الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

على الكافرة ، إلا أنه قد تقدمت الإشارة إلى أنا لم نقف لهم على نص يدل على ما ذكروه من هذه الدعوى ، وليس إلا ما ينقل من اتفاقهم على ذلك كما تقدم في آخر الموضع الثاني من سابق هذه المسألة ، ثم إن من أراد فراقها لا يخلو إما أن يكون قد دخل بها أم لا ، وعلى الثاني فلا مهر لها ، وعلى الأول فالمسمى إن كان ، على قول ، وقواه في المسالك ، وقيل يثبت لها مهر المثل لفساد نكاح ما زاد على العدد فيكون كوطئ الشبهة.

تذنيبان

الأول : روى الصدوق في الفقيه والشيخ في التهذيب (١) في الموثق عن عمار الساباطي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أذن لعبده في تزويج امرأة حرة فتزوجها ، ثم إن العبد أبق من مواليه فجاءت امرأة العبد تطلب نفقتها من مولى العبد فقال : ليس لها على مولى العبد نفقة وقد بانت عصمتها منه ، لأن إباق العبد طلاق امرأته ، وهو بمنزلة المرتد عن الإسلام ، قلت : فإن هو رجع إلى مولاه أترجع امرأته إليه؟ قال : إن كانت انقضت عدتها منه ثم تزوجت زوجا غيره فلا سبيل له عليها ، وإن كانت لم تتزوج «ولم تنقض العدة» فهي امرأته على النكاح الأول». هكذا في رواية الشيخ ، الخبر.

وفي رواية الصدوق له هكذا «وإن كانت لم تتزوج فهي امرأته على النكاح الأول» ولفظ «ولم تنقض العدة» غير مذكور في البين ، وظاهر رواية الصدوق أنها من انقضاء العدة تبقى على نكاحها ما لم تتزوج ، وأما على رواية الشيخ فهو مسكوت عنه ، والقول بمضمون هذه الرواية منقول عن الشيخ في النهاية وابن حمزة إلا أن ابن حمزة قيده بكون الزوجة أمة غير سيدة ، وتزوجها بإذن السيد ثم

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٨٨ ح ١٦ ، التهذيب ج ٨ ص ٢٠٧ ح ٣٧ مع اختلاف يسير ، الوسائل ج ١٥ ص ٤٠٢ ح ١.

٤١

أبق ، وعلل الحكم مع الرواية بأن الارتداد خروج العبد عن طاعة السيد ، وهذا المعنى حاصل في الإباق ، فإنه كما يجب على المكلف الحر طاعة الله كذلك يجب على العبد طاعة سيده ، فيتجه الحكم مع اتحاد علته ، ورد بأن طريق الرواية ضعيف ، وفي التعليل فساد ، لمنع كون الارتداد خروج العبد عن طاعة سيده مطلقا ، بل خروجه عن طاعة الله معتقدا عدم وجوب الطاعة وما في معنى ذلك ، والإباق ليس كذلك ، وإلا لزم قتل الآبق كما يقتل المرتد.

قال في المسالك بعد ذكر ذلك : والحق بقاء الزوجية ووجوب النفقة على مولاه لعدم دليل صالح يخرجها عن الأصل ، انتهى. وقال سبطه السيد السند في شرح النافع بعد ذكر الرواية : ونقل قول الشيخ وابن حمزة بذلك والمعتمد بقاء الزوجية إلى أن تقع البينونة بطلاق أو غيره ، لأن هذه الرواية لا تبلغ حجة في إثبات هذا الحكم ، انتهى.

أقول : والحكم في هذا المقام لا يخلو من شوب الاشكال لخروج هذه الرواية على خلاف القواعد المقررة والضوابط المعتبرة المستفادة من الأخبار المتكاثرة ، وإمكان تخصيص تلك القواعد بهذا الخبر والعمل بمضمونه في هذا الفرد كما تقدم نظائر ذلك في مواضع عديدة ، والله العالم.

الثاني : قد صرح جملة من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بأنه ليس للمسلم إجبار زوجته الذمية على الغسل من حيض كان أو جنابة ، لأن ذلك حق الله عزوجل ، لا حق الزوج ، والحال أنها قد أقرت على دينها شرعا فليس له اعتراضها هذا إن قلنا بجواز الوطي قبل الغسل من الحيض ، ولو قلنا بالتحريم كما هو أحد القولين أوجبنا عليها ذلك ، فللزوج إجبارها على ذلك لتوقف الاستمتاع الذي هو حقه عليه ، وإن كان الذي يجبر عليه إنما هو صورة الغسل مع النية ، لأن الغسل وكذا غيره من العبادات لا يصح منها حال الكفر.

قالوا : وله إجبارها أيضا على كل ما ينقض الاستمتاع بدون فعله ، وإزالة

٤٢

كل ما ينقصه بقاؤه كالوسخ الكثير والنتن الغالب ، وطول الأظفار وشعر الإبط والعانة ، وشرب الخمر المؤدي إلى الإسكار ، لأن السكر مانع من تمام الاستمتاع ، وكذا أكل لحم الخنزير ومباشرة النجاسات المنفرة للنفس ، ولا فرق بين قليل السكر وكثيره ، لاختلاف الناس في مقدار ما يسكر ، فربما أسكر القليل منه فينافي المقصود ، لكن قيل : بأنه يشكل هذا الإطلاق بنحو تناول القطرات اليسيرة التي يعلم قطعا عدم إسكارها ، وكذلك إطلاق منعها من استعمال النجاسات إنما يتم على تقدير إيجابه نفرة ، أو على القول بطهارة بدنها كما يعتبره العامة هنا ، أما على قول أصحابنا من نجاستها بدونه ، فلا يظهر وجه المنع من مباشرتها لها مطلقا بل من حيث إنها تنافي الاستمتاع وتوجب نفرة الطبع ، ومثل هذا لا يختص بالكافرة بل تشاركها فيه المسلمة ، حتى أن له منعها من تناول كل ذي رائحة خبيثة توجب ذلك كالثوم والبصل ، وكذا له منعها من الخروج إلى البيع والكنائس وغيرها لمنافاته الاستمتاع الواجب عليها في كل وقت ، كما له منع المسلمة من الخروج إلى المساجد ونحوها من بيوت الأقارب والجيران ، فإن هذا الحكم يشترك بين الزوجات مطلقا ، ولا فرق بين الشابة والمسنة وإن كان المنع في حق الشابة أقوى خوفا من الفتنة ، والله العالم.

