الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

أقول : لا يخفى أن ما جرى عليه المتقدمون من المعاصرين للأئمة إلى زمان المحقق والعلامة ومن في عصرهم من أصحاب هذا الاصطلاح المحدث إنما هو صحة هذه الأخبار المنقولة في أصولهم المشهورة ، والصحة والضعف عندهم ليس باعتبار الراوي ، وتعليل العمل بمراسيل ابن أبي عمير بما ذكره إنما هو تخرج من المتأخرين بناء على عملهم بهذا الاصطلاح وضيق الخناق فيه ، فيعتذرون بهذه الأعذار الواهية ليتسع لهم المجال إلى العمل بالأخبار ، ونحوه قولهم بجبر الخبر الضعيف بالشهرة ، إذ لا يخفى على المتأمل بالفكر الصائب أنه لو اقتصر في العمل بالأحكام الشرعية على الأخبار الصحيحة باصطلاحهم لبطلت هذه الشريعة من أصلها واضمحلت بكلها أصولا وفروعا ، إذ ليس في هذا القسم من الأخبار ما يفي بأقل قليل من الأحكام كما لا يخفى على ذوي الأفهام ، والمنقول عن ابن أبي عمير في إرساله الروايات إنما هو حيث ذهبت كتبه لما كان في حبس الرشيد خمس سنين ، فقيل : إن أخته وضعتها في غرفة فذهبت بالمطر ، وقيل : إنها دفنتها تلك المدة حتى ذهبت ، فحدث لذلك من حفظه وأرسل الأخبار لذلك ، ولكنهم لضيق الخناق في اصطلاحهم واحتياجهم إلى العمل بأخباره لفقوا لأنفسهم هذا الاعتذار الشارد.

وبالجملة فالكلام في هذا الباب واسع ليس هذا مقامه ، على أن لقائل أن يقول : إن ما ادعوه من القاعدة في المهر فإنه لا بد بعد ذكره في العقد من الإشارة إليه أو وصفه بما يحصل به التعيين لم نقف لهم فيه على نص يوجب الالتزام به ، ورد ما خالفه إليه ، وإنما هو مجرد اصطلاح منهم بزعم أن الجهالة فيه

__________________

واقتفاه في هذا الكلام السيد في شرح النافع ، وقد عرفت ما فيه وما استبعده به ـ من أن الشارع أحكم من أن يضبط الأحكام بما لا ينضبط ـ مردود بأن الأمر على ما يفهم من الاخبار في هذا المقام وفي باب البيع وغيره من العقود ليس على ما ضيقوه ، بل هو أوسع من ذلك كما تقدم في غير موضع من الكتب السالفة. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٤١

تؤدي إلى النزاع ، وقد عرفت ما في الاستناد إلى الأدلة العقلية في الأحكام الشرعية لورود الأخبار بخلافها في مواضع لا تحصى مما مر بك ، وسيأتي أمثاله إن شاء الله ، ويؤيد ما قلناه ما صرحوا به آنفا من اغتفار الجهالة في المهر ، وجوازه بمثل قبضة من طعام ونحو ذلك على أن ما ذكروه من أن الوسط لا ينضبط بل هو مختلف اختلافا شديدا إن أريد به الانضباط على تقدير ما اختاروه مسلم ، ولكن لا دليل عليه وإن أريد في الجملة ، وإن حصل الاختلاق أيضا في الجملة فهو غير ضائر ولا مانع من الصحة كما تشير إليه الرواية الثالثة ، ولم يذكرها أحد منهم فإن ظاهرها أن الوسط الذي يؤخذ به في قيم هذه الأشياء هي هذه المقادير المذكورة في الخبر لصدق الوسط على كل منها عرفا.

وبالجملة فإن الأمر بالنظر إلى الأخبار أوسع مما ضيقوا به في هذا الموضع وغيره مما تقدم ، وتقدم الكلام فيه.

وكيف كان فالأحوط الوقوف على ما ذكروه من القاعدة وما يترتب عليها من الفائدة ، والوقوف على موارد هذه الأخبار جمعا بين ما ذكروه ، وبين ما دلت عليه الأخبار المذكورة ، والله العالم.

المسألة السابعة : لو تزوجها على كتاب الله وسنة نبيه ص ولم يسم مهرا فالمشهور من غير خلاف يعرف ، بل ظاهر المحقق الشيخ على والشهيد الثاني في الروضة إن ذلك إجماع أن مهرها خمسمائة درهم لما عرفت من الأخبار المتقدمة أن مهر السنة هو هذا القدر.

ويدل عليه هذا الحكم بخصوصه ما رواه في التهذيب (١) عن أسامة بن حفص ، وكان قيما لأبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : «قلت له : رجل تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا وكان في الكلام أتزوجك على كتاب الله وسنة نبيه ، فمات عنها أو أراد أن يدخل بها ، فما لها من المهر؟ قال : مهر السنة ، قال : قلت : يقولون أهلها

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٣ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٥ ب ١٣ ح ١.

٤٤٢

مهور نسائها ، قال : فقال : هو مهر السنة ، وكلما قلت له شيئا قال : مهر السنة».

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في الروضة موافقة الأصحاب في الحكم المذكور من غير إشكال ولا مناقشة ، قال بعد ذكر المصنف الحكم المذكور ما لفظه : للنص والإجماع ، وبهما يندفع الاشكال مع جهل الزوجين أو أحدهما لما جرت به السنة منه ، ولقبوله الغرر كما تقرر ، والعجب أنه خالف نفسه في المسالك فناقش أولا في صدق كون ذلك على كتاب الله ، حيث إنه ليس في الكتاب ما يدل على كون المهر خمسمائة ثم التجأ إلى قوله «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» (١) قال : ومما آتانا به كون السنة في المهر ذلك ، ثم نقل رواية أسامة بن حفص المذكورة وطعن في سندها بالضعف ، ثم قال : فإن كان على الحكم إجماع ، وإلا فلا يخلو من إشكال ، لأن تزويجها على الكتاب والسنة أعم من جعل المهر مهر السنة ، كما لا يخفى ، إذ كل نكاح مندوب إليه بل جائز فهو على كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثم على تقدير إرادتهما بذلك كون المهر مهر السنة ، ففي الاكتفاء بذلك عن ذكر القدر في العقد نظر ، كما لو قال : تزوجتك على المهر الذي تزوج به فلان ، انتهى.

أقول : أما المناقشة الأولى فإنها مدفوعة أولا بالرواية المذكورة وثانيا بالأخبار المستفيضة الدالة على أنه لا حكم من الأحكام إلا وهو مذكور في القرآن حتى أرش الخدش ، والجلدة ونصف الجلدة ، وفي جملة من الأخبار ما يدل على استنباطهم عليهم‌السلام لجملة من الأحكام المخصوصة من آيات القرآن ما لم تبلغه عقولنا ولا تصل إليه أفهامنا ، وحينئذ فعدم علمه ومعرفته ـ رحمة الله عليه ـ هو وغيره لهذا الحكم من القرآن لا يدل على العدم ، كما لا يخفى.

وأما المناقشة الثانية فإنها مدفوعة بالخبر المذكور المنجبر بالشهرة ، إذ لا مخالف في الحكم المذكور وهو ممن نقل الإجماع عليه في الروضة كما سمعت ، وهذه قاعدة مسلمة بين أصحاب هذا الاصطلاح بالاتفاق ، وإن كانت ناشئة عن

__________________

(١) سورة الحشر ـ آية ٧.

٤٤٣

ضنك المجال في هذا الاصطلاح وضيق الخناق كما تقدمت الإشارة إليه.

ومما ذكرنا يعلم الجواب عن المناقشة الثالثة ، فإنه متى ثبت المذكور وجب القبول لما اشتمل عليه من الأحكام ، ومنها ما ذكره في هذا المقام.

وبالجملة فإن الظاهر هو العمل بالخبر المذكور ، وما تضمنته من الأحكام ، ومنه يستفاد صحة العقد وإن كانا جاهلين بقدر مهر السنة كما أشار إليه في الروضة ، وأما مع علمهما بذلك فينبغي القطع بالصحة.

وكيف كان فهذا الخبر مؤيدا لما قدمنا ذكره في المسألة السابقة من سعة الدائرة في صحة العقود ، وأنها ليست على الوجه الذي ضيقوه واشترطوه من الشروط الموجبة للتعيين والتشخيص على وجه لا يتطرق إليه الجهالة الموجبة للتخاصم والتنازع.

المسألة الثامنة : لو سمى لها مهرا ولأبيها أو غيره من الأولياء أو واسطة أو أجنبي شيئا فظاهر كلام جملة من الأصحاب كالمحقق في الشرائع والعلامة في في القواعد وغيرهما في غيرهما التفصيل في ذلك بين أن يكون المشروط لغيرها خارجا عن المهر ويكون جزء من المهر ناسبين الثاني إلى لفظ قيل ، وحينئذ فتحقيق الكلام في هذا المقام في موضعين :

الأول : أن يكون المشروط لغيرها خارجا عن المهر بأن يجعل مهرها مثلا ألفا ويعقدان على ذلك ، ويشترطان لأبيها أو غيره في العقد شيئا آخر زائدا على الألف ، وظاهر الأصحاب الاتفاق على صحة المهر الذي جعله للزوجة وبطلان ما سماه لغيرها ، وبذلك صرح الشيخ في النهاية فقال : لو عقد على امرأة وسمى لها مهرا ولأبيها أيضا شيئا كان المهر لازما له ، وما سماه لأبيها لم يكن منه عليه شي‌ء.

واستند الأصحاب فيما ذكروه هنا إلى حسنة الوشاء (١) عن الرضا عليه‌السلام «قال

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦١ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٩ ح ١.

٤٤٤

لو أن رجلا تزوج امرأة وجعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا ، والذي جعله لأبيها فاسدا».

وإطلاق الخبر يقتضي عدم الفرق بين كون المجعول لأبيها تبرعا محضا ، أو لأجل وساطة وعمل محلل ، ولا بين كون المجعول له مؤثرا في تقليل مهر الزوجة بسبب جعله في العقد ، وقصدها إلزامه به وعدمه.

ونقل عن ابن الجنيد أنه قال : ولا يلزم الزوج غير المهر من جعالة جعلها لولي أو واسطة ، ولو وفى الزوج بذلك تطوعا كان أحوط لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) «أحق الشروط ما نكحت به الفروج». فإن طلقها قبل الدخول لم يكن عليه إلا نصف الصداق دون غيره ، فإن كان قد دفع ذلك رجع عليها بنصف المهر ، وكذلك الجعالة على الواسطة.

وقال في المختلف : والوجه أن نقول إن كان قد جعل للواسطة شيئا على فعل مباح ، وفعله لزمه ولم يسقط منه شي‌ء بالطلاق ، لأنه جعالة على عمل محلل مطلوب في نظر العقلاء ، وكان واجبا بالفعل كغيره ، وإن لم يكن على جهة الجعالة بل ذكره في العقد لم يكن عليه منه شي‌ء سواء طلق أو لا.

واعترضه في المسالك بأن ما ذكره جيد إلا أنه خارج عن محل الفرض ، لأن الكلام فيما يشترط في العقد ويلزم بمجرده ، وكذلك كلام ابن الجنيد ، وإنما جعل الوفاء به على وجه الاحتياط رعاية للحديث النبوي ، وإذا دفعه على هذا الوجه لا يملكه القابض بمجرد الدفع ، فيجوز الرجوع فيه بعده سواء طلق أم لا ، لكن فرضه مع الطلاق نظرا إلى فوات المطلوب من النكاح ، فلم نجد في الرجوع مخالفة للحديث.

وما ذكره في المختلف إنما يلزم من حيث الجعالة ، لا من حيث ذكره في العقد بل ذكره في العقد بدون لفظ يقتضي الجعالة لغو ، فهو خارج عن محل

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٥٢ ح ١٢ وفيه «عن أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ» مع اختلاف يسير.

