي ـ عطر الله مرقديهما ـ في المقام لا يخلو من قرب تام لما ذكرناه من أن مقتضى العقد انتقال البضع إلى الزوج ، وانتقال حق المهر في الصورة المفروضة إلى الزوجة ، وأنه لا دليل على توقف دفع أحدهما على الآخر إلا ما يدعى من الإجماع ، وقد عرفت ما فيه في غير موضع مما تقدم ، ولا سيما في بحث صلاة الجمعة من كتب العبادات ، وما يدعونه من أن النكاح من المعاوضات ، وفيه ما عرفت أيضا من عدم الدليل على الامتناع في المعاوضات ، ومع تسليم الدليل في المعاوضات ، فحمل النكاح عليها قياس لا يناسب أصول المذهب سيما مع اعترافهم بأنه ليس من المعاوضات الحقيقية كما تقدم ذكره ، وإنما له شبه بها في بعض الموارد ، ومجرد المشابهة لا يقتضي أن يكون من كل وجه ، وللأدلة الدالة على وجوب قيامها بحقوق الزوجية الواجبة عليها ، ووجوب إطاعته متى أرادها ، خرج من ذلك ما قام الدليل على خروجه ، وبقي الباقي وهذا منه ، حيث إنه لم يقم هنا دليل شرعي على العذر لها في الامتناع.

الثالث : الصورة الاولى وأن يكون المهر مؤجلا ، معسرا كان الزوج أو مؤسرا ، وقد قطع الأصحاب بأنه ليس لها الامتناع ، إذ لا يجب لها عليه شي‌ء فيبقى وجوب حقه عليها بلا معارض ، فيجب الوفاء بالعقد الواقع عن رضاها به ، والحكم هنا لا إشكال فيه ، وإنما الكلام فيما لو مضت المدة ولم يدخل بها لمانع من جهته كمرض أو غيبته أو نحوهما ، أو مانع من جهتها شرعي كالحج والمرض المانع من جميع أنواع الاستمتاع ، أو غير شرعي كما لو منعت نفسها عصيانا وأقدمت على فعل الحرام حتى انقضت المدة ، قالوا : في جواز امتناعها إلى أن تقبضه تنزيلا له منزلة الحال ابتداء ، وعدمه نظرا إلى استصحاب وجوب التمكين الثابت قبل الحلول وجهان : استجود السيد في شرح النافع الثاني ، وجعله الأقوى في شرح المسالك ، ونقله عن الشيخ في المبسوط قال : وتبعه عليه الأكثر.

٤٧٢

أقول : والقول بجواز الامتناع منقول عن الشيخ في النهاية ، حيث أطلق جواز امتناعها حتى تقبض المهر الشامل لمحل النزاع ، أما بخصوص المسألة فلا نعلم به قائلا ، ولا ذكره أحد ممن تعرض لنقل الأقوال على ما صرح به في المسالك ، وإنما ذكره من ذكره وجها في المسألة واحتمالا.

ثم أقول : وعلى ما اخترناه وحققناه فلا وجه للوجه الأول ، إذ الواجب عليها بذل الطاعة وعدم جواز الامتناع سواء كان المهر حالا أو مؤجلا كما عرفت.

الرابع : الصورة الأولى ، إلا أنه قد دخل بها ، والمشهور أنه ليس لها الامتناع بعد ذلك ، وبه صرح الشيخ في الخلاف والمرتضى وأبو الصلاح ، واختار المحقق وجملة من المتأخرين ، قال في المسالك : وهو الأقوى عملا بمقتضى القواعد السابقة ، فإن المهر قد استقر بالوطء ، وقد حصل تسليمها نفسها برضاها ، ومتى سلم أحد المتعاوضين الذي قبله باختياره لم يكن له بعد ذلك حبسه ، وقيل بجواز الامتناع لها وهو خيرة الشيخ في النهاية والمبسوط والشيخ المفيد والقاضي ابن البراج ، وفرق ابن حمزة بين تسليم نفسها اختيارا ، فحكم بسقوط حقها من الامتناع ، وإكراها ، فجوز لها الامتناع لأنه بسبب الإكراه قبض فاسدا فلا يترتب عليه أثر القبض الصحيح ، ولأصالة بقاء الحق الثابت إلى أن يثبت المزيل.