البحث الثاني : في كيفية الاختيار :

قالوا : وهو إما بالقول أو بالفعل ، والأول إما بالتصريح أو الكناية.

أما (الأول) فهو كل ما دل من الألفاظ على الإمساك للنكاح ، مثل اخترت نكاحك ، أو اخترت تقرير نكاحك ، أو اخترت بقاءك على النكاح ، ونحو ذلك ، وفي اخترتك وأمسكتك مطلقا إشكال من حيث عدم النكاح ، وعده في الشرائع من الألفاظ الدالة على ذلك.

وأما (الثاني) وهو ما يدل بالكناية ، فهو ما يدل عليه اللفظ بالالتزام كما

٤٣

لو كان عنده ثمان نسوة فاختار أربعا للفسخ فإنه يلزم نكاح الأربع الباقيات ، وإن لم يتلفظ في حقهن بشي‌ء ، فإن الشارع قد جعل له الخيار في أن يفسخ عقد من شاء ، فإذا اختار فسخ نكاح أربع ثبت عقد البواقي بدون لفظ يدل على الاختيار ، بل لا مجال للاختيار هنا بعد خروج أولئك بالفسخ.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك عد لفظ «اخترتك» و «أمسكتك» في هذا القسم لما قلناه من عدم التصريح بإرادة الإمساك للنكاح والاختيار له.

وأما (الثالث) وهو الاختيار بالفعل فمثل أن يطأ ، فإن ظاهر ذلك أنه لا يطأ إلا من يختار نكاحها لدلالته على الرغبة فيها ، عملا بحمل أفعال المسلم على الصحة وصيانته عن الزنا ، ولهذا عد ذلك رجوعا في الطلاق ، وفسخا على تقدير الخيار للبائع ، وعلى هذا لو وطأ أربعا ثبت عقدهن ، واندفع البواقي. ويظهر من جماعة من الأصحاب عدم الخلاف في ذلك عندنا.

أقول : الأظهر أن يقال : إنه إن اقترن ذلك بالقصد إلى الاختيار فما ذكروه في محله ، وإلا فهو محل إشكال ، لأن الاختيار الذي به يتحقق بقاء نكاح من يختارهن إنما هو عبارة عن القصد واللفظ ، والفعل إنما جعل موجبا لذلك ، لأنه دال عليه ومبني عنه ، وحينئذ فإطلاق القول يكون مجرد الوطي اختيارا بالفعل كما ذكروه لا يخلو من إشكال.

ثم إنهم قالوا : لو لمس أو قبل بشهوة فإنه يمكن أن يكون اختيارا ، بتقريب ما ذكر في الوطي من حيث الدلالة على الرغبة ، وصيانة حال المسلم ، فإنه قائم في الموضعين ، وحينئذ فيدلان على الاختيار ، كما أنهما يدلان على الرجعة لا بطريق القياس عليها بل المراد تشبيه الاختيار بالرجعة لتقاربها في المعنى ، ويمكن أن لا يكون ذلك اختيارا من حيث إنهما أضعف دلالة من الوطي ، والاحتمال فيهما يتطرق من حيث إنهما قد يوجدان في الأجنبية.

أقول : والأظهر أن يقال هنا ما قدمناه أيضا من أنه إن اقترن ذلك بالقصد

٤٤

إلى الاختيار ، فالظاهر أنه موجب للاختيار ، وإلا فهو محل إشكال.

تتمة

قد صرحوا بأن من جملة الألفاظ الدالة على الاختيار الطلاق ، لواحدة أو أزيد ، لأن الطلاق موضوع لازالة قيد النكاح ، فلا تواجه به إلا الزوجة ، فإذا خاطب واحدة منهن به كان ذلك دليلا على اختيارها زوجة أو لا ، ثم يقع بها الطلاق إن حصلت شرائطه ، وينقطع نكاح الأربع المطلقات بالطلاق ، ويندفع نكاح الباقيات بالشرع ، والأصل في ذلك أن الاختيار ليس باللفظ ، بل بالقصد ، واللفظ وضع دالا عليه ، والطلاق يدل على إرادة النكاح كما قررناه.

أما لفظ الظهار والإيلاء فليس كذلك على المشهور ، إذ لا دلالة فيهما على الاختيار ، وهو وجه الفرق بينهما وبين الطلاق.

وتوضيحه : إن الظهار وصف بتحريم المرأة المواجهة به ، والإيلاء حلف على الامتناع من وطئها وكل منهما بالأجنبية أليق منه بالزوجة ، غاية الأمر أن الظهار إذا خوطبت به الزوجة ترتب عليه أحكام مخصوصة ، وإذا خوطبت به الأجنبية لم تترتب عليه الأحكام ، وكان قولا صحيحا بالنسبة إليها ، وفي الإيلاء لو حلف على الامتناع من وطئ الأجنبية فتزوجها ووطأها كان عليه الكفارة ، وكذلك بالزوجة مع زيادة أحكام أخر.

والحاصل : إن نفس المخاطبة بهما لا تستلزم الزوجية ، فلا يكون أحدهما اختيارا ، بخلاف الطلاق فإنه رافع للنكاح ، والنكاح جزء مفهومه ، أو لازمه لزوما بينا ، فإثباته يستلزم إثباته.

ونقل عن الشيخ إن كل واحدة من الظهار والإيلاء يكون تعيينا للنكاح كالطلاق ، لأنهما تصرفان مخصوصان بالنكاح ، فأشبها لفظ الطلاق ، كذا أفاده شيخنا ـ قدس‌سره ـ في المسالك ، وعندي في أصل الحكم المذكور توقف لعدم

٤٥

النص بما ذكروه ، فإثبات الأحكام الشرعية بأمثال هذه التقريبات العقلية عندي محل إشكال.

ولم أقف في هذا الباب إلا على خبر عقبة بن خالد المتقدم (١) ، وغاية ما يدل عليه أنه يمسك أربعا ويطلق ثلاثا ، والمتبادر من الإمساك هو القصد إلى اختيار بقاء أربع معينات من تلك السبع والمفارقة للباقين.

على أنك قد عرفت دلالة ظاهر الخبر المذكور على توقف فسخ نكاح من لا يريدهن على الطلاق ، وإن كانوا لا يقولون به ، إلا أن الخبر كما عرفت لا معارض له إلا مجرد شهرة الحكم بينهم بما قالوه.

وبالجملة فالخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل ، والخروج عن ظاهر الأخبار بذلك أشكل ، والله العالم.

البحث الثالث في اللواحق :

وهي مسائل مترتبة على اختلاف الدين الأولى : إذا تزوج الكافر امرأة وبنتها ثم أسلم ، فلا يخلو إما أن يكون قد دخل بهما معا ، أو لم يدخل بواحدة منهما ، أو دخل بالأم دون البنت ، أو بالعكس ، فههنا صور أربع.

الاولى : أن يكون قد دخل بهما ، فيحرمان عليه معا ، أما الأم فللعقد على البنت فضلا عن الدخول بها ، وأما البنت فللدخول بالأم ، وعلى هذا فيسقط الاختيار لتحريم كل منهما عليه كما عرفت.

الثانية : أن يدخل بالأم خاصة ، وهو موجب لتحريمهما معا أيضا ، أما البنت فللدخول بالأم ، وأما الأم فللعقد على البنت كما عرفت في سابق هذه الصورة.

الثالثة : أن يدخل بالبنت خاصة ، وحينئذ تحرم الأم خاصة للعقد على البنت فضلا عن الدخول المفروض هنا ، وأما البنت فنكاحها صحيح لا موجب لتحريمها

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٦ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٥ ح ٧٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٤ ح ١.

٤٦

لأن مجرد العقد على الام لا يحرمها ، وإنما يحرمها الدخول مع ذلك.

الرابعة : أن لا يدخل بواحدة منهما ، وفيها قولان :

(أحدهما) وهو المشهور بين المتأخرين أن هذه الصورة كسابقتها في أنها تحرم عليه الأم خاصة ، ويبطل عقدها للعقد على البنت ، فإنه موجب لتحريم الام وإن لم يقترن به دخول ، وأما البنت فيلزم نكاحها لعدم الموجب لبطلانه ، لأن نكاح الكفر صحيح ، ومن ثم يتخير أربعا لو أسلم على أزيد منهن ، ويصح نكاحهن بغير تجديد عقد آخر.

و (ثانيهما) وهو المنقول عن الشيخ ـ رحمه‌الله ـ القول بأن له اختيار أيتهما شاء بناء على أن عقد المشرك لا يحكم صحته إلا بانضمام الاختيار في حال الإسلام ، وإلا فهو في حد ذاته باطل بدون ذلك ، فإنه لو تزوج بعشر واختار منهن أربعا لم يكن للبواقي مهر ولا نفقة ولا متعة ، بل هن بمنزلة من لم يقع عليهن عقد ، ولأنه لو أسلم على أختين قد تزوجهما دفعة تخير أيتهما شاء ، ولو كان العقد الذي صدر حال الكفر صحيحا لزم بطلانه كالمسلم ، وليس له الاختيار ، وعلى هذا فإن اختار نكاح البنت استقر نكاحها وحرمت الأم مؤبدا ، وإن اختار نكاح الام لم تحرم البنت بدون الدخول.

وأجيب بأن ما ذكر من سقوط المهر والنفقة لا يدل على بطلان العقد ، بل الوجه فيه أنه فسخ جاء لا من قبل الزوج ، ولأن العقد لو لم يكن صحيحا لم يكن ، لانضمام الاختيار أثر في صحته ، كما في كل عقد باطل.

هذا ما ذكروه ـ نور الله تعالى مراقدهم ـ في هذا المقام ، ولم أقف على نص في ذلك عنهم عليهم‌السلام وأنت خبير بان الظاهر أن الكلام في هذه المسألة مبني على ما هو المشهور بينهم ، وكذا بين العامة ، بل الظاهر اتفاق الجميع عليه حيث لم ينقلوا الخلاف فيه إلا عن أبي حنيفة من أن الكافر مكلف بالفروع ، والخطابات الشرعية متوجهة إليه كما تتوجه إلى المسلم ، وإن كان قبول ذلك وصحته منه

٤٧

موقوفا على الإسلام ، وحينئذ فما دل من الأخبار على تحريم الام بالعقد على البنت أو الدخول بها ، وكذا ما دل على تحريم البنت بالدخول بالأم دون مجرد العقد عليها ، ونحو ذلك شامل للكافر كالمسلم فيؤخذ به بعد الإسلام ويحكم عليه بذلك.

وأما على ما يظهر من جملة من الأخبار من أن الخطابات الشرعية والتكاليف الفرعية لا تتناول الكافر في حال كفره ، بل هي مختصة بالمسلم ، وإنما يخاطب بها ويكلف بأحكامها بعد الإقرار بالإسلام ، فمن الجائز أن يقال : إن جميع ما فعله في حال كفره من العقد والتزويج بكل من كان وكيف كان وعلى أي نحو كان لا يترتب عليه أثر ولا حكم بالنظر إلى شريعتنا ، وإنما يترتب على أحكام شريعتهم وملتهم.

نعم متى دخل في الإسلام تعلقت به التكاليف الإسلامية ، وتوجهت إليه الخطابات الشرعية ، وحينئذ فإذا أسلم على امرأة وبنتها قد تزوجهما في حال الكفر لم ينظر فيما فعله في حال الكفر من دخول أو عدمه أو نحو ذلك مما رفعوه وذكروه ، بل الواجب التفريق بينه وبينهما ، حيث إن ذلك غير جائز في شريعة الإسلام.

بقي الكلام في جواز اختيار إحداهما وعدمه ، والمسألة غير منصوصة كما عرفت ، إلا أنه بالنظر إلى ما ورد في إسلام الكافر على أزيد من أربع أنه يختار أربعا ويفارق الباقي (١) يمكن القول هنا بذلك ، لأن الجميع من باب واحد فيختار إحداهما حينئذ ، ويثبت نكاحها بالاختيار ، وينفسخ نكاح الثانية.

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه ثقة الإسلام في الكافي (٢) في الصحيح عن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٣٦ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٩٥ ح ٧٤ الوسائل ج ١٤ ص ٤٠٤ ح ١.

(٢) الكافي ج ١ ص ١٨٠ ح ٣.

٤٨

زرارة قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام أخبرني عن معرفة الإمام منكم واجبة على جميع الخلق؟ فقال : «إن الله عزوجل بعث محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الناس أجمعين رسولا وحجة لله على جميع خلقه في أرضه ، فمن آمن بالله وبمحمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتبعه وصدقه ، فإن معرفة الإمام منا واجبة عليه ، ومن لم يؤمن بالله وبرسوله ولم يتبعه ولم يصدقه ويعرف حقهما ، فكيف يجب عليه معرفة الامام وهو لا يؤمن بالله ورسوله ويعرف حقهما» الحديث.

والحديث صحيح صريح في المدعى ، والتقريب فيه أنه إذا لم يجب عليه معرفة الإمام الحامل للشريعة والمستودع أحكامها فبطريق الأولى لا يجب على القيام بتلك الأحكام ولا تعرفها ولا الفحص عنها التي هي لا تؤخذ إلا منه ، وهذا بحمد الله سبحانه واضح لا خفاء عليه.

وما رواه الثقة الجليل علي بن إبراهيم القمي في تفسيره (١) عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى «وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ» (٢) قال عليه‌السلام : أترى أن الله تعالى طلب من المشركين زكاة أموالهم وهم مشركون به ، حيث قال : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) ، إنما دعا العباد إلى الايمان ، فإذا آمنوا بالله ورسوله افترض عليهم الفرض».

وما رواه في كتاب الاحتجاج (٣) في حديث الزنديق الذي جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام مستدلا بآي من القرآن على تناقضه واختلافه ، حيث قال عليه‌السلام «فكان أول ما قيدهم به الإقرار بالوحدانية والربوبية والشهادة أن لا إله إلا الله ، فلما أقروا بذلك تلاه بالإقرار لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة ، والشهادة بالرسالة ، فلما انقادوا لذلك

__________________

(١) تفسير على بن إبراهيم ج ٢ ص ٢٦٢.

(٢) سورة فصلت ـ آية ٦ و ٧.

(٣) الاحتجاج ص ١٢٨ طبعة سنة ١٣٠٢.

٤٩

فرض عليهم الصلاة ثم الصوم ثم الحج» الحديث.

ولم أر من تنبه لما ذكرناه في هذا المقام ولا حام حوله من العلماء الأعلام إلا المحدثين الأمين الأسترآبادي في كتابه الفوائد المدينة ، والمحسن الكاشاني في كتابه الوافي وتفسيره الصافي ، فقال في الأول بعد نقل الخبر الأول : وفي هذا الحديث دلالة على أن الكفار ليسوا مكلفين بشرائع الإسلام كما هو الحق ، خلافا لما اشتهر بين متأخري أصحابنا.

وقال في الثاني بعد نقل الخبر الثاني : هذا الحديث يدل على ما هو التحقيق عندي من أن الكفار غير مكلفين بالأحكام الشرعية ما داموا باقين على الكفر ، انتهى.

ونحن قد بسطنا الكلام في هذا المقام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في كتابنا الدرة النجفية من الملتقطات اليوسفية ، وتقدم نبذة منه في الجلد الأول من كتاب الطهارة في باب غسل الجنابة (١) وأوردنا جملة من الأدلة العقلية والنقلية زيادة على ما ذكرناه ، وأبطلنا ما استدل به للقول المشهور بما هو واضح الظهور فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.

وبالجملة فإنه لو قام لهم دليل في هذا المقام على ما ذكروه من هذه الأحكام من الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام لوجب علينا الانقياد ، وجذب أعنة الأقلام من هذا الكلام ، وحيث لا دليل فالمانع مستظهر ، كما هو ظاهر لذوي الأفهام وإن كان هذا يكبر في صدور الآلفين بتقليد المشهورات ، ولا سيما إذا زخرفت بالإجماعات ، والله الهادي لمن يشاء.

