الحدائق الناضرة - ج ٢٤

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٤

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٥٤

وقال في النهاية الأثيرية (١) : القرن بسكون الراء شي‌ء يكون في فرج المرأة كالسن يمنع من الوطي يقال له العفل.

وقريب منه قال الجوهري (٢) ، إلا أنه قال في موضع آخر : العفل شي‌ء يخرج من قبل النساء وحياء الناقة شبيه بالأدرة التي للرجل.

ونقل عن ابن دريد في الجمهرة (٣) أن القرناء هي المرأة التي يخرج قرنة من رحمها ، قال : والاسم القرن وضبطه محركا مفتوحا ، وقال في العفل : إنه غلظ في الرحم.

أقول : وكلام أكثرهم يدل على اتحاد العفل والقرن ، ولكنه مختلف في أنه هل هو عبارة عن شي‌ء يخرج من قبل المرأة إلى خارج القبل ، ويكون كالأدرة للرجال ، والأدرة على ما ذكروه وزان غرفة انتفاخ الخصيتين ، أو أنه عبارة عن عظم كالسن يكون في باطن القبل يمنع من الوطي أو أنه لحم ينبت في باطن القبل ، وعلى كل تقدير فإن النصوص قد دلت على أنه عيب يجوز الفسخ به ، فبأي معنى كان من هذه المعاني فإن الفسخ به جائز ، لدوران الحكم مدار هذا الاسم بأي معنى كان ، والظاهر من جملة من الأخبار المتقدمة هو أنه لا يمنع الجماع وإن كان يعسر كالخبر الثاني لقوله «أرأيت إن كان قد دخل بها» إلى أن قال «لها المهر بما استحل من فرجها» مع عده العفل في جملة تلك العيوب وكذا مفهوم الخبر السادس لقوله «يردها ما لم يدخل بها» وصريح الخبر الثامن ، وكذا التاسع ، وعدم الرد مع الدخول بها محمول على الدخول مع العلم بالعيب ، فإنه دال على الرضاء بها فليس له الفسخ حينئذ كما صرح به في الخبر التاسع ونحوه الخبر العاشر.

__________________

(١) النهاية الأثيرية ج ٤ ص ٥٤.

(٢) الصحاح ج ٥ ص ٧٦٩.

(٣) جمهرة اللغة ج ٢ ص ٤٠٨.

٣٦١

وهذه الأخبار كلها دالة على إمكان المجامعة مع عده عيبا يفسخ به ، والأصحاب قد اختلفوا في ذلك بعد اتفاقهم على أن المانع عيب يتخير في الفسخ به.

فالمشهور وهو الذي قطع به الشيخ عدم الخيار به لعدم المقتضي له ، فإن الخيار إنما نشأ من حيث المنع من الوطي الذي هو أهم المطالب من التزويج ، وظاهر المحقق في الشرائع الميل إلى ثبوت الخيار به ، وقوفا على ظاهر النصوص الدالة على عده عيبا أعم من أن يمكن معه الوطي أم لا ، ولم أقف على قائل صريح بذلك ، وعبارة المحقق بقوله «ولو قيل بالفسخ» تشعر بأنه لا قائل بذلك.

قال في المسالك : وهذا القول قوي إن لم يكن الإجماع على خلافه إذ لا يظهر به قائل صريحا كما يظهر من عبارة المصنف ، انتهى.

أقول : العجب منهم ـ رحمة الله عليهم ـ في استنادهم في الخيار إلى إطلاق الأخبار مع أن ما ذكرنا من الأخبار مع كثرتها مطابقة الدلالة على إمكان النكاح معه مع عده عيبا يوجب الخيار.

وبالجملة فالظاهر من الأخبار هو ثبوت الخيار به ، وإن أمكن الوطي ، وما ذكروه من التعليل العقلي بأن الخيار إنما نشأ من حيث المنع من الوطي ممنوع ، فإنها علة مستنبطة لا دلالة في شي‌ء من الأخبار عليها ، ولعل العلة إنما هو نفرة الزوج من ذلك أو عدم الحبل أو عسر مجامعتها كما يشير إليه الخبر التاسع والعاشر ، وكيف كان فإن هذا التعليل في مقابلة ما ذكرناه من الأخبار عليل لا يلتفت إليه.

الثالث : أكثر الأخبار المتقدمة خالية من عد العرج في جملة عيوب المرأة ، وإنما تضمنه الخبر الحادي عشر والثاني عشر مع تضمن جملة منها الحصر في الأربعة المشهورة وهي : الجذام والبرص والجنون والعفل ، ويؤكده قوله في الخبر الرابع عشر بعد عد الأربعة المذكورة «فأما ما سوى ذلك فلا» ومن هنا اختلف كلمة الأصحاب في ذلك على أقوال عديدة :

٣٦٢

(أحدها) عده مطلقا وهو قول الشيخين في الفقيه والتهذيب والمقنعة وابن الجنيد وأبي الصلاح وأكثر الأصحاب للخبرين المذكورين.

و (ثانيها) ثبوته بشرط كونه بينا ، ذهب إليه العلامة في المختلف والتحرير ، ونقله عن ابن إدريس ، واستدل عليه بالروايتين المذكورتين.

وأنت خبير بأنه لا دلالة فيهما على هذا القيد ، والعجب أن العلامة نسب هذا القول إلى الشيخ في النهاية والتهذيب مع أن الشيخ لم يقيده بذلك ، والمتبادر من لفظ البين ما كان ظاهرا في الحس وإن لم يبلغ حدا يمنع من التردد إلا بمشقة كثيرة ، وهذا هو المتبادر من لفظ العرج ، وحينئذ فيرجع القولان إلى قول وأحد ، وإن أريد هنا معنى آخر فلا أعرف له دليلا.

و (ثالثها) تقييده ببلوغ حد الإقعاد ، وهو قول المحقق في الشرائع والعلامة في القواعد والإرشاد ، وأنت خبير بما فيه ، فإن هذا لا يسمى عرجا لغة ولا عرفا.