أقول : وهذا التفصيل مبني على ما ذكره في المسالك من أنه هل يشترط في القبض وقوعه طوعا ، أم يكتفي به مطلقا؟ وجهان ، من حصول الغرض وانتفاء الضمان به كيف اتفق ، ومن تحريم القبض بدون الاذن ، فلا يترتب عليه أثر الصحيح ، قال : والحق أن بعض أحكام القبض متحققة كاستقرار المهر بالوطء كغيرها ، وبعضها غير متحقق قطعا كالنفقة ، ويبقى التردد في موضع النزاع حيث يدخل بها أكرها هل لها الامتناع بعده من الإقباض حتى تقبض المهر أم لا؟ انتهى.

وأنت خبير بأنه على ما حققه فإن الحكم بقي في قالب الاشتباه ، ثم لا يخفى

٤٧٣

أن البحث هنا جار على ما مهدوه من الحكم يكون النكاح من قبيل المعاوضات التي يشترط فيها التقابض من الطرفين ، وأما على ما اخترناه فإنه لا ثمرة لهذا الخلاف لوجوب الطاعة عليها ، وبذل نفسها له متى طلبها ، سلم إليها المهر أو لم يسلمه ، دخل بها أو لم يدخل ، ثم إنه على تقدير تسليم ما ذكروه من البناء على تلك القاعدة ، فإنه يمكن أن يقال في بطلان القول

الثاني : إن مقتضى العمومات الدالة على وجوب التمكين متى طلبها وأرادها هو عدم جواز الامتناع ، خرج منه ما قبل الدخول بالإجماع المدعى إن تم ، فيبقى الباقي مندرجا تحت العمومات المذكورة.

وأما ما ذكره ابن حمزة ـ في صورة الإكراه من أنه قبض فاسد ، فلا يترتب عليه أثر القبض الصحيح ، ولأصالة بقاء الحق الثابت إلى أن يثبت المزيل ـ يمكن دفعه بأن العقد لما اقتضى استحقاق الزوج للبضع وملكه له ، ودلت الأخبار على وجوب إطاعة الزوجة لزوجها متى طلبها وأرادها مطلقا ، مع ما عرفت من عدم الدليل على التوقف على المهر ، فإن ما ذكره من فساد القبض ممنوع ، فإنه قبض حقه ، والاذن فيها غير شرط بعد ثبوت استحقاقه ، ووجوب الطاعة عليها ، والحق الذي أوجبه لها وهو الامتناع حتى تقبض المهر ممنوع ، لعدم الدليل عليه ، هذا هو مقتضى التحقيق بالنظر إلى الأدلة الشرعية والقوانين المرعية ، وما عداه فهو كما عرفت إنما تبنى على دعاوي عارية من الدليل ، لا تشفي العليل ولا تبرد الغليل وإن اشتهرت بينهم جيلا بعد جيل.

البحث الثاني : في التفويض ، وهو لغة الرد إلى الغير ، ومنه قوله «وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ» والإهمال ، ومنه قوله شعرا :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

قال في كتاب المصباح (١) : وفوض إليه أمره تفويضا : أسلم أمره إليه ،

__________________

(١) المصباح المنير ص ٦٦٢.

٤٧٤

وفوضت المرأة نكاحها إلى الزوج حتى تزوجها من غير مهر ، وقيل : فوضت أي أهملت حكم المهر ، وهي مفوضة اسم فاعل ، قيل : مفوضة اسم مفعول لان الشرع فوض أمر المهر إليها في إثباته وإسقاطه (١) ، وقوم فوضى إذا كانوا متساوين لا رئيس لهم ، والمال فوضى بينهم أي مختلط من أراد منهم شيئا أخذه ، وكانت خيبر فوضى أي مشتركة بين الصحابة غير مقسومة ، انتهى.