تذنيبات

الأول : قالوا بناء على ما تقدم : لو أسلم من أمة وبنتها وهما مملوكتان له ، فإن كان قد وطأهما حرمتها معا ، وإن كان وطأ إحداهما حرمت الأخرى ،

__________________

(١) ج ٣ ص ٣٩.

٥٠

وإن لم يكن وطئ واحدة منهما تخير ، وعلل الحكم الأول بأن وطئ كل من الام والبنت يحرم الأخرى سواء وقع بعقد أو ملك أو شبهة.

وعلل الثاني بأنها أم امرأة مدخول بها أو بنتها ، وكلتاهما محرم ، وأما المدخول بها أيتهما كانت ، فإنه يستقر حل وطئها إذ لا موجب لتحريمها.

وعلل الثالث بما تقدم في المسلم إذا تزوج الأختين دفعة أو ملكهما فإنه يتخير لنكاح أيتهما شاء ، وقد تقدم الكلام في ذلك.

الثاني : قالوا : لو أسلم عن أختين تخير أيتهما شاء وإن كان قد وطأها ، بخبر فيروز الديلمي (١) حيث أسلم عن أختين فخيره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في إمساك أي الأختين شاء ، ووطئهما لا دخل له في التحريم هنا ، إذ ليستا مثل الام والبنت ويصير حكم غير المختارة حكم الزائد على العدد الشرعي.

الثالث : لو أسلم عن عمة وبنت أخيها ، أو خالة وبنت أختها فإن رضيت العمة أو الخالة بالجمع بينها وبين بنت أخيها أو بنت أختها فلا بحث ، وإن اختارتا عدم الجمع تخير بين العمة وبنت أخيها والخالة وبنت أختها فكل من اختارها صح نكاحها وبطل نكاح الأخرى كما في الأختين ، ولو أسلم عن حرة وأمة ، فإن رضيت الحرة بالجمع فلا إشكال ، وإلا انفسخ عقد الأمة وبقيت الحرة وحدها ، ثم أنه على تقدير رضى الحرة بالجمع فعند الأصحاب أنه لا يبنى على القول بجواز نكاح الأمة بدون الشرطين بل هو جاز على القولين ، لأن محل الخلاف كما تقدمت الإشارة إليه إنما هو في ابتداء نكاح الأمة لا في استدامته ، ويجوز في الاستدامة ما لا يجوز في الابتداء ، كما أنه ليس له العقد على الكتابية على القول به ، وله استدامته على هذا القول ، ولا فرق في رضى العمة أو الخالة أو الحرة بالجمع بين كونه في حال الكفر أو حال الإسلام ، فلو رضين في حال الكفر فليس لهن الرجوع عنه بعد الإسلام تمسكا بالاستصحاب ولأن نكاح الكفر صحيح ، فإذا

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٧ ص ١٨٤.

٥١

وقع مستجمعا للأمور المعتبرة في شرع الإسلام كان لازما.

هذا ما صرحوا به ـ نور الله تعالى مراقدهم ـ في المقام ، وهو كما عرفت فيما تقدم خال عن الروايات الدالة على شي‌ء من هذه الأحكام ، ولا ريب أن هذه الفروع كلها ـ ما ذكر وما يأتي ، وكذا ما تقدم في الكتب السابقة كما تقدمت الإشارة إليه ـ إنما أخذت الأصحاب من كتب المخالفين لعدم وجود أمثال هذه التفريعات في كتب أصحابنا المتقدمين حيث إنها مقصورة على مجرد نقل الأخبار.

نعم ربما أمكن ارتباط بعضها بالأدلة العامة ، وربما وجد نص في بعضها ، وما ذكرناه من البحث سابقا يمكن تطرقه إلى بعض هذه المواضع أيضا.

وبالجملة فالوقوف على جادة الاحتياط فيما لا دليل واضح عليه طريق السلامة ، وحيث كان بقية مسائل هذا البحث من هذا القبيل ضربنا صفحا عن ذكرها ، وطوينا كشحا عن نشرها ، لعدم الأدلة الواضحة فيما ذكروه فيها من الأحكام سيما مع كونها مما لا وقوع لها بين الأنام في جملة من الأيام والأعوام ، ورأينا التشاغل بغيرها مما هو أهم ونفعه أعم أولى بالمسارعة إليه لدى الملك العلام ، والله العالم.

مسائل من لواحق العقد قد حصلت الغفلة عن ذكرها ثمة ، فذكرناها في آخر هذا الفصل.

الاولى : لا خلاف بين الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ في اشتراط الكفاءة في صحة النكاح ، وهي لغة التساوي والمماثلة ، من قولهم تكافأ القوم أي تماثلوا ، وشرعا التساوي في الايمان على المشهور ، وقيل : إنها عبارة عن التساوي في الإسلام وهو اختيار المحقق في كتابيه ، والشهيد الثاني في المسالك ، والمحدث الكاشاني في المفاتيح ، ونقل في المسالك عن الشيخ المفيد وابن حمزة قال : للإجماع على اعتباره وعدم الدليل الصالح لاعتبار غيره ، ثم قال : ووافقهم ابن الجنيد في غيره من تحرم عليه الصدقة.

أقول : لا بد قبل الخوض في البحث من تقديم مقدمة في المقام ، ليتضح بها

٥٢

محل الخلاف ، ويبتني عليها الكلام ، فنقول قد عرفت فيما تقدم أنه لا يجوز للمسلم التزويج بالكافرة مطلقا ، وهو موضع نص ووفاق ، ولا يجوز للمسلم التزويج بالكافرة أيضا إلا ما استثني من جواز نكاح الكتابية استدامة وابتداء على الخلاف المتقدم ، والمراد من الإسلام هنا هو التصديق بالشهادتين وجميع ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عدا الإمامة ، والايمان عبارة عن الاعتقاد بالإمامة مع الإسلام المذكور ، ثم أنه على تقدير القول المشهور ، وهو اعتبار الايمان ، فمذهب الأكثر اعتباره في جانب الزوج دون الزوجة ، بمعنى أنه لا يجوز للمؤمنة التزويج بالمخالف دون العكس ، وهو تزويج المؤمن بالمخالفة ، وحكى الشهيد الثاني في الروضة عن بعضهم أنه ادعي الإجماع على ذلك ، وعلى هذا فالكفاءة إنما تشترط في جانب الزوج دون الزوجة.

وقد نقل في المختلف عن سلار ما يشعر باشتراط الكفاءة من جانب الزوجة فإنه قال : وقال سلار : ومن الشرائط أن تكون المرأة مؤمنة أو مستضعفة ، وإن كانت ذمية أو مجوسية أو معاندة لم يحل نكاحها قط غبطة ، لأن الكفاءة في الدين مراعاة عندنا في صحة هذا العقد ، انتهى وهو المؤيد بالأخبار الآتية في المقام فإنها صريحة في المنع إلا من المستضعفين والشكاك.

وبالجملة فالذي يظهر لي من الروايات اعتبار الكفاءة من الطرفين ، نعم دلت على استثناء المستضعفة فيجوز تزويجها من حيث إسلامها على كلام يأتي في ذلك إن شاء الله.

والظاهر أن الحامل لأكثر المتأخرين ـ على القول بجواز تزويج المخالفة وأن الكفاءة غير مشترطة في جانب المرأة ـ هو الأخبار الدالة على جواز التزويج بالذمية فجعلوا المخالفة من قبيل ذلك ، وفيه ما قدمنا تحقيقه من أن الروايات وإن اختلفت في ذلك إلا أن الأقرب حمل روايات الجواز على التقية.

وكيف كان فمظهر الخلاف بين القولين المتقدمين عند أصحابنا هو المخالفون

٥٣

أهل السنة والمستضعفون من الفريقين.

وأنت خبير بأن هذا إنما يتمشى على مذهب المتأخرين القائلين بإسلام المخالفين ووجوب إجراء أحكام الإسلام عليهم ، وأما على مذهب المتقدمين القائلين بكفر المخالفين ونصبهم وعدم جواز إجراء شي‌ء من أحكام الإسلام عليهم إلا أن يكون للتقية كما هو الظاهر من الأخبار الواضحة المنار الساطعة الأنوار كما حققناه في كتاب «الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب» وما يترتب عليه من المطالب ، فلا يتم هذا الكلام ، بل يجب الحكم بعدم صحة مناكحتهم كسائر أفراد الكفار ، كما ستأتيك به الأخبار إن شاء الله في المقام ، مكشوفة القناع لذوي الأفهام ، وعلى هذا فإنما مظهر الخلاف المستضعف خاصة.

إذا تقرر ذلك فاعلم أن ما يدل من الأخبار على اشتراط الايمان ، وجواز نكاح في المستضعف والشكاك خاصة ما رواه المشايخ الثلاثة (١) ـ عطر الله مراقدهم ـ عن الحسين بن بشار قال : «كتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن النكاح فكتب عليه‌السلام : من خطب إليكم فرضيتم دينه وأمانته «كائنا من كان» فزوجوه ، (إِلّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ)» ، وقوله «كائنا من كان» في رواية الفقيه خاصة.

وما رواه في الكافي (٢) في الصحيح عن علي بن مهزيار قال : «كتب علي بن أسباط إلى أبي جعفر عليه‌السلام في أمر بناته ، وأنه لا يجد أحدا مثله ، فكتب إليه أبو جعفر عليه‌السلام : فهمت ما ذكرت من أمر بناتك ، وأنك لا تجد أحدا مثلك ، فلا تنظر في ذلك رحمك الله ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٤٧ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٩٦ ح ٩ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٤٨ ح ١ مع زيادة فيه ، الوسائل ج ١٤ ص ٥١ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٤٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٩٦ ج ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٠ ح ١.

٥٤

وبهذا المضمون أخبار عديدة ، والتقريب فيها إن غير المؤمن لا يرضى دينه ، والخلق في هذه الرواية وغيرها بمعنى الدين كما صرح به أهل اللغة ، لأنه وإن كان لغة بمعنى السجية والطبيعة أيضا فهو مستعمل في المعنيين.

قال في القاموس (١) : والخلق بالضم وبضمتين : السجية والطبيعية والمروة والدين ، وقال في كتاب مجمع البحرين (٢) : إن هذا إلا خلق الأولين بسكون اللام يريد مذهبهم إلى أن قال : والخلق بالضم السجية لأنه لا قائل هنا باشتراط حسن الخلق والطبع في صحة النكاح ، ولا ورد بذلك نص ، فيتعين حمله على المعنى الثاني ، وحينئذ فيكون من قبيل عطف المرادف.

وبذلك يظهر لك أن ما طعن به في المسالك على هذه الروايات من أن ذكر الخلق هنا وإضافته إلى الدين مع أن الخلق غير معتبر في الكفاءة إجماعا قرينة على أن اشتراط كل من الأمرين إنما قصد به الكمال ، والأمر بتزويج من هو كذلك لكماله ، فلا يلزم منه تحريم تزويج غيره ، فإن فيه إنه إنما يتم ما ذكره لو انحصر معنى الخلق في السجية والطبيعة ، وأما إذا كان بمعنى الدين كما صرحوا به أيضا فالواجب حمل اللفظ عليه دون المعنى الآخر لتأيده بالروايات المتكاثرة الدالة على اشتراط الايمان ، وأيضا فإن الفتنة والفساد الكبير إنما يترتب على ترك تزويج من اتصف بالمعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي ذهب إليه.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب (٣) عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : تزوجوا في الشكاك ، ولا تزوجوهم لأن المرأة تأخذ من أدب زوجها ويقهرها على دينه».

__________________

(١) ج ٣ ص ٢٢٩ فصل الخاء باب القاف.

(٢) ج ٥ ص ١٥٦.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٤٨ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٠٤ ح ٢٤.

٥٥

ورواه في الفقيه (١) عن صفوان عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام مثله ، وطريقه إلى صفوان حسن بإبراهيم بن هاشم فيكون الحديث كالصحيح.

وما رواه الشيخ (٢) عن زرارة في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أتزوج مرجئة أو حرورية؟ قال : لا ، عليك بالبله من النساء ، قال زرارة : فقلت : والله ما هي إلا مؤمنة أو كافرة ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وأين أهل ثنوي الله عزوجل (٣) قول الله عزوجل أصدق من قولك (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)» (٤).

وما رواه في الكافي (٥) عن زرارة في الصحيح أو الحسن قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إني أخشى أن لا يحل لي أن أتزوج من لم تكن على أمري ، فقال : ما يمنعك من البله من النساء؟ قلت : وما البله؟ قال : هن المستضعفات من اللاتي لا ينصبن ولا يعرفن ما أنتم عليه».

وعن حمران بن أعين (٦) قال : «كان بعض أهله يريد التزويج ولم يجد امرأة مسلمة موافقة فذكرت ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال : أين أنت من البله الذين لا يعرفون شيئا».

وما رواه في الفقيه (٧) عن حمران بن أعين في الحسن أو الموثق «وكان بعض أهله يريد التزويج فلم يجد امرأة يرضاها ، فذكر ذلك لأبي عبد الله عليه‌السلام فقال : أين

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٥٨ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٨ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٠٤ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٨ ح ١.

(٣) أى الذين استثناهم الله تعالى بقوله «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ . الى آخر الآية».

(٤) سورة النساء ـ آية ١٠١.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٣٤٩ ح ٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٨ ح ٣.

(٦) الكافي ج ٥ ص ٣٤٩ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣٠ ح ٧.

(٧) الفقيه ج ٣ ص ٢٥٨ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣٠ ح ٧ مع الاختلاف.

٥٦

أنت من البلهاء واللواتي لا يعرفن شيئا؟ قلت : إنا نقول : إن الناس على وجهين كافر ومؤمن ، فقال : فأين الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا؟ وأين المرجون لأمر الله؟ وأين عفو الله».

وما رواه في الكافي (١) عن زرارة في الموثق عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «قلت : ما تقول في مناكحة الناس فإني قد بلغت ما ترى وما تزوجت قط ، قال : وما يمنعك من ذلك؟ قلت : ما يمنعني إلا أخشى أن لا يكون يحل لي مناكحتهم ، فما تأمرني؟ قال : كيف تصنع وأنت شاب أتصبر؟ ثم ساق الخبر إلى أن قال : قلت : أصلحك الله فما تأمرني أنطلق فأتزوج بأمرك؟ فقال : إن كنت فاعلا فعليك بالبلهاء من النساء ، قلت : وما البلهاء؟ قال : ذوات الخدور العفائف ، قلت : من هو على دين سالم بن أبي حفصة؟ فقال : لا ، فقلت : من هو على دين ربيعة الرأي؟ فقال : لا ، ولكن العواتق اللاتي لا ينصبن ولا يعرفن ما تعرفون».

وما رواه في التهذيب (٢) في الصحيح عن زرارة قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : عليك بالبله من النساء التي لا تنصب والمستضعفات» (٣).

أقول : قد دلت هذه الأخبار على أن زرارة ونحوه كانوا يعتقدون الناس يومئذ إما مؤمن أو كافر ، وأنه لا تحل مناكحة الكافرة ، والامام عليه‌السلام قد أقرّه على الحكم بالكفر ، وأن نكاحها لا يجوز لذلك ، وإنما رد عليه في حصره الناس في القسمين

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٥٠ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣٠ ح ٩.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٠٤ ح ٢٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣١ ح ١٠.

(٣) أقول : روى العياشي في تفسيره عن سماعة قال : سألت أبا عبد الله ـ عليه‌السلام ـ عن المستضعفين؟ قال : هم أهل الولاية ، قلت : أى ولاية تعني قال : ليست ولاية الدين ولكنها في المناكحة والمواريث والمخالطة ، وهم ليسوا بالمؤمنين ولا الكفار ومنهم المرجون لأمر الله». (منه ـ قدس‌سره ـ) والرواية في تفسير العياشي ج ١ ص ٢٥٧ ح ١٩٤ ، وليس فيه كلمة «الدين» لكن موجود في البحار نقلا عنه ، مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٥٨٦ ب ٩ ح ٧.

٥٧

المذكورين مع وجود قسم ثالث ، ومنهم البله والمستضعفون الذين ليسوا بمؤمنين ولا كافرين ، فإنهم من المسلمين.

وقوله عليه‌السلام في هذه الأخبار «لا ينصبون» كناية عن المخالف الذي حكم أصحابنا بإسلامه ، وظاهر هذه الأخبار كما ترى هو كفره ، وقوله عليه‌السلام «ولا يعرفون» كناية عن المؤمنين القائلين بإمامة الأئمة عليهم‌السلام ، وهذا هو الموافق للأخبار المستفيضة (١) الدالة على أن الناس في زمانهم عليهم‌السلام على أقسام ثلاثة : مؤمن وكافر وضال ، والمراد بالضال الشكاك والمستضعفون ، وقد نقلناها بكمالها في كتابنا الشهاب الثاقب المتقدم ذكره ، وهي صريحة في كفر المخالفين كما عليه جل علمائنا المتقدمين حسبما أوضحناه في الكتاب المشار إليه.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب (٢) عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يتزوج المؤمن الناصبة المعروفة بذلك».