قال في المسالك : وكأن الحامل لهم على هذا التقييد أمران : أحدهما : استبعاد كون مطلق العرج عيبا موجبا للخيار خصوصا مع وقوع الخلاف فيه ، وحصول الشك في خروج العقد من اللزوم إلى الجواز ، ومعارضة صحيحة الحلبي السابقة الدالة على عدم الرد بغير ما ذكره فيها من العيوب.

والثاني : ورود كون الزمانة عيبا في صحيحة داود بن سرحان ، فإن ظاهرها أن الرد منوط بالزمانة عملا بمفهوم الشرط وكذا رواية أبي عبيدة السالفة ، فيجب حمل المطلق على المقيد ، ثم قال : وفيه نظر ، لأن مفهوم الزمانة أمر آخر غير المفهوم من العرج ، ومقتضى النصوص كون كل واحد منهما عيبا برأسه ، وليس ذلك من باب المطلق والمقيد في شي‌ء ، بل الظاهر أن الزمانة أمر خفي لا يطلع عليه الرجال ، والعرج ليس كذلك ، وسيأتي النقل عن الصدوق ـ رحمة الله عليه ـ أنه جعلهما أمرين وأثبت الخيار بالزمانة دون العرج ، واستبعاد كون العرج عيبا مطلقا غير مسموع بعد ورود النص الصحيح ، والشك في خروج

٣٦٣

العقد من اللزوم منتف بعد ورود النص ، وعمل أكثر الأصحاب. انتهى ، وهو جيد ، ومنه يعلم ضعف القول المذكور ، وأنه بمحل من القصور.

و (رابعها) عدم عده عيبا مطلقا ، وهو الظاهر من كلام الشيخ في المبسوط والخلاف حيث إنه لم يعده في عيوب المرأة ، وكذا ابن البراج في المهذب ، وهو ظاهر الصدوق في المقنع حيث إنه لم يعده في عيوب المرأة ، وإنما نسبه إلى الرواية ، فقال : واعلم أن النكاح لا يرد إلا من أربعة أشياء : من البرص والجذام والجنون والعقل ، إلا أنه روي في الحديث أن العمياء والعرجاء ترد.

أقول : والمسألة عندي لا تخلو من الإشكال لدلالة الخبرين المذكورين على عده من العيوب ، ومفهوم الحصر في تلك الأخبار الدال على العدم المؤكد بقوله في بعضها «وأما ما سوى ذلك فلا».

فإن قيل : هنا أشياء آخر خارجة عن الأربعة المذكورة قد وردت بها النصوص أيضا وقال بها جملة من الأصحاب ، قلنا : ما ذكرناه في العرج يجري فيها أيضا.

وأما ما أجاب به في المسالك حيث نقل عن أصحاب هذا القول الاحتجاج بأصالة لزوم العقد ، وظاهر الحصر في صحيحة الحلبي في قوله عليه‌السلام «إنما يرد النكاح من البرص والجذام والجنون والعفل». ثم قال : ولا يخفى ضعف الدليلين ، فإن الأصل قد عدل عنه بما ثبت في النصوص الصحيحة من الخيار فيه ، وفي غيره من العيوب ، والحصر في الرواية غير مراد ، لخروج كثير من العيوب عنها ، وإثبات الاختيار حينئذ بدليل خارجي ليشاركه العرج فيه ، والكليني رواها عن الحلبي مجردة عن أداة الحصر وهو أوضح ، انتهى.

ففيه أن الحصر ليس مخصوصا بالرواية التي ذكرها وهي الرواية الثالثة ، بل هو موجود في الرواية الثانية أيضا ، وأظهر منها ما في الرواية الرابعة عشر من قوله عليه‌السلام بعد عد الأربعة المذكورة «وأما ما سوى ذلك فلا» وحينئذ فكيف

٣٦٤

لا يكون الحصر مرادا في تلك الأخبار مع صراحة هذه الرواية في أنه لا ترد فيما سوى هذه الأربعة.

وبذلك يظهر لك بقاء الاشكال فيما ذكرناه بالنسبة إلى هذه الأربعة وما زيد عليها من عرج وغيره ، فأن مقتضى هذه الروايات هو انحصار العيب في هذه الأربعة ، ومقتضى ما ورد في غير هذه الأخبار موجودة في مواضع أخر.

وكيف كان فالظاهر ترجيح ما ذكره من العمل بالأخبار في كل فرد فرد وردت به ، إلا أنه بعد لا يخلو من نوع توقف ، ولعل روايات أحد الطرفين إنما خرجت مخرج التقية.

الرابع : قد تضمنت الرواية السابعة عد الإفضاء في جملة عيوب المرأة ، وقد تقدم ذكر معناه ، وهو أحد السبعة التي ذكرها الأصحاب كما تقدم ذكره ، وهو مما لا إشكال ولا خلاف فيه عندهم فيما أعلم مع أنه زائد على الأربعة المتقدمة ، وتضمنت أيضا «من بها زمانة» وكذا الرواية الحادية عشر.

والزمانة على ما ذكره في القاموس (١) العاهة ، وقال في كتاب المصباح المنير (٢) : زمن الشخص زمنا وزمانة ، فهو زمن من باب تعب ، وهو مرض يدوم زمانا طويلا.

ولم يعده الأصحاب هنا من عيوب المرأة سوى الصدوق في المقنع فإنه قال : من تزوج امرأة فوجدها قرناء أو عفلاء أو برصاء أو مجنونة أو كان بها زمانة ظاهرة كان له أن يردها على أهلها بغير طلاق ، وإنما ذكر أكثرهم الإقعاد ، مع أنه لا وجود له في الأخبار ، إلا أن جملة ممن تأخر استدلوا له بصدق الزمانة عليه ، فإنها بكل من التفسيرين المذكورين صادقة على المقعد ، ويؤيده أنه قد تقدم دلالة الأخبار على عد العرج في العيوب ، والإقعاد أسوء حالا منه فيكون عيبا البتة.

__________________

(١) القاموس المحيط ج ٤ ص ٢٣٢.

(٢) المصباح المنير ص ٣٤٨.

٣٦٥

وبالجملة فالأقرب عده بالتقريب المذكورة ، وقد تقدم أنه أحد السبعة المشهورة في كلامهم.

الخامس : قد عدوا من جملة السبعة المشهورة العمى أيضا ، ويدل عليه الخبر الحادي عشر والثاني عشر ، وربما ظهر من كلام الشيخ في المبسوط أنه ليس بعيب ، فإنه عد عيوب المرأة ستة ، ثم قال : وفي أصحابنا من ألحق بها العمى ، وكونها محدودة في الزنا ، والظاهر هو المشهور لما عرفت من دلالة الخبرين المذكورين عليه.

السادس : قد عد بعضهم الرتق من جملة العيوب الموجبة للخيار ، ونسبه المحقق في الشرائع إلى لفظ قيل مؤذنا ، بتمريضه لعدم وجوده في النصوص ، وإن كان الاعتبار بالنظر إلى ما تقدم في الأخبار يساعده ، ولهذا قال في الشرائع : وربما كان صوابا إن منع الوطي أصلا ، لفوات الاستمتاع.

والرتق على ما ذكره أهل اللغة : التحام الفرج على وجه لا يمكن دخول الذكر فيه.

قال في كتاب المصباح المنير (١) : رتقت المرأة رتقا من باب تعب فهي رتقاء ، إذا انسد مدخل الذكر من فرجها ولا يستطاع جماعها.

وفي القاموس (٢) امرأة رتقاء : بينة الرتق لا يستطاع جماعها ، أو لا خرق لها إلا المبال خاصة. ونحوه كلام الجوهري في الصحاح (٣).

وفسره العلامة في القواعد بأنه عبارة عن كون الفرج ملتحما بحيث لا يكون فيه مدخل للذكر ، وهذا هو الموافق لما ذكره أهل اللغة ، ولكنه قال في السرائر : إن الرتق لحم ينبت في الفرج يمنع دخول الذكر ، وعلى هذا يكون مرادفا للعفل بأحد معانيه المتقدمة.

__________________

(١) المصباح المنير ص ٢٩٧.

(٢) القاموس المحيط ج ٣ ص ٢٣٥.

(٣) الصحاح ج ٤ ص ١٤٨٠.

٣٦٦

والظاهر أنه إلى هذا أشار في المسالك بقوله : وذكر بعضهم أن الرتق مرادف للقرن والعفل ، وأن الثلاثة بمعنى وأحد ، فعلى هذا يكون داخلا في النص ، ثم إنه على تقدير تفسيره بالمعنى المشهور فإنه وإن كان لم يرد به نص بخصوصه إلا أنه يمكن استفادة حكمه من الخبر التاسع والخبر العاشر ، وقوله فيهما «هذه لا تحبل ولا يقدر زوجها على مجامعتها يردها على أهلها» فإنه بمنزلة التعليل لجواز الرد بالنسبة إلى المسؤول عنه في الروايتين فيتعدى إلى كل موضع وجدت فيه العلة المذكورة.

قال في المسالك : وما قيده به من كونه عيبا على تقدير منعه الوطي أصلا هو المذهب ، لأنه حينئذ يصير أولى بالحكم من القرن والعفل اللذين لا يوجبان انسداد المحل أصلا مع اشتراكهما في العلة الموجبة للفسخ وهو فوات الاستمتاع ، فجرى مجرى فوات المنفعة فيما يطلب بالعقد منفعة. انتهى وهو جيد.

السابع : عد الشيخ المفيد في عيوب النساء المحدودة في الفجور ، وبه قال سلار وابن البراج وابن الجنيد وأبو الصلاح وقطب الدين الكيدري ، وعد الصدوق في المقنع المرأة إذا زنت قبل الدخول بها فإنه يفرق بينهما ولا صداق لها ، لأن الحدث كان من قبلها.

وقال الشيخ في النهاية : المحدودة في الزنا لا ترد وكذلك التي كانت قد زنت قبل العقد ، فليس للرجل ردها ، إلا أن يرجع على وليها بالمهر وليس له فراقها إلا بالطلاق ، وقال ابن إدريس : الذي يقوى في نفسي أن المحدودة لا ترد بل يرجع على وليها بالمهر إذا كان عالما بدخلة أمرها ، فإن أراد فراقها طلقها. انتهى ، وهو يرجع إلى كلام الشيخ في النهاية وهو المشهور بين المتأخرين.

ونقل عن الشيخ المفيد أنه احتج باشتماله على العار فكان موجبا للتسلط على الفسخ وبالرواية الرابعة عشر ، والظاهر أن بناء الاستدلال بها على أن قوله

٣٦٧

«إن شاء زوجها أخذ الصداق ممن زوجها ، ولها الصداق بما استحل من فرجها» وهو كناية عن المفارقة بقرينة المقابلة بقوله «وإن شاء تركها» وحاصل الجواب أنه يتخير بين فراقها فيأخذ الصداق ممن زوجها ، وبين إمساكها وتركها على حالها ، والشيخ قد أجاب عن هذه الرواية فقال : إن هذا لا ينافي ما قدمناه من أنه ليس الرد بمجرد الفسق لأنه قال : إذا علم بها أنها كانت قد زنت كان له الرجوع على وليها بالصداق ، ولم يقل أن له ردها ، ولا يمنع أن يكون له استرجاع الصداق وإن لم يكن له رد العقد ، لأن بأحد الحكمين منفصل عن الآخر ، وظاهر من تأخر عنه الجمود على هذا الجواب ، ولا يخفى ما فيه ، فإن ما ادعاه من إمساكها مع أخذ الصداق مما لا يوافق أصولهم وقواعدهم ، وكأنه على هذا حمل قوله «وإن شاء تركها» على ترك أخذ المهر وإلا فلا معنى لهذا الكلام على تقدير حمله المذكور.

