الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

الاعتبارية ، كما تقدم نظيره.

أقول : وينبغي أن يعد من هذا القبيل أيضا ما لو وكله سيده في بيع نفسه على الغير ، فان الكلام في هذا الموضع كالكلام في الموضعين المذكورين صحة وبطلانا والله سبحانه العالم.

الثالثة : قال في التذكرة : مدار الوكالة بالنسبة إلى الإسلام والكفر على ثمان مسائل ، تبطل منها وكالة الذمي على المسلم ، وهو صورتان ، توكل الذمي للمسلم أو للكافر على المسلم عند علمائنا أجمع لقوله تعالى (١) «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً» ويكره أن يتوكل المسلم للذمي عند علمائنا أجمع.

أقول : أما ما ذكره من الصور الثمان هنا فإنه باعتبار أن الموكل اما مسلم ، أو كافر ، وعلى التقديرين فالوكيل اما مسلم ، أو كافر ، وعلى التقادير الأربعة فالموكل عليه اما مسلم ، أو كافر ، فهذه ثمان صور المسئلة ، وظاهره دعوى الإجماع على البطلان في صورتين منها ، وهو كون الكافر وكيلا على المسلم ، سواء كان الموكل مسلما أو كافرا وفي الشرائع نسب هذا القول إلى الشهرة ، فقال بعد ذكره : على المشهور ، وربما كان فيه إيذان بالطعن في دليله.

وأما الاستدلال بالآية المذكورة فهو وان اشتهر بينهم في أمثال هذه المواضع ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في ما تقدم في غير موضع ، من ورود النص (٢) عن الرضا عليه‌السلام بأن ذلك إنما هو من جهة الحجة والدليل ، وقد تقدم تحقيق ذلك بما لا مزيد عليه في المسئلة السادسة من المقام الثاني في المتعاقدين من الفصل الأول في البيع في كتاب التجارة (٣).

وظاهره الجواز فيما عدا ذلك من غير كراهة ، إلا في صورة واحدة من الست الباقية ، وهي أن يتوكل المسلم للذمي على المسلم ، وادعى الإجماع على

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ١٤١.

(٢) عيون أخبار الرضا ج ٢ ص ٢٠٣ ح ٥.

(٣) ج ١٨ ص ٤٢٥.

٦١

الكراهة ، مع أنه في النهاية على ما نقل عنه ، قال : بعدم الجواز ، ونقله في المختلف أيضا عن الخلاف والنهاية وأبى الصلاح ، وهو ظاهر الشيخ المفيد أيضا ، وقد تقدم ذكر ذلك في المورد الثاني من المطلب الثاني ، والظاهر أنه لذلك تردد في الشرائع ، وان استوجه بعد ذلك الجواز على الكراهة.

ثم أنه لا يخفى أن أكثر الأصحاب إنما عبروا بالذمي ولا يظهر له وجه ، مع أنه متى ثبت ذلك في الذمي ثبت في غيره بطريق أولى ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : قد عرفت مما قدمنا نقله عن الشرائع في المسئلة الأولى جواز أن يكون الوكيل فاسقا أو كافرا أو مرتدا ، وقال في المسالك في مسئلة عدم اشتراط عدالة الولي ولا الوكيل في عقد النكاح ما لفظه : وكذا الوكيل في عقد النكاح ، لا يشترط أن يكون عدلا بل يصح توكيل الفاسق فيه إيجابا وقبولا لقبوله النيابة وأصالة عدم اشتراط العدالة ، إذ لا يتضمن ذلك استئمانا على أمر خفي كالمال ، خلافا لبعض الشافعية ، حيث اشترط العدالة فيهما.

وأما اشتراط عدالة الولي في ولاية المال ففيه خلاف بين أصحابنا ، وفي التذكرة قطع بأن الفاسق لا ولاية له ، حتى لو كان عدلا ففسق انتزع المال منه ، واستشكل في القواعد في باب الوصايا ، انتهى.

أقول : ما نقله عن التذكرة لم أقف عليه في كتاب الوكالة بعد التتبع لأبحاث الكتاب المذكور ، والذي وقفت عليه إنما هو خلاف ما نقله ، حيث قال في الكتاب المذكور : لو فسق الوكيل لم ينعزل عن الوكالة إجماعا ، لأنه من أهل التصرف إلا أن تكون الوكالة مما ينافي الفسق ، كالإيجاب في عقد النكاح عند العامة ، فإنه ينعزل عندهم ، بمجرد فسقه ، أو فسق موكله لخروجه عن أهلية التصرف فيه عندهم ، وعندنا لا ينعزل بالفسق ، إذ لا يشترط العدالة في ولي النكاح ، وأما في القبول وان فسق الموكل لم ينعزل وكيله بفسقه ، لأنه لا ينافي في جواز قبوله ، وهل ينعزل الوكيل بفسق نفسه ، فيه للعامة وجهان : ولو كان وكيلا

٦٢

فيما يشترط فيه الأمانة كوكيل ولي اليتيم وولي الوقف على المساكين ، ونحوه انعزل بفسقه ، وفسق موكله لخروجهما بذلك عن أهلية التصرف ، وان كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه ، لأنه ليس للوكيل أن يوكل فاسقا ، ولا ينعزل بفسق موكله ، لأنه وكيل لرب المال ، ولا ينافيه الفسق ، انتهى.

أقول : وأنت خبير بما فيه من الصراحة في صحة كون الوكيل فاسقا ، وظاهره دعوى الإجماع عليه ، لأن عدم انعزاله بالفسق إنما هو من حيث عدم منافاة الفسق ، لصحة الوكالة كما هو المذكور في آخر عبارته ، وأن المدار في الوكيل وصحة كونه وكيلا إنما هو على أهلية التصرف ، كما قدمنا نقله عنه في المسئلة الأولى ، وان هذا هو الضابط في صحة الوكالة ، وكأن الوجه فيه أن المالك إذا رضي بذلك وسلم اليه ماله وأمره بالتصرف فيه على الوجه الذي أمره «والناس مسلطون على أموالهم».

ولا مانع من الصحة ، ولهذا استثنى من ذلك وكيل ولي اليتيم ، ووكيل ولي الوقف الذين قد علم من الشارع أن ولاية موكليهما على ذينك الأمرين إنما هو لأجل المحافظة على ذلك ، ومراعاة المصلحة ، فلا بد من أن يكون عدلا ، إذ لا وثوق بغيره ، بخلاف مال الإنسان نفسه ، فإنه مخير في دفعه الى من شاء كيف شاء.

وأما عده من ذلك وكيل الوكيل ، فقد تقدم الكلام فيه ، وتطرق المناقشة اليه ، ويظهر من ابن إدريس في السرائر أيضا دعوى الإجماع على عدم اعتبار عدالة الوكيل كما سمعت من كلام العلامة هنا ، حيث قال في مسئلة وكالة الكافر في التزويج : والذي يقوى في نفسي أنه لا يمنع من وكالة الكافر مانع في التزويج المذكور ، لأنا لا نعتبر العدالة في الوكيل ، بغير خلاف ، لأنه لا مانع منه من كتاب ولا إجماع ولا سنة متواترة ، انتهى.

ويؤيد ذلك أيضا ما تقدم في المسئلة الثالثة في بيان مدار الوكالة ، وما

٦٣

ذكروه بالنسبة إلى المرتد من أنه لا تبطل وكالة المسلم بردته ، لأن الردة غير مانعة من صحة الوكالة ابتداء ، فكذا الاستدامة ، كما صرح به في التذكرة وغيره من غير نقل خلاف الا من بعض العامة ، وبما ذكرنا يظهر ما في دعوى شيخنا المتقدم ذكره أن المسئلة في وكالة المال خلافية ، وأن بعضهم ذهب الى اشتراط العدالة فيها ، ومما يؤيد ما قلناه أيضا ظاهر قوله سبحانه (١) «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» وبالجملة فإنه يجب القطع بعدم اشتراط العدالة في الوكيل في كلامهم ، والأصل العدم حتى يقوم الدليل على خلافه ، والله سبحانه العالم.

الخامسة : قال في التذكرة : يجب على الوكيل اعتماد ما عين الموكل وقرره معه ، ولا يجوز له المخالفة في شي‌ء مما رسمه له ، فيصح تصرف الوكيل فيما وافق الموكل ، ويبطل فيما يخالفه مع صحة الوكالة ، والموافقة والمخالفة قد يعرفان بالنظر الى اللفظ تارة ، وبالقرائن التي تنضم إليه أخرى ، وأن القرينة قد تقوى فينزل عليها إطلاق اللفظ.

أقول : هذا من جملة الضوابط في الوكالة أيضا ، ومرجعه إلى أنه لا يجوز له المخالفة عما رسمه الموكل ، الا أن تدل القرائن على إرادته ، ورضي الموكل به أو تشهد العادة بذلك ، ولكن لا بد من اطرادها بما دلت عليه ، فإنه يكون حينئذ في حكم المعين ، والمرسوم من جهة الموكل.

ويتفرع على ذلك فروع : منها ـ ما لو أذن له في البيع نسية فباع نقدا أو عين له ثمنا فباع بأزيد منه ، فإنه داخل في المأذون فيه بطريق أولى ، لأنه قد زاد خيرا ، والعرف والعادة يشهدان بذلك ، إلا أنه يجب تقييده بما إذا لم يعلم له غرض في التعيين بذلك وإلا لم يجز التعدي عما رسمه ، وان لم يصرح بالنهي ، لأن الأغراض تختلف في ذلك والمصالح لا تنضبط ، ولو صرح له بالمنع فأولى بعدم الجواز.

__________________

(١) سورة آل عمران ـ الاية ٧٥.

٦٤

قال في التذكرة لو أمره بالبيع بمأة ، ونهاه عن البيع بالأزيد لم يكن له البيع بالأزيد قطعا ، لاحتمال تعلق غرضه بذلك ، فلا يجوز له التخطي ، ومنها ما لو أمره بالبيع في سوق معين ، بثمن معين ، فباع في غيرها بذلك الثمن ، أو أطلق ولكن باع بثمن المثل الذي ينصرف إليه الإطلاق صح أيضا : بناء على أن الغرض تحصيل الثمن الا أنه يجب تقييده بما قدمنا ذكره ، من عدم العلم بالغرض من ذلك التعيين ، فلو علم الغرض منه كما لو كان الراغبون بذلك السوق أكثر ، أو النقد فيها أجود ، أو المتعاملون فيها أسمح ، أو نحو ذلك لم يجز له التخطي ، وعن التذكرة ، أنه اشترط هنا العلم بعدم الغرض ، وعليه فلا يصح في صورة الجهل ، ولا يجوز التخطي.

وكيف كان فإنه مع صحة البيع في غير ما عين ، فالظاهر من كلام بعضهم أنه لا يجوز النقل له الى غير ذلك المكان الذي عدل اليه ، والظاهر أنه لخروجه عن الاذن يكون ضامنا بالنقل اليه ، ويكون ضامنا للثمن بعد البيع أيضا لعين ما ذكر ، وإنما تظهر الفائدة في الحكم بصحة البيع خاصة.

وقال في التذكرة بعد ذكر مسئلة البيع في السوق ـ وعدم تعرضه فيها للضمان وعدمه ـ : ولو قال بعه في بلد كذا احتمل أن يكون كقوله بعه في السوق الفلاني ، حتى لو باعه في بلد آخر جاء فيه التفصيل ، ان كان له غرض صحيح في التخصيص لم يجز التعدي ، وإلا جاز ، لكن يضمن هنا الوكيل بالنقل إلى غير البلد للعين ، وكذا الثمن يكون مضمونا في يده ، بل لو أطلق التوكيل في بلد يبيعه في ذلك البلد فلو نقله صار ضامنا ، انتهى.

وعندي في كل من هذين الكلامين إشكال ، أما الأول وهو الضمان مع النقل إلى تلك البلد الأخرى ، فلانه لا يجامع ما ذكروه من أنه يصح البيع ، لأن الغرض تحصيل الثمن الا أن يعلم غرضه في التعيين ، فان مقتضى هذا الكلام جواز المخالفة والنقل ، وان هذا الغرض مع عدم المانع المذكور قرينة على جواز المخالفة في

٦٥

تعيين السوق ، فكأنه بالنظر إلى هذا الغرض وعدم المانع قال له بع بهذا الثمن ان شئت ، فإذا حكم بجواز المخالفة كيف يتعقبه الضمان.

وبالجملة فإن المانع من جواز النقل إنما هو العلم بالغرض من التعيين ، وأما مع عدمه فيجوز كما هو ظاهر عبارة التذكرة المذكورة ، وعليه فلا يتم القول بالضمان ، لأنه مأذون في ذلك بمفهوم الكلام المتقدم.

وأما الثاني وهو ما ذكره في التذكرة فإن ظاهره كما عرفت أنه مع عدم العلم بالغرض الصحيح في التخصيص يجوز التعدي ، ثم انه فرق بين الاذن بالبيع في السوق وفي البلد ، فأوجب الضمان في الثاني دون الأول ، ولا أعرف له وجها ظاهرا ، وبيان ذلك أنه ذكر مسئلة البيع في السوق أولا ، ولم يتعرض للضمان بالمخالفة ، ثم ذكر مسئلة البيع في البلد كما نقلناه عنه ، وقال : لكن يضمن هنا ، وهو ظاهر فيما قلناه من تخصيصه الضمان بهذه الصورة ، دون تلك ، وفيه ما ذكرناه.

وبالجملة فإنه ان فهم الاذن في المخالفة من الكلام المذكور في كل من هذين الموضعين فإنه تجوز المخالفة ، ولا يتعقب ذلك ضمان ، وان لم يفهم لم يجز النقل وتعقبه الضمان ، لأنه تصرف في مال الغير بغير اذن ، وفي صحة البيع أيضا إشكال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ظاهر كلام كثير منهم الفرق بين السوق وغيرها مما يعينه الموكل ، وتخصيص جواز المخالفة بالسوق خاصة ، إلا مع العلم بالغرض مع التعيين ، وأما غيرها فلا ، وهو مشكل لعدم ظهور الفرق.

قال في التذكرة : يجب على الوكيل تتبع تخصيصات الموكل ، ولا يجوز. له العدول عنها ، ولا التجاوز إلا في صورة السوق على ما يأتي ، بل يجب النظر الى تقييدات الموكل في الوكالة ، ويشترط على الوكيل رعاية المفهوم منها بحسب العرف الى آخره ، ويشير الى ما ذكرناه أيضا ما صرح به المحقق الأردبيلي (رحمه‌الله عليه) ، ثم ان الأصحاب ذكروا هنا جملة من الفروع في مطولات كتبهم ومرجعها الى ما عرفت في الضابط المتقدم ، والله سبحانه العالم.

٦٦

السادسة : قد صرحوا : بأن كل موضع يبطل الشراء للموكل إما للمخالفة كما أشير إليه في سابق هذه المسئلة ، أو لإنكار الموكل التوكيل ، فان كان سمى الموكل في العقد لم يقع العقد عن الموكل لعدم الوكالة ، أو للمخالفة ، ولا عن الوكيل ، لأن المذكور في العقد غيره ، كما هو المفروض ، وان لم يكن سماه وقع عن الوكيل بحسب الظاهر ، وأما في نفس الأمر فإن كان قصده ونواه لنفسه فهو له ، وإن نواه للموكل لم يقع له أيضا لما تقدم ، والمخرج عن ذلك إما بالمصالحة ، أو بأن يقول الموكل إن كان لي فقد بعته من الوكيل.

أقول : وان أردت زيادة توضيح لهذا المقال فاعلم أن ذلك يقع في موضعين أحدهما أن يكون بطلان الشراء مستندا إلى المخالفة لأمر الموكل ، ولا ريب أنه مع تسمية الموكل في العقد ، والحال أنه قد خالفه فيما وكله فيه فإنه لا يقع عنه وإن سماه بل يكون فضوليا يتوقف صحته على الإجازة بناء على المشهور في عقد الفضولي ، ولا يقع عن الوكيل أيضا لأن المسمى في العقد غيره ، وأما مع عدم ذكر الموكل في العقد فإنه يقع بحسب الظاهر عن الوكيل ، حيث أن الخطاب معه ، وعلى هذا فللبائع أن يأخذ منه الثمن ، ويلحقه جميع الأحكام المترتبة على البيع بناء على ذلك الظاهر ، فإن الأحكام إنما تبنى عليه دون نفس الأمر ، ولكن يجب تقييد الحكم بكون الشراء للوكيل كما ذكرنا بأن لا يكون قد شرى بعين مال الموكل ، وإلا فإنه يقع فضوليا عن الموكل ، موقوفا على إجازته ، فان لم يجز بطل ، لأنه يصير كظهور استحقاق أحد العوضين المعينين في العقد ، وإن جازه صح.

وكذا يجب الحكم بالبطلان في هذه الصورة إذا علم البائع أن الثمن ملك الموكل ، أو قامت به البينة ، ويجب على البائع رد الثمن حينئذ ، وان لم يعلم البائع بذلك ، ولا بينة ثبت البيع ظاهرا كما تقدم ، ووجب على الوكيل دفع عوض ذلك الثمن للموكل ، وانما كان الواجب هو العوض ، لتعذر استرجاع عين الثمن ، فان البيع صحيح بحسب الظاهر كما ذكرنا ، واعترافه بالتفريط بسبب

٦٧

المخالفة ، وللموكل إحلاف البائع لو ادعى عليه العلم بأن الثمن له وإلا فلا.

وثانيهما أن يكون بطلان الشراء لإنكار الموكل التوكيل ، ولا يخلو إما أن يكون الاشتراء بعين مال الموكل بناء على دعواه الوكالة ، أو في الذمة ، وعلى الأول يكون الشراء فضوليا ، سواء ذكر الموكل لفظا أو قصده نية أو لا فيهما فان أجازه الموكل صح على المشهور في عقد الفضولي ، وان لم يجزه والحال أنه ذكره لفظا أو كان للموكل بينة بأن العين له أو كان البائع عالما بذلك ، فلا يخلو إما أن يكون الوكيل صادقا في دعوى الوكالة ، فإنه يكون العقد صحيحا بحسب الواقع ، فاسدا بحسب الظاهر ، وان كان الوكيل كاذبا بحسب الواقع بطل الشراء بالعين في الواقع والظاهر.

وعلى الثاني وهو الشراء في الذمة فإن ذكر الموكل لفظا أو نية وقع الشراء له باطنا ان كان صادقا في دعوى الوكالة ، وبطل بحسب الظاهر من حيث إنكار الموكل الوكالة ، وان لم يذكره بالكلية لا لفظا ولا نية فالشراء للوكيل ظاهرا وباطنا ، وان كان الوكيل مبطلا في دعوى الوكالة وذكر الموكل بطل البيع مطلقا ، إذ لا يصح عن الموكل وان سماه ، لأنه مبطل في دعوى الوكالة ، ولا عن نفسه لأن المسمى في العقد غيره ، وان لم يذكره وقع الشراء للوكيل.

قالوا : وطريق التخلص في مواضع الاشتباه باحتمال كونه لأيهما أن يقول الموكل : إن كان لي فقد بعته من الوكيل : ولا يضر التعليق هنا على الشرط في صحة هذا البيع ، لأن الشرط المبطل إنما هو ما أوجب توقف العقد على أمر يمكن حصوله ، وعدم حصوله ، والأمر المعلق عليه هنا واقع ، بعلم المكلف حاله فلا يضر جعله شرطا.

وكذا القول في كل شرط علم وجوده كقول البائع ان كان اليوم الجمعة فقد بعتك كذا مع علمه بكون ذلك اليوم الجمعة ، ولو امتنع الموكل عن البيع جاز للموكل أن يستوفي عوض ما أداه إلى البائع عن موكله من المبيع ، ويرد

٦٨

عليه ما يفضل ان كان في المبيع زيادة على ما استوفاه ، ويرجع اليه بما يزيد له ان نقص المبيع مما استوفاه ، والرجوع عليه هنا بطريق المقاصة بمعنى أنه إن ظفر بمال الموكل وأمكنه وضع يده عليه ، وكما يحصل التخلص بما ذكر يحصل أيضا بالمصالحة ، ويحصل أيضا بإبراء الذمة من الثمن أو يقول ، وهبتك إياه هذا ملخص ما ذكروه في المقام ، والله سبحانه العالم.

السابعة : قالوا : لو وكل اثنين وشرط الاجتماع أو أطلق لم يكن لأحدهما الانفراد ، ولا القسمة ، ولو مات أحدهما بطلت ، وليس للحاكم أن يضم اليه ، ولو شرط الانفراد جاز.

أقول : لا ريب في أنه إذا صرح بالانفراد فان كل واحد منهما وكيل على حده ، وإذا صرح بالاجتماع لم يكن لأحدهما الانفراد ، والمراد باجتماعهما صدور الأمر الموكل فيه عن رأيهما واتفاقهما على ذلك ، فان كان عقدا فينبغي أن يأذن أحدهما للآخر في إيقاع العقد أو يتفقا على ثالث ، فيوقع الصيغة ، إذ الظاهر جواز الاذن هنا في مثله كما رجحه بعض المحققين ، وقيده آخرون باقتضاء الوكالة جواز التوكيل ، والا فلا ، وبالجملة فإن قصد الموكل أن يكون العاقد واحدا لا إيقاع كل منهما الصيغة.

وظاهره في المسالك أيضا جواز إيقاع كل منهما الصيغة ، واستشكله بعض المحققين بأنه يلزم أن يكون العقد الصحيح غير مؤثر للمطلوب المترتب عليه ، بل يكون موقوفا على عقد آخر غير معهود في الشرع ، وفي صدق تعريف العقد الصحيح عليه تأمل وتكلف ، انتهى.

وأما مع الإطلاق فإن وجدت قرينة تدل على الافراد أو الاجتماع وجب العمل بمقتضاها ، والا فإن ظاهر الأصحاب هو الحكم بالاجتماع ، وعلى هذا فشرط الاجتماع على الخصوص انما يفيد مجرد التأكيد ، لأن مقتضى الإطلاق هو الاجتماع كما عرفت ، والوجه في اقتضاء الإطلاق الاجتماع أن قوله وكلتكما

٦٩

موجها الخطاب إليهما معا يقتضي كونهما وكيلين ، والأصل في كل منهما على حدة عدم الوكالة. وعدم جواز التصرف إلا بإذن الموكل ، والاذن انما حصل لهما معا والمعية يقتضي الاجتماع ، ولو مات أحدهما بطلت الوكالة من أصلها ، كما إذا ماتا معا ، لأن توكيلهما على جهة الاجتماع يؤذن بعدم رضاه برأي أحدهما ، وتصرفه منفردا ، وليس للحاكم ضم آخر اليه ، وتنفيذ الوكالة ان كان الموكل غائبا ، بخلاف الوصاية ، فإنه متى مات أحد الوصيين المجتمعين فان للحاكم نصب آخر يشاركه في تنفيذ الوصايا ، والفرق بين الموضعين أنه لا ولاية للحاكم هنا على الموكل ، بخلاف الوصي فإن النظر في حق الميت واليتيم اليه ، فإذا مات أحد الوصيين صار وجود الأخر كعدمه ، فان الموصى لم يرض برأيه منفردا وحيث كان الحاكم له النظر في أمور الميت واليتيم كان عليه أن ينصب شريكا للوصي في تنفيذ الوصايا.

ومما ذكرنا يعلم بطريق أولى أنه لو غاب أحد الوكيلين المشروط اجتماعهما فليس للحاكم نصب أخر عوضه ، وبذلك صرح في التذكرة أيضا ، وعلله بأن الموكل رشيد جائز التصرف ، ليس للحاكم عليه ولاية ، وأنت خبير ، بأن هذا التعليل إنما يجري في حضور الموكل ، لا في غيبته ، واحتمال جواز ضم الحاكم في صورة الموت والغيبة قائم ، سيما في مقام تطرق الضرر على الموكل ببطلان الوكالة ، وبقاء أموره وما وكل فيه في معرض التلف ، وتطرق الضرر ، والله سبحانه العالم.

الثامنة : قالوا : لو وكل زوجته أو عبده ثم طلق الزوجة وأعتق العبد لم تبطل الوكالة ، أما لو أذن لعبده في التصرف في ماله ثم أعتقه بطل الإذن ، لأنه ليس على حد الوكالة ، بل هو اذن تابع للملك.

أقول : الوجه في الحكم الأول هو عدم مدخليته للزوجية والمملوكية في صحة الوكالة ، فلا منافاة بين الطلاق أو العتق وبينها ، فيستصحب حكمها في الحالين

٧٠

المذكورين ، ويأتي مثل ذلك في العبد لو باعه بعد أن وكله ، وقلنا بصحة وكالته فيما إذا لم يمنع شيئا من حقوق المولى كما هو أحد القولين المتقدمين في المسئلة الثانية من مسائل هذا المطلب ، فتستصحب صحة الوكالة قبل البيع الى دخوله في ملك المشترى في هذه الصورة.

نعم لو منع ذلك شيئا من حقوق المولى أو قلنا بالتوقف على الاذن مطلقا كما هو المشهور اشترط في صحتها اذن المشتري ورضاه بذلك.

وأما الوجه في الحكم الثاني فقد عرفته من قوله لأن الإذن ليس على حد الوكالة ، بل هو اذن تابع للملك ، والظاهر أن مرجع ذلك الى الفرق بين الأذن والوكالة ، والعبد هنا انما تصرف بالاذن من حيث وجوب الخدمة عليه لسيده ، فهو مأذون من حيث أنه خادم فمنشأ التصرف انما هو ذلك ، لا الوكالة فإن الوكالة أمر مستقل.

وبالجملة فإن النظر هنا يرجع الى قصد الموكل لا الى مجرد وقوع اللفظ بالإذن ، فإن كان قصده فيه الوكالة المستقلة كغيره من الوكلاء الأحرار كان ذلك وكالة ، انما هو من حيث وجوب الخدمة عليه كسائر الخدمات التي يؤمر بها ، فليس ذلك وكالة ، بل اذن ، ويترتب على كل منهما ما يلحقه من الأحكام ومن جملة ما يترتب على الأذن هنا هو بطلانه بعد البيع والعتق ، لانه تابع للملك ، وقد زال بكل من السببين المذكورين ، قال في المسالك بعد قول المصنف في الاذن بنحو ما ذكرنا من أنه ليس على حد الوكالة ما لفظه : قد عرفت في أول الوكالة أن صيغتها لا تنحصر في لفظ ، بل تصح بكل ما دل على الأذن في التصرف ، وحينئذ فيشكل الفرق بين توكيل العبد ، والاذن له في التصرف حيث لا تبطل الوكالة بعتقه ، ويبطل الإذن الا أن يستفاد ذلك من القرائن الخارجة الدالة على أن مراده من الأذن انما هو ما دام في رقه ، ومراده من الوكالة كونه مأذونا مطلقا ، وحينئذ فلا فرق بين كون الإذن بصيغة الوكالة وغيرها ، مع احتمال الفرق ، فيزول

٧١

مع الاذن المجرد ، لا مع التوكيل بلفظها ، حملا لكل معنى على لفظه : ويضعف بما مر ، فإن الوكالة ليست أمرا مغايرا للإذن ، بل تتأدى بكل ما دل عليها ، ولا فرق بين الصيغتين ، انتهى.

أقول : لا ريب في صحة ما ذكره من أن الوكالة ليست إلا مجرد الأذن للوكيل فيما وكل عليه على النحو المتقدم ، ويترتب أحكام الوكالة على ذلك ، كما تقدم تحقيقه ، الا أن الكلام هنا بالنسبة إلى أوامر السيد لعبده ، فإنها لما كانت انما تقع غالبا على جهة الاستخدام المطلوب منه ، فالإذن المفهوم من هذه الأوامر ليس على حد الأذن المفهوم من تلك الأوامر الواردة في الأخبار ، مثل قول شخص لآخر بع لي هذا أو اشتر لي كذا ونحو ذلك ، فان المفهوم من الأخبار أن ذلك الاذن هنا وكالة شرعية ، يترتب عليه ما يترتب على الوكالة من الأحكام ، بخلاف أوامر السيد على عبده ، من حيث أن الغالب أن تلك الأوامر انما تقع على جهة الاستخدام ، لأنها وكالة شرعية في كل مقام ، والفرق بين الأمرين أظهر من أن يخفى على ذوي الأفهام ، فحمل بعض أوامر السيد لعبده على الوكالة يحتاج إلى قرينة ظاهرة في قصد الوكالة ليترتب عليها ما يترتب على الوكالة ، والا فهي أعم من ذلك كما لا يخفى ، والله سبحانه العالم.

التاسعة : قالوا لو قال : وكلتك على قبض حقي من فلان لم تكن له مطالبة الورثة بعد موته وقبل قبضه الحق ، ولو قال له : وكلتك على قبض حقي الذي على فلان كان له ذلك ، والفرق بين الصيغتين أن الجار والمجرور في الصورة الأولى وهو قوله من فلان متعلق بلفظ قبض ، ففيه تعيين للمقبوض منه ، وهو المديون ، ولا يتعدي الى الوارث ، فإنه غير المديون.

نعم يتعدى الى وكيل المديون ، فيجوز القبض ، لأن يده كيده ، وهو نائب عنه والفرق بينه وبين الوارث ، ان الملك لم ينتقل الى الوارث بحق النيابة عن المورث وانما انتقل اليه بالملك أصالة بخلاف الوكيل ، فان يده عليه انما هي بطريق النيابة.

٧٢

وأما في الصورة الثانية فإن جملة الصلة والموصول فيها وقعت صفة للحق ، وليس فيه تعيين للمقبوض منه بوجه ، بل الاذن معلق بقبض الحق الذي في ذمة زيد مثلا ، فالوكيل يتبع الحق حيثما كان ، وأينما كان ، قال في التذكرة : لو وكله في قبض دينه من فلان فمات نظر في لفظ الموكل ، فان قال : اقبض حقي من فلان بطلت الوكالة ، ولم يكن له القبض من وارثه ، لأنه لم يؤمر بذلك ، وانما وكله في قبض مبدأه من المديون ، وقد مات وان قال : اقبض حقي الذي على فلان أو الذي في قبل فلان فله مطالبة وارثه ، والقبض منه ، لأن قبضه من الوارث قبض للحق الذي على مورثه ، فإذا قبض من الوارث لم يكن قبضا من فلان ، لا يقال : لو قال اقبض حقي من زيد فوكل زيد إنسانا في الدفع اليه كان له القبض منه فكذا ينبغي أن يقبض من الوارث لأن الوارث نائب الموروث ، كما أن الوكيل نائب الموكل ، لأنا نقول : الوكيل إذا دفع عنه بإذنه جرى مجرى تسليمه ، لأنه أقامه مقام نفسه ، وليس كذلك هنا ، فان الحق انتقل إلى الورثة ، فاستحقت المطالبة عليهم لا بطريق النيابة عن الوارث ، ولهذا لو حلف ان لا يفعل شيئا حيث يفعل وكيله ، ولا يحنث بفعل وