الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

بينة فلا يخلو اما أن ينكر الغريم الوكالة ، أو يصدقه ، وعلى الثاني فاما أن يكون الحق عينا أو دينا فهنا صور أربع ، الأولى : أن يقيم الوكيل البينة على دعوى الوكالة وقد عرفت أنه لا إشكال في وجوب الدفع إليه ، في هذه الصورة دينا كان أو عينا.

الثانية : أن ينكر الغريم الوكالة ولا بينة فإنه لا يكلف بالدفع اليه لعدم البينة وعدم تصديقه ، وقيل : لا يمين أيضا على الغريم ، ومن عنده المال هنا ، لأن اليمين عندهم إنما يتوجه على من لو صدق يلزم بمقتضى تصديقه ، كذا قيل ، وفيه نظر سيأتي إنشاء الله ذكره ، فلو دفع بناء على الظاهر مع كونه غير مكلف بالدفع ثم حضر الموكل وأنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه ، فإذا حلف على نفي الوكالة رجع على الدافع ويرجع الدافع على مدعى الوكالة ، لأنه إنما دفع اليه بناء على الظاهر ، فإذا تبين خلافه وقد غرم للمالك رجع بذلك عليه بلا إشكال.

الثالثة : أن يصدق الغريم مدعى الوكالة ، والحق الموكل فيه عين في يده ، والحكم أنه لا يؤمر بالتسليم اليه لجواز كذبهما معا ، وهذا الإقرار إنما تعلق بحق المالك فلا يسمع ، لأن له أن يكذبهما معا ، لكن لو دفع والحال هذه جاز بناء على علمه بصحة الوكالة وتصديقه له فيها ولأنه لا منازع غيرهما الآن ويبقى الموكل على حجته ، فإذا حضر وصدق الوكيل برئت ذمة الدافع ، وان كذبه فالقول قوله مع يمينه ، فان كانت العين موجودة أخذها ، وله مطالبة من شاء منهما بالرد ، لترتب أيديهما عليها وان تعذر ردها لتلف أو غيره ، تخير في الرجوع على من شاء منهما ، لما عرفت من ترتب الأيدي عليها ، فان رجع على الوكيل لم يرجع على الغريم مطلقا لاعترافه ببرائته بدفعها اليه ، وان رجع على الغريم لم يرجع على الوكيل ان تلفت في يديه بغير تفريط لأنه عنده أمين حيث صدقه في دعوى الوكالة ، وإلا رجع عليه ومنه يظهر أنه لا رجوع للغارم منهما على الآخر لو تلفت بغير تفريط منهما ، لما عرفت ، ولأنه مظلوم بزعمه ، والمظلوم لا يرجع الا على ظالمة.

الرابعة : الصورة بحالها ويكون الحق دينا ، وهل الحكم هنا كما تقدم في

٨١

تقدم في سابق هذه الصورة أو أنه يجب الدفع اليه؟ وجهان : للأول منهما أن تسليمه إنما يكون عن الموكل ، ولا يثبت إقرار الغريم عليه استحقاق غيره لقبض حقه ، ولأن التسليم لا يؤمر به إلا إذا كان مبرءا للذمة ، ومن ثم يجوز لمن عليه الحق الامتناع من تسليمه لمالكه حتى يشهد عليه وليس هنا كذلك ، لأن الغائب يبقى على حجته ، وله مطالبة الغريم بالحق لو أنكر الوكالة ، وللثاني ان هذا التصديق انما اقتضى وجوب التسليم من مال المقر نفسه ، لا من مال الموكل ، وإنكار الغائب لا يؤثر في ذلك ، فلا مانع من نفوذه ، ولعموم إقرار العقلاء على أنفسهم جائز.

أقول : ومن أجل ذلك تردد في الشرائع ، وفي التذكرة ذكر الوجه الثاني احتمالا ، ولم يتعرض لذكر الوجه الأول ، فقال : وان كان دينا احتمل وجوب الدفع اليه ، لاعترافه بأنه مستحق للمطالبة ، والفرق بين الدين والعين ظاهر ، فان المدفوع في الدين ليس عين مال الموكل ، وأما العين فإنه عين مال الغير ، ولم يثبت عند الحاكم أنه وكيل ، فلم يكن له أمره بالدفع ، انتهى.

وظاهر المسالك هنا اختيار الوجه الثاني حيث أجاب عن أدلة الوجه الأول بعد ذكر ما نقلناه من أدلة الوجه الثاني المتضمنة للجواب أيضا عن بعض تلك الأدلة ، فقال : وتوقف وجوب التسليم على كونه مبرءا مطلقا ممنوع ، والبراءة هنا بزعمه حاصلة ، والاحتجاج بجواز الامتناع للإشهاد إنما يقتضيه على المدفوع اليه ، وهو ممكن بالنسبة إلى مدعى الوكالة ، فوجوب الدفع هنا أوجه ، انتهى.

ثم إنه لو حضر المالك وأنكر الوكالة فالقول قوله بيمينه ، ويطالب الغريم وان كان ما دفعه الغريم إلى الوكيل موجودا بعينه ، لأن ذلك ليس مال المالك كما تقدمت الإشارة اليه ، وإنما هو من مال الدافع ، لأن الدين لا يتعين إلا بتعيين مستحقة ، أو من يقوم مقامه والحال أن هذا القابض ليس أحدهما

نعم للغريم الرجوع على الوكيل بما دفعه مع بقاء العين أو تلفها بتفريط لا بدونه ، لأنه من حيث تصديقه له على الوكالة فهو أمين عنده ، والأمين لا يضمن

٨٢

بدون تفريط ، ويأتي بناء على الوجه الثاني من وجهي هذه الصورة أن الغريم لو لم يصدق المدعي كما تقدم في الصورة الثانية ، وكان الحق دينا أنه لو ادعي عليه الوكيل العلم بالوكالة ، فله عليه اليمين بعدم العلم ، لأنه لو أقر لزمه التسليم ، وهي قاعدة كلية عندهم.

قال المحقق : وكل موضع يلزم الغريم التسليم لو أقر يلزمه اليمين إذا أنكر ، فإطلاق عدم اليمين كما تقدم عن جملة منهم ثمة ليس في محله ، بل إنما يتم في العين حيث أنه لا يلزم بدفعها بمجرد التصديق كما تقدم ، والله سبحانه العالم.