وبالجملة فالظاهر من الرواية إنما هو التخيير بين فراقها وإمساكها ، لكنه عبر عن فراقها بلازمه الذي هو استرجاع المهر ممن زوجها ولا معنى لقوله «وإن شاء تركها» إلا على هذا الوجه ، على أنه قد اعترضه في المختلف في هذا الجواب أيضا فقال : إذا ثبت هذا ففي إيجاب المهر على الولي مع عدم كونه عيبا كما اختاره الشيخ وابن إدريس إشكال ، ينشأ من أن التضمين إنما هو باعتبار تدليس العيب على الزوج ، فإن كان عيبا كان له الفسخ ، وإن لم يكن فلا ، وحاصله أن وجوب الضمان إنما هو باعتبار تدليس العيب على الزوج ، فلو لم يكن عيبا فإنه لا ضمان ومتى كان عيبا يوجب الضمان فإنه يوجب الفسخ أيضا.

وبالجملة فإنه لا معنى للرواية إلا ما ذكرناه على أنه قد تقدم جملة من الأخبار الدالة على ما دل عليه هذا الخبر في الإلحاق الذي بعد المقام الثاني في الزنا من المطلب الثالث فيما يحرم بالمصاهرة ، وتقدم ما يعارضها ، والأصحاب قد

٣٦٨

أعرضوا عن العمل بتلك الأخبار ، لمعارضتها بما هو أكثر عددا وأقوى سندا كما تقدم تحقيقه في الموضع المذكور ، مع أن هذه الرواية لا تنطبق على القول المذكور ، لأن موردها المحدودة في الزنا لا مطلق الزانية ، والرواية إنما اشتملت على الثاني دون الأول ، والمنقول عن أصحاب القول المذكور إنما هو التعليل العقلي ، وهو الأول ، والاستدلال لهم بالرواية إنما وقع من العلامة في المختلف بناء على قاعدته من تكلف الأدلة لما ينقله من الأقوال.

قال شيخنا في المسالك ـ ونعم ما قال ـ : ومنها المحدودة في الزنا ، ذهب أكثر قدماء الأصحاب إلى أنه يجوز للزوج فسخ نكاحها لأن ذلك من الأمور الفاحشة التي يكرهها الأزواج ، ونفور النفوس منه أقوى من نحو العمى والعرج ، ولزوم العار العظيم به يقتضي كون تحمله ضررا عظيما ، وللرواية السابقة ، وفيها مع قصور الدلالة عن جواز الرد ، عدم دلالتها على محل النزاع ، ومن ثم ذهب المتأخرون إلى أن ذلك كله ليس بعيب يجوز الفسخ ، والطلاق بيد الزوج لجبر ما يشاء من الضرر والمشقة بتحملها ، وللشيخ قول آخر بعدم الفسخ ، لكن يرجع الزوج بالمهر على وليها العالم بحالها ، عملا بمدلول الرواية ، ورده في المختلف بأن الضمان إنما هو باعتبار تدليس العيب على الزوج ، فإن كان عيبا أوجب الفسخ ، وإلا لم يجب المهر. انتهى وهو جيد وجيه.

وبالجملة فإنه لا دليل على ما نقله الشيخ المفيد ومن تبعه إلا هذا الوجه العقلي الاعتباري ، فإن الروايات خالية منه ، وما نقل عن الصدوق ـ رحمة الله عليه ـ من مطلق الزنا ، فقد تقدم الكلام فيه مشروحا في الموضع المشار إليه آنفا.

المطلب الثاني : في أحكام العيوب ، وفيه مسائل :

الاولى : عيوب المرأة المبيحة للفسخ إما أن تكون متقدمة على العقد أو أو متجددة بعده وقبل الدخول أو متأخرة عن الدخول ، والظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في الفسخ في المتقدم على العقد ، وعدم الفسخ في المتأخر عن الدخول.

٣٦٩

أما الأول فلأنه مورد النصوص المتكاثرة المتقدمة.

وأما الثاني فإنه قال في المسالك : لا خيار في هذه الصورة اتفاقا على ما يظهر من المصنف وغيره لجريان الدخول مجرى التصرف المانع من الرد بالعيب ، وسبق لزوم العقد فيستصحب ، ولصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «المرأة ترد من أربعة أشياء : من البرص والجذام والجنون والقرن ما لم يقع عليها ، فإذا وقع عليها فلا». وهي شاملة بإطلاقها لوقوعه عليها قبل وجود العيب وبعده ، انتهى.

وربما ظهر من كلام الشيخ في المبسوط أن العيب الحادث بعد الدخول يثبت به الفسخ كما نقله عنه في المسالك ، وبالجملة فالعمدة عندهم الاستدلال على عدم الفسخ مع تأخر العيب عن الدخول هو الإجماع المدعى مع ظاهر إطلاق الخبر المذكور.

أقول : والتمسك بأصالة لزوم العقد حتى يقوم دليل على تطرق الفسخ إليه أقوى مستمسك في المقام ، ومحل الخلاف في هذا المقام إنما هو تجدد العيب بعد العقد وقبل الدخول ، وفيه قولان :

(أحدهما) ثبوت الفسخ ، ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف تمسكا بإطلاق الأخبار المتقدمة الدالة على ثبوت الفسخ بهذه العيوب أعم من أن تكون موجودة قبل العقد أو متجددة بعده.

