الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان ريحانتيه الامام الحسن و الحسين عليهما السلام

السيّد محسن الحسيني الأميني

الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم على لسان ريحانتيه الامام الحسن و الحسين عليهما السلام

المؤلف:

السيّد محسن الحسيني الأميني


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: شفق للطباعة والنشر
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-485-095-0
الصفحات: ١٧٢

وإذا أغضب وأشاح ، وإذا فرح غضّ طرفه ، جلّ ضحكه التبسّم ويفتر عن مثل حبّ الغمام

قوله عليه السلام : «وإذا أغضب أعرض وأشاح» أي عدل بوجهه.

وقال الجوهري : أشاح بوجهه : أي أعرض (١).

وفي الحديث : كان النبيّ صلى الله عليه واله إذا غضب إحمّر وجهه (٢).

وعن ابن عمر : قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله يعرف رضاه وغضبه في وجهه ، كان إذا رضي فكأنّما تلاحك الجدر وجهه ، وإذا غضب خسف لونه واسودّ (٣).

وقال : أبو سعيد الخدري : كان رسول الله صلى الله عليه واله أشدّ حياءً من العذراء في خِدرها ، وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه (٤).

قوله عليه السلام : «وإذا فرح غض طرفه» أي كسره وأطراف ، ولم يفتح عينيه ، وإنّما كان يفعل ذلك ليكون أبعد من الأشر والمرح قاله الطريحي (٥).

وفي الحديث : عن كعب بن مالك ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله إذا سرّ إستنار وجهه حتّى كأنه قطعة قمر ، وكنّا نعرف ذلك منه (٦).

ونحوه عنه في حديث آخر : إذا سرّه الأمر إستنار وجهه كأنّه

__________________

١ ـ الصحاح في اللّغة : ج ١ ، ص ٣٧٩.

٢ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٥٤ ، ح ٣٢ / ٤.

٣ ـ مكارم الأخلاق : ج ٢ ، ص ٥٤ ، ح ٣٣ / ٥.

٤ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨٠٩ ـ ١٨١٠ ، ح ٦٧ / ٢٣٢٠ ، وفتح الباري : ج ٦ ، ص ٥٦٦ ، ح ٣٥٦٢ و ٣٥٦٣.

٥ ـ مجمع البحرين : ج ٤ ، ص ٢١٩ ، والنهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٣٧١.

٦ ـ فتح الباري : ج ٦ ، ص ٥٦٥ ، ح ٣٥٥٦.

٦١

دارة القمر (١).

وفي رواية : إذا إشتدّ غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته وتنفّس الصعداء وقال : حسبي الله ونعم الوكيل (٢).

قوله عليه السلام : «جلّ ضحكه التبسّم» أي معظم ضحكه صلى الله عليه واله كان التبسّم.

وقيل إذا ضحك رسول الله صلى الله عليه واله وضع يده على فيه.

وفي الحديث عن أبي الدرداء : قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله إذا حدّث بحديث تبسّم في حديثه (٣).

وعن أنس بن مالك : قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه واله تبسّم حتّى بدت نواجده (٤).

قوله عليه السلام : «ويفتر عن مثل حبّ الغمام» «يفتر» : أي يتبسّم.

«الغمام» أي البرد. والمراد أنه عليه السلام شبّه بياض أسنانه بالبرد ، فإذا ضحك بانت أسنانه كالبرد.

وفي الحديث عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله حسن الثغر (٥).

* * *

__________________

١ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٥٤ ، ح ٣٠ / ٢.

٢ ـ سيرة الحلبيّة : ص ٣٣٥.

٣ ـ مكارم الأخلاق : ص ٥٨ ، ح ٤٦ / ٥.

٤ ـ مكارم الأخلاق : ص ٥٨ ، ح ٤٥ / ٤.

٥ ـ السيرة الحلبيّة : ص ٣٣٤.

٦٢

قال : الحسن عليه السلام فكتمتها «الحسين بن علي عليهما السلام» زماناً ، ثم حدّثته فوجدته قد سبقني إليه. فسألته عمّا سألته عنه. ووجدته قد سأل أباه عن مدخله ، ومجلسه ، ومخرجه ، وشكله ، فلم يدع منه شيئاً. قال الحسين عليه السلام : سألت أبي عن دخول رسول الله صلى الله عليه واله ، فقال : كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءً لله تعالى ، وجزءً لأهله ، وجزءً لنفسه ، ثم جزّأ جزأه بينه وبين الناس ، فيردّ ذلك على العامّة والخاصّة ، ولا يذخره [أو يذخر عنهم شيئاً] وفي رواية ولا يدخر عنهم شيئاً.

قوله عليه السلام : «فقال : كان دخوله لنفسه مأذون له في ذلك ، فكان إذا أوى إلى منزله جزّأ دخوله ثلاثة أجزاء : جزءً لله تعالى ، وجزءً لأهله ، وجزءً لنفسه ، ثم جزّ جزأه بينه وبين الناس ، فيردّ ذلك على العامّة والخاصّة» أراد عليه السلام بذلك بأنّ أصحابه كانوا على قسمين : عام ، أي عموم الناس ، وخاص أي خواصّه ، فلمّا لم تكن عامّة أصحابه قادرة على ملاقاته صلى الله عليه واله والوصول إليه في الوقت المتخصّ له للنيل من علومه وآدابه وفوائده ، وكانت الخاصّة تصل إلى رسول الله صلى الله عليه واله في ذلك الوقت وتخبر العامّة ممّا سمعت منه فكأنّ الخاصة ، أوصلت الفوائد إلى العامّة.

وقال الجزري : أراد أنّ العامّة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت ، فكانت الخاصة تخبر العامة بما سمعت منه ، فكأنّه أوصل الفوائد إلى العامّة بالخاصّة.

٦٣

وقيل : الباء بمعنى «من» أي يجعل وقت العامّة بعد وقت الخاصّة وبدلاً منهم (١).

وقال البيهقي : يريد أنّ العامة كانت لا تصل إليه في منزله ذلك الوقت ، ولكنّه كان يوصل إليها حظها من ذلك الجزء بالخاصّة التي تصل إليه فيوصلها إلى العامّة (٢).

قوله عليه السلام : «ولا يذخره [أو يذخر عنهم شيئاً] وفي رواية : ولا يدخر عنهم شيئاً» قال ابن منظور : دخر الرجل ـ بالفتح ـ تدخر دخوراً فهو داخر : ذلّ وصغر. قال الله تعالى : «وَهُمْ دَاخِرُونَ» (٣) أي وهم صاغرون.

وفي الحديث : الداخر : الذليل المهان (٥).

وقال الطريحي : الداخر : الصاغر الذليل ، قال الله تعالى : «سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (٦) أي صاغرين ذليلين (٧).

وقال الجزري : الداخر : الذليل المهان (٨).

ومن مظاهر سموّسيرته صلى الله عليه واله مع اُمّته وحكمته في التعامل معها ، إنّه كان يلاحظ مستويات اُمّته بالنسبة إلى فضلهم في الدين فكانت أساليب عرضه الأفكار ، وإجابات حوائجهم تختلف في البعد والمستوى من شخص لآخر طبقاً للقابليّات الذهنيّة التي يتمتّع بها الأفراد.

ومن هنا نشاهد أنّ الإمام عليه السلام يوضّح لنا موقف النبيّ صلى الله عليه واله بالنسبة إلى اُمّته ويقول : كان من سيرته.

__________________

١ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٣ ، ص ٣٠٣.

٢ ـ دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٢٩٦.

٣ ـ النحل : ٤٨.

٤ ـ لسان العرب : ج ٤ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٥ ـ لسان العرب : ج ٤ ، ص ٢٧٨ ـ ٢٧٩.

٦ ـ غافر : ٦٠.

٧ ـ مجمع البحرين : ج ٣ ، ص ٣٠٠.

٨ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ٢ ، ص ١٠٧.

٦٤

كان من سيرته في جزء الأمّة : إيثار أهل الفضل بإذنه ، وقسمه على قدر فضلهم في الدين : فمنهم ذو الحاجة ، ومنهم ذو الحاجتين ، ومنهم ذو الحوائج. فيتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم ، والأمّة من مسألته عنهم ، واخبارهم بالذي ينبغي لهم.

هكذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه واله مع اُمّته ، لقد كان يتعامل مع جميع الناس بعاطفة أبويّة حانيّة ، تتفجّر حبّاً فيّاضاً وحناناً غامراً على الرغم من مركزه القيادي في الاُمّة ، والمكانة السامية التي لا تناظرها مكانه أبداً.

* * *

٦٥

ويقول : ليبلّغ الشاهد منكم الغائب ، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته ، فإنّه من أبلغ سلطاناً حاجة من لايستطيع إبلاغها إيّاه ثبت الله قدميه يوم القيامة. لايذكر عنده إلّا ذلك.