المطلب السادس في اللواحق :

وفيه مسائل الاولى : المشهور في كلام الأصحاب بل ادعي عليه الإجماع أن الوكيل أمين لا يضمن الا مع التعدي أو التفريط ، وقال في شرح القواعد : أنه يلوح من كلامهم أنه لا خلاف في ذلك بين علماء الإسلام.

أقول : ان أريد بكونه أمينا هو قبول قوله بيمينه في كل ما يدعيه من تلف المبيع والثمن بعد قبضه ، ورده على الموكل مثلا ، وقبول قوله في فعل ما وكل فيه ونحو ذلك فكلامهم لا يساعد عليه ، وان أريد أن ذلك في بعض هذه الأفراد فالأولى التخصيص بتلك الأفراد المرادة ، إلا أن تعليلاتهم في المقام يقتضي العموم كما ستقف عليه ، وها نحن نسوق لك جملة من عبائرهم في المقام.

قال في المسالك ـ بعد قول المصنف لو اختلفا في التلف فالقول قول الوكيل لأنه أمين ، ولأنه يتعذر إقامة البينة بالتلف غالبا فاقتنع بقوله دفعا لالتزام ما تعذره غالب ، ما لفظه ـ : المراد تلف المال الذي بيده على وجه الأمانة لتدخل فيه العين الموكل في بيعها قبله ، وثمنها حيث يجوز له قبضه بعده ، والعين الموكل في شرائها كذلك ، ووجه القبول مع مخالفته للأصل بعد الإجماع ما ذكره

٨٣

المصنف ، ولا فرق بين أن يدعي تلفها بسبب ظاهر كالحرق والغرق ، أو خفي كالسرق عندنا ، وفي حكمه الأب والجد والحاكم وأمينه والوصي ، وقد تقدم الخلاف في قبول قول بعض الأمناء ، انتهى.

وقال في التذكرة : الوكيل أمين ، ويده يد أمانة لا يضمن ما يتلف في يده الا بتعد أو تفريط ، فان تلف ما قبضه من الديون والأثمان أو الأعيان من الموكل أو غرمائه فلا ضمان عليه ، سواء كان وكيلا بجعل أو بغير جعل ، فان تعدي فيه كما لو ركب الدابة أو لبس الثوب أو فرط في حفظه ضمن إجماعا ، وكذا باقي الأمانات كالوديعة وشبهها ، وبالجملة الأيدي على ثلاثة أقسام : يد أمانة كالوكيل والمستودع والشريك ، وعامل المضاربة ، والوصي والحاكم وأمين الحاكم ، والمرتهن والمستعير على وجه يأتي ، ويد ضامنة كالغاصب والمستعير على وجه ، والمساوم والمشتري شراء فاسدا ، والسارق ، ويد مختلف فيها ، وهي يد الأجير المشترك كالقصار والصائغ والحائك والصناع وما أشبه ذلك ، وفيها للشافعية قولان ، وعندنا أنها يد أمانة ، إذا عرفت هذا فكل يد أمانة لا ضمان على صاحبها الا بتعد أو تفريط ، لأنه لو كلف الضمان لامتنع الناس من الدخول في الأمانات مع الحاجة إليها ، فيلحقهم الضرر ، فاقتضت الحكمة زوال الضمان عنهم ، انتهى.

وقال في موضع آخر : إذا ادعى الوكيل تلف المال الذي في يده للموكل أو تلف الثمن الذي قبضه بثمن متاعه ، وأنكر المالك قدم قول الوكيل مع يمينه ، وعدم البينة ، لأنه أمينه ، فكان كالمودع ، ولأنه قد يتعذر إقامة البينة عليه ، فلا يكلف ذلك ، ولا فرق بين أن يدعى التلف بسبب ظاهر ، إلى آخر كلامه.

وقال في موضع آخر : إذا اختلفا في الرد فادعاه الوكيل وأنكره الموكل ، فان كان وكيلا بغير جعل احتمل تقديم قول الوكيل ، لأنه قبض المال لنفع مالكه ، فكان القول قوله مع اليمين كالودعي ، ويحتمل العدم ، لأصالة عدم الرد ، والحكم في الأصل ممنوع ، وان كان وكيلا بجعل ، فالوجه أنه لا يقبل قوله ،

٨٤

لأنه قبض المال لنفع نفسه ، فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير ، وهو أحد قولي العامة.

والثاني أن القول قول الوكيل ، لأنه وكيل ، فكان القول قوله كالوكيل بغير جعل ، لاشتراكهما في الأمانة ، وسواء اختلفا في رد العين أو رد ثمنها ، وجملة الأمناء على ضربين : أحدهما ـ من قبض المال لنفع مالكه لا غير ، كالمودع والوكيل بغير جعل ، فيقبل قولهم في الرد عند بعض الفقهاء من علمائنا وغيرهم لأنه لو لم يقبل قولهم لامتنع الناس عن قبول الأمانات ، ولحق الناس الضرر ، والثاني ـ من ينتفع بقبض الأمانة كالوكيل بجعل ، والمضارب ، والأجير المشترك والمستأجر ، والمرتهن ، فالوجه أنه لا يقبل ، وهذا الكلام مؤذن بأن الوكيل ليس أمينا مطلقا ، وإلا لقبل قوله في الرد ، وسيأتي مزيد تحقيق لهذا الحكم إنشاء الله تعالى في مسائل النزاع.

وقال في مواضع آخر إذا ادعى الوكيل الرد الى الموكل ، فالأقوى أنه يفتقر إلى البينة ، ثم نقل عن الشافعي تقسيم الأمناء إلى ثلاثة أقسام : قسم يقبل قوله في الرد بيمينه ، وهم المودعون ، والوكلاء بغير جعل ، ومنهم من لا يقبل إلا ببينة وهم المرتهن والمستأجر ، ومنهم من اختلف فيه على وجهين ، وهم الوكلاء بجعل والشريك ، والمضارب ، والأجير المشترك الى آخره.

وهذا الكلام يؤذن بأنه لا فرق بين الوكيل بجعل وغيره في عدم قبول قوله إلا بالبينة ، مع أن ظاهره في الكلام الأول التردد فيما إذا لم يكن الوكالة بجعل ، وقال في موضع آخر : إذا وكله في بيع أو هبة أو صلح أو طلاق أو عتق أو إبراء أو غير ذلك ، ثم اختلف الوكيل والموكل فادعى الوكيل أنه تصرف كما أذن له ، وأنكر الموكل وقال : لم يتصرف بعد ، فإن جرى هذا النزاع بعد عزل الوكيل لم يقبل قوله إلا ببينة ، لأن الأصل العدم ، وبقاء الحال كما كان وان جرى قبل العزل فالأقرب أنه كذلك ، وأن القول قول الموكل ، لأن الأصل

٨٥

العدم الى آخره ، وسيأتي الكلام في هذه المسئلة أيضا ، وتصريح غيره بخلاف ما صرح به ، ومرجعه الى الخلاف في قبول قول الوكيل وعدمه ، وبذلك يظهر لك أن ما ادعى من الإجماع المتقدم ذكره غير تام إلا في صورة دعوى التلف ، حيث أن ظاهرهم الاتفاق على قبول قول الوكيل فيه.

وأما دعوى الرد ودعوى التصرف فهو محل خلاف واشكال عندهم ، مع أن التعليل الذي ذكروه في قبول دعوى التلف زائدا على الإجماع ، وهو لزوم امتناع الناس عن قبول الأمانات مع إلجاء الحاجة إلى ذلك ، جار في هذين الأمرين.

وبالجملة فإن المسئلة لعدم النص في هذه الأفراد المعدودة ، بل في أصل مسئلة الوكالة لا يخلو من الاشكال ، والإجماع المدعي لو سلم حجيته غير تام ، والتعليلات المذكورة في كلامهم لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية كما تقدم ذكره في غير مقام ، والأصالة متعارضة في بعض هذه المواضع ، فإن أصالة العدم في دعوى الوكيل التصرف فيقدم قول الموكل ، معارضة بأصالة براءة الذمة ، وعدم الغرم وحمل أفعال المسلمين على الصحة مهما أمكن ، كما يشير اليه كثير من الأخبار الا أنه يمكن أن يقال : لا يخفى أن مقتضى الأخبار التي تقدمت في كتاب الوديعة دالة على النهي عن اتهام من ائتمنه ، المشعر ذلك بقبول قوله في جميع ما يدعيه ، كون الوكيل كذلك وأن كان بجعل ، لأن الجعل إنما هو في مقابلة السعي والعمل ، وهو غير مناف للايتمان ، ولا ريب أن الايتمان في الوكالة أشد وأبلغ منه في الموادعة ، لأنه في الوكالة مؤتمن على الحفظ والتصرف بجميع أنواع التصرفات المأذون فيها ، بخلاف الودعي فإنه مأمون على الحفظ خاصة ، ولا ريب أيضا أن الايتمان الذي رتبت عليه هذه الأحكام في الوديعة ليس إلا عبارة عن الوثوق بالمدفوع إليه في عدم الخيانة ، والمخالفة لأمر المالك ، ولهذا وردت الأخبار (١)

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٩٩ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٢٨ ح ٨ المنقول مضمون الأحاديث.

٨٦

«ما خانك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن». ، بمعنى أنه متى حصلت الخيانة من المدفوع اليه فالتقصير إنما هو منك ، حيث لم تثبت في الفحص عن حال المدفوع اليه ، وكونه أمينا والا فمتى ثبت عندك أمانته والوثوق به ، فإنه لا يحصل منه خيانة ، والايتمان بهذا المعنى مشترك بين جميع الأمناء ودعيا كان أو وكيلا أو مستعيرا أو مرتهنا.

وبه يظهر أن الفرق الذي ذكروه بين هذه الافراد ـ باعتبار مصلحة تعود على الأمين ولا يقبل قوله ، وعدمها فيقبل ـ ليس بموجه ، نعم قد استثنى بعض المواضع في مسئلة الإعارة من هذه القاعدة ، فيقتصر فيه على مورد النص ، وهذا هو الظاهر عندي من الأخبار المشار إليها ، وان كان كلامهم على ما عرفت من الاختلاف والاضطراب في جميع هذه الأبواب ، والله سبحانه العالم.

الثانية : يجب على الوكيل تسليم ما في يده إلى الموكل مع المطالبة وعدم العذر ، بل يجب على كل من في يده مال لغيره ، أو في ذمته ذلك ، فلو امتنع والحال كذلك ضمن ، الا أن له الامتناع حتى يشهد صاحب الحق له بالقبض.

وتفصيل هذا الإجمال يقع في مواضع ـ الأول : لا ريب في وجوب الدفع مع الطلب وإمكان الدفع ، وأنه لو امتنع والحال هذه ضمن ، قالوا : وليس المراد به القدرة العقلية ، بحيث يدخل فيها فعل ما يمكنه فعله من المبادرة ، وان كان على خلاف العادة ، بل يرجع ذلك إلى العرف شرعا ، ثم إلى العرف العام ، ويعذر بما عد عذرا فيهما ، وان كان مقدورا كإكمال الصلاة عند الطلب في أثنائها ، وان كانت نقلا ، والتشاغل بها عند ضيق الوقت وان كان الطلب قبل الشروع فيها عذر شرعي ، والفراغ من الحمام وأكل الطعام ونحو ذلك من الأعذار العرفية ، كذا صرح به في التذكرة ، مع أنه في باب الوديعة من الكتاب المذكور حكم بأنه لا يعذر في ردها مع الطلب الا بتعذر الوصول إلى الوديعة ، وإكمال الصلاة الفرض دون النفل ، وغيره من الأعذار العرفية فضيق الأمر في الوديعة ،

٨٧

ووسعه في الوكالة ، والحال أن العكس كان هو الأنسب ، لأن الأمر في الوديعة أسهل حيث أنها مبنية على الإحسان المحض والأنسب بالسهولة ، والوكالة قد يتعلق بها أغراض للوكيل ، كالجعل فيها ونحوه ، فلا أقل من المساواة.

قال المحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد : الظاهر أنه لا خلاف في وجوب تسليم مال الغير إلى مالكه مع طلبه ، والقدرة على التسليم مطلقا ، وجوبا فوريا وكيلا كان أو غريما ، أو مستعيرا أو ودعيا وكذا في خروج الأمين عن الأمانة فيصير ضامنا بالتأخير كالغاصب ، وإنما الخلاف في بطلان ما ينافي الدفع من العبادات ، والقوانين الأصولية تقتضي البطلان على تقدير بقاء الوجوب ، لوجوب الفورية في الدفع ، وعدم استثناء وقت العبادة ، وعدم كون العبادات مضيقة ، وهو ظاهر بل نجد الاتفاق في ذلك بعد التأمل ، حيث نجد أن القائل بالعدم يقول به ، وكذا الحكم في كل الفوريات كالزكاة والخمس والمال الموصى به للفقراء ، بل ما دفع للصرف في مصرف ، الا أنه لا يشترط هنا المطالبة إذا كان المصرف عاما مثل الزكاة والخمس ، فإنه لا يتوقف على الطلب ، إذ ليس له مطالب معين ، صرح به في الدروس ، انتهى.

أقول : ما ذكروه من الاختلاف في الحكم ببطلان ما ينافي الدفع من العبادات مبنى على العمل بالقاعدة الأصولية المشهورة ، وهي أن الأمر بالشي‌ء هل يقتضي النهي عن ضده الخاص أم لا؟ وحيث انه كان من القائلين باقتضاء الأمر ذلك ، بل المبالغين في تشييد هذا القول ، حكم بالبطلان في جميع هذه المواضع المعدودة.

وفيه أولا ما قدمنا تحقيقه في كتاب الطهارة (١) من أن الأظهر عدم العمل بهذه القاعدة ، وما يترتب عليها من الفائدة ، ولا بأس بذكره هنا وان استلزم التكرار لدفع ثقل المراجعة على النظار ، سيما مع عدم حضور ذلك الكتاب المشار اليه بيد من أراد الوقوف عليه.

__________________

(١) ج ١ ص ٥٩.

٨٨

فأقول : التحقيق عندي وان أباه من ألف بالقواعد الأصولية إنا متى رجعنا في الأحكام الشرعية إلى الأدلة العقلية التي لا تقف على حد ولا ساحل ، ولو طويت لها المراحل ، ولهذا كثرت في هذه المسئلة الأبحاث ، وصنفت فيها الرسائل ، أو تصادمت فيها من الطرفين الدلائل واضطربت فيها أفهام الأفاضل أشكل الأمر ، أي إشكال وصار الداء عضالا وأى عضال ، والحق أن الأحكام الشرعية توقيفية من الشارع لا مسرح للعقول فيها ، ولو كان لهذه المسئلة أصل مع عموم البلوى بها لخرج عنهم عليهم‌السلام ما يدل عليها أو يشير إليها ، وحيث لم يخرج عنهم عليهم‌السلام فيها شي‌ء سقط التكليف بها ، إذ لا تكليف الا بعد البيان ولا مؤاخذة إلا بعد إقامة الحجة والبرهان ، وهذا يرجع في التحقيق إلى ما قدمنا ذكره في غير موضع من كتب العبادات ، وبه صرح الأمين الأسترآبادي من الاستدلال بالبراءة الأصلية ، والعمل بها فيما يعم به البلوى من الأحكام ، هذا مع أن القول بذلك موجب للحرج والضيق المنفيين بالآية والرواية ، والإجماع ، فإنه لا يخفى أنه لا يكاد أحد من المكلفين فارغ الذمة من واجب من الواجبات البدنية أو المالية ، واللازم على هذا القول الذي ذكروه بطلان عباداتهم وصلواتهم في غير ضيق الوقت ، وبطلان نوافلهم ومستحباتهم ، وعدم الترخص في أسفارهم ولزوم الإثم والمؤاخذة في جملة أفعالهم من أكل وشرب ونوم ونكاح ، ومغدا ومجي‌ء ، ونحو ذلك ، لأن الغرض أنهم منهيون عن هذه الأضداد الخاصة ، والنهي حقيقة في التحريم ، فأي حرج وضيق أعظم من ذلك.

ومن أظهر ما يدل على عدم التكليف بهذه الأمور التي لم يرد فيها حكم بنفي ولا إثبات ، قول مولانا الصادق عليه‌السلام في رواية إسحاق بن عمار (١) أن عليا عليه‌السلام كان يقول : أبهموا ما أبهم الله».

وما رواه الشيخ المفيد (٢) عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «قال

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٥ الباب ٣٣ من أبواب كتاب العلم.

(٢) المستدرك ج ٣ ص ٢١٧ ح ٤ الباب ٣ ، البحار ج ٢ ص ٢٦٣ ح ١١ الباب ٣٣ من أبواب كتاب العلم.

٨٩

رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أن الله تعالى حد لكم حدودا فلا تعتدوها ، وفرض عليكم فرائض فلا تضيعوها ، وسن لكم سننا فاتبعوها ، وحرم عليكم حرمات فلا تنهكوها ، وعفى لكم عن أشياء رحمة من غير نسيان فلا تتكلفوها». وما رواه الفقيه (١) في خطبة أمير المؤمنين عليه‌السلام قال فيها : ان الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تنقصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفونها ، رحمة من الله تعالى فاقبلوها».

ولا ريب أن هذه المسئلة داخلة فيما سكت الله تعالى عنه فتكلف البحث فيها كما ذكره أصحابنا تبعا للعامة العمياء في كتبهم الأصولية ، رد على ما دلت عليه هذه الاخبار ، وكم لهم مثل ذلك ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار.

ومما يؤكد ذلك ما تكاثرت به الأخبار عنهم عليهم‌السلام (٢) من النهي عن القول بما لم يسمع منهم ، ولا يرد عنهم ، والكف والتثبت حتى يسأل».

ومنه حديث صاحب البريد (٣) المروي في الكافي قول الصادق عليه‌السلام فيه «أما انه شر عليكم أن تقولوا بشي‌ء ما لم تسمعوه منا».

وفي معناه أخبار عديدة ، وبذلك يظهر لك ما في قوله ان القوانين الأصولية يقتضي البطلان ، فان فيه كما عرفت أن القوانين الشرعية الثابتة عن أهل العصمة عليهم‌السلام تقتضي الصحة ، وهي الأولى والأحق بالاتباع ، وان كانت قليلة الاتباع من حيث عدم التأمل فيها ، والرجوع في ذلك إليها ، والظاهر أن من وقف على ما شرحناه لا يخالف في صحة ما اخترناه.

وثانيا أنه من المعلوم الذي لا يداخله الشك والريب أن أصل هذا العلم الذي هو علم الأصول انما هو من العامة وقد كانت العامة زمن الأئمة عليهم‌السلام كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وأضرابهم عاكفين على هذا العلم ، وصنفوا فيه الكتب

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٥٣ ح ١٥ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٢٩ ح ٦١.

(٢) الكافي ج ١ ص ٤٢ ح ٥٠ ، الوسائل ج ١٨ ص ١١٢ ح ٣.

(٣) أصول الكافي ج ٢ ص ٤٠٢ في ضمن ح ١ ، الوسائل ج ١٨ ص ٤٧ ح ٢٥.