و (ثانيهما) العدم ، واختاره ابن إدريس والمحقق في الشرائع والعلامة في جملة من كتبه ، وهو المشهور بين المتأخرين ، محتجين بأن العقد وقع لازما فيستصحب ، وبأن أمر النكاح مبني على الاحتياط فلا يتسلط على فسخه بأي سبب كان ، وأجابوا عن الأخبار بأنها ليست صريحة في ذلك ، بل ربما ظهر من

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٩ ح ١٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٧ ح ١٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٧٣ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٢ ح ١.

٣٧٠

أكثرها تعلق الحكم بالموجود قبل العقد فيجب التمسك فيما عداه بمقتضى العقد اللازم ، قال في المسالك : ولا بأس بهذا القول وإن كان القول الآخر لا يخلو من قوة أيضا.

وظاهر سبطه في شرح النافع اختيار هذا القول حيث قال ـ بعد الاحتجاج عليه بنحو ما ذكرنا ـ : وهذا أقوى.

أقول : لا يخفى أن أكثر الروايات المتقدمة المشتملة على الأسئلة ظاهرة في تقدم العيب على العقد مثل قوله في الخبر الأول والثاني (١) قال : «سألته عن رجل تزوج إلى قوم فإذا امرأته عوراء». فإنه ظاهر في تقدم العور على العقد ، لكن لما لم يكن العور من العيوب ، قال عليه‌السلام «لا ترد ولكن ترد من البرص والجذام والجنون والعفل». بمعنى أنها ترد لو كانت المرأة المسؤول عنها كذلك ، والمسؤول عنها كما عرفت من كان العور متقدما فيها على العقد ، وقوله في الخبر الخامس «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة زوجها وليها وهي برصاء». وهو ظاهر في تقدم البرص على العقد ، وقوله في الخبر السادس «في الرجل إذا تزوج المرأة فوجد بها قرنا». وهو أيضا ظاهر في التقدم ، ومثله الخبر السابع بل هو أظهر باعتبار نسبة التدليس إلى المرأة أو الولي ، والتدليس إنما يكون باعتبار العقد عليها وهي معيبة ، وإلا فلو عقد عليها وهي صحيحة سالمة من العيب وإنما حدث العيب بعد العقد فإنه لا ينسب التدليس إليها ولا إلى وليها وهو ظاهر ، وفيها دلالة بالمفهوم الشرطي ـ الذي هو حجة عند المحققين ـ على أنه متى لم يحصل التدليس الذي هو كما عرفت عبارة عن تقدم العيب على العقد فإنها لا ترد على أهلها ، وهو يصدق على من حدث بها العيب بعد العقد وقبل الدخول وأنها لا ترد لعدم التدليس فيها الموجب للرد ، وهو بحمد الله سبحانه ظاهر ومثل ذلك الخبر

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٦ ح ٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٣ ح ٦.

٣٧١

التاسع والعاشر وقوله «تزوج امرأة فوجد بها قرنا». وقوله في الخبر الحادي عشر «يتزوج المرأة فيؤتى بها عمياء أو برصاء». ومثله الخبر الثالث عشر والخامس عشر.

وبالجملة فإن هذه الأخبار كما ترى ظاهرة في تقدم العيب على العقد ، وما أجمل منها وهو الأقل يمكن حمله على ما دلت عليه هذه الأخبار من التقدم ، وعلى هذا فتبقى أصالة لزوم العقد سالمة من المعارض ، وبه يظهر قوة القول المشهور بين المتأخرين ، إلا أنه بعد لا يخلو من نوع توقف ، والمشهور في كتب الأصحاب انحصار الخلاف في هذه المسألة في القولين المذكورين ، وربما يظهر من ابن الجنيد هنا قول ثالث على ما نقله في المسالك ، وهو ثبوت الفسخ بالجنون المتجدد ، وإن كان بعد الدخول كما تقدم في الرجل لأنه قال : ولو حدث ما يوجب الرد قبل العقد بعد الدخول لم يفرق بينهما إلا الجنون فقط ، فجعل الجنون موجبا للخيار في كل من الزوجين وإن حدث بعد الدخول ، لأنه كما تقدم نقله عنه آنفا شرك في العيوب التي ذكرها بين الرجل والمرأة ، ومفهوم عبارته المذكورة أيضا ثبوت الخيار بباقي العيوب لو حدث قبل الدخول كقول الشيخ ـ رحمة الله عليه.

المسألة الثانية : قد ذكر الأصحاب لخيار الفسخ هنا أحكاما (منها) الفورية ، والمشهور في كلامهم من غير خلاف يعرف أن الخيار المذكور هنا فوري للرجل كان أم للمرأة ، فلو علم من له الخيار ولم يبادر بالفسخ لزم العقد ، وعلل مع ذلك بأن الغرض من الخيار دفع الضرر بالتسلط على الفسخ ، وهو يحصل بذلك فيقتصر فيما خالف الأصل على مقدار ما يحصل به.

واعترف في المسالك بأنه ليس لهم نص في ذلك بالخصوص. وقال سبطه في شرح النافع : وفي بعض الروايات دلالة عليه ، ثم إنه إن كان العيب ظاهرا متفقا عليه لا نزاع فيه بينهما فالفورية معتبرة في الفسخ ، وإن توقف ثبوته على المرافعة إلى الحاكم فالفورية في المرافعة إلى الحاكم ، فإذا ثبت صار الفسخ فوريا.

و (منها) أن الفسخ المذكور ليس بطلاق ، لأن الطلاق يفتقر إلى لفظ خاص

٣٧٢

وشروط مقررة لا دليل على اعتبارها هنا ولا قائل بها ، فلا يعد من الثلاث المحرمة ، ولا ينتصف به المهر كما ينتصف بالطلاق إلا في صورة خاصة خرجت بنص خاص ، وهي الفسخ بالعنة كما تقدم.

و (منها) أن المشهور أنه لا يفتقر الفسخ بالعيوب إلى الحاكم ، سواء كانت في المرأة أو الرجل ، بل لكل من المرأة والزوج التفرد بالفسخ في موضع يجب له الخيار إلا في العنة ، فإنه يفتقر لضرب الأجل ، وغاية ما يفهم من النصوص أن الفسخ حق ثابت لكل من الزوجين في مورده ، فمتى اختاره فسخ به.

ومن الأخبار الدالة على كل من الحكمين الأخيرين رواية علي بن أبي حمزة (١) الواردة في الجنون ، وفيها «لها أن تنزع نفسها متى شاءت». وفي روايات الخصاء «يفرق بينهما» وهو خطاب لمن له قوة يد في الأمر والنهي مطلقا ، وكناية عن انفساخ النكاح إذا لم ترض به ، وفي بعض روايات العنن أنه بعد مضي السنة «إن شاءت تزوجت وإن شاءت أقامت» وفي بعض «تفارقه إن شاءت» وفي بعض «فإن أتاها في ضمن السنة وإلا فارقته» وفي بعض أخبار عيوب المرأة «ترد على أهلها من غير طلاق» وهو صريح في نفي الطلاق ومثله في كتاب الفقه الرضوي مما تقدم قوله «يردها إلى أهلها بغير طلاق» وفي جملة منها «يرد النكاح من البرص والجنون» ونحو ذلك مما ذكر في تلك الأخبار ، والجميع كما ترى ظاهر في أنه ليس بطلاق ، ولا يفتقر إلى الحاكم الشرعي بوجه.

وأما ما اشتمل عليه بعض تلك الأخبار من قوله «إن شاء طلق وإن شاء أمسك» فالمراد بالطلاق هنا كما ذكره الشيخ ـ رحمه‌الله ـ الرد والسراح المذكوران في غير هذا الخبر.

وبالجملة فالحكم بالنسبة إلى النظر في الأخبار مما لا شك فيه ومما يدل

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٥١ ح ١ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٨ ح ١٩ ، الفقيه ص ٣٣٨ ح ٣.

٣٧٣

على المرافعة إلى الحاكم في العنة لضرب الأجل ما تقدم في حديث أبي البختري (١) من قوله «يؤخر العنين سنة من يوم مرافعة امرأته». ومثله حديث كتاب قرب الاسناد (٢) المتقدم أيضا.

وما ذكرناه من أنه لا يفتقر الفسخ إلى الرجوع إلى الحاكم في غير العنة هو المشهور في كلام الأصحاب ، ونقل الخلاف هنا عن ابن الجنيد حيث قال : وإذا أريدت الفرقة لم يكن إلا عند من يجوز حكمه من والي المسلمين أو خليفته أو بمحضر من المسلمين إن كانا في بلد هدنة أو سلطان متغلب ، انتهى.

واضطرب كلام الشيخ في المبسوط في هذا المقام فقال : وإن اختار الفسخ أتى الحاكم بفسخ النكاح ، وليس له أن ينفرد به لأنها مسألة خلاف ، هذا عند المخالف ولا يمنع عندنا أن يفسخ الرجل ذلك بنفسه أو المرأة ، لأن الأخبار مطلقة في هذا الباب ، ثم قال بعد كلام طويل : فأما الفسخ فإلى الحاكم لأنه مختلف فيه ، ولو قلنا على مذهبنا أنه له الفسخ بنفسه كان قويا ، والأول أحوط لقطع الخصومة ، ثم قال بعد ذلك : لا يجوز أن تفسخ ـ يعني امرأة العنين ـ بغير حاكم لأنه مختلف فيه.

أقول : ظاهر كلامه وكذا ظاهر كلام ابن الجنيد أن اشتراط الفسخ بالحاكم مذهب المخالفين. أما كلام الشيخ فهو صريح في ذلك ، وأن مذهب الإمامية عدم اشتراطه ، وأن هذا الاحتياط الذي صار إليه إنما هو بالنظر إلى خلاف العامة. وأما كلام ابن الجنيد فإنه يشير إلى ذلك بقوله إن كانا في بلد هدنة ـ يعني تقية ـ أو سلطان متغلب ـ يعني سلاطين الجور.

وبالجملة فإن القول المذكور كما عرفت مع شذوذه لا دليل عليه ، وليس في هذا الكلام المنقول عنهما ما يدل على المخالفة لما عليه الأصحاب وصريحا إن

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٣١ ح ٣٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦١٢ ح ٩ وفيهما «ترافعه».

(٢) قرب الاسناد ص ٥٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦١٢ ح ١٢.

٣٧٤

لم يكن أولى بالدلالة على الموافقة ، فإن كلامهم يدور على أن ذلك إنما هو مذهب المخالفين ، والقول به إنما هو على جهة التقية منهم ، وهو ظاهر فيما قلناه وواضح فيما ادعيناه.

المسألة الثالثة : الظاهر أنه لا خلاف في أنه إذا فسخ الزوج قبل الدخول فإنه لا مهر لها ، ولو فسخ بعده فلها المسمى ويرجع به على المدلس ، ويدل على الحكم المذكور جملة من الأخبار المتقدمة في المقام الثاني من سابق هذا المطلب مثل صحيحة أبي عبيدة (١) وهي الرواية السابعة من تلك الروايات ، وقوله فيها «وترد على أهلها بغير طلاق ، ويأخذ الزوج المهر من وليها الذي كان دلسها ، فإن لم يكن وليها علم بشي‌ء من ذلك فلا شي‌ء عليه ، وترد إلى أهلها ، قال : وإن أصاب الزوج شيئا مما أخذت منه فهو له ، وإن لم يصب شيئا فلا شي‌ء له ، قال : وتعتد عدة المطلقة إن كان دخل بها ، وإن لم يكن دخل بها فلا عدة ولا مهر».

ورواية رفاعة (٢) وهي الخامسة من الروايات المتقدمة ، وقوله عليه‌السلام فيها «قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في امرأة زوجها وليها وهي برصاء أن لها المهر بما استحل من فرجها وأن المهر على الذي زوجها ، وإنما صار المهر عليه لأنه دلسها ، ولو أن رجلا تزوج امرأة أو زوجها رجل لا يعرف دخيلة أمرها لم يكن عليه شي‌ء وكان المهر يأخذه منها».