وما رواه في الكافي (٣) عن ربعي عن الفضيل بن يسار في الصحيح عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال له الفضيل : أتزوج الناصبة؟ قال : لا ، ولا كرامة ، قلت : جعلت فداك والله إني لأقول لك هذا ، ولو جاءني ببيت ملآن دراهم ما فعلت».

وعن الفضيل بن يسار (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن لامرأتي أختا عارفة على رأينا ، وليس على رأينا بالبصرة إلا قليل فأزوجها ممن لا يرى رأيها؟ قال : لا ولا نعمة ولا كرامة إن الله عزوجل يقول «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ ، وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ».

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٨١ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٣٤٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٠٢ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٣ ح ١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٤٨ ح ٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٣ ح ١.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣٤٩ ح ٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٤ ح ٤.

٥٨

وعن الفضيل بن يسار (١) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن نكاح الناصب فقال : لا وجه والله ما يحل ، قال فضيل : ثم سألته مرة أخرى فقلت : جعلت فداك ما تقول في نكاحهم؟ قال : والمرأة عارفة؟ قلت : عارفة ، قال : إن العارفة لا توضع إلا عند عارف».

وما رواه في التهذيب (٢) عن فضيل بن يسار قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن المرأة العارفة هل أزوجها الناصب؟ قال : لا ، لأن الناصب كافر ، قال : فأزوجها الرجل غير الناصب ولا العارف؟ فقال : غيره أحب إلي منه».

أقول : أفعل التفضيل هنا ليس على بابه ، بل هو بمعنى أصل الفعل كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى.

وما رواه في الكافي (٣) عن الحلبي في الصحيح أو الحسن عن أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه أتاه قوم من أهل خراسان من وراء النهر فقال لهم : تصافحون أهل بلادكم وتناكحونهم أما إنكم إذا صافحتموهم انقطعت عروة من عرى الإسلام ، وإذا ناكحتموهم انهتك الحجاب بينكم وبين الله عزوجل».

وعن أبي بصير (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : «تزوج اليهودية والنصرانية أفضل ـ أو قال ـ خير من تزوج الناصب والناصبية».

وما رواه في الكافي والتهذيب (٥) عن عبد الله بن سنان في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الناصب الذي قد عرف نصبه وعداوته ، هل نزوجه المؤمنة وهو قادر على رده ، وهو لا يعلم برده؟ قال : لا يزوج المؤمن الناصبة ولا يتزوج الناصب

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٣٥٠ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٤ ح ٥.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٠٣ ح ٢١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٣١ ح ١١.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٣٥٢ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٦ ح ١٢.

(٤) الكافي ج ٥ ص ٣٥١ ح ١٦ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٦ ح ١١.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٣٤٩ ح ٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٣٠٢ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٢٤ ح ٣.

٥٩

المؤمنة ، ولا يتزوج المستضعف مؤمنة».

إلى غير ذلك من الأخبار البالغة حد التواتر المعنوي ، والمفهوم من الأخبار أن الناصب حيثما يطلق إنما يراد به المخالف الغير المستضعف كما أشرنا إليه في ذيل روايات زرارة ، لأن بعضا ورد بأنه عبارة عن المقدم للجبت والطاغوت وبعضا آخر ورد بأنه المبغض للشيعة من حيث التشيع ، والمعنيان متلازمان كما هو المؤيد بالوجدان ، وأصحابنا المتأخرون الحاكمون بإسلام المخالفين جعلوا الناصب هو المبغض لأهل البيت عليهم‌السلام أو المعلن ببغضهم فجعلوه أخص من المخالف ، والحق أن المستفاد من الأخبار هو حصول البغض لهم عليهم‌السلام من جميع المخالفين ، فإن مجرد التقديم عليهم في الإمامة بغض لهم كما اعترف به شيخنا الشهيد الثاني الحاكم بإسلامهم هنا في كتاب روض الجنان (١) مضافا إلى استفاضة الأخبار بثبوت البعض لهم (٢) كما نقلناه في كتابنا المتقدم ذكره ، وبذلك يظهر لك

__________________

(١) قال في باب السؤر من الكتاب المذكور ص ١٥٧ ونعم ما قال حيث ذكر المصنف سؤر الكافر والناصب ما هذا لفظه : والمراد به من نصب العداوة لأهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ أو لأحدهم الى أن قال : وروى الصدوق بن بابويه عن عبد الله بن مسكان عن الصادق ـ عليه‌السلام ـ قال : ليس الناصب من نصب لنا أهل البيت لأنك لا تجد رجلا يقول أنا أبغض محمدا وآل محمد ويتظاهر به ، ولكن الناصب من نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا. وفي بعض الاخبار كل من قدم الجبت والطاغوت فهو ناصب ، واختاره بعض الأصحاب إذ لا عداوة أعظم ممن قدم المنحط عن مراتب الكمال ، ويفضل المنخرط في سلك الأغبياء والجهال على من تسنم أوج الجلال حتى شك في أنه الله المتعال. انتهى (منه ـ قدس‌سره ـ). والرواية في عقاب الأعمال ص ٢٤٧ ح ٣.

(٢) ومن ذلك ما رواه في الكافي (٣) عن أبى عبد الله ـ عليه‌السلام ـ قال : إياكم وذكر على وفاطمة ـ عليهما‌السلام. وعن إبراهيم بن أبى بشير (٤) قال : قال الصادق

(٣) الكافي ج ٨ ص ١٥٩ ح ١٥٦.

(٤) الكافي ج ٨ ص ٨١ ح ٣٨ مع اختلاف في الراوي والرواية.

٦٠