٩٠

ويستدلون به على مطالبهم ، ويستنبطون به أحكامهم ، ولم يكن لهذا العلم رواج في الأحكام بين أصحاب الأئمة عليهم‌السلام من الشيعة ، لاستغنائهم بالسؤال من أئمتهم في جملة أحكامهم ، ولو كان هذا العلم كما يدعيه من سماه بعلم الأصول أصل أصيل في الأحكام الشرعية كيف غفل الأئمة عليهم‌السلام عن تعليمه للشيعة في زمانهم ، ونشره لهم حيث أنه لم يبق نقير ولا قطمير من الأحكام والسنن والآداب وجميع ما يمر بالإنسان ويعرض له إلا خرجت به الأخبار ، وتكاثرت به من أكله وشربه ونومه ، ويقظته ، وتزويجه ونكاحه ، وسفره ولبس الثياب وضرب الخلا ونحو ذلك ، فكيف ينبهون على هذه الأمور ويتركون أهم الأشياء وأشدها حاجة ، وهي الأصول التي يبنى عليها الأحكام الشرعية ، وتستنبط منها ، ما هذا الأعجب عجاب عند ذوي الألباب وذيل الكلام واسع في الباب ، يوجب التطويل به الخروج عن موضوع الكتاب ، والله سبحانه العالم.

وثالثا : أنه ما ذكره من الفورية في الزكاة والخمس والمال الموصى به للفقراء ونحو ذلك لا أعرف عليه دليلا ، إذ ليس الا مجرد الأمر بالإخراج والأمر لا يستلزم الفور ، كما هو المشهور بين محققيهم ، على أنه قد دلت الاخبار على تأخير الزكاة الشهر والشهرين ، وفي بعض الأخبار (١) قيد ذلك بعزلها وإثباتها ، وقد ورد جواز حمل الخمس الى الامام (٢) من البلدان البعيدة مع وجود المستحق ، وكل ذلك ينافي الفورية.

الثاني : أن ما ذكر من أن له الامتناع حتى يشهد له صاحب الحق بالقبض أحد القولين في المسئلة ، وقيل : بالتفصيل بأنه ان كان مما يقبل قول الدافع فيه ، ولا يتوجه عليه ضرر ، بترك الإشهاد كالوديعة ، وشبهها ، فليس له الامتناع ، والا فله الامتناع إلى الإشهاد ، كالدين والغصب ونحوهما وربما قيل بتفصيل آخر أيضا بالنسبة إلى هذا القسم الأخير ، بأنه ان كان هناك بينة بالحق فله الامتناع

__________________

(١) الكافي ج ٣ ص ٥٢٢ ح ٣ ، الوسائل ج ٦ ص ٢١٣ ح ٢.

(٢) الوسائل ج ٦ ص ٣٧٥ الباب ٣ من أبواب الأنفال.

٩١

حتى يشهد ، والا فلا ، مثلا المديون ان كان عليه بينة بالدين ، فلا يدفعه الى صاحبه حتى يشهد له على القبض ، وان لم يكن عليه بينة بذلك ، فإنه وان لم يقبل قوله بالدفع لو أقر بالدين ، إلا أنه يمكنه التخلص بوجه آخر ، وهو أن ينكر أصل الحق بأن يقول : لا يستحق عندي شيئا ، فيقبل قوله بيمينه كالأول لأنه منكر.

أقول : والذي وجدته في فتاوى من حضرني كلامه هو القول الأول ، وهذه التفاصيل لم أقف على قائل بها منا وان نقلت مجملة في كتب أصحابنا نعم نسبها في التذكرة إلى الشافعية ، واحتج من ذهب من أصحابنا إلى القول الأول بأن تكلف اليمين ضرر عظيم ـ وان كان صادقا وأذن الشارع فيها ، ويترتب الثواب عليها ـ خصوصا في بعض الناس من ذوي المراتب فان ضرر الغرامة عليهم أسهل من ضرر اليمين.

أقول : ويعضد ما ذكره من تحمل ذوي المراتب ضرر الغرم تفاديا من اليمين حديث على بن الحسين عليه‌السلام (١) مع زوجته الشيبانية الخارجية لما طلقها وادعت عليه مهرها عند قاضي المدينة فأنكر عليه‌السلام فألزمه القاضي اليمين فأمر ابنه الباقر عليه‌السلام بدفعه إياها إجلالا لله سبحانه أن يحلف به ، وان كان صادقا.

قال المحقق الأردبيلي بعد الكلام في توقف التسليم على الاشهاد كما ذكره الأصحاب : واعلم أن في فتح هذا إشكالا ، إذ قد يتعذر وجود عدلين مقبولين خصوصا في زماننا هذا ، وفي أكثر البلدان فإن أهلها يمتنعون عن الصلاة جماعة بل صارت معدومة بالكلية ، لعدم العدل مع سهولة الأمر في ذلك ، وأن يرتكبوا الطلاق مع صعوبة الأمر فيه بالنص والإجماع ، وكذا في بعضها عن الطلاق أيضا حتى قال الشهيد الثاني والسيد المعاصر تلميذه انه لو قيل : بعدم جواز التقصير للعاصي بسفره ، لم يجز لأحد التقصير الا نادرا لتركهم الواجبات العينية ، وعدم إمكان تحصيلها في السفر ، فهو معصية وان كان فيه بحوث قد مضت ، منها أنه

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٣٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٤٢ ح ١.

٩٢

مبنى على أن الأمر بالشي‌ء يستلزم النهى عن ضده الخاص ، وهو لا يقول به ، فلا يبعد عدم الجواز مع التعذر أو التعسر المستلزم لمنع صاحب المال عن ماله الذي يدل العقل والنقل على قبحه ، خصوصا إذا استلزم فوت المصالح مع أنا ما نعرف دليلا واضحا على جواز ذلك المنع ، الا ما أشير وهو احتمال لزوم اليمين ، وهو لا يعارض العقل والنقل ، على أنه قد لا يلزم ، بل قد تعلم من صاحب المال انتفاء ذلك وأنه لا محذور فيه ، وعلى تقديره ليس بأشد من منع المال عن مالكه ، مع أنه لا يعانده في تكليفه أيضا بذلك ، لعدم حضور الحاكم في ذلك البلد ، والشهود إنما تنفع مع الحاكم على ما قالوه ، وأنه قد يسد أبواب المعاملة مثل الديون ، والعارية ، والإجارة ، وغيرها فالمنع عن مثله ـ لاحتمال بعيد ـ اعتمادا على أمر غير متحقق ، إذ قد لا يكون الحاكم أو يموت الشهود ، أو يخرج عن شرط القبول بعيد ، خصوصا ممن يقبل قوله ، ولهذا خص البعض بما عليه البينة.

وبالجملة الحكم الكلى مشكل جدا ، الا أن يكون عليه نص أو إجماع والله يعلم ، انتهى وهو جيد لعدم الدليل عليه ، والأصل العدم ، ويخرج ما ذكره مؤيدا لذلك.

وأما الإجماع فلم ينقل في المقام ، بل ظاهر عبارة التذكرة إنما هو العدم ، حيث جعل القول بالإشهاد مطلقا هو الأقرب ، إيذانا باحتمال غيره وبالجملة فإن التمسك بالأصل أصل رزين حتى يقوم الدليل على خلافه ، وليس الا هذه التعليلات العليلة كما عرفت في غير موضع.

الثالث : قد عرفت أنه إذا امتنع من الرد بعد المطالبة من غير عذر كان ضامنا ، لكن لو ادعى تلف المال قبل الامتناع أو ادعى الرد قبل المطالبة فهل تسمع دعواه وبينته بذلك؟ أم لا ، وتفصيل ذلك أن الامتناع من الرد ان كان مجرد تقصير ومطل ، فالظاهر أن هذا لا يمنع من قبول قوله وسماع بينته بدعوى التلف قبل الامتناع ، أو الرد قبل المطالبة ، إذ لا منافاة بينهما ، وهو وان كان

٩٣

يضمن بالامتناع ، الا أن هذه الدعوى متقدمة على وقت الامتناع والرجوع إلى الضمان ، وحصول أحد الأمرين المذكورين قبل الامتناع بهذا المعنى ممكن ، وحينئذ يقبل الدعوى بذلك ، وتسمع البينة ، وان كان الامتناع بالجحود فلا يخلو اما أن يرجع إلى نفي الحق عن نفسه ، بأن يقول : لا حق لك عندي أو لا يلزمني دفع شي‌ء إليك ، أو يرجع إلى إنكار قبضه وتسلمه منه بالكلية ، بأن يقول : ما قبضت منك شيئا وعلى الأول منهما ، فالحكم كما تقدم ، بل أوضح ، لأنه متى ادعى التلف قبل الامتناع أو الرد قبل المطالبة ، فامتناعه بهذا المعنى لا يكذب تلك الدعوى ، بل يؤكدها فإنه متى تلف منه أورده صدق أنه لا حق لك عندي ولا يلزمني دفع شي‌ء إليك ، وأما على الثاني فهو محل الخلاف في المسئلة ، فقيل بعدم قبول دعواه ، وان أقام البينة وهو مذهب العلامة في أكثر كتبه ، قال في التذكرة لو أنكر الوكيل قبض المال ، ثم ثبت ذلك ببينة أو اعتراف ، فادعى الرد أو التلف لم يقبل قوله لثبوت خيانته ، لجحوده ، فإن أقام بينة بما ادعاه من الرد والتلف ، لم يقبل بينته ، وللعامة وجهان : أحدهما لا يقبل كما قلناه ، لأنه كذبهما لجحوده ، فان قوله ما قبضت يتضمن أنه لم يرد شيئا ، والثاني يقبل لأنه يدعي الرد والتلف قبل وجود خيانته ، وان كان صورة جحوده ذلك لا تستحق على شيئا أو مالك عندي شي‌ء سمع قوله مع يمينه ، لأن جوابه لا يكذب ذلك ، لأنه إذا كان قد تلف أورده فليس له عنده شي‌ء ، فلا تنافي بين القولين ، الا أن يدعى أنه رد أو تلف بعد قوله مالك عندي شي‌ء ، فلا يسمع قوله ، لثبوت كذبه وخيانته ، انتهى.

وقيل بقبول قوله وسماع بينته ، وهو اختيار الشرائع قال في المسالك :

ووجه ما اختاره المصنف من القبول جواز استناد إنكاره إلى سهو ونسيان ، وعموم (١) «البينة على المدعى واليمين على من أنكر». ويقوى ذلك ان أظهر لإنكاره هذا التأويل ونحوه ، انتهى.

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٩٩ ح ٥ الباب ٣.

٩٤

وظاهر المحقق الأردبيلي التردد هنا حيث قال : ولكن لو أظهر لجحوده وإنكاره القبض أولا وجها ، مثل أن قال : كنت نسيت أو خفت أن لا تسمع دعوى التلف ، فيلزمني المال فأنكرت هل يسمع ذلك أم لا؟ فيه تردد ، من حيث إمكانه ، والحمل على الصحة ، وأنه أمين ، ومن حيث أن فتح هذا الباب يصير سببا لبطلان كثير من الحقوق ، فتأمل ، ولعل الأول أقرب.

هذا كله فيما لو كانت الدعوى بالتلف أو الرد قبل الجحود ، أما لو كانت بعده بأن قال : إني قبضت بعد ذلك الزمان الذي جحدت فيه ، ورددته إليك أو تلف ، فإنه وان لم يصدق ولم يقبل قوله بمجرده ، لظهور خيانته لكن يقبل دعواه ، وتسمع بينته ، لإمكان ذلك وعدم المنافاة ، وغايته أن يكون بجحوده متعديا ضامنا ، وذلك لا ينافي قبول دعواه وسماع بينته ، فإذا أقام البينة على الرد الذي ادعاه ثبت الحكم ، وسقطت المطالبة.

وأما دعوى تلف العين فإنه وان برئت ذمته من رد العين بالبينة أو اليمين الا أنه يلزمه المثل أو القيمة من حيث الضمان المترتب على الخيانة ، وبالفرق بين صورتي القبلية والبعدية هنا صرح العلامة في الإرشاد ، وفي غيره أطلق عدم سماع دعواه ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : قال في التذكرة : لو دفع الى وكيله عينا وأمره بايداعها عند زيد فأودعها ، وأنكر زيد فالقول قوله مع اليمين ، فإذا حلف بري‌ء ، وأما الوكيل فان كان قد سلمها بحضرة الموكل لم يضمن ، وان كان بغيبته ففي الضمان اشكال وللشافعية وجهان : أحدهما انه يضمن كما في الدين ، لأن الوديعة لا تثبت إلا بالبينة والثاني لا يضمن ، لأن الودعي إذا ثبت عليه ـ بالبينة ـ الإيداع ، كان القول قوله في التلف والرد فلم تفد البينة شيئا ، بخلاف الدين ، لأن القضاء لا يثبت إلا بها ، انتهى.

أقول : المشهور في كلامهم هو الفرق بين الوكالة في قضاء الدين ، والوكالة في الإيداع ، بأنه في الأول لو لم يشهد الوكيل على القضاء ضمن ، وفي الثاني

٩٥

لا يضمن ، وعلى هذا فيجب الاشهاد في الأول دون الثاني ، ووجه الأول أن برأيه الذمة ظاهرا وباطنا الذي هو مطلوب الموكل ـ انما يتحقق بالإشهاد ، وكذا الأمر الموكل فيه انما يتحقق بالإشهاد ، فإنه متى أنكر صاحب الدين القبض من الوكيل ولا بينة ، فكأنه لم يأت الوكيل بما وكل فيه ، ولم يأت بما أمر به الموكل فيكون ضامنا بخلاف الإيداع ، فإنه لا يلزمه الاشهاد ، ولا يضمن لو تركه ، لأن الودعي أمين ، وقوله مقبول ، أشهد عليه أو لم يشهد ، فلا يظهر للإشهاد فائدة.

الا أنه يمكن أن يقال : ان الأصل العدم في الموضعين ، ومطلق الأمر في كل من الموضعين لا يدل على الاشهاد ، ويؤيده أن الوكالة مطلقة لا تقييد فيها بالإشهاد ، ويؤيده أن الوكالة قد حصل الامتثال بإنفاذ ما وكل فيه ، فيجوز من دون الإشهاد ، إلا أن يقوم دليل من خارج على الإشهاد ، كالوكالة في الطلاق مثلا ، والظاهر أنه لا إجماع في القضاء ، ولهذا ان ظاهر المحقق في الشرائع التردد في ذلك ، ويؤيده ما تقدم في كلام المحقق ذكره ، ويؤيده أيضا أن فيه سد باب قبول الوكالة لما يتطرق اليه من الضرر الا أن يكون جاهلا فيعذر.

وبالجملة فالمسئلة كغيرها لا يخلو من الاشكال لعدم النصوص القاطعة لمادة القيل والقال في أمثال هذا المجال ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : قالوا : لو تعدى الوكيل في مال الموكل ضمنه ، كلبس الثوب ، وركوب الدابة الموكل ببيعهما ، ولكن لا تبطل وكالته بذلك ، ولو باع ما تعدى فيه وسلمه الى المشتري بري‌ء من ضمانه.

أقول : أما الحكم الأول فالظاهر انه لا خلاف فيه إلا من بعض العامة كما ذكره في المسالك ، وفيه أن العلامة في المختلف قد نقل ذلك عن ابن الجنيد أيضا حيث قال : تعدى الوكيل فيما وكل فيه بما يلزمه الغرم والضمان مبطل للوكالة.

وكيف كان فهو ضعيف ، والوجه في بقاء الوكالة وعدم بطلانها وان ضمن بالتعدي أن الوكالة تضمنت شيئين ، الأمانة ، والاذن في التصرف ، فإذا تعدى زالت

٩٦

الأمانة ، وبقي الإذن بحاله ، ونظيره الرهن ، فإنه متضمن لشيئين الأمانة والتوثيق فإذا بطل الأول بالتعدي لا يلزم منه بطلان الثاني ، وهذا بخلاف الوديعة ، حيث أنها أمانة محضة ، فبالتعدي تزول وتبقى مضمونة.

وأما الحكم الثاني فالوجه فيه أنك قد عرفت بقاء الوكالة وعدم زوالها بالتعدي ، وحينئذ فإذا باع تلك العين وسلمها إلى المشتري زال الضمان عنه إجماعا كما نقله في التذكرة ، لاستقرار ملك المشتري عليه ، وزوال ملك الموكل عنه ، لأنه تسليم مأذون فيه ، فيجري مجرى قبض المالك.

بقي الكلام هنا في مواضع الأول : هل يخرج من الضمان بمجرد البيع قبل التسليم أم لا؟ وجهان : يلتفتان إلى أنه قد خرج عن ملك المالك ، ودخل في ملك المشتري وضمانه ، فلا ضمان على الوكيل حينئذ ، والى أنه ربما بطل العقد بتلفه قبل قبض المشترى ، فيكون التلف على ملك الموكل ، قال في المسالك وهذا أقوى.

وفي التذكرة بعد أن قرب هذا الوجه أولا وذكر أنه أصح وجهي الشافعية ذكر الوجه الأول وعلته ، وقال بعد : ونحن فيه من المترددين.

الثاني إذا باع ما فرط فيه وقبض الثمن في صورة الجواز كان الثمن أمانة في يده ، غير مضمون عليه ، وان كان أصله مضمونا ، لانه لم يتعد فيه وقد قبضه باذن الموكل ، فيخرج عن العهدة.

الثالث : لو تعدى في هذا الثمن بعد قبضه أو دفع اليه نقدا يشترى به شيئا فتعدي فيه صار ضامنا له ، فإذا اشترى به وسلمه الى البائع زال الضمان بالتقريب المتقدم ، وهل يزول بمجرد الشراء؟ الوجهان المتقدمان.

الرابع : قد عرفت أنه إذا تعدى في العين ثم باعه وسلمها إلى المشتري بري‌ء من الضمان إجماعا ، لكن لو ردها المشتري عليه ، بعيب قال في التذكرة : عاد الضمان ، وقال في المسالك : وفي عود الضمان وجهان : أجودهما العدم ، لانتقال الملك إلى المشتري بالعقد ، وبطلان البيع من حينه لا من أصله ، انتهى.

٩٧

أقول : مقتضى ما ذكره من الانتقال إلى المشتري بالعقد أن الانتفاعات بالمبيع والنماء مدة الخيار للمشتري ، وان فسخ العقد ورد المبيع بالعيب بعد ذلك ، الا أنه قد تقدم في كتاب المبيع أن الاخبار في ذلك مختلفة ، وأخبار خيار الحيوان متفقة على أن تلفه في زمن الخيار من مال البائع وهو مؤذن بعدم الانتقال للمشتري ، ولهذا نقل عن بعض الأصحاب أن منفعة المبيع في زمن الخيار والنماء انما هو للبائع ، وحينئذ فلا استبعاد في أن الفسخ هنا يبطل البيع من أصله والله سبحانه العالم.