وصحيحة الحلبي أو حسنته (٣) وهي الثانية من تلك الروايات وفيها «قلت : أرأيت إن كان قد دخل بها كيف يصنع بمهرها؟ قال : لها المهر بما استحل من

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٨ ح ١٤ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٥ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٦ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٠٧ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٤ ح ٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦٠٠ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٦ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٣ ح ٦.

٣٧٥

فرجها ، ويغرم وليها الذي أنكحها مثل ما ساق إليها».

ونحو هذه الروايات أيضا رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله (١) وهي الرابعة عشر من تلك الروايات ، وكذا صحيحة محمد بن مسلم (٢) وهي الخامسة عشر.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على رسم مباحث :

الأول : إذا فسخ الزوج بعد الدخول استحقت الزوجة المسمى ومقتضى القواعد الشرعية أنه لا فرق في ذلك بين كون العيب الذي فسخ به كان قبل العقد أو حدث بعده ، لأن النكاح صحيح وإن فسخ بالخيار وثبوت الخيار فرع على صحة العقد في نفسه ، لأن الفسخ لا يبطله من أصله ، ولهذا لا يرجع بالنفقة الماضية ، وحينئذ فالواجب هو المسمى لصحة العقد.

وقال الشيخ في المبسوط : إن كان الفسخ بالمتجدد بعد الدخول فالواجب المسمى لأن الفسخ إنما يستند إلى العيب الطارئ بعد استقراره ، وإن كان بعيب موجود قبل العقد أو بعده قبل الدخول وجب مهر المثل ، لأن الفسخ وإن كان في الحال إلا أنه مستند إلى حال حدوث العيب ، فيكون كأنه وقع مفسوخا حين حدث العيب ، فيصير كأنه وقع فاسدا ، فيلحقه أحكام الفاسد ، إن كان قبل الدخول فلا مهر ولا متعة ، وإن كان بعده فلا نفقة للعدة ويجب مهر المثل.

قال في المسالك : ولا يخفى ضعفه لأن النكاح وقع صحيحا ، والفسخ وإن كان بسبب العيب السابق لا يبطله من أصله بل من حين الفسخ ، ولا يزيل الأحكام التي سبقت عليه خصوصا إذا كان العيب حادثا بعد العقد ، فإن دليله لا يخفى عليه.

أقول : وفيه أيضا أن مقتضى كلامه أن ظهور العيب السابق على العقد أو على الدخول موجب لبطلان العقد ، حيث إنه جعل العقد في قوة المفسوخ به.

وفيه أنه قد ثبت له التخيير بين الفسخ والإمضاء ، واختياره الإمضاء لا يجامع

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٥ ح ٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦٠١ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٣٢ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٧ ح ٧.

٣٧٦

بطلانه بالعيب حين ظهوره.

وكيف كان فإن المعتمد في ذلك على الأخبار ، وهي كما عرفت دالة على أنه متى فسخ فإن لها المسمى مع الدخول ، أعم من أن يكون العيب متقدما على العقد أو متأخرا ، بل ظاهر أكثرها كما قدمنا بيانه إنما هو تقدم العيب على العقد ، وهو الذي حكم فيه بمهر المثل ، والروايات صريحة في المسمى كما عرفت.

الثاني : قد دلت الأخبار وبه صرح الأصحاب على أنه متى فسخ الزوج بعد الدخول فإن لها المسمى ، وأن الزوج يرجع به على وليها الذي دلسها ، والمراد من التدليس هو عدم إخبار الزوج بالعيب المذكور ، مع علم المتولي للتزويج به ، ولا فرق في ذلك بين كون المدلس وليا شرعيا أو غيره ، بل لو كان التدليس إنما وقع منها من غير واسطة في البين فإنه يرجع عليها بالمهر متى قبضته ، ولو لم يدفع إليها شيئا لم تستحق شيئا.

ويدل على ذلك فيما إذا كانت هي التي دلست نفسها ما تقدم في رواية رفاعة (١) من قوله «ولو أن رجلا تزوج امرأة قد زوجها رجل لا يعرف دخيلة أمرها لم يكن عليه شي‌ء ، وكان المهر يأخذه منها». وحاصله أن التدليس لما لم يحصل من المتولي لتزويجها لعدم علمه ، وإنما حصل منها لعدم إخبارها بالعيب مع علمها به ، فإن للزوج الرجوع بالمهر عليها ، ومقتضاه أنه لو لم يدفع إليها شيئا فإنه لا يجب عليه ، إذ لا معنى لدفعه لها واسترجاعه منها ، وبما ذكرنا صرح الأصحاب أيضا.

ويدل على ذلك أيضا ما رواه في الكافي (٢) في الصحيح أو الحسن عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام «في رجل ولته امرأة أمرها أو ذات قرابة أو جار لها لا يعلم دخيلة أمرها فوجدها قد دلست عيبا هو بها ، قال : يؤخذ المهر منها ولا يكون

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٠٧ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٤ ح ٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٦ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٠٧ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٧ ح ٤.

٣٧٧

على الذي زوجها شي‌ء».

قال في المسالك : إذا تقرر ذلك فمما غرم الزوج من المهر ، وكان هناك مدلس رجع به عليه سواء كان وليا أم غيره ، حتى لو كان المدلس هو المرأة رجع عليها أيضا بمعنى أنه لا يثبت عليه لها مهر ، ولا وجه لإعطائها إياه ثم الرجوع عليها به.