الشعور بالمسؤليّة إزاء الآخرين والتآخي والاُلفة والودّ بين أفراد المجتمع الإسلامي من حملة الإيمان بالرّسالة الإلٰهيّة ذات الأثر الإيجابي الفاعل في حياة الاُمّة الإسلاميّة.

ومن هنا نشاهد بأنّ رسول الله صلى الله عليه واله كان يؤكد اُمّته على قضاء الحوائج وإبلاغ حاجة من لا يستطيع إبلاغها إلى السلطان.

وفي الحديث : من قضى لأخيه المسلم حاجةً كان له من الأجر كمن حجّ واعتمر (١).

وروى الكليني : بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة ، وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله (٢).

وعنه أيضاً بإسناده : عن أبي عبدالله عليه السلام ، قال : ما قضى مسلم لمسلمٍ حاجةً إلّا ناداه الله تبارك وتعالى : عليَّ ثوابك ولا أرضى لك بدون الجنّة (٣).

* * *

__________________

١ ـ الجامع الصغير : ج ٢ ، ص ٦٣٧ ، ح ٨٩٦٠.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٩٣ ، ح ٣.

٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١٩٤ ، ح ٧.

٦٦

ولا يقبل من أحد غيره. ولا يقيد من أحد عثرة يدخلون عليه روّاداً. ولا يفترقون إلّا عن ذواق [ولا يتفرّقون إلّا عن ذوق] ويخرجون أدلّة يعني فقهاء

قوله عليه السلام : «ولا يقبل من أحد غيره. ولا يقيد من أحد عثرة» القود : أي القصاص.

و «العثرة» أي الزلّة ، ويقال : عثربه فرسه فسقط.

ولقد كان من سموّ أخلاقه صلى الله عليه واله : كان لا يقتصّ زلّات أصحابه مع أنّه رئيس الدولة ، وهو المطاع في قومه إلى حدّ لا يوصف ، ولو أمر بقتل إمرىء لتبادر إليه المئات من أصحابه ، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه واله حليماً رحيماً في جميع المواقف والأحوال إلّا موقفاً ينتهك فيه الحق ، فإنّما هو القصاص ، والرادّ العادل على المعتدي حتّى تكون عبرةً على الباقين.

وفي الحديث : ما انتقم رسول الله صلى الله عليه واله لنفسه إلّا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينقم لله بها (١).

وفي حديث آخر : قال : ومانيل (٢) منه شيء قط فينتقم لله عزّوجلّ (٣).

قوله عليه السلام : «يدخلون عليه روّاداً» الروّاد : جمع راد بمعنى طالب شيء.

وقال ابن منظور : اُصل الرائد : الذي يتقدّم القوم. يبصر لهم الكلأ ومساقط الغيث.

__________________

١ ـ فتح الباري : ج ٦ ، ص ٥٦٦ ، ح ٣٥٦٠ ، وصحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨١٣ ، ح ٧٧ / ٢٣٢٧.

٢ ـ نيل منه : أي اُصيب بأذىٰ من قول أو فعل.

٣ ـ صحيح مسلم : ج ٤ ، ص ١٨١٤ ، ح ٧٩ / ٢٣٢٨.

٦٧

وفي حديث علي عليه السلام في صفة الصحابة : «يدخلون روّاداً ويخرجون أدلّة» أي يدخلون طالبين للعلم ملتمسين للحلم من عنده ، ويخرجون أدلّة هداة للناس (١).

وفي الحديث : «الحمى رائد الموت» أي رسول الموت الذي يتقدّمه ، كالرائد الذي يبعث ليرتاد منزلاً ويتقدّم قومه.

ومن أمثالهم : الرائد لا يكذب أهله ، يضرب مثلاً للذي لا يكذب إذا حدّث ، وإنّما قيل له ذلك ، لأنّه إن لم يصدّقهم فقد غرّر بهم (٢).

وقيل : الرائد : هو الذي يقدّمه أصحابه ليهيّىء لهم مكاناً صالحاً لنزولهم فيه ، وكافياً لما يحتاجون إليه ، أي أنّهم ينفعون بما يسمعون من النبيّ صلى الله عليه واله من ورائهم كما ينفع الرائد من خلفه.

قوله عليه السلام : «ولا يفترقون إلّا عن ذواق» الذوق مصدر ، ذاق الشيء يذوقه ذوقاً وذواقاً مذاقاً ، فالذواق والمذاق يكونان مصدرين ، ويكونان طعماً ، والمعنى إنّه عليه السلام ضرب الذواق مثلاً لما ينالون عنده من الخير والعلم والأدب ، ويذقون من حلاوتها ولا يتفرقون إلّا عن ذلك حتّى يقوم لأنفسهم ما يذاق من الطعام والشراب لأجسادهم ، فلا يفترق القادمون عليه صلى الله عليه واله عنه إلّا بعد إذاقته صلى الله عليه واله إيّاهم شيئاً من مكارم الأخلاق ومعالي الأخلاق.

قوله عليه السلام : «يخرجون أدلّة يعني فقهاء» الأدّلة : جميع دليل ، أي كان أصحابه صلى الله عليه واله يدخلون عليه للخصب متفقّدين لما يتمتّعون به في الدين والدنيا ، فيخرجون من عنده بالفوز والنجاح ، وهم هداة للناس على اُمور دينهم ودنياهم ويدلّون قومهم إلى المرتع الخصبة والمناهل العذبة.

__________________

١ ـ لسان العرب : ج ٣ ، ص ١٨٧.

٢ ـ لسان العرب : ج ٣ ، ص ١٨٧.

٦٨

قال : فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ قلت فأخبرني عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟ فقال : كان رسول الله صلى الله عليه واله يخزن لسانه إلّا ممّا يعنيهم ويؤلّفهم ، ولا ينفّرهم [أو يفرقهم ولا يفرّقهم]

قوله عليه السلام : «كان رسول الله صلى الله عليه واله يخزن لسانه إلّا ممّا يعنيهم» أي لا يتكلّم في غير حاجة.

وفي الحديث : كان صلى الله عليه واله طويل الصمت (١).

وفي الكافي : بإسناده عن الحلبي ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : أمسك لسانك ، فإنّها صدقه تُصدّق بها على نفسك ، ثم قال : ولا يعرف عبدٌ حقيقة الإيمان حتّى يخزن من لسانه (٢).

وعنه : قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : نجاة المؤمن في حفظ لسانه (٣).

وفيه : بإسناده عن أبي عبد الله قال : قال : لقمان لإبنه : يا بنّي إن كنت زعمت أن الكلام من فضّة ، فإن السكوت من ذهب (٤).

ومن وصايا رسول الله صلى الله عليه واله لمن جاء إليه رجل ، فقال : يا رسول الله صلى الله عليه واله أوصني.

فقال : إحفظ لسانك.

قال : يا رسول الله صلى الله عليه واله أوصني.

قال : إحفظ لسانك.

__________________

١ ـ دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣٢٤.

٢ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١١٤ ، ح ٧.

٣ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١١٤ ، ح ٩.

٤ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١١٤ ، ح ٦.

٦٩

قال : يا رسول الله صلى الله عليه واله أوصني.

قال : إحفظ لسانك ، ويحك وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلّا حصائد ألسنتهم (١).

وفي حديث آخر : قال رسول الله صلى الله عليه واله : رحم الله عبداً قال : خيراً فغنم ، أو سكت فسلم (٢).

قوله عليه السلام : «ويؤلّفهم ولا ينفّرهم» لقد كان من مظاهر سموّ سيرته وحكمته أن يؤلّف بين أصحابه ، ويجعلهم إخوة أحبّاء رحماء بينهم أشدّاءً على الكفّار ، وفي التنزيل «وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» (٣) فلقد آخىٰ رسول الله صلى الله عليه واله بين المهاجرين والأنصار ، ثم أخذ بيد علي بين أبي طالب ، فقال : هذا أخي. فكان رسول الله صلى الله عليه واله سيد المرسلين ، وإمام المتّقين ، ورسول رب العالمين ، الذي ليس له خطير (٤) ، ولا نظير من العباد ، وعلي بن أبي طالب أخوين ، وكان حمزة بن عبد المطلب ، أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه واله وعمّ رسول الله صلى الله عليه واله ، وزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه واله أخوين ، وجعفر بن أبي طالب ذوالجناحين ، الطيّار في الجنّة ومعاذبن جبل أخوين ، وهكذا سائر أصحابه. اُنظر السيرة النبويّة لإبن هشام (٥).

* * *

__________________

١ ـ الكافي : ج ٢ ، ص ١١٥ ، ح ١٤.

٢ ـ السيرة الحلبيّة : ج ٣ ، ح ٣٣٥.

٣ ـ الفتح : ٢٩.

٤ ـ الخطير : أي المثل والنظير.

٥ ـ السيرة النبويّة لإبن هشام : ج ٢ ، ص ١٥٠ ـ ١٥٣.

٧٠

ويكرم كريم كلّ قوم ، ويولّيه عليهم ، ويحذر الناس ، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خُلقه ، يتفقّد أصحابه ، ويسأل الناس عمّا في الناس.

قوله عليه السلام : «ويكرم كريم كلّ قوم ، ويولّيه عليهم» ومن حسن معاشرته صلى الله عليه واله لأمّته : التعامل الفاضلة بين الناس لتوحيد الكلمة ، وجمع الصفوف ، وإشاعة الود ، والوفاق بين أبناء أمّته وإشعارهم بالكرامة وإكرام كل كريم.

وفي الحديث : قال رسول الله صلى الله عليه واله : إذا أتاكم كريم قومٍ فأكرموه (١).

قوله عليه السلام : «ويحذر الناس ، ويحترس منهم» الحذر : أي الفزع والخوف. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه واله عظيماً في فكره ووعيه ، رائداً في أساليب تعامله مع أصحابه ، حذراً في جميع المواقف.

وفي الحديث : لقد فزع أهل المدينه ذات ليلة ، فانطلق ناس قِبَل الصوت ، فتلقّاهم رسول الله صلى الله عليه واله راجعاً. وقد سبقهم إلى الصوت ، وهو على فرس لأبي طلحة في عنقه السيف وهو يقول : لم تراعوا لم تراعوا ، قال : وجدنا بحراً أو أنه لبحر (٢).

قوله عليه السلام : «من غير أن يطوي عن أحد بشره ولا خلقه» البشر : أي طلاقة الوجه وبشاشته ، فكان صلى الله عليه واله طلق الوجه وله خلق عظيم كما قال الله عزّوجلّ : «وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ» (٣) فهذه شهادة من الله سبحانه

__________________

١ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٦٤ ، ح ٦٢ / ٨. وعنه بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٣٩.

٢ ـ صحيح مسلم : ج ٦ ، ص ١٨٢٠ ـ ١٨٢١ ، ح ٤٨ / ٢٣٠٧.

٣ ـ القلم : ٤.

٧١

على عظمة أخلاق الرسول صلى الله عليه واله ، وسموّ سجاياه ، وعلوّ شأنه ، فلا يبلغ مدى عظمتها أحد سوى الله تعالى.

قوله عليه السلام : «يتفقّد أصحابه ويسأل الناس عمّا في الناس» ومن مصاديق رفقه بالاُمّة ، ومعاملته بها بالحسنى. ما رواه أنس بن مالك ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه واله إذا فقد الرجل من إخوانه ، ثلاثة أيّام سأل عنه ، فإن كان غائباً دعا له ، وإن كان شاهداً زاره ، وإن كان مريضاً عاده (١).

* * *

__________________

١ ـ مكارم الأخلاق : ج ١ ، ص ٥٥ ، عنه في بحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٣٣.

٧٢

ويحسّن الحسن ويقوّيه ، ويقبّح القبيح ويوهيه معتدل الأمر غير مختلف ، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا. لكل حال عنده عتاد ، لا يقصّر عن الحق ولا بحوزه.

قوله عليه السلام : «ويحسّن الحسن ويقوّيه ، ويقبّح القبيح ويوهية» الحسن : ضد القبح ونقيضه ، والقبح : يكون في الصورة والفعل ، وهو ما يكون متعلّق الذمّ في العاجل. والعقاب في الآجل.

وقيل : القبح : بمعنى الإبعاد. وقد جاء في التنزيل : «وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ» (١) أي من المبعدين.

وقيل : من ذوي الوجوه المشوّهين ، وعن ابن عبّاس : أي من ذوي صور القبيحة (٢).

وفي الحديث : «لا تقبّحوا الوجه» أي لا تقولوا قبح الله وجهه.

وقيل : لا تنسبوه إلى القبح ، لأنّ الله قد صوّره وأحسن كلّ شيء خلقه (٣).

«والوهن» الضعف والإستخفاف والحقارة ، فمن حسن سيرته صلى الله عليه واله كان إذا شاهد شيئاً حسناً حسّنه وأيّده ، وإذا رأى شيئاً قبيحاً أبعده ونحّاه ويستخفّ به ويضعفه ، بل كان صلى الله عليه واله يغيّر الاسم القبيح بالحسن. كما قيل في غزوة ذي قرد. أنّه مرّ على ماء فسأل عنه ، فقيل له : هذا إسمه بئسان وهو مالح.