الخامسة : المشهور بين الأصحاب أنه إذا أذن الموكل للوكيل في بيع ماله من نفسه أو الشراء له من نفسه جاز ونقل عن الشيخ ومن تبعه المنع للتهمة ، ولأنه يصير موجبا قابلا ، ورد بمنع التهمة مع الاذن ، ومراعاة المصلحة المعتبرة في كل وكيل ، وجواز تولى الواحد من الطرفين عندنا كذا في المسالك.

وعندي فيه نظر ، فان ظاهر كلام الشيخ وخلافه في هذه المسئلة انما هو في صورة الإطلاق ، لا في صورة التصريح بالاذن ، وبذلك صرح في التذكرة ، فقال : إذا وكله في بيع شي‌ء فان جوز له أن يشتريه هو ، جاز أن يبيعه على نفسه ، ويقبل عن نفسه ، وان منعه من ذلك لم يجز أن يشتريه لنفسه إجماعا ، وان أطلق منع الشيخ من ذلك ، لأنه قال : جميع من يبيع مال غيره وهم ستة أنفس ، الأب والجد ووصيهما ، والحاكم وأمينه والوكيل ، لا يصح لأحد منهم أن يبيع المال الذي في يده من نفسه إلا لاثنين ، الأب والجد ، ولا يصح لغيرهما الى آخره وهو ظاهر كما ترى في أن خلاف الشيخ إنما هو في صورة الإطلاق ، لا الاذن كما ذكره.

ومنه يعلم أنه لا خلاف مع الاذن ، وإنما الخلاف مع الإطلاق ، ثم ان ظاهرهم أنه لا فرق في ذلك بين الوكالة في بيع أو عقد نكاح أو غيرهما في أنه يصح مع الاذن ، مع أنه قد روى عمار (١) في الموثق قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧٨ ح ٥ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢١٧ ح ٤.

٩٨

المرأة تكون في أهل بيت وتكره أن يعلم بها أهل بيتها أيحل لها أن توكل رجلا يريد أن يتزوجها؟ تقول له : قد وكلتك فاشهد على تزويجي؟ قال : لا ، قلت : جعلت فداك وان كانت أيما؟ قال : وان كانت أيما ، قلت : وان وكلت غيره يزوجها ، قال : نعم» ، وأنت خبير بأن هذه الرواية صريحة في المنع مع الاذن والظاهر أنه ليس إلا من حيث تولي طرفي العقد ، ولكن موردها النكاح خاصة ، فيمكن أن يقال : بذلك في غيره أيضا نظرا إلى أن الأصل عصمة مال المسلم وعصمة الفروج ، حتى يقوم الدليل على صحة العقد ، ومجرد الأذن كما ادعوه لا يوجب الصحة ، إذ يمكن أن يكون المانع هو تولى طرفي العقد ، وان جاز ذلك في الأب والجد مع الإغماض عن المناقشة فيه أيضا.

وجملة أدلتهم التي استندوا إليها في جواز تولي الواحد طرفي العقد لا يخلو عن خدش ، كما نبهنا عليه في ما تقدم من كتاب البيع في المسئلة الخامسة من المقام الثاني من الفصل الأول في البيع (١) فليراجع اليه من أحب الوقوف عليه ، إلا أن المفهوم من بعض الاخبار الواردة في هذا المقام كما ستظهر لك ان شاء الله هو أن المنع إنما هو من حيث خوف التهمة والخيانة ، وهو مشعر ، بأنه مع الاذن الموجب لارتفاع ذلك فإنه يصح ، وحينئذ فينبغي الفرق في ذلك بين البيع والنكاح ، ويخص المنع بالنكاح ، للخبر المذكور ، هذا كله مع الاذن.

أما مع الإطلاق فالمشهور بين أكثر الأصحاب من المتقدمين والمتأخرين هو المنع ، وهو مذهب العلامة في غير التذكرة والمختلف ، وذهب في الكتابين المذكورين إلى الجواز على كراهية ، ونقل عن أبى الصلاح وهو مذهب الدروس ، والأظهر هو القول المشهور ، ويدل عليه أن الأصل عدم جواز التصرف في مال الغير عقلا ونقلا الا مع الاذن ، والمفروض عدمه ، فإن الإطلاق لا يدل عليه.

والظاهر أن من قال بالجواز إنما قال ذلك من حيث دعوى فهم الأذن من

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤١٧.

٩٩

الإطلاق ، وحينئذ فمطرح النزاع في أنه هل يفهم الاذن من الإطلاق أم لا؟ والا فالظاهر أنه لا نزاع مع عدم فهمه ، وحينئذ فالذي يدل على عدم فهمه زيادة على الأصل المتقدم عدم ظهور الدلالة ، لأن المتبادر من قوله بع هذا الشي‌ء هو البيع على الغير عرفا وعادة ، يدل على ذلك جملة من الأخبار ، وقد تقدمت في المقدمة الثانية في آداب التجارة في مسئلة ما لو قال انسان للتأجر : اشتر لي متاعا (١) ومنها موثقة إسحاق بن عمار (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يبعث إلى الرجل يقول : ابتع لي ثوبا فيطلب له في السوق ، فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده ، قال : لا يقربن هذا ، ولا يدنس نفسه ، ان الله عزوجل يقول (٣) «إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً» وان كان عنده خير مما يجد في السوق فلا يعطيه من عنده».

ورواية علي بن أبي حمزة (٤) قال : «سمعت عمر الزيات يسأل أبا عبد الله عليه‌السلام قال : جعلت فداك إني رجل.

أبيع الزيت يأتيني من الشام فآخذ لنفسي مما أبيع؟ قال : ما أحب لك ذلك ، قال : إني لست أنقص لنفسي شيئا مما أبيع ، قال بعه من غيرك ، ولا تأخذ منه شيئا أرأيت لو أن الرجل قال لك : لا أنقصك رطلا من دينار ، كيف كنت تصنع لا تقربه.

فظاهر هذا الخبر أن بيع الرجل من نفسه أو شرائه لنفسه لا يدخل تحت الإطلاق الذي اقتضته الوكالة ، والا فإن مقتضى إطلاق الوكالة صحة البيع والشراء بما يراه الوكيل وفعله ، فلا معنى لقوله عليه‌السلام بالنسبة إليه لو أن الرجل قال لك :

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٢.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٣٥٢ ح ١٢٠ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٨٩ ح ٢.

(٣) سورة الأحزاب ـ الاية ٧٢.

(٤) التهذيب ج ٧ ص ١٢٨ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٩٠ ح ٢.

١٠٠