٤٤٥

الفرض ، وبتقدير وقوعه بالجعالة على عمل محلل لا إشكال في لزومه بالفعل وعدم الرجوع فيه بالطلاق حيث لا يكون له مدخل في ذلك ، انتهى وهو جيد.

أقول : لا يخفى أن ما ذكروه في فرض المسألة كما قدمنا ذكره وكذا ما يفهم من ظاهر الخبر من الإطلاق لا يخلو من الاشكال ، والأنسب بالقواعد الشرعية والضوابط المرعية هو أن يقال : إنه إذا تزوج المرأة وسمى لها مهرا ، وسمى لأبيها أو غيره شيئا بحيث يكون المجموع في مقابلة البضع فإنه يسقط ما سمى لغيرها ، لأن المهر إنما هو حق الزوجة في مقابلة البضع دون غيرها ، وعلى ذلك يحمل إطلاق الخبر المذكور.

وبالجملة فإن سقوطه لا بد أن يكون من حيث استناده إلى عقد النكاح وإلا فلو شرط له شيئا على جهة التبرع خارجا عن المهر وعن كونه جعالة فلا مانع من صحته ، وقضية الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بالشروط وجوب الوفاء به ، ولا فرق في ذلك بين كون الاشتراط المذكور باستدعاء الزوجة أو بفعل الزوج ابتداء ، وينبغي على تقرير صحة الشرط المذكور أن لا يؤثر الطلاق فيه كما هو ظاهر ، وبما ذكرناه يظهر لك أيضا ما في قول العلامة في المختلف ، وإن لم يكن على جهة الجعالة بل ذكره في العقد لم يكن عليه منه شي‌ء ، فإنه على إطلاقه ممنوع ، فإنه لو وقع على جهة الشرط كما ذكرناه فما المانع من لزومه ، بل ظواهر أخباره وجوب الوفاء بالشروط يقتضي وجوب الوفاء به ، طلق أو لم يطلق.

الثاني : أن يكون المشروط من جملة المهر ، وظاهر كلام ابن الجنيد لزومه ، حيث قال ـ على أثر الكلام المتقدم نقله عنه ـ : فإن كانت المرأة اشترطت رجع عليها بنصف صداقها ، ونصف ما أخذه من الذي شرطت له ذلك ، لأن ذلك كله بعض الصداق الذي لم ترض بنكاحها إلا به ، والمشهور بين الأصحاب على ما نقله في المسالك عدم الصحة نظرا إلى ما قدمنا ذكره من أن المهر حق الزوجة ،

٤٤٦

فشرطه لغيرها مناف لمقتضى العقد ، ومن ثم إن المحقق ـ رحمه‌الله ـ إنما نسب القول باللزوم (١) إلى لفظ قيل كما قدمت الإشارة إليه ، وربما أيد كلام ابن الجنيد هنا بعموم الأخبار الدالة على أن (٢) «المؤمنين عند شروطهم». ولأن عطيتها من مالها جائز ، فاشتراطه في العقد لا يخالف السنة ، ونقل عن الشهيد في شرح نكت الإرشاد الميل إليه ، وكذلك المحقق الشيخ علي (٣) وهذا القدر المشروط هنا ينتصف بالطلاق لأنه من جملة المهر كما هو المفروض بأن شرط عليها بعد فرضه مهرها أن يدفع إلى أبيها منه شي‌ء ، فمتى طلقها رجع عليها بنصف المجموع ، وبذلك صرح الشيخ علي فيما طويناه من كلامه وهو صريح عبارة ابن الجنيد المذكورة.

المسألة التاسعة : قال في الشرائع : لا بد من تعيين المهر بما يرفع الجهالة ، فلو أصدقها تعليم سورة وجب تعيينها ولو أبهم فسد المهر ، وكان لها مع الدخول مهر المثل.

وقال في المسالك ـ بعد ذكر ذلك ـ : من جملة المفسد للمهر جهالته ، فمتى عقد على مجهول كدابة وتعليم سورة غير معينة بطل المسمى ، لأن الصداق وإن لم يكن عوضا في أصله ، إلا أنه مع ذكره في العقد يجري عليه أحكام

__________________

(١) قال المحقق في الشرائع ولو سمى للمرأة مهرا ولأبيها شيئا معينا لزم ما سمى لها وسقط ما سمى لأبيها ، ولو أمهرها مهرا وشرط أن تعطى أباها منه شيئا معينا قبل : يصح المهر والشرط بخلاف الأول. وفي معناها عبارة القواعد (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

(٣) حيث قال في شرح القواعد : والذي يقتضيه النظر ـ الى أن قال : ـ وان كان قد سمى المجموع للزوجة مهرا وشرط عليها أن تدفع إلى أبيها منه شيئا على جهة التبرع منه والإحسان ، فالفساد لا وجه له ، لان ذلك شرط لا يخالف الكتاب والسنة ، فلا وجه لإبطاله ، وعلى هذا لو طلقها يرجع ينصف المجموع لان جميعه هو المهر ، انتهى وهو مؤيد لما ذكرناه (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٤٧

المعاوضات ، والجهالة من موانع صحتها ، فيثبت مهر المثل مع الدخول ، والمتعة مع الطلاق ، كالمفوضة ، لا بمجرد العقد لأن فساد المهر باعتبار الجهل به الموجب لتعذر تقويمه صير العقد كالخالي عن المهر ، فلا يثبت مثل المهر بمجرد العقد كما صرح به المصنف وغيره ، وفهم خلاف ذلك وهم ، انتهى.

أقول : قد عرفت مما قدمنا ذكره أن ما ذكره من اشتراط التعيين على الوجه الذي ذكروه مما لم يقم عليه دليل ، بل ربما ظهر من الأدلة خلافه (١).

وصحيح محمد بن مسلم المتضمن لحكاية المرأة التي طلبت من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يزوجها ظاهر فيما قلناه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في المرة الثالثة «أتحسن من القرآن شيئا؟ قال : نعم ، قال : قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن ، فعلمها إياه». ومن الظاهر أن هذه صيغة العقد مع أن ما يحسنه غير معلوم ولا مضبوط بكونه سورة أو أقل أو أكثر ، فأي جهالة أشد من هذه الجهالة ، وهم قد أثبتوا الجهالة فيما لو أصدقها تعليم سورة ، وهي أعم من الطويلة والقصيرة فلا بد من تعيينها ، والخبر قد تضمن ما يحسن من القرآن ، وهو أشد إجمالا وإبهاما ، والرواية صحيحة باصطلاحهم ، وقد تلقوها بالقبول في جملة من الأحكام التي اشتملت عليها ، وهي ظاهرة في خلاف ما ذكروه هنا.

وقد عرفت أيضا ورد الأخبار بصحة التزويج على الدار والبيت والخادم ، وأن لها وسطا من هذه الأشياء ، ومن الظاهر أن هذه الأشياء إنما خرجت مخرج التمثيل ، فالحكم بالصحة غير مقصور عليها ، لكنهم من حيث الالتزام بهذه القاعدة التي اتفقوا

__________________

(١) ويشير الى ما ذكرناه ما صرح به السيد السند في شرح النافع حيث قال : وربما ظهر من صحيحة محمد بن مسلم المتضمنة لقصة تلك المرأة التي طلبت من النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أن يزوجها جواز كون المهر مجهولا فإنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ زوجها على ما يحسن من القرآن من غير أن يسأله عما يحسن من ذلك ، انتهى.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٤٨

عليها في المهر قصروا الحكم فيها على مورد هذا الأخبار ، وإلا فالحق أن هذه القاعدة وإن اتفقوا ظاهرا عليها لكن لما كانت غير منصوصة ولا دليل عليها في الأخبار فإنه بالنظر إلى الأخبار الواردة في المقام مما ذكرناه وغيره لا مانع من صحة العقد فيما منعوا منه ، ويؤيد ذلك الأخبار الدالة على أن المهر ما تراضيا عليه من قليل أو كثير ، فإنه بإطلاقه شامل للمجهول الذي منعوا من العقد عليه ، على أنهم قد صرحوا ـ كما قدمنا نقله عنهم آنفا في المسألة الرابعة ـ بالاكتفاء بالمعلومية في الجملة ، حتى أنهم حكموا في الموضع الذي يحتاج فيه إلى تنصيف المهر بالرجوع إلى الصلح من حيث المجهولية ، وعدم إمكان استعلام النصف.

ويؤيد ذلك أيضا الأخبار المتفق على العمل بها الواردة بجعل المهر ما حكمت به الزوجة أو الزوج (١) ، فإن العقد قد اشتمل على مهر مجهول ، ومن شروط صحته أن يكون المهر المذكور في العقد معلوما ، والاكتفاء في الصحة بالمعلومية بعد العقد كما دلت عليه تلك الأخبار لا يوجب الصحة بمقتضى قواعدهم ، فإنهم صرحوا بأنه لو عقد على مجهول بطل العقد ، ولا يفيده العلم بعد ذلك صحة ، وإليه يشير قوله في عبارة المسالك المذكورة ، إلا أنه مع ذكره في العقد تجري عليه أحكام المعاوضات ، والجهالة من موانع صحتها.

وما يؤيد ذلك أيضا ما رواه في التهذيب (٢) عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قلت له : ما أدنى ما يجرى من المهر؟ قال : تمثال من سكر». وحمله على تمثال مشاهد أو معلوم بأحد الوجوه خلاف ظاهر الخبر.

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣١ ـ ٣٤.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٨٢ ح ١٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٣ ح ٣٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ١ ح ٢.

٤٤٩

ومن الأخبار الظاهرة في المسألة المذكورة ما رواه الشيخ (١) عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله عزوجل ، فقال : ما أحب ان يدخل بها حتى يعلمها السورة ، ويعطيها شيئا ، قلت : أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال : لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان».

والخبر كما ترى ظاهر في أن المهر تعليم سورة في الجملة وهو عليه‌السلام قد حكم بالصحة ، ولم يشترط تعيينها وكونها سورة كذا كما هو ظاهر كلامهم ، وليس في سند هذا الخبر مما ربما يتوقف في شأنه ، إلا الحارث بن مؤمن الطاق ، وهو وإن لم يوصف بمدح ولا توثيق ، إلا أنه من أصحاب الأصول.

قال النجاشي (٢) بعد ذكره : روى عن الصادق عليه‌السلام ، له كتاب يرويه عنه عدة من أصحابنا منهم الحسن بن محبوب. وقال الشيخ في الفهرست (٣) : له أصل عنه الحسن بن محبوب ، والراوي عنه هنا هو الحسن بن محبوب ، وهو مشعر بنوع مدح له ، لأن رواية هؤلاء الأجلاء عنه والاعتماد على كتابه لا يقصر عن وصفه بالمدح الموجب لعد حديثه في الحسن ، بناء على اصطلاحهم ، وكيف كان فالخبر ظاهر في خلاف ما ذكروه من اشتراط التعيين ، كما هو ظاهر للحاذق المكين.

المسألة العاشرة : قد صرحوا بأنه يجوز أن يجعل الصداق تعليم صنعة لا يحسنها بالفعل ، أو تعليم سورة لا يعلمها ونحو ذلك ، والوجه فيه أن المعتبر كونه معينا في حد ذاته ومقدورا عليه عادة ، ولا يشترط فيه وجوده بالفعل عنده ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٧ ح ٥٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٢ ح ٢.

(٢) النجاشي ص ١٠١.

(٣) الفهرست ص ٨٩.

٤٥٠

بل لمكان تحصيله له بنفسه أو بمعاون ، وغايته أنه يثبت في الذمة ، ويجب وفاؤه عند المطالبة إن أمكن ذلك ، ومع عدم إمكان حصوله فيما نحن فيه من تعليم الصنعة أو السورة فإنه يرجع إلى أجرة المثل ، لأنه قيمة المهر حيث تتعذر عينه.

قال في المسالك : وهل يعتبر في المعلم لها غيره المحرمية؟ وجهان ، من استلزامه سماع صوت الأجنبي المحرم ونظره كذلك ، ومن تقييده بخوف الفتنة ، واستثناء نظر يمكن معه التعليم ، وقد تقدم بحثه في بابه خصوصا تعليم القرآن إذا كان واجبا فإنه يستثني للضرورة ، ولا إشكال لو أمكن من وراء الحجاب.

أقول : قد تقدم الكلام في أن ما ادعوه ـ من تحريم سماع صوت المرأة وتحريمه بأكثر من خمس كلمات ـ وإن كان هو المشهور ، إلا أن الأدلة المعصومية في خلافه واضحة الظهور ، وتحدث النساء في مجالس الأئمة وفاطمة صلوات الله عليها مع الصحابة ، ولا سيما في مخاصمتها لطلب الميراث أمر غير منكور ، وتقدم أيضا في كتب العبادات وغيرها استثناء الوجه وظاهر الكفين والرجلين من المرأة ، ولهذا يجوز كشفها في الصلاة ، وحينئذ فلا إشكال في جواز تعليم الأجنبي لها ، نعم يبقى الاشكال لو فيما استلزم الفتنة فما ذكروه من الكلام في المقام على إطلاقه غير موجه ، ثم إنه إن شرط تعليمها بنفسه فالظاهر أنه لا إشكال في وجوب تعلمه لتعليمها ، وأما مع عدمه فإشكال من أنه تكسب لوفاء الدين ، وهو غير واجب عليه ، ومن توقف الواجب عليه.

المسألة الحادية عشر : إذا عقد على هذا الظرف على أنه خل في زعمها فبان خمرا ، أو على شخص معين أنه عبد فبان حرا ونحو ذلك مما يظن صلاحيته لأن يكون مهرا فيظهر عدمها ، فإنه لا خلاف في صحة العقد ، لما عرفت من أن المهر ليس من أركانه ، ولا شرط في صحته ولا خلاف أيضا في فساد المعين بعد ظهوره على خلاف ما يصلح لأن يكون مهرا ، وإنما الخلاف فيما يجب من المهر في هذه الحال ، لأن العقد صحيح والبضع لا بد له من عوض ، وفي ذلك أقوال :

٤٥١

(أحدها) هو اختيار ابن الجنيد وابن إدريس والمحقق في الشرائع والعلامة في المختلف في مثل الخل في المثال المتقدم ، وهكذا في باقي الأمثلة يرجع إلى مثل ذلك المظنون ، وعلل بأن تراضيهما وقع على ذلك الجزئي المعين الذي ظنا كونه خلا ، وهو يستلزم الرضا بالخل الكلي مهرا ، لأن الجزئي يستلزم الكلي ، فالرضاء به يستلزم الرضاء به ، فإذا فات ذلك الجزئي لعدم صلاحيته للملك بقي الكلي ، لأنه أحد الأمرين اللذين وقع التراضي بهما ، ولأنه أقرب إلى المعقود عليه لأنه مثله ، واعترضه المحقق الشيخ علي في شرح القواعد فقال : ولقائل أن يقول أن الكلي الذي وقع التراضي عليه بالعقد على الجزئي هو الكلي المقترن بالمشخصات الموجودة في ذهن المتعاقدين ، وهذا يمتنع بقاؤه ، وإذا ارتفعت المشخصات ، والمحكوم بوجوبه غيره ، أعني الكلي في ضمن شخص آخر وهذا لم يقع التراضي عليه أصلا أصالة ولا تبعا ، فإيجابه بالعقد إيجاب لما لم يتراضيا عليه ، وكونه أقرب إلى المعقود عليه مع تسليم صحته لا يستلزم وجوبه ، لأن المهر الذي يجب بالعقد هو ما تراضيا عليه ، ولا يلزم من التراضي على أحد المثلين التراضي على الآخر.

أجاب في المسالك عن ذلك ـ بعد أن ذكره بلفظ إن قيل ـ بما صورته : قلنا الجزئي الذي وقع التراضي عليه وإن لم يساوه غيره من أفراد الكلي ، إلا أن الأمر لما دار بين وجوب مهر المثل وقيمة الخمر ، ومثل الخل ، كان اعتبار المثل أقرب الثلاثة ، لأن العقد على الجزئي المعين اقتضى ثلاثة أشياء ذلك المعين بالمطابقة ، وإرادة الخل الكلي بالالتزام ، وكون المهر واجبا بالعقد ، بحيث لا تنفك المرأة عن استحقاقه ، حتى لو طلقها كان لها نصفه ، أو مات أحدهما فجميعه ، وإذا فات أحد الثلاثة ، وهو الأول ، وجب المصير إلى بقاء الآخرين بحسب الإمكان (١) «إذ

__________________

(١) رواه النراقي في الفوائد ص ٨٨ عن عوالي اللئالي عن على ـ عليه‌السلام.

٤٥٢

لا يسقط الميسور بالمعسور». وعموم (١) «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». وهما لا يوجدان معا في ضمن وجوب مهر المثل ، لأنه لا يجب إلا بالدخول عند القائل به ، وإمكان وجودهما في ضمن قيمة الخمر يفسد بما سنبينه من ضعف دليله له ، فلم يبق إلا المثل ، ولا شبهة في أن الرضاء بالخل المعين في الظرف يستلزم إرادة كون المهر خلا بخلاف القيمة ونحوها.

أقول : يقتضي هذا الكلام تسليم صحة ما أورده المحقق المذكور وبطلان الدليل الأول الذي قرروه ، وأن المعتمد إنما هو الدليل الذي قرره هنا.

و (ثانيها) إن الواجب مهر المثل ، إختاره العلامة في القواعد وفي أكثر كتبه مستدلا عليه بأن الكلي غير مرضي به إلا في ضمن الجزئي المشترط ، فهو منفي بتغليب التشخص عليه ، والشخصي باطل لخروجه عن المالية ، فيرجع الأمر في شرط عوض لم يسلم لها فينتقل الى مهر المثل.

وظاهر المحقق الشيخ علي في شرح القواعد اختيار هذا القول ، قال في المسالك : ويشكل بما مر ، وبأن مهر المثل ربما كان زائدا عن قيمة الخل كثيرا ، فلا يكون مقصودا للزوج أصلا ، أو ناقصا كثيرا فلا يكون مقصودا للزوجة ولا مرضيا به ، وقد قال عليه‌السلام «المهر ما تراضيا عليه الزوجان». ولا يرد مثله في وجوب مثل الخل ، لأن ذلك أقرب إلى ما تراضيا عليه ، بل ربما لم يخالف ما تراضيا عليه إلا بمشخصات لا دخل لها في المقصود ولا في المالية ، فيلغو عند حصول مثل هذا العارض ، انتهى.

و (ثالثها) وجوب قيمة الخمر عند مستحليه ، وإليه ذهب الشيخ في المبسوط والخلاف ، مستندا إلى أن قيمة الشي‌ء أقرب إليه عند تعذره ، ولأنهما عقدا على شخص باعتبار ماليته ، فمع تعذره لظهور بطلان المعاوضة عليه يصار إلى القيمة.

__________________

(١) رواه مسلم في صحيحة ج ١ ص ٥١٣ ، والنسائي ج ٢ ص ١.

٤٥٣

قال في المسالك : وفيه منع بين لأن الخمر غير مقصود أصلا ، ولا وقع عليه التراضي ، فكيف ينتقل إلى قيمته ، واعتبارها فرع صحة العقد على العين بخلاف ما لو عقدا على الخمر عالمين به ، فإنهما قد تراضيا على العين ، فلا يمتنع الانتقال إلى القيمة لتعذر العين كما تقدم ، وظاهر الحال أن قول المصنف أقرب الأقوال إلى مراد المتعاقدين فينبغي أن يكون العمل عليه.

ثم قال في المسالك أيضا : هذا كله في المثلي كالخمر. أما القيمي كالعبد إذا ظهر حرا فالانتقال إلى قيمته لقيامها مقام المثل في المثلين وليس هذا كالقول الثالث ، لأن ذلك يعتبر فيه قيمة العين بالوصف الواقع الذي امتنع صحته عليه بواسطته ، وهنا اعتبرت القيمة باعتبار الوصف المقصود لهما ، وعلى هذا فيسقط القول الثالث في القيمي لأن الحر لا قيمة له. نعم لو ظهر مستحقا كان اعتبار قيمته جاريا على القولين ، وعلى هذا فالقول بالمثل متعذر في القيمي مطلقا ، وبقيمة الواقع متعذر في الحر ، فليس فيه إلا القول بقيمته أو مهر المثل ، فإطلاقهم تشبيه الحكم في مسألة الحر بظرف الخمر لا يأتي على إطلاقه ، بل يحتاج إلى تنقيح.

أقول : وحيث إن المسألة غير منصوصة فالاعتماد في الحكم فيها على هذه التعليلات سيما مع ما عرفت من تدافعها مشكل على طريقتنا ، والاحتياط فيها واجب ، والظاهر أنه يحصل بالتراضي على مهر المثل أو مثل الخل ، والثاني أظهر لأنه الأقرب إلى ما ظناه وعقدا على تقديره ، والله العالم.

المسألة الثانية عشر : لا خلاف بين الأصحاب في أن المهر مضمون في يد الزوج قبل تسليمه إلى الزوجة ، وإنما الكلام في وجه الضمان في أنه هل يكون ضمانه كضمان المبيع في يد البائع والثمن في يد المشتري؟ أو كضمان المقبوض بالسوم وضمان العارية المضمونة؟ ويعبر عن الأول بضمان العقد وضمان المعاوضة ، ويعبر عن الثاني بضمان اليد ، وعلى تقدير الأول فالمضمون مهر المثل كما سيأتي

٤٥٤

تحقيقه ، وعلى تقدير الثاني يكون المضمون مثل المهر إن كان مثليا ، وقيمته إن كان قيميا.

وجه الأول على ما ذكروه إن الصداق مملوك بعقد معاوضة ، فكان كالمبيع في البيع ، ويظهر كونه معاوضة من قوله عزوجل «وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (١) وقولهم «زوجتك بكذا» كما يقال «بعتك بكذا» ولأنها تتمكن من رده بالعيب كما في المبيع ، وتحبس نفسها لتستوفيه بمعنى أنها تمنع عن الدخول بها حتى تقبضه كما سيأتي ذكره في محله ـ إن شاء الله تعالى ـ والحكمان الأخيران من أحكام المعاوضة.

ووجه الثاني إنه ليس عوضا حقيقيا لجواز العقد ، وصحته بدونه وأن يكون عاريا منه وعدم انفساخ النكاح بتلفه ، ولا ينفسخ برده ، ولا يفسد بفساده ، ولا يتزلزل بتزلزله ، ولا شي‌ء من الأعواض الحقيقية كذلك ، ويؤيده أيضا إطلاق اسم النحلة عليه في قوله سبحانه «وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً» (٢) ومن أجل ما ذكرناه في هذين الوجهين حصل الاشتباه في الضمان على أحد الأمرين المذكورين ، إلا أن المشهور في كلام الأصحاب هو الثاني كما صرح به في المسالك ، وإليه يشير كلام المحقق في الشرائع بقوله «والمهر مضمون على الزوج ، فلو تلف قبل تسليمه كان ضامنا له بقيمة وقت تلفه على قول المشهور لنا».

قال الشارح : ونبه بنسبته إلى القول على عدم تعينه واحتمال القول الآخر.

أقول : لا يبعد أن مراده بالنسبة إلى قول المشهور إنما هو الإشارة إلى عدم دليل من النصوص على الحكم المذكور ، وليس إلا مجرد الشهرة كما هو الغالب في عباراته وعبارات غيره.

وبالجملة فإن المسألة ـ كما عرفت ـ عارية عن النص ، وليس إلا هذان الوجهان الاعتباريان المتضادان ، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر إلا بالشهرة المدعاة

__________________

(١) سورة النساء ـ آية ٥٢.

(٢) سورة النساء ـ آية ٤.

٤٥٥

في الثاني ، وفرعوا على الوجهين المذكورين فروعا منها ما نحن فيه من تلف المهر في يد الزوج قبل تسليمه إذا كان التلف من جهته أو من جهة الله.

فعلى الوجه الأول يجب مهر المثل لأنه ينفسخ المهر فيرجع إلى مهر المثل ، كما أنه إذا تلف أحد العوضين في البيع قبل القبض انفسخ البيع ، وإنما جعل الانفساخ في البيع دون النكاح لأن العوضين من أركان البيع ، بخلاف المهر ، فإنه ليس بركن في عقد النكاح ، فإنما أركانه الزوجان فلا يبطل النكاح بفواته قبل القبض ، ومعنى كونه مضمونا عليه هو أن فواته من ماله فيكون في حكم ما لو لم يذكر بالكلية ، ويرجع إلى مهر المثل ويكون هو الواجب ، كما لو لم يذكر المهر بالكلية.

وعلى الوجه الثاني يكون مضمونا على الزوج بالمثل إن كان مثليا ، أو القيمة إن كان قيميا كغيره من الأموال المضمونة ضمان يد مما تقدم ذكره ونحوه ، وأكثر الأصحاب إنما ذكروا في هذا المقام الضمان على هذا الوجه من غير أن ينقلوا قولا بوجوب مهر المثل أو يذكروه احتمالا في المسألة.

والظاهر أن القول بمهر المثل إنما هو للعامة ، وإن ذكره بعض متأخري أصحابنا وجها واحتمالا في المسألة كما يشير إليه كلام الشيخ في المبسوط حيث قال ـ بعد نقل القولين عن العامة ـ : والذي يقتضيه مذهبنا في كل مهر معين إذا تلف ، فإنه تجب قيمته ولا يجب مهر المثل ، لا يقال : إن ظاهر كلام العلامة ينافي ذلك ، حيث إنه أوجب مهر المثل في مواضع نزل فيها المهر منزلة التالف ، ومن جملتها ما لو تزوجها على ظرف خل فظهر خمرا ، أو ما لو تزوج المسلم على خمر أو خنزير عالما بالحال ، فإن حكمه بمهر المثل هنا إنما يتم على تقدير ضمان المعاوضة لا ضمان اليد ، من حيث إن هذا في حكم التلف ، مع أنه لا يقول بضمان المعاوضة في التلف الحقيقي ، لأنا نقول : إن موضع البحث في البناء على ضمان المعاوضة أو ضمان اليد إنما هو بالنسبة إلى عروض التلف بعد الحكم بالصحة

٤٥٦

كما في ما نحن فيه ، لأنه بعد صحة المهر عرض له البطلان بالتلف ، أما مع فساد المهر ابتداء من أول الأمر فلا إشكال في وجوب مهر المثل.

والمواضع التي نقلناها عن العلامة إنما هي من قبيل الثاني ، لا الأول ، وبذلك صرح الشيخ في المبسوط أيضا حيث قال ـ عقيب ما تقدم نقله عنه ـ : وأما المهر إذا كان فاسدا فإنه يوجب مهر المثل بلا شك ، والعلامة إنما ذكر مهر المثل بناء على أن المهر المذكور فاسد من أصله ، ولذلك ذكر مهر المثل.

بقي الكلام في أنه على تقدير الضمان بالقيمة إذا كان قيميا ، فالاعتبار بأي القيم ، هل هي قيمته وقت التلف؟ أو أعلى القيم من حين العقد إلى حين التلف؟ أو الأعلى من حين المطالبة إلى وقت التلف فيما إذا طالبته وامتنع من التسليم؟ (١) أقوال :

للأول أن العين ما دامت موجودة لا تجب القيمة قطعا ، وإنما ينتقل إليها مع تلف العين فيكون المعتبر فيها وقت الانتقال إليها ، ولا ينافي ذلك كون العين مضمونة عليه حينئذ ، لأن معنى ضمانها إنما هو بمعنى أنها لو تلفت لوجب الانتقال إلى البدل ، وهذا القول هو الذي صرح به المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد ، قال في المسالك : وهو الأقوى. وفي القواعد اقتصر على القولين الأولين من غير ترجيح لشي‌ء منها ، والظاهر أنه هو المشهور كما تقدم في كتاب البيع.

وعلل الثاني بأنه مضمون في جميع الأوقات ، ومن جملتها ضمان علو القيمة

__________________

(١) وهذا القول للشيخ في المبسوط ، وظاهره أنه مع عدم المطالبة فالقيمة يوم التلف ، قال في الكتاب المذكور : إذا كان المتلف الزوج أو أمرا سماويا ، فان كان مثليا كان لها مثله ، وان لم يكن له مثل فالقيمة ، فإن كانت قد طالبت به فمنعها فعليه أكثر ما كانت له قيمة من يوم المطالبة إلى يوم التلف لانه كالغاصب ، وان تلف في يده من غير مطالبة قيل : عليه قيمة يوم التلف ، وهو الأقوى ، وقيل : الأكثر ، لأنه كالغاصب إلا في الإثم ، انتهى.

(منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٥٧

خصوصا مع مطالبتها بالتسليم وامتناعه ، لأنه يصير حينئذ غاصبا فيؤخذ بأشق الأحوال وجوابه يعلم مما ذكر في تعليل القول الأول.

وبيانه أن ما ذكره من كونه مضمونا في جميع الأوقات ليس إلا بمعنى أنه لو تلف لوجب الانتقال إلى البدل كما عرفت ، والتعدي بالمنع بعد المطالبة ، وعدم التسليم غاية ما يوجبه الإثم لا الزيادة في القدر الذي قام الدليل على ضمانه ، ومنه يعلم الجواب عن الثالث أيضا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن المذكور في كلام غير واحد من الأصحاب هنا كما تقدمت الإشارة إليه إنما هو الضمان بالمثل أو القيمة من غير تعرض لمهر المثل ، ولا تفريع ذلك على مسألة أخرى ، وما نقلناه من تفريع ذلك على تقسيم الضمان إلى ضمان يد وضمان معاوضة لم أقف عليه إلا في كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك والمحقق الشيخ علي في شرح القواعد ، وقد صرحا بأنه لو تلف المبيع في يد البائع أو الثمن في يد المشتري فإنه ينفسخ البيع ويجب مثل المبيع أو قيمته في الأول ، وحيث إنه لا سبيل هنا إلى فسخ النكاح ، لأن المهر ليس ركنا فيه ، بخلاف البيع بالنسبة إلى المبيع والثمن ، فإنهما ركنان فيه ، وإنما ينفسخ المهر خاصة ، كان الواجب على هذا الوجه مهر المثل ، قال في المسالك : وعلى الأول ـ وأراد ضمان المعاوضة ـ يجب مهر المثل ، كما لو تلف أحد العوضين في البيع قبل القبض ، فإن البيع ينفسخ ، ويجب مثل البيع أو قيمته ، ونحوه كلام المحقق الشيخ علي أيضا ، ولا يخلو من الاشكال.