والتفويض شرعا رد أمر المهر أو البضع إلى أحد الزوجين أو ثالث ، أو إهمال المهر في العقد وعدم ذكره بالمرة ، والأول منهما يسمى تفويض المهر ، والثاني تفويض البضع ، فالكلام هنا يقع في مطلبين :

الأول : في تفويض البضع ، وهو أن لا يذكر في العقد مهر ، مثل أن تقول هي زوجتك نفسي ، أو يقول وليها أو وكيلها زوجتك فلانة ، فيقول الزوج قبلت ، وتحقيق القول فيه يقع في موضعين :

الأول : لا خلاف بين الأصحاب في جواز إخلاء العقد من المهر ، وادعى عليه جماعة الإجماع ، وعليه تدل الآية والأخبار الكثيرة.

أما الآية فهي قوله عزوجل «لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً» (٢) والتقريب فيها على ما ذكره بعض الأصحاب أن الظاهر أن المراد من الجناح المنفي هو المهر ، لأنه تعالى نفي الجناح إلى إحدى الغايتين ،

__________________

(١) أقول : لم أقف في الاخبار على هذه التسمية إلا في بعض أخبار تفويض المهر وهو ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى بصير «قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن الرجل يفوض اليه صداق امرأته فينقص عن صداق نسائها». الخبر ، وسيأتي ان شاء الله تعالى في المطلب الثاني ، وأما أخبار تفويض البضع فلم أقف في شي‌ء منها على هذه التسمية ولكن كلام أهل اللغة كما عرفت ظاهر فيه ، والأمر في ذلك سهل لا مضايقة فيه.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) سورة البقرة ـ آية ٢٣٦ و ٢٣٧.

٤٧٥

وهي المسيس أو الفرض ، والثابت عند أحد هذين الأمرين هو المهر ، فإنه يجب بالجماع أو فرضه بعد إخلاء العقد منه.

أقول : ويشير إلى ذلك تتمة الآية من قوله سبحانه «وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ، وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ، فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» الآية ، فإنه تعالى حكم بالمتعة لتلك التي نفي الجناح عن طلاقها قبل المسيس والفرض ، ولا متعة لمن طلقها قبل الدخول إلا التي لم يسم لها مهرا ، ثم عقبها بالمطلقة قبل المسيس مع فرض المهر ، وبين حكمها وهو ظاهر أيضا في أن الاولى لم يفرض لها مهر في العقد.

وأما الأخبار فمنها ما رواه في الكافي (١) عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام في رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ثم دخل بها قال : لها صداق نسائها».

وعن عبد الرحمن المذكور (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل تزوج المرأة ولم يفرض لها صداقا فمات عنها أو طلقها قبل أن يدخل بها ، ما لها عليه؟ قال : ليس لها صداق وهي ترثه ويرثها».

وما رواه الشيخ (٣) في الموثق عن منصور بن حازم قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام في رجل يتزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا ، قال : لا شي‌ء لها من الصداق ، فإن كان دخل بها فلها مهر نسائها».

وعن الحلبي (٤) في الصحيح قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة فدخل بها

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨١ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٣٣ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٧٨ ب ٥٩ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤ ب ١٢ ح ٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤ ب ١٢ ح ١.

٤٧٦

ولم يفرض لها مهرا ثم طلقها ، فقال : لها مهر مثل مهور نسائها ويمتعها».

وعن أبي بصير (١) قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة فوهم أن يسمي لها صداقا حتى دخل بها ، قال : السنة ، والسنة خمسمائة درهم».

وعن أسامة بن حفص (٢) وكان قيما لأبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا ، وكان في الكلام أتزوجك على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله فمات عنها ، أو أراد أن يدخل بها ، فمالها من المهر؟ قال : مهر السنة ، قال : قلت : يقول أهلها : مهور نسائها ، قال : فقال هو مهر السنة» الحديث.

