الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

وعن زرارة بن أعين (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «الصداق كل شي‌ء تراضى عليه الناس قل أو كثر في متعة أو تزويج غير متعة». إلى غير ذلك من الأخبار التي بهذا المضمون.

وما رواه في الكافي (٢) عن محمد بن مسلم في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «جاءت امرأة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : زوجني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لهذه؟ فقام رجل فقال : أنا يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله زوجنيها ، فقال : ما تعطيها؟ فقال : ما لي شي‌ء ، قال : لا ، فأعادت ، فأعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام ، فلم يقم أحد غير الرجل ، ثم أعاد ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، في المرة الثالثة أتحسن من القرآن شيئا؟ قال : نعم ، قال : قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلمها إياه».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٣) عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل تزوج امرأة على أن يعلمها سورة من كتاب الله عزوجل ، فقال : ما أحب أن يدخل بها حتى يعلمها السورة ويعطيها شيئا ، قلت : أيجوز أن يعطيها تمرا أو زبيبا؟ فقال : لا بأس بذلك إذا رضيت به كائنا ما كان». وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في القول المشهور غاية الظهور ، ولا سيما الخبرين الأخيرين.

هذا والذي وقفت عليه من الأخبار في قصة موسى عليه‌السلام ما رواه في الكافي (٤) في الصحيح أو الحسن عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : قول شعيب عليه‌السلام إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢ ح ٦.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٨٠ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٤ ح ٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٨٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٧ ح ٥٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٢ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٤١٤ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣ ح ١.

٤٢١

فإن أتممت عشرا فمن عندك ، أي الأجلين قضى؟ قال : الوفاء منهما أبعدهما عشر سنين ، قلت : فدخل بها قبل أن ينقضي ، الشرط أو بعد انقضائه؟ قال قبل أن ينقضي ، قلت له : فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين ، يجوز ذلك؟ فقال : إن موسى عليه‌السلام قد علم أنه سيتم له شرطه ، فكيف لهذا بأن يعلم أنه سيبقى حتى يفي له ، وقد كان الرجل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتزوج المرأة على السورة من القرآن ، وعلى الدرهم ، وعلى القبضة من الحنطة».

وروى الشيخ في التهذيب (١) عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يتزوج المرأة ويشترط إجارة شهرين ، قال : إن موسى عليه‌السلام» الحديث. كما تقدم بأدنى تفاوت.

وروى الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (٢) عن محمد بن مسلم في حديث طويل قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أي الأجلين قضى؟ قال : أتمها عشر حجج ، قلت له : فدخل بها قبل أن يقضي الأجل أو بعده؟ قال : قبل ، وقال قلت : فالرجل يتزوج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين مثلا ، أيجوز ذلك؟ قال : إن موسى بن عمران عليه‌السلام علم أنه يتم له شرطه ، فكيف لهذا أن يعلم أنه يبقى حتى يفي» الحديث.

وأجيب عن هذه الأخبار بأن الظاهر هو حمل النهي فيها على الكراهة لا التحريم ، لأن ما اشتملت عليه جار في تعليم القرآن الذي قد دلت الأخبار كما عرفت على جواز جعله مهرا ، بل كل مهر قبل تسليمه كذلك ، لأنه لا وثوق له بالبقاء حتى يسلمه ، مع أن ذلك غير قادح في الصحة إجماعا.

أقول : والظاهر عندي أن هذه الأخبار إنما خرجت مخرج المجاراة ، والتسليم بمعنى أن العقد بهذه الصورة غير جائز ، لأن المهر حق للزوجة لا للأب ،

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٦٦ ح ٤٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣ ب ٢٢ ح ١.

(٢) تفسير القمي ج ٢ ص ١٣٩ ، المستدرك ج ٢ ص ٦٠٨ ب ١٩ ح ٤.

٤٢٢

ومع فرض جواز ذلك للأب فإنه كيف له بالعلم بالبقاء هذه المدة ، وفعل موسى عليه‌السلام بناء على جوازه في تلك الشريعة إنما كان لعلمه بالبقاء إلى أن يفي بالمدة ، وأما غيره ممن لا يعلم فلا ينبغي له ذلك ، والنهي أيضا على هذا التقدير لا يخرج عن الكراهة على تقدير جواز التزويج ، وإلا فهو غير جائز.

ويدل على عدم جواز التزويج بهذه الكيفية ما رواه في الكافي والتهذيب (١) عن السكوني عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يحل النكاح ـ كذا في الكافي ، وفي الكتابين الأخيرين عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن عليا عليه‌السلام قال : لا يحل النكاح ـ اليوم في الإسلام بإجارة ، بأن يقول : أعمل عندك كذا وكذا سنة على أن تزوجني ابنتك أو أختك ، قال : هو حرام ، لأنه ثمن رقبتها وهي أحق بمهرها».

قال في الفقيه ذيل هذا الخبر : وفي حديث آخر «إنما كان ذلك لموسى بن عمران لأنه علم من طريق الوحي هل يموت قبل الوفاء أم لا ، فوفي بأتم الأجلين». والتقريب في الخبر المذكور دلالته على أن المنع من هذه الصورة إنما هو من حيث جعل المهر للأب وهو حق للمرأة ، وثمن رقبتها لا من جهة الإجارة ، وفيه إشعار بأنه لو كانت الإجارة لها بأن يكون العمل لها فإنه صحيح لا مانع منه ، وهو صريح في بطلان هذا العقد لو كان العمل المجعول مهرا لأبيها ، وما ذيله في الفقيه لا يظهر له وجه ارتباط بالخبر ، بناء على ما قلناه ، لأن الخبر لم يتضمن المنع من حيث الإجارة ، والتذييل المذكور إنما ينصب على ذلك ، ليصير بمعنى التخصيص له ، بل إنما تضمن بالمنع والبطلان من حيث إن هذا العمل الذي جعله مهرا لا يجوز جعله للأب لأنه مهر ، والمهر حق الزوجة لا الأب.

وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور كما عرفت من ظهور الأخبار المتقدمة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤١٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٧ ح ٥١ وفيه اختلاف يسير ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٨ ح ٥٦ وفيه فقط «أن عليا عليه‌السلام قال :» والتهذيب موافق للكافي ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣ ب ٢٢ ح ٢.

٤٢٣

في ذلك ، وعدم ظهور المنافاة من هذه الأخبار. والله العالم وأولياؤه الأخيار.

المسألة الثانية : لو عقد الذميان ونحوهما على ما لا يجوز العقد عليه في شريعة الإسلام كالخمر والخنزير صح ، لأن ذلك مما يملك في شريعتهم فيجوز جعله مهرا ، لكن لو أسلما معا أو أحدهما ، فإن كان بعد التقابض لا شي‌ء للزوجة ، لبراءة ذمة الزوج بقبضها في شريعتهم ، وإن كان قبل التقابض لم يجز دفع المعقود عليه ، أما مع إسلامهما معا فإنه يحرم القبض والإقباض في دين الإسلام ، وأما مع إسلام الزوج فإنه لا يجوز له إقباضه ولا دفعه ، وأما مع إسلامها فإنه لا يجوز لها قبضه ، والعلة في هذه المواضع هو عدم صحة تملك هذه الأشياء في شريعة الإسلام ، وما لا يكون مملوكا لا يكون مهرا ، وحينئذ فالواجب بناء على ما هو المشهور هو القيمة عند مستحليه ، لأن التسمية وقعت صحيحة ، ولهذا لو كان قد حصل التقابض قبل الإسلام برء ، ولكن حيث تعذر تسليم العين لما عرفت وجب الانتقال إلى القيمة ، وهذا القول هو المشهور ، مثله ما لو جعلاه ثمنا لمبيع أو عوضا لصلح أو إجارة أو نحوهما.

وقيل : إن الواجب مهر المثل تنزيلا ـ لتعذر تسليم العين ـ منزلة الفساد ، ورده السيد السند في شرح النافع بأنه ضعيف.

أقول : ويدل على ما هو المشهور من الرجوع إلى القيمة ما رواه المشايخ الثلاثة (١) عن رومي بن زرارة عن عبيد بن زرارة قال : «قلت : لأبي عبد الله عليه‌السلام : النصراني يتزوج النصرانية على ثلاثين دنا من خمر وثلاثين خنزيرا ، ثم أسلما بعد ذلك ، ولم يكن دخل بها ، قال : ينظر ، كم قيمة الخمر وكم قيمة الخنازير فيرسل بها إليها ثم يدخل عليها ، وهما على نكاحهما الأول».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٧ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٦ ح ١١ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٩١ ب ١٤٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤ ح ٢.

٤٢٤

وقد روى في الكافي والتهذيب (١) عن طلحة بن زيد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سأله (٢) رجل عن رجلين من أهل الذمة أو من أهل الحرب يتزوج كل واحد منهما امرأة وأمهرها خمرا وخنازير ثم أسلما ، فقال : ذلك النكاح جائز حلال ، لا يحرم من قبل الخمر ، ولا من قبل الخنازير ، قلت : فإن أسلما قبل أن يدفع إليها الخمر والخنازير؟ فقال : إذا أسلما حرم عليه أن يدفع إليها شيئا من ذلك ، ولكن يعطيها صداقا».

وأنت خبير بأن هذه الرواية للدلالة على القول بمهر المثل ، واحتمال حملها على القيمة ـ كما دلت عليه الرواية الأولى ـ يحتاج إلى تكلف بعيد.

ولو كانا مسلمين أو أحدهما مسلما فعقدا على خمر أو خنزير أو نحوهما مما لا يصح تملكه ، فلا ريب في بطلان المسمى ، وهل يبطل العقد أو يصح؟ قولان وعلى تقدير الصحة ما الذي يجب عوض ذلك ، فالكلام هنا في موضعين :

(أحدهما) في صحة العقد وبطلانه ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك فذهب جمع منهم الشيخان في المقنعة والنهاية والقاضي وابن البراج والتقي أبو الصلاح إلى القول بالبطلان ، وقيل : بالصحة وهو مذهب الشيخ في المبسوط والخلاف ، وبه قال ابن حمزة وابن زهرة وابن إدريس والمحقق ، والظاهر أنه المشهور بين المتأخرين.

احتج الأولون بأن الرضا شرط في صحة العقد ، وهو إنما وقع على جعل الخمر في مقابلة البضع مع أنه باطل ، فما وقع عليه الرضا غير صحيح ، وما هو صحيح لم يقع عليه التراضي ، ولأنه عقد معاوضة (٣) فيفسد بفساد العوض كالبيع ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٦ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٥ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٤ ح ١.

(٢) في التهذيب «عن طلحة بن زيد قال : سألته إلخ» والظاهر أنه من سهو قلم الشيخ ـ رضي‌الله‌عنه. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٣) والذي يدل على كونه عقد معاوضة قوله سبحانه «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» والأدلة الدالة على جواز النظر إليها متى أراد تزويجها من قولهم ـ عليهم‌السلام ـ أنه مسام ،

٤٢٥

وقول الباقر عليه‌السلام (١) «الصداق ما تراضيا عليه قل أو كثر». ويلزمه بطريق عكس النقيض أن ما لم يتراضيا عليه لم يكن مهرا.

احتج الآخرون بوجود المقتضي للصحة وهو الإيجاب والقبول وعدم المانع إذ ليس إلا بطلان المهر ، لكن بطلانه لا يؤثر في بطلان العقد ، لصحة ، عرائه عنه ، بل صحة العقد مع شرط عدمه ، فلا يكون ذكر المهر الفاسد أعظم من اشتراط عدم المهر ، ولأن المهر والعقد غير ان ، ففساد أحدهما لا يوجب فساد الآخر ، ويظهر الغيرية فيما لو عقد بغير مهر ، فإنه يصح بلا خلاف.

وأجيب عن دليل الأولين بأن ما ادعوه من أن بطلان المسمى يوجب عدم الرضا بأصل العقد قياسا على سائر المعاوضات منقوض بما لو ظهر المهر مستحقا ، فإن العقد صحيح بلا إشكال ، مع أنه لو كان كذلك في المعاوضة المحضة فإنها تفسد بظهور استحقاق أحد العوضين ، وبذلك يظهر أنه ليس النكاح كالمعاوضة المحضة ، ومن ثم سماه الله تعالى نحلة (٢) وهي العطية ، وركن العقد يقوم بالزوجين.

وأما ما استندوا إليه من الخبر ، ففيه أن الظاهر أن المراد من الصداق الذي تراضيا عليه هو المهر الذي يذكر في العقد ، لا مطلق المهر ، لأن المهر الواجب مع عدم ذكره في العقد لم يتراضيا عليه ، مع أنه صح أن يكون مهرا ، وأيضا فالظاهر منه كون التراضي في جانب القلة والكثرة مع التعيين بقرينة قوله «قل أو كثر».

__________________

وأنه يشتريها بأغلى الثمن ، ونحو ذلك من الألفاظ الدالة على المعاوضة ، وأن المهر عوض البضع ، ويظهر أيضا من قولهم زوجتك بكذا ، فان الباء للمعاوضة كما في قولك بعث كذا بكذا. (منه ـ رحمه‌الله ـ).

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٥ ص ١ ب ١ ح ٣.

(٢) سورة النساء ـ آية ٤.

٤٢٦

وأجيب عن دليل الآخرين بالفرق بين عدم التسمية وتسمية الفاسد ، لأنهما في الأول قد تراضيا على عدم المهر ، فصح العقد للرضا به خاليا عن العوض ، إلا أنه يثبت مهر المثل حينئذ ، لأنه العوض شرعا في مثل ذلك ، بخلاف الثاني ، لأن التراضي لم يقع بالعقد خاليا عن العوض والمسمى باطل شرعا ، وغيره غير مرضي به ، فلا تصح للعوضية ، ولا يلزم من تغايرهما مع التعويض تغايرهما مع التسمية ، لأن التراضي إنما وقع على العقد المشخص بالمهر المعين ، فكانا أمرا واحدا مركبا ، فيفوت بفوات أحد أجزائه.

أقول : والمسألة لخلوها عن النص محل إشكال ، سيما مع تدافع هذه الأقوال ، ولهذا توقف العلامة في المختلف ، وكذا شيخنا الشهيد الثاني في المسالك وسبطه في شرح النافع ، إلا أنه في المسالك مع موافقته للعلامة في التوقف قال : إن جانب الصحة لا يخلو من رجحان ، وسبطه قال بعد نقله التوقف عن العلامة : وهو في محله ، وإن كان القول بالبطلان لا يخلو من رجحان ، وقد عرفت في غير موضع مما تقدم عدم جواز الاعتماد في تأسيس الأحكام الشرعية على هذه التعليلات العقلية مع سلامتها من التعارض ، فكيف والحال كما رأيت.

و (ثانيهما) أنه على تقدير القول بالصحة كما هو المشهور بين المتأخرين ، فما الذي يجب؟ قد اختلف الأصحاب القائلون بهذا القول على أقوال :

الأول : إنه يجب مهر المثل مع الدخول كالمفوضة ، ذهب إليه الشيخ في الخلاف وابن إدريس والمحقق ، وعلل بأن عدم صلاحية المسمى لأن يكون صداقا اقتضى بطلان التسمية ، فيصير العقد خاليا من المهر ، ويلزم بالوطء مهر المثل ، لأنه قيمة البضع حيث لا تسمية ، وقد اختلف كلام العلامة هنا ، ففي الإرشاد قيد بالدخول كما ذكره هؤلاء المشار إليهم ، وفي غيره أطلق مهر المثل ، وظاهره وجوب مهر المثل وإن كان بمجرد العقد بدل المسمى حيث تعذر ، وعلى هذا يكون هذا القول منقسما إلى قولين ، وقد نبه عليهما شيخنا الشهيد في شرح نكت الإرشاد ،

٤٢٧

ونقل القول بوجوب مهر المثل بنفس العقد عن الشيخ ، وعلل هذا القول بأن العقد وقع بالعوض ، فلا يكون تفويضا ، لكن لما تعذر العوض المعين وجب الانتقال إلى بدله ، وهو مهر المثل.

ورد بأن مهر المثل إنما ثبت كونه عوضا للوطئ حيث لا تسمية ، لا أنه يكون بدلا عن المهر الفاسد ، ولا يبعد أن يكون مراده ـ رحمة الله عليه ـ بما أطلقه هو التقييد بالدخول كما ذكره في الإرشاد ، وإنما أطلق اعتمادا على ظهور ذلك من القواعد الشرعية ، وكيف كان فإنه لو حمل على ظاهره ضعيف جدا لا ينبغي أن يلتفت إليه.

الثاني : إن الواجب قيمته عند مستحليه حتى لو كان المهر حرا قدر على تقدير رقيته ، ونقل عن الشيخ في موضع من المبسوط ، والوجه فيه أن قيمة الشي‌ء أقرب إليه عند تعذره ، ولأنهما عقدا على شخص باعتبار ماليته ، فمع تعذر الشخص يجب المصير إلى المال.

ورد الأول بأن الانتقال إلى القيمة فرع صحة العقد على ذي القيمة ، لأن القيمة لم يقع التراضي عليها ، ورد الثاني بأن تقدير المالية هنا ممتنع شرعا ، فيجب أن تلغى كما ألغى التعيين.

أقول : ومع قطع النظر عن الرد بما ذكر في كل من الوجهين فإن إثبات الأحكام الشرعية بمثل هذه التعليلات العقلية مما منعت منه الآيات القرآنية والسنة النبوية على الصادع بها وآله أشرف صلاة وتحية.

الثالث : الفرق بين كون المهر الذي لا يملكه المسلم متقوما في الجملة كالخمر والخنزير فيعتبر قيمته ، وغير متقوم كالحر فيعتبر مهر المثل ، وتوضيحه أن الحر ليس مالا بالكلية ، فيكون ذكره كالعدم بخلاف الخمر ، فإنه مضمون على المسلم للذمي المستتر وكذا الذمي على مثله ، فتكون المالية فيه ملحوظة في الجملة ، فلا يكون العقد خاليا عن المهر أصلا بخلاف الحر ، وضعف هذا القول يعلم مما سبق ، فإنه مركب منهما.

٤٢٨

قال في المسالك : واعلم أنه على القول الثاني يكون وجوب القيمة منوطا بمجرد العقد وإن لم يدخل بغير خلاف ، بخلاف القول الأول فإن فيه وجهين ، وكذا على الثالث ، فإن الجهة التي توجب فيه القيمة تلحقه بالثاني ، والذي توجب مهر المثل تلحقه بالأول ، انتهى.

وظاهر السيد السند في شرح النافع ترجيح الأول من هذه الأقوال الثلاثة حيث قال : وأجود الأقوال دليلا الأول ، وهذا الترجيح مبني على القول بالصحة ، بمعنى أنه لو قيل بالصحة لكان هذا القول أجود الأقوال المذكورة ، وإلا فقد عرفت آنفا أنه قد رجح القول بالبطلان من عبد التوقف في المسألة ، والله العالم.

المسألة الثالثة : لا خلاف بين الأصحاب في أن المهر لا يتقدر بقدر في جانب القلة إلا بأقل ما يتمول ، أي يعد مالا.

وأما في جانب الكثرة ، فالمشهورة بين المتقدمين ـ وعليه كافة المتأخرين ـ أنه لا يتقدر بقدر بل بما شاء.

ونقل الخلاف هنا صريحا عن المرتضى ـ عليه الرحمة ـ في الانتصار ، فإنه قال : ومما انفردت به الإمامية أن لا يتجاوز بالمهر خمسمائة درهم جياد قيمتها خمسون دينارا ، فما زاد على ذلك رد إلى السنة ، وهو ظاهر ابن الجنيد والصدوق في الفقيه ، وكذا في الهداية (١) ورد ذلك بالآيات والروايات ، قال الله عزوجل «وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً» (٢).

__________________

(١) قال في الهداية ، ومهر السنة خمسمائة درهم فمن زاد على السنة رد إلى السنة ، فان أعطاها من الخمسمائة درهما واحدا أو أكثر من ذلك ثم دخل بها فلا شي‌ء لها بعد ذلك انما لها ما أخذت منه قبل أن يدخل.

أقول : وهو مضمون رواية المفضل المذكورة في الأصل ، ونحو ذلك عبارة ابن الجنيد ، فإنه ذكر رواية المفضل أيضا. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) سورة النساء ـ آية ٢٠.

٤٢٩

والقنطار على ما في القاموس (١) : بالكسر وزن أربعين أوقية من ذهب أو فضة أو ألف دينار أو ألف ومائتا أوقية ، أو سبعون ألف دينار أو ثمانون ألف درهم أو مائة رطل من ذهب أو فضة أو ألف دينار أو ملأ مسك ثور ذهبا أو فضة.

وقال عزوجل «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» (٢) وقال «فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ» (٣) وهي عامة لكل ما وقع عليه التراضي ، وقد تقدمت جملة من الروايات في المسألة الأولى صريحة الدلالة بأن المهر ما وقع عليه التراضي قليلا كان أو كثيرا.

وفي حسنة الوشاء (٤) عن الرضا عليه‌السلام «لو أن رجلا تزوج امرأة جعل مهرها عشرين ألفا وجعل لأبيها عشرة آلاف كان المهر جائزا ، والذي جعل لأبيها فاسدا».

وروي في الكافي (٥) في الصحيح عن الفضيل قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل تزوج امرأة بألف درهم ، فأعطاها عبدا آبقا وبردا حبرة بألف درهم التي أصدقها ، قال : إذا رضيت بالعبد وكانت قد عرفته فلا بأس إذا هي قبضت الثوب ورضيت بالعبد» الحديث ، إلى غير ذلك مما يضيق المقام عن نقله.

احتج المرتضى على ما نقله عنه بإجماع الطائفة ، وبأن المهر يتبعه أحكام شرعية ، فإذا وقع العقد على مهر السنة فما دون ترتب عليه الأحكام بالإجماع ، وأما الزائد فليس عليه إجماع ولا دليل شرعي ، فيجب نفيه.

وأنت خبير بما فيه بعد ما عرفت ، وضعفه أظهر من أن يذكر.

__________________

(١) القاموس المحيط ج ٢ ص ١٢٢.

(٢) سورة النساء ـ آية ٢٤.

(٣) سورة البقرة ـ آية ٢٣٧.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣٨٤ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦١ ح ٢٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٩ ح ١.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٣٨٠ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٦ ح ٤٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥ ب ٢٤ ح ١.

٤٣٠

نعم ربما أمكن الاستدلال له بما رواه الشيخ (١) عن محمد بن سنان عن المفضل ابن عمر قال : «دخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام فقلت له : أخبرني عن مهر المرأة الذي لا يجوز للمؤمنين أن يجوزوه؟ قال : فقال : السنة المحمدية خمسمائة درهم فمن زاد على ذلك رد إلى السنة ولا شي‌ء عليه أكثر من الخمسمائة درهم ، فإن أعطاها من الخمسمائة درهما أو أكثر من ذلك ثم دخل بها فلا شي‌ء عليه ، قال : قلت : فإن طلقها بعد ما دخل بها؟ قال : لا شي‌ء لها ، إنما كان شرطها خمسمائة درهم ، فلما أن دخل بها قبل أن تستوفي صداقها هدم الصداق ، فلا شي‌ء لها ، إنما لها ما أخذت من قبل أن يدخل بها ، فإذا طلبت بعد ذلك في حياة منه أو بعد موته فلا شي‌ء لها». إلا أنه لا يوافق مذهبه ، في عدم العمل بالأخبار ولو كانت صحيحة فكيف إذا كانت ضعيفة.

وقد أجاب العلامة في المختلف عنها بالحمل على الاستحباب ، قال : ومع الزيادة يستحب الرد بالبراء إلى مهر السنة ، فإذا حصل الإبراء لا يلزمه أكثر منه. انتهى ، ولا بأس به ، فإنه ليس بعد ذلك إلا طرحه لمخالفته لما عرفت من الآيات القرآنية والسنة المستفيضة النبوية ، وقد استفاضت الأخبار بعرض الأخبار عليهما ورمى ما خالفهما وهذا الخبر بظاهره مخالف لهما كما عرفت.

قال في المسالك : واحتج المرتضى على مذهبه بإجماع الطائفة وهو عجيب ، فإنه لا يعلم له موافق فضلا عن أن يكون مما يدعى فيه الإجماع ، وقد اتفق له ذلك في الانتصار في مسائل كثيرة ادعى فيها الإجماع ، وليس له موافق ، ذكرنا جملة منها في بعض الرسائل ـ الى أن قال بعد الطعن في سند الرواية بمحمد بن سنان والمفضل بن عمرو الطعن في متنها بمخالفتها لعموم الكتاب والسنة ـ ما لفظه : وبقي أنه قال بعد ذلك ، فإن أعطاها من الخمسمائة إلى آخر ما تقدم ، ثم قال :

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٦١ ح ٢٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ١٧ ح ١٤.

٤٣١

فانظر إلى هذه المخالفات العجيبة والأحكام الغريبة في هذا الخبر الواهي ، وكيف يحسن بعد ذلك الاستناد إليه في حكم من هذه الأحكام مع مخالفة مدلوله في جميعها لما عليه علماء الإسلام ، بل مثل هذا لا ينبغي إبداعه في كتب الحديث فضلا عن أن يجعل سند الحكم ، انتهى.

وفيه أن هذا الطعن ليس من خصوصيات هذا الخبر ، بل هنا أخبار عديدة فيها الصحيح باصطلاحهم دالة عليه ، وبها قال جملة من الأصحاب أيضا كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى عند ذكر المسألة المشار إليها ، بل ظاهر عبارة الصدوق في الفقيه والهداية هو القول بمضمون هذه الرواية ، وكذا عبارة ابن الجنيد القائل بذلك أيضا ، ولكن شيخنا الحر ـ رحمه‌الله ـ على رد هذا الخبر ورميه من البين غفل عن ذلك ، نعم هو بما تضمنه صدره من عدم جواز الزيادة على الخمسمائة درهم مخالف لعمومات الكتاب والسنة كما عرفت ، والله العالم.

وكيف كان فإن الأفضل هو الاقتصار على الخمسمائة لاستفاضة الأخبار بأنه مهر السنة حتى وقعت المبالغة فيه بما تضمنه هذا الخبر مما يؤذن بتعينه.

فمن الأخبار المشار إليها ما رواه ثقة الإسلام (١) في الصحيح عن معاوية بن وهب قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ساق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا ، والأوقية أربعون درهما ، والنش نصف الأوقية عشرون درهما ، فكان ذلك خمسمائة درهم ، قلت : بوزننا ، قال : نعم».

وعن حماد بن عيسى (٢) في الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سمعته يقول : قال أبي : ما زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا من بناته ، ولا تزوج شيئا من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش ، والأوقية أربعون درهما ، والنش عشرون درهما».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٦ ح ٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٥ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٧٦ ح ٥ ، قرب الاسناد ص ١٠ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦ ح ٤.

٤٣٢

وعن عبيد بن زرارة (١) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : مهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نساءه اثنى عشر أوقية ونشأ ، والأوقية أربعون درهما ، والنش نصف الأوقية وهو عشرون درهما».

أقول : وبما دلت عليه هذه الأخبار من تفسير الأوقية والنش وصرح به أهل اللغة أيضا ، قال ابن إدريس في سرائره : النش ـ بالنون المفتوحة والشين المعجمة المشددة ـ وهو عشرون درهما وهو نصف الأوقية من الدراهم ، لأن الأوقية عند أهل اللغة أربعون درهما ، فإني سألت ابن القصار ببغداد وهو إمام أهل اللغة في عصره فأخبرني بذلك ، انتهى.

وقال في القاموس (٢) : النش إلى أن قال : ونصف أوقية عشرون درهما.

وقال الجوهري (٣) : النش عشرون درهما وهو نصف أوقية لأنهم يسمون الأربعين درهما أوقية ويسمون العشرين نشا ، ويسمون الخمسة نواتا.

وروى ثقة الإسلام (٤) عن الحسين بن خالد قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن مهر السنة كيف صار خمسمائة درهم؟ فقال : إن الله تبارك وتعالى أوجب على نفسه أن لا يكبره مؤمن مائة تكبيرة ، ويسبحه مائة تسبيحة ، ويحمده مائة تحميدة ، ويهلله مائة تهليلة ، ويصلي على محمد وآله مائة مرة ثم يقول : اللهم زوجني من الحور العين إلا زوجه الله حوراء عيناء وجعل ذلك مهرها ، ثم أوحى الله إلى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يسن مهر المؤمنات خمسمائة درهم ففعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأيما مؤمن خطب أخيه مؤمنة وبذل له خمسمائة درهم فلم يزوجه فقد عقه واستحق من الله أن لا يزوجه حوراء».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٧٦ ح ٤ ، الوسائل ج ١٥ ص ٦ ح ٣.

(٢) القاموس المحيط ج ٢ ص ٢٩٠.

(٣) الصحاح ج ٣ ص ١٠٢١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣٧٦ ح ٧ ، وفيه «حوراء عين» ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٦ ح ١٤ مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٥ ح ٢.

٤٣٣

المسألة الرابعة : قد صرح الأصحاب بأن المهر إذا ذكر في العقد فلا بد من تعيينه ليخرج عن الجهالة إما بالإشارة كهذا الثوب وهذه الدابة ، أو بالوصف الذي يحصل به التعيين.

وظاهرهم أنه يكفي فيه المشاهدة وإن كان مكيلا أو موزونا وأمكن استعلامه بها ، بل صرح بذلك جملة منهم كالصبرة من الطعام والقطعة من الفضة أو الذهب ، ومرجع ذلك إلى المعلومية في الجملة من غير استقصاء لجميع طرقها ، قالوا ، والوجه فيه أن النكاح ليس على حد المعاوضات الحقيقية ، والركن الأعظم فيه الزوجان ، والمهر دخيل فيه لم يعتبر فيه ما يعتبر في غيره من المعاوضات المحضة.

أقول : ويدل على ذلك صحيح محمد بن مسلم (١) المتقدمة المتضمن لحكاية المرأة التي أتت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وطلبت منه أن يزوجها فإن المهر فيها قد جعل ما يحسنه من القرآن ، ولم يسأل عن مقداره ، وهو مجهول ، فإذا جاز التزويج بالمهر الذي على هذا النحو ، فبالمشاهدة من غير وزن ولا كيل بطريق أولى لحصول المعلومية في الجملة ، بخلاف المهر في هذا الخبر.

ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم في جملة من الأخبار «أن المهر ما تراضيا عليه» فإنه شامل بإطلاقه لما نحن فيه ، وقد تقدم في جملة من أخبار المتعة كف من طعام دقيق أو سويق أو تمر.

وفي خبر (٢) عن الكاظم عليه‌السلام «كان الرجل يتزوج على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على القبضة من الحنطة». وفي الجميع دلالة واضحة على الاكتفاء بالمعلومية في الجملة.

بقي الكلام فيما لو قبضته والحال هذه فإنه إن لم يتوقف على العلم به أمر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨٠ ح ٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٥٤ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤١٤ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٦ ح ٤٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٣ ح ١.

٤٣٤

وحصل العلم لها بعد ذلك فلا إشكال ، وإن استمر الأمر على المجهولية واحتج بعد ذلك إلى معلوميته لتلفه قبل التسليم أو بعده ، وقد طلقها قبل الدخول ليرجع بنصفه ، فالظاهر أنه لا وجه للرجوع إلا بطريق الصلح إذ لا طريق للمعلومية لفواته على المجهولية ، ونقل عن المحقق الشيخ علي أنه احتمل وجوب مهر المثل (١) ورده في المسالك ومثله سبطه في شرح النافع بأن ضمان المهر عندنا ضمان يد ، لا ضمان معاوضة ، ومن ثم كان التلف قبل القبض يوجب الرجوع إلى القيمة ، لا مهر المثل ، وزاد في المسالك : نعم هو مذهب العامة.

المسألة الخامسة : الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في صحة النكاح لو تزوج امرأتين فصاعدا في عقد واحد بمهر واحد ، إنما الخلاف والاشكال في صحة المهر في هذه الصورة وبطلانه ، وأنه على تقدير الصحة ، فهل يقسط المهر على عدد رؤوسهن بالسوية أو يقسط على مهر أمثالهن؟ وجهان ، بل قولان ، وتفصيل هذه الجملة يقع في مواضع :

الأول : إن ما ذكر من صحة النكاح في هذه الصورة لم أقف فيه على نص بخصوصه ، إلا أن الظاهر دخوله تحت العمومات ، والأصحاب قد عللوا ذلك بوجود المقتضي للصحة وهو العقد الجامع لشرائطه ، وانتفاء المانع ، إذ ليس إلا جمع المهر على شي‌ء واحد وهو لا يصلح للمانعية ، لأنه على تقدير صحة المهر يظهر حق كل واحدة بالتوزيع ، وعلى تقرير البطلان لا يؤثر في العقد كما سيأتي بيانه وهو يرجع إلى ما ذكرناه.

الثاني : في صحة المهر وبطلانه ، والمشهور هو الأول ، حتى أن أكثرهم

__________________

(١) أقول : ظاهر كلام الشيخ على ـ تقدس‌سره ـ في شرح القواعد أن هذا الاحتمال انما هو بالنسبة إلى تلف المهر قبل التسليم ، دون ما إذا كان بعده وقد طلقها قبل الدخول ، فإنه قال : لكن لو تلف قبل التسليم أو بعده وقد طلقها قبل الدخول أمكن وجوب مهر المثل في الأول إلى آخر ما ذكره. (منه ـ قدس‌سره ـ).

٤٣٥

لم ينقل هنا خلافا ، وإنما تعرضوا للخلاف في التقسيط كما سنذكره في الموضع الآتي ، ومن حكم بالصحة كما هو المشهور قال : لأنه معلوم جملة ، وحصة كل واحدة يمكن علمها بعد ذلك كثمن المبيعين في عقد واحد.

ومن حكم بالبطلان قال : لأن المهر هنا متعدد في نفسه وإن كان مجتمعا ، وحصة كل واحدة منه ليست معلومة عند العقد ، وعلمها بعد ذلك لا يفيد الصحة كما لو كان مجهولا منفردا وعلم به بعد ذلك ، ونمنع صحة البيع للملكين غير المشتركين بثمن واحد كما هو مذهب الشيخ في الخلاف وغيره (١).

أقول : ويؤيده ما تقدم في كتاب البيع من دلالة صحيحة محمد بن الحسن الصفار (٢) على أنه «لو باع ماله ومال الغير بطل بالنسبة إلى مال الغير ، وصح بالنسبة إلى ماله». والوجهان حكاهما الشيخ في المبسوط ، ولم يتعرض الأكثر لذكر البطلان ولا لذكر وجهه.

أقول : حيث كانت المسألة عارية من النص أشكال الكلام فيها سيما مع تدافع هذه التعليلات ، وإن كانت لا تصلح لتأسيس حكم شرعي.

__________________

(١) وربما أجيب عن ذلك بأن المسمى هنا في مقابلة البضعين من حيث الاجتماع ولا يلزم من التقسيط الحكمي التقسيط اللفظي ، وهو الموجب للجهالة في المهر دون التقسيط الحكمي ، وهو الجواب عن بيع الملكين أيضا ولزوم كون الثمن مجهولا بالتقسيط ، ثم انه لو سلم عدم الجواز في البيع كما هو المنقول عن الشيخ في الخلاف فإنه يمكن أن يقال بالصحة هنا ، لان النكاح ليس على حد المعاوضات المحضة وان أشبهها ولحق بها في بعض الأحكام فإنه يحتمل من الجهالة ما لا يحتمله غيره من عقود المعاوضات.

وأنت خبير بما في هذا الكلام عن تطرق المناقشة وعدم صلوحه لتأسيس الأحكام لما عرفته في غير مقام ، والأحكام الشرعية انما تبنى على الأدلة الواضحة الجلية لا هذه التخريجات العقلية. (منه ـ قدس‌سره ـ).

(٢) التهذيب ج ٧ ص ١٥٠ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٥٢ ح ١.

٤٣٦

الثالث : إنه على تقدير القول بالصحة يقسط المسمى على كل واحدة ليعرف مقدار ما يخصها من المهر ، وفيه وجهان ، بل قولان :

(أحدهما) وهو قول الشيخ في المبسوط وتبعه ابن البراج أنه يقسم بينهن بالتسوية ، فيقسم على الزوجين أنصافا وعلى الثلاث أثلاثا وهكذا.

وعلل بأنه الأصل في إطلاق الاستحقاق إذا قيل لفلان وفلان كذا والترجيح على خلاف الأصل.

و (الثاني) وهو اختيار المحقق والعلامة والأكثر ومنهم المحقق الشيخ علي والشهيد الثاني في المسالك وغيره التقسيط على مهور أمثالهن ، وتعطى كل واحدة ما يقتضيه التقسيط كما لو باع عبده وعبد غيره بثمن واحد ، أو جمع بين نكاح وبيع ، وعلل بأن العرض المالي إذا قوبل بعوض متقوم كانت القيمة ملحوظة ، ومن ثم يكون زيادة العوض ونقصانه ناشئا عن زيادتها ونقصانها غالبا ، وقيمة البضع إنما هي مهر المثل فيكون قسط كل واحدة من المسمى بحسبه لا محالة.

ثم إنه لا ينبغي أن يعلم أنه على القول بفساد المهر ، فالذي صرح به في المسالك أن لكل واحدة مهر مثلها كما لو أصدقها مجهولا يتعذر تقويمه كعبد ودابة وشي‌ء ، لأن الصداق وإن لم يكن عوضا في أصله إلا أنه إذا ذكر في العقد جرت عليه أحكام المعاوضات ، والجهالة من موانع صحتها فيثبت مهر المثل ، قال : ويحتمل الفرق وتوزيع المسمى هنا على مهور أمثالهن ، ولكن واحدة منه ما يقتضيه التوزيع ، ويكون الحاصل لهن على هذا القول كالحاصل إذا قلنا بصحة المسمى ، والفرق بينه وبين المجهول المطلق تعذر تقويم ذلك ، وإمكان تقويم هذا.

أقول : هذا حاصل ما ذكروه في المسألة ، وقد عرفت أن المسألة خالية من النص بجميع شقوقها ، وظاهر من ذهب إلى التقسيط على مهور أمثالهن أن الوجه في ذلك عنده هو إلحاق النكاح بالبيع ، وقياسه عليه للاشتراك في المعاوضة ، حيث إن المهر عوض البضع كما أن الثمن عوض المثمن ، مع أنا قد قدمنا في

٤٣٧

كتاب البيع (أقول : قد تقدم ذلك في المسألة الرابعة من المقام الثاني في المتعاقدين من الفصل الأول) (١) أن هذا التقسيط على الوجه المذكور ، والأخذ بالنسبة من الثمن لم نقف له على نص ، وأن طريق الاحتياط فيه هو الصلح ، وبذلك يظهر لك أن المسألة غير خالية من شوب الاشكال.

وكيف كان فإن الذي ذكروه ثمة من التقسيط أو الأخذ من المسمى بالنسبة هو أنه يقوم المجموع أعني ما باعه من ماله ومال غيره بقيمة عادلة ، ثم إنه يقوم أحدهما بانفراده وتنسب قيمته إلى قيمة المجموع ويؤخذ بهذه النسبة من المسمى في العقد ، ومقتضى ذلك بالنسبة إلى ما نحن فيه أن ينظر إلى مهور أمثال هؤلاء المعقود عليهن اثنتين أو أكثر ، وإلى مهر مثل كل واحدة واحدة منهن فينسب إلى ذلك المجموع ويؤخذ من المسمى في العقد بتلك النسبة ، مثلا مهور أمثال هؤلاء المعقود عليهن مائة درهم ، ومهر إحداهن خمسون درهما ، والثانية خمسة وعشرون ، والثالثة خمسة وعشرون ، فيؤخذ من المسمى للأولى بالضعف ، ولكل من الثانية والثالثة بالربع ، وعلى هذا فقس.

ثم إنه قال في المسالك : واعلم أنه لو زوج أمته من رجل على صداق واحد صح النكاح والصداق قولا واحدا. لأن المستحق هنا واحد ، فهو كما لو باع عبدين بثمن واحد ، ولو كان له بنات وللآخر بنون ، فزوجهن صفقة واحدة بمهر واحد ، بأن قال : زوجت ابنتي فلانة من ابنك فلان ، وفلانة من فلان إلى آخره بألف ، ففي صحة الصداق كالسابقة وجهان ، وأولى بالبطلان هنا لو قيل به ، ثم لأن تعدد العقد هنا أظهر لتعدد من وقع له من الجانبين ، انتهى.

المسألة السادسة : لا خلاف بين الأصحاب كما ادعاه في المسالك وغيره في غيره في أنه إذا عقد على مهر مجهول بحيث لا يمكن استعلامه في نفسه كعبد ودابة وشي‌ء ونحو ذلك ، فإنه يبطل المسمى ويثبت مهر المثل ، لامتناع تقويم

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٠٢.

٤٣٨

المجهول على هذا الوجه.

أقول : والوجه فيه هو ما تقدم من أن المهر متى ذكر في العقد فإنه يشترط فيه التعيين بالإشارة أو الوصف الرافعين للجهالة ، وقضية ذلك بطلان المسمى لو كان أحد هذه المذكورات أو بطلان العقد ، إلا أنه نقل عن الشيخ وأتباعه وتبعه جمع من المتأخرين فيما لو تزوجها على خادم أو دار أو بيت فإنهم حكموا بصحة العقد والمهر ، وأن الواجب لها ما كان وسطا من هذه الأشياء ، استنادا إلى أخبار وردت بذلك وهي :

ما رواه في الكافي والتهذيب (١) عن ابن أبي عمير عن علي بن أبي حمزة قال : «قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : تزوج رجل امرأة على خادم ، قال : فقال : لها وسط من الخدم قال : قلت : على بيت؟ قال : وسط من البيوت».

وما رواه في التهذيب (٢) في الصحيح عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن عليه‌السلام «في رجل تزوج امرأة على دار ، قال : لها دار وسط».

وما رواه في الكافي (٣) عن علي بن أبي حمزة قال : «سألت أبا إبراهيم عليه‌السلام عن رجل زوج ابنته ابن أخيه ، وأمهرها بيتا وخادما ، ثم مات الرجل ، قال : يؤخذ المهر من وسط المال ، قال : قلت : فالبيت والخادم؟ قال : وسط من البيوت والخادم وسط من الخدم ، قلت : ثلاثين أربعين دينارا؟ والبيت نحو من ذلك ، فقال : هذا سبعين ثمانين دينار ، أو مائة نحو من ذلك».

وظاهر المحقق في الشرائع التوقف في هذا الحكم حيث نسبه إلى «قيل» وكذا عبارة العلامة في القواعد ، ويلوح عن ابن إدريس اختياره ، حيث أورده

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٨١ ح ٧ مع اختلاف يسير ، التهذيب ج ٧ ص ٣٦٦ ح ٤٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦ ح ٢.

(٢) ، التهذيب ج ٧ ص ٣٧٥ ح ٨٣ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٦ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٨١ ح ٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٥ ح ١.

٤٣٩

بصيغة «روي» ولم يرده.

وبالجملة فالظاهر من كلام المتأخرين الذين هم أصحاب هذا الاصطلاح المحدث في الأخبار أنهم ما بين جازم ببطلان المسمى والرجوع إلى مهر المثل ، وما بين متوقف في المسألة.

وأما المتقدمون الذين لا أثر لهذا الاصطلاح عندهم فإنهم قائلون بهذا الأخبار ، وقصروها على موردها لما عرفت من مخالفتها للقاعدة التي قرروها في المهر وهو الأظهر.

قال في المسالك ـ بعد نقل رواية علي بن أبي حمزة الاولى ومرسلة ابن أبي عمير ـ ما لفظه : ولا يخفى ضعف الرواية الأولى بعلي المذكور ، فإنه رأس الواقفية ، والثانية مرسلة ، لكن مرسل ابن أبي عمير قبله الأصحاب ، اعتمادا منهم على أنه لا يرسل إلا عن الثقة ، مع أنه راوي الرواية الأولى عن ابن أبي حمزة ، فإن تم ما قالوه فهو يتسامح في الرواية مع ذكر المروي عنه لا مع تركه ، ولا بد لهذه الدعوى من إثبات ، والأقوى بطلان المهر كغيره ، والرجوع إلى مهر المثل لما ذكر ، ولأن الوسط من هذه الأشياء لا ينضبط بل هو مختلف اختلافا شديدا خصوصا مع عدم تعيين بلد الدار والبيت ، انتهى (١).

__________________

(١) وبنحو ما نقلناه عن المسالك صرح المحقق الثاني في شرح القواعد فقال بعد رد الروايتين الأولتين بضعف السند : ومع ذلك لا يمكن العمل بهما ، لان الوسط من الدور والبيوت والخدام ليس شيئا معينا مضبوطا ولا هو مختلف اختلافا يسيرا ، بل هو في غاية البعد عن القسط ، فإن الأعلى والأدنى من ذلك لا يكاد يوقف عليه ، والوسط ان أريد به ما بين الطرفين فمعلوم شدة اختلاف أفراده وتباين قيمتها ، وأن ذلك طريق للتنازع والتخاصم ، وموقع للحاكم في التحديد. وان أريد أوسط ما بين الطرفين فهو أبعد ، ولان هذا لا يكاد يوقف عليه ، فالقول بعدم الصحة والرجوع الى مهر المثل لا يخلو من قوة ، لأن الشارع أحكم من أن يضبط الأحكام بما لا ينضبط ، انتهى.

٤٤٠