بقي الكلام فيما لو انتفى التدليس بأن كان العيب خفيا لم تطلع عليه المرأة فضلا عن المتولي لتزويجها ، والظاهر أنه لا رجوع لانتفاء المقتضي لذلك ، ثم إنهم ذكروا أنه لو كان الرجوع على غير الزوجة فلا ريب أنه يرجع لجميع ما غرمه ، وإن كان الرجوع عليها فإن المشهور أنه لا يرجع بالجميع بل يجب أن يستثني منه ما يكون مهرا ، لأن الوطي المحرم لا يخلو من مهر ، وقيل إنه يرجع بالجميع تمسكا بالإطلاق ، واستظهره السيد السند في شرح النافع.

أقول : ويؤيده ما ذكرنا من رواية رفاعة ، وقوله فيها «وكان المهر يأخذه منها» فإنه صريح في الرجوع بالمهر كملا ، وأصرح منها صحيحة الحلبي أو حسنته المذكورة.

وأما ما ذكروه من أن النكاح المحرم لا يخلو من مهر على إطلاقه ممنوع ، فإن الظاهر أن الرجوع عليها بالمهر هنا عقوبة لتدليسها كما في صورة الرجوع على المتولي لنكاحها إذا كان عالما بالعيب مع أنه أجنبي.

ثم إنه على تقدير القول المشهور من استثناء شي‌ء يكون مهرا ففي تقديره قولان :

(أحدهما) ما ذهب إليه ابن الجنيد من أنه أقل مهر مثلها ، لأنه قد استوفى منفعة البضع فوجب عوضه ، وهو مهر المثل.

(وثانيها) وعليه الأكثر أنه أقل ما يكون مهرا وهو أقل ما يتمول في العادة ، ووجهه ورود النص بالرجوع بالجميع ، فيجب الاقتصار في المخالفة على موضع

٣٧٨

اليقين ، واعترف في المسالك بأن النصوص خالية من هذا الاستثناء. أقول : بل هي ظاهرة في رده لما عرفت من حديث رفاعة.

الثالث : قد دلت جملة من الأخبار المتقدمة في المقام الثاني في عيوب المرأة من المطلب الأول على جواز الفسخ بعد الدخول مثل الخبر الثاني والخامس والسابع (١) ويستفاد منها أن الوطي لا يمنع من الفسخ بالعيب السابق على العقد ، ولكن قد دلت جملة منها أيضا على أن الدخول بها يمنع من الرد ، كقوله عليه‌السلام في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد الله (٢) وهي الرواية السادسة «أنه يردها ما لم يدخل بها». فإن مفهومه أنه متى دخل بها لا يردها ، وفي صحيحته (٣) وهي الثامنة من تلك الروايات «ترد من أربعة أشياء. ما لم يقع عليها ، فإذا وقع عليها فلا».

وفي رواية غياث بن إبراهيم (٤) وهي الرواية الثالثة عشر «وإذا دخل بها فهي امرأته». والوجه الواضح المنار في الجمع بين هذه الأخبار هو أنه إن دخل بها مع علمه بالعيب فهو رضا منه بها ، فليس له الفسخ حينئذ ، وعليه تحمل الأخبار الأخيرة ، وإن دخل بها جاهلا به فإن له الرد ، وعليه تحمل الأخبار الأولة ، وقد دل على هذا التفصيل الخبر التاسع (٥) والخبر العاشر (٦) بأوضح دلالة.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٦ ح ١٢ وص ٤٢٤ ح ٨ وص ٤٢٥ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٣ ح ٦ وص ٦٠٠ ح ٢ وص ٥٩٦ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٠٧ ح ١٢ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٧ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٨ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٤٠٩ ح ١٦ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٧ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٢ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ٤٢٦ ح ١١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٥ ح ١٤.

(٥) الكافي ج ٥ ص ٤٠٩ ح ١٧ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٧٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٩ ح ٣.

(٦) الكافي ج ٥ ص ٤٠٩ ح ١٨ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٧ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٥٩٨ ح ١.

٣٧٩

الرابع : إذا فسخت الزوجة بعيب في الزوج ، فإن كان بعد الدخول فإن لها المسمى في العقد لأن المسمى يلزم بالعقد ، ويستقر بالدخول ، وإن كان قبل الدخول فلا شي‌ء لها لأن الفسخ جاء من قبلها ، واستثنى من ذلك الفسخ بالعنن فإن لها نصف المهر.

فأما ما يدل على أن الفسخ متى كان من قبل المرأة فإنه مع عدم الدخول لا مهر لها فهو ما رواه المشايخ الثلاثة (١) عن السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في المرأة إذا زنت قبل أن يدخل بها الرجل : يفرق بينهما ولا صداق لها ، إن الحدث كان من قبلها».

وهو ظاهر في أنه متى كان السبب الموجب للفسخ من قبلها فإنه لا مهر لها عملا بالعلة المذكورة ، وهذا الحكم من القواعد المتفق عليها عندهم والمسلمة بينهم كما صرحوا به في غير موضع من الأحكام.

وأما ما يدل على استثناء الفسخ بالعنن من هذه القاعدة فصحيحة أبي حمزة (٢) قال : «سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول : إذا تزوج الرجل المرأة الثيب التي قد تزوجت زوجا غيره فزعمت أنه لم يقربها منذ دخل بها ـ إلى أن قال : ـ فعلى الامام أن يؤجله سنة فإن وصل إليها وإلا فرق بينهما وأعطيت نصف الصداق ولا عدة عليها». وقد تقدم الكلام في هذا المقام أيضا.

الخامس : قد ذكر الشيخ وجملة من الأصحاب أنه لو فسخت المرأة بالخصاء ثبت لها المهر مع الخلوة ويعزر ، واستدلوا عليه بما رواه الشيخ (٣) في الصحيح عن

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٦٦ ح ٤٥ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٧٣ ح ١٠٥ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٣ ح ٣٨ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦٠١ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤١١ ح ٧ ، التهذيب ج ٧ ص ٤٢٩ ح ٢٠ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦١٣ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٧ ص ٤٣٢ ح ٣٣ ، الوسائل ج ١٤ ص ٦٠٨ ح ٣.

٣٨٠