والوجه في صحة العقد ـ مع خلوه عن ذكر المهر ـ ما تقدم من أن المهر ليس من أركان عقد النكاح كالعوضين في البيع ونحوه من عقود المعاوضات وإنما الأركان فيه الزوجان خاصة ، وإن كان المهر لازما في الجملة ، ويتحقق التفويض بعدم ذكر المهر في العقد سواء أطلق ، أم شرط أن لا مهر عليه في الحال ، أو أطلق ، بأن قال لا مهر عليه ، فإن مرجع الجميع إلى أمر واحد ، لأن عدم ذكره في معنى نفيه في الحال ، وهو لا ينافي مقتضى التفويض ووجوبه في المئال. نعم لو صرح بنفيه في الحال والمئال على وجه يشمل ما بعد الدخول أو قال : قبل الدخول وبعده ، فالظاهر كما صرح به الأصحاب بطلان العقد ، لأن المعلوم من الأخبار أن وجوب المهر من مقتضيات عقد النكاح إما بالعقد أو بالوطء أو بالفرض ، فإذا شرط خلاف ذلك فقد شرط خلاف مقتضى العقد فيبطل.

ويدل على ذلك ما رواه الشيخ (٣) عن زرارة في الصحيح قال : «سألته كم أحل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من النساء؟ قال : ما شاء من شي‌ء ، قلت : فأخبرني عن قول

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٣٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٥ ب ١٣ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٣ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٥ ب ١٣ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٨٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٤ ح ٤١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٨ ب ١٩ ح ١.

٤٧٧

الله عزوجل «وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ» (١) قال : لا تحل الهبة إلا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأما غيره فلا يصلح له نكاح إلا بمهر».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن مجرد العقد في التفويض لا يوجب المهر ولا المتعة ، بل إنما يجب المتعة بالطلاق قبل الدخول ، ومهر المثل بالدخول ، ويجب أيضا ما يفرضانه ويتفقان عليه بالفرض قبل الدخول ، ولا فرق في وجوب مهر المثل بالدخول بين أن يطلقها أو لا يطلقها ، لأنه قد استقر بالدخول.

وأما ما يفرض قبل الدخول فإنه لو طلقها والحال كذلك فلها نصف المفروض كما دلت عليه الآية «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» (٢).

ويدل على وجوب المتعة الآية المتقدمة ، للأمر فيها وهو للوجوب ، وحسنة الحلبي (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها ، قال : عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا ، وإن لم يكن فرض فليمتعها على نحو مما مثلها من النساء».

ولو مات أحد الزوجين قبل الدخول والطلاق ، فإن كان الموت قبل المرض فلا شي‌ء لها لانتفاء سبب الوجوب فإنه منحصر في الفرض والدخول.

وعليه تدل صحيحة الحلبي (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال في المتوفى عنها زوجها إذا لم يدخل بها : فإن لم يكن فرض لها مهرا فلا مهر لها ، وعليها العدة ولها الميراث». وهو يدل بمفهوم الشرط على ثبوت المهر المفروض إن كان فرضه.

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ آية ٥٠.

(٢) سورة البقرة ـ آية ٢٣٧.

(٣) الكافي ج ٦ ص ١٠٦ ح ٣ ، التهذيب ج ٨ ص ١٤٢ ح ٩٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥٥ ح ٧.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ١٤٦ ح ١٠٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٧٦ ب ٥٨ ح ٢٢.

٤٧٨

وصحيحة زرارة (١) قال : «سألته عن المرأة تموت قبل أن يدخل بها ، أو يموت الزوج قبل أن يدخل بها ، قال : فقال : أيهما مات فللمرأة نصف ما فرض لها ، وإن لم يكن فرض لها فلا مهر لها».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الجارية على هذا المنوال ، وقد اشتركت في الدلالة على عدم المهر مع موتها أو أحدهما إذا لم يفرض المهر لا في العقد ولا بعده ، واختلفت في استحقاق الجميع أو النصف لو فرض المهر ، وحصل الموت قبل الدخول ، وسيجي‌ء تحقيق ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى ، ثم إنه لا يخفى أن المفوضة وإن لم تستحق المهر بنفس العقد ولكنه حيث كان المهر لازما للنكاح كما عرفت وأنها ملكت بالعقد أن تملك المهر كما ذكروه ، فإن لها المطالبة بفرضه وتعيينه قبل الدخول لتعرف ما تستحق بالوطء أو الموت وما تشطر بالطلاق قبل الدخول أو الفسخ على القول بالتنصيف به ، ثم إن اتفقا على قدر معين صح ولزم ولم يكن لها غيره ، ولا فرق بين كونه بقدر مهر المثل أو أقل منه أو أكثر ، وليس لأحد منهما بعد الاتفاق الرجوع فيه مطلقا ، وإن اختلفا بأن فرض الزوج لها أقل مما ترضى به فإشكال ، ولم أقف في المقام على نص ، إلا أنهم ذكروا أنه إن كان مفروضة بقدر مهر السنة فصاعدا ففي لزومه من طرفها وجهان ينشئان من أنه لو فرض إليها التقدير لما كان لها الزيادة عليه ، وكذا الحاكم كما سيأتي ، ومن أن البضع يقتضي مهر المثل ، والخروج عنه في بعض الموارد على خلاف الأصل فيقتصر عليه ، وكون ذلك للحاكم ممنوع ، وإن كان أقل منه لم يقع بغير رضاها اتفاقا ، فحينئذ إن ترافعا إلى الحاكم فرض لها مهر المثل من غير زيادة ولا نقصان ما لم يتجاوز السنة فيرد إليها إن اعتبرنا ذلك في مهر المثل ، وإلا لم يتقيد بذلك قال في المسالك : وهو الأقوى. والمسألة لما عرفت محل توقف وإشكال.

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١١٩ ح ٥ ، التهذيب ج ٨ ص ١٤٨ ح ١٠٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٧٣ ب ٥٨ ح ٧.

٤٧٩

الموضع الثاني : قد صرح الأصحاب بأن المعتبر في مهر المثل بحال المرأة ، وفي المتعة بحال الزوج ، فالكلام هنا أيضا في موضعين :

(أحدهما) في مهر المثل ، والمراد به ما يبذل عادة في مقابل نكاح أمثالها ، والمراد بأمثالها من كان متصفا بمثل صفاتها وما هي عليه من الجمال والبكارة والشرف والثروة والعقل والأدب وحسن التدبير في المنزل ونحو ذلك ، وأضداد هذه الأشياء لأن ذلك مما يختلف به المهر اختلافا ظاهرا.

وفي الأخبار فسروا عليهم‌السلام مهر المثل هنا بمهور نسائها ، كما تقدم في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله الاولى (١) ، وموثقة منصور بن حازم (٢) وصحيحة الحلبي (٣) ، وحينئذ فيجب تقييد ما ذكره الأصحاب ـ من مثلها ، وأن المراد به من شأنها في أوصافها ـ بمن كان من نسائها وأقاربها من الأب أو الأم للإطلاق (٤) ، وهل يعتبر في أقاربها أن يكونوا من أهل بلدها؟ قولان ، قال السيد السند في شرح

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨١ ح ١٠ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٢ ح ٣٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٤ ح ١.

(٤) أي إطلاق نسائها شامل لمن كان من جهة الأب أو الأم حسبما هو المشهور ، وقال بان البراج : المعتبر من مهر المثل بنساء المرأة ، وهن من كان منهن من عصباتها كالأخت من جهة الأب والام وبناتها والعمة وبناتها وما أشبه ذلك ، وأما الأم وما هو من جهتها فلا يعتبر به في ذلك ، وقد كان الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي وغيره يعتبرون من ذلك ، والأقوى عندي ما ذكرته ، لأن المرأة لم الولد من عرض المسلمين تكون تحت الشريف النسب ، مثل الرجل يكون من ولد الحسن والحسين ـ عليهما‌السلام ـ فيتزوج بالمرأة من العامة ليس لها نسب ولا حسب ، فالمعتبر في نسائها من كان من عصبتها لما ذكرناه. انتهى ، ولا يخفى ما فيه على الفطن النبيه. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٨٠