ووجه الاشكال ـ أن ما صرحوا به هنا من الضمان لو تلف المبيع في يد البائع فإنه ينفسخ العقد ، ويجب عليه مثل المبيع أو قيمته ـ ينافي ما صرحوا به في كتاب البيع من أنه في هذه الصورة يبطل البيع من أصله ، ويرجع كل من المبيع والثمن إلى صاحبه الأول ، ولا ضمان بالكلية.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف إذا تلف المبيع قبل قبضه فهو من مال

٤٥٨

بايعه ـ ما صورته : المراد أنه ينفسخ العقد بتلفه من حينه ، ويرجع الثمن إلى المشتري إلى آخره ، فإنه صريح في بطلان البيع من رأس ، ولم يذكروا ثمة ضمانا ولو إشارة ، ويؤكده أنهم حكموا بأن بطلان البيع إنما هو بعد دخول المبيع في ملك البائع بعد انتقاله آنا ما ، وأن التلف كاشف عنه.

وبالجملة فإن كلامهم ثمة ظاهر في أنه لا ضمان بالكلية ، وبذلك يظهر لك أن الحكم هنا بالضمان وتسميته ضمان معاوضة ، وتفريع النكاح عليه من هذه الجهة لا يخلو عندي من إشكال ، ولعله لقصور فهمي الفاتر وجمود ذهني القاصر ، فليتأمل.

المسألة الثالثة عشر : لو ظهر الصداق معيبا فلا يخلو (إما) أن يكون العيب كان قبل العقد ولكن لم تعلم به الزوجة ، والحكم فيه عند الأصحاب أن لها رده بالعيب والرجوع إلى قيمته ، ولها إمساكه بالأرش ، لأن العقد إنما وقع على السليم ، فإذا لم يجده كذلك أخذت عوض الفائت وهو الأرش ، ولم ينقلوا فيها خلافا.

(وإما) أن يكون بعد العقد وقبل التسليم ، فالذي صرح به الشيخ في المبسوط على ما نقل عنه أنها تتخير بين أخذه بالأرش ، ورده فتأخذ القيمة كما لو تلف ، لأنه مضمون عليه وقد وقع العقد عليه سليما ، فإذا تعيب كان لها رده ، والمشهور في كلام المتأخرين أن الذي لها في هذه الصورة أرش النقصان من غير رد ، لأنه عين حقها ، ونقصه ينجبر بضمان أرشه ، وضعفوا ما ذكره الشيخ بأن كونه مضمونا ضمان اليد يوجب بقاؤه على ملكها ، وضمان الفائت لا غير ، كما لو عابت العين المغصوبة عند الغاصب ، على أنه في موضع آخر من المبسوط قوى عدم الخيار وتعين أخذ الأرش.

أقول : لم أقف على نص في المقام وبذلك يشكل البحث فيها والكلام.

المسألة الرابعة عشر : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب في أنه يجوز للزوجة الغير المدخول بها الامتناع من تسليم نفسها حتى تقبض إذا كان المهر

٤٥٩

حالا والزوج موسرا ، وإنما الخلاف فيما إذا كان معسرا ، وكذا الخلاف لو كانت المطالبة بعد الدخول ، والكلام في هذا المقام يقع في مواضع :

الأول : فيما إذا سمى لها مهرا وكان موسرا ولم يدخل بها والمهر حال ، والمشهور ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ هو جواز الامتناع لها ، ولا أعرف لهم دليلا غير ما يدعونه من الإجماع ، وأن النكاح من قبيل المعاوضات التي قد تقرر فيها أن لكل من المتعاوضين الامتناع من تسليم ما في يده من العوض حتى يتسلم الآخر.

قال شيخنا الشهيد في المسالك ـ بعد الكلام في المسألة وذكر مقدمات مهدها قبل الكلام في المسألة ـ ما صورته : وخلاصة القول فيها أن الزوجة إن كانت كاملة صالحة للاستمتاع ولم يكن قد دخل بها الزوج والمهر حال وهو موسر ، فلها الامتناع من التمكين حتى تقبض مهرها بتمامه اتفاقا ، لا بمعنى وجوب ابتداء الزوج بتسليم المهر أولا ، بل إما كذلك ، أو بتقابضهما معا ، بأن يؤمر الزوج بوضع الصداق في يد من يتفقان عليه أو يد عدل ، وتؤمر بالتمكين ، فإذا مكنت سلم العدل الصداق إليها ، وهذا في الحقيقة في معنى إقباض المهر أولا ، إلا أن ما يخافه الزوج من فواته بوصوله إليها يستدرك بوضعه على يد العدل فيصير في معنى التقابض معا ، حيث إن القابض نائب عنها ، وإنما اعتبر ذلك لما تقرر في المقدمة الأولى أن في النكاح معنى المعاوضة ، وفي الثانية أن لكل من المتعاوضين الامتناع من الإقباض حتى يقبض الآخر وطريق الجمع ما ذكره ، وفي المسألة وجهان آخران :

أحدهما : أنه يجبر الزوج على تسليم الصداق أولا ، فإذا سلم سلمت نفسها ، والفرق بينهما أن فائت المال يستدرك ، وفائت البضع لا يستدرك.

والثاني : لا يجبر واحد منهما ، لكن إذا بادر أحدهما إلى التسليم اجبر الآخر على تسليم ما عنده ، وأصحهما الأول لما فيه من الجمع بين الحقين ، وبه

٤٦٠