فقال : لا ، بل إسمه نعمان ، وهو طيبّ فانقلب عذباً (٤).

__________________

١ ـ القصص : ٤٢.

٢ ـ تاج العروس : ج ٧ ، ص ٣٥.

٣ ـ مجمع البحرين : ج ٢ ، ص ٤٠٢.

٤ ـ السيرة الحلبيّة : ج ٣ ، ص ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٧٣

قوله عليه السلام : «معتدل الأمر غير مختلف» العدل : أي المساواة بين طرفي الإفراط والتفريط.

وفي الحديث : خير الاُمور أوسطها (١).

وفي لفظ آخر : خير الاُمور أوساطها (٢).

ولقد كان رسول الله صلى الله عليه واله بقدر ما يحثّ على إلتزام فضيلة الإعتدال في التعامل والعلاقات. فإنّه صلى الله عليه واله من ناحيّة عمليّة كان العادل الوحيد في دنيا المسلمين كما نشاهد تجسّد هذه الحقيقة في سيرته العظيمة مع اُمتّه.

فهذا الصحابي الكبير جابر بن عبدالله يحدّث لنا ويقول : إنّ رسول الله صلى الله عليه واله جعل يقبض للناس يوم حنين من فضّة في ثوب بلال ، فقال له رجل : يا نبيّ الله أعدل!.

فقال النبيّ صلى الله عليه واله : ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ فقد خبت إذن وخسرت إن كنت لا أعدل (٣).

قوله عليه السلام : «لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يملّوا» الغفلة : إبطال الوقت بالبطالة.

وقيل : هي صفة للقلب توجب ترك الحق وعدم ذكر الموت وما بعده ، والميل إلى الباطل ، وحبّ الدنيا ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه أن يكون من الغافلين حيث قال : «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً

__________________

١ ـ عوالي اللئالي : ج ١ ، ص ٢٩٦ ، ح ١٩٩.

٢ ـ مرآة العقول : ج ١٠ ، ص ١٤٤.

٣ ـ أخرجه مسلم في صحيحه : ج ٢ ، ص ٧٤٠ ، ح ١٤٢ / ١٠٦٣ والحاكم في معجم الكبير : ج ٢ ، ص ١٨٥ ، ح ١٧٥٣ ، والبيهقي في الدلائل : ج ٥ ، ص ١٨٥ ، وأحمد في مسنده : ج ٣ ، ص ٣٥٣.

٧٤

وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ» (١).

وقيل : إن غفلة القلب عن الحق من أعظم العيوب وأكبر الذنوب.

وفي حلية الأولياء : بإسناده عن الحارث ، قال : سأل علي إبنه الحسن عن أشياء من أمر المروّة ، فقال له : ما الغفلة؟ قال : تركك المجدّ وطاعتك المفسد (٢).

قوله عليه السلام : «لكل حال عنده عتاد» العتاد ـ بالفتح ـ ما أعدّ الرجل من السلاح والدواب ، أو آلة الحرب ، فكان صلى الله عليه واله في جميع الحالات على تهيؤ خاص من الدفاع عن نفسه واُمّته.

قوله عليه السلام : «لا يقصّر عن الحق ولا يجوزه» أي كان صلى الله عليه واله ملازماً للحق لا قاصراً ولا مقصّراً ، لا متقدّماً ولا متأخّراً عنه ، فإذا إنتهك حرمة الحقّ فحينئذ لا يقوم لغضبه شيء حتّى يهدم الباطل ويزهقه.

* * *

__________________

١ ـ الأعراف : ٢٠٥.

٢ ـ حلية الأولياء : ج ٢ ، ص ٣٦.

٧٥

الذين يلونه من الناس خيارهم.

أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة للمسلمين وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة ، قال : فسألته عن مجلسه كيف كان يصنع فيه؟ فقال : كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر.

قوله عليه السلام : «الذين يلونه من الناس خيارهم» أي الذين يعطفون عليه ، ، ويتّبعونه من الناس كانوا خيار اُمّته وأصحابه ، وأن خيار اُمّته أحسنهم أخلاقاً.

وفي الحديث : قال رسول الله صلى الله عليه واله : إنّ خياركم اُحسانكم أخلاقاً (١).

قوله عليه السلام : «أفضلهم عنده أعمّهم نصيحة للمسلمين وأعظهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة» المواساة : مصدر آسيته بالهمزة والمد ، أي سوّيته بها ، ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة يمن فيقال : واسيته.

وقال الجوهري : آسيته بمالي مواساة : جعلته إسْوَتي فيه ، وواسيته لغة ضعيفة فيه (٢).

وفي النهاية : المواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق ، وأصلها الهمزة ، فقلّبت واواً تخفيفاً (٣).

وفي النهاية. المواساة المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق ، وأصلها الهمزة ، فقلّبت واواً تخفيفاً (٣).

والمؤازرة : المعاونة ، والواو شاذ ، قاله الفيروزآبادي (٤).

وقال الطريحي : المؤازرة على العمل : المعاونة عليه (٥).

__________________

١ ـ دلائل النبوّة : ج ١ ، ص ٣١٥ ، وبحار الأنوار : ج ١٦ ، ص ٢٣٧.

٢ ـ الصحاح : ج ٦ ، ص ٢٢٦٨.

٣ ـ النهاية لإبن الأثير : ج ١ ، ص ٥٠.

٤ ـ القاموس المحيط : ج ١ ، ص ٣٦٣.

٥ ـ مجمع البحرين : ج ٣ ، ص ٥١١.

٧٦

ولقد كان من سلوك نبيّنا الأعظم صلى الله عليه واله الإجتماعي مع اُمّته : بيان منزلة ورتبة أصحابه عنده بشكل تفصيلي حيث قال : بأنّ أفضلهم وأكرمهم وأقربهم عندي ، من كان يساهم ويشارك الغير في الرزق والمعاش ، ويكون ناصراً ومعيناً للآخرين في الشدائد والمصائب ، حيث كان صلى الله عليه واله هو الوحيد للاُسوة الحسنة للمؤمنين.

ومن الواضح : إنّ من صفاته الكاملة وأخلاقه الحسنة : هو التواضع لأمّته ، والمواساة لعباد الله وإرادة الخير لهم ، والحرص على كمالهم ، والقيام بمصالحهم ، وإرشادهم إلى ما يجمع لهم خير الدنيا والآخرة.

قوله عليه السلام : «قال فسألته عن مجلسه. زاد العلوي : كيف كان يصنع فيه؟ فقال : كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلّا على ذكر» فمن صفاته صلى الله عليه واله الحميدة : كان دائم الذكر لأنّ الله سبحانه وتعالى أمره بأن يذكره كثيراً ، ويسبّحه بكرة وعشيّا ، كقوله تعالى : «وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ» (١) وكان صلى الله عليه واله يذكره من دون غفلة تضّرعاً وخيفة. كما أمره سبحانه عزّوجلّ بقوله : «وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ» (٢).

خواطب صلى الله عليه واله بقوله تعالى : «وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ» (٣) ، الخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه واله ولكن في الحقيقة يكون لاُمّة محمّد صلى الله عليه واله بعد ما كان رسول الله صلى الله عليه واله اُسوة حسنة لاُمّته ، فإذا كان صلى الله عليه واله دائم الذكر وكثيره فلا يكون حينئذٍ من الغافلين ولامن الناسين للذكر.

__________________

١ ـ آل عمران : ٤١.

٢ ـ الأعراف : ٢٠٥.

٣ ـ الكهف : ٢٤.

٧٧

وفي الحديث : ذكر الله في الغافلين بمنزلة الصابر في الغازين (١).

وقال صلى الله عليه واله : أفضل العباد درجة يوم القيامة الذاكرون الله كثيراً (٢).

وفي حديث آخر : قال صلى الله عليه واله : اُذكره فإنّه عون لك على ما تطلب (٣).

وقال صلى الله عليه واله ، ايضاً : من أكثر ذكر الله فقد برىء من النفاق (٤).

وفي الحديث : عن الشعبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله : من سرّه أن يكتال بالميكال الأوفى من الأجر يوم القيامة ، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم : «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (٥) (٦).

وروي : أنّ النبيّ صلى الله عليه واله إذا قام من مجلسه كان يقول : سبحانك اللهمّ وبحمدك ، أشهد أن لا إلٰه إلّا أنت أستغفرك وأتوب إليك و «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (٧) (٨).

واعلم : بأن الذكر على قسمين : إمّا في القلب ، وإمّا باللسان ، والذكر في القلب على نوعين : إمّا أن يحصل ذلك بعد الغفلة والنسيان كقوله تعالى : «وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ» (٩) وإما أن يكون ثابتاً في القلب من غير غفلة ونسيان وهذا على أنحاء :

الأول : أن يذكر الله من جهة عظمته ، فيحصل منه الهيبة والإجلال ،

__________________

١ ـ كنز العمّال : ج ١ ، ص ٤٢٥ ، ح ١٨٣١.

٢ ـ كنزل العمّال : ج ١ ، ص ٤١٥ ، ح ١٧٥٥.

٣ ـ كنزل العمّال : ج ١ ، ص ٤١٥ ، ح ١٧٥٩.

٤ ـ كنز العمّال : ج ١ ، ص ٤٢٥ ، ح ١٨٢٧.

٥ ـ الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢.

٦ ـ تفسير القرطبي : ج ١٥ ، ص ١٤١ ، وفي الكافي : ج ٢ ، ص ٤٩٦ ، ح ٣ ، وفيه من أراد أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل إذا أن يقوم من مجلسه : «سبحان ربك» الآيات.

٧ ـ الصافات : ١٨٠ ـ ١٨٢.

٨ ـ بحار الأنوار : ج ٢ ، ص ٦٣.

٩ ـ الكهف : ٢٤.

٧٨

جلّ جلاله وعظم كبريائه.

الثاني : أن يذكر الله من جهة قدرته كقوتعالى : «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (١) فيحصل منه الخوف والإرتباك ، ففي هذه الحالة لا يصدر من العبد المخالفة والعصيان ، لخوفه من العقوبة والعذاب.

الثالث : أن يذكر الله من جهة نعم الله عليه. وفي التنزيل : «وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا» (٢) فيحصل منه الشكر على نعمائه ، وبه تزداد النعم كقوله تعالى : «لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» (٣) ومن هنا قيل : إن ذكر النعمة : شكرها.

الرابع : أن يذكر الله من جهة أفعاله الباهرة. وفي التنزيل : «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (٤) فيحصل منه العبر بعظم مخلوقات الرب سبحانه وتعالى عمّا يصفه الواصفون.

وأمّا الذكر باللسان : وهذا على نوعين : الأول الذكر اليونسي : أي الذكر الذي ذكره نبيّنا يونس عليه وعلى نبيّنا الصلاة والسلام في بطن الحوت حيث يحدّثنا القرآن الكريم بقوله : «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» (٥).

فجملة «لا إلٰه إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين» هذا هو

__________________

١ ـ الحج ٤٠ و ٧٤.

٢ ـ إبراهيم : ٣٤ ، والنحل : ١٨.

٣ ـ إبراهيم : ٧.

٤ ـ البقرة : ١٦٤.

٥ ـ الأنبياء : ٨٧.

٧٩

ذكر اليونسي.

وأما الذكر العلوي : أي ذكر مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فهو عبارة عن قوله عليه السلام : «لا إلٰه إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك» الموجود هذا الذكر في أدعيّة الصباح وفي دعاء الكميل وغير ذلك المأخوذ من اُستاذه الأعظم الرسول الأكرم حيث علّم رسول الله صلى الله عليه واله عليّاً ألف باب وفي كل باب ألف ألف باب علم كما أخرجه المجلسي في المرآة العقول : قال عليه السلام : علّمني رسول الله ألف باب ، وفتح لي من كل باب ألف باب (١).

بيد أنّ هذا المعلّم الكبير صلى الله عليه واله لا ينطق عن الهوى ولا يذكر شيئاً من تلقاء نفسه إلّا من بعد الوحي الذي يوحى إليه فلقد أوحى الله إليه ذكراً حيث قال سبحانه وتعالى : «إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا» (٢) فالله سبحانه عزّوجلّ أمر نبيّه بالتسبيح والتحميد. فمن هنا قال عليه السلام : «لا إلٰه إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك». وهذا هو الذكر العلوي صلوات الله عليه.

والمتتبع الذي يقارن بين هذين الذكرين يشاهد شتّان بين مفهوميهما من الأهميّة الفائقة المذكورة فيهما ، فالذكر اليونسي فيه إعتراف بالظلم ، والذنب حيث يقول : «إنّي كنت من الظالمين» وأمّا الذكر العلوي فليس فيه «إنّي كنت من الظالمين» بل قال عليه السلام : «لا إلٰه إلّا أنت سبحانك اللهم وبحمدك».

إذن من سعادة المؤمن أن يكون دائم الذكر في جميع الحالات : عند

__________________

١ ـ مرآة العقول : ج ٣ ، ص ٢٨٦.

٢ ـ النصر : ١ ـ ٣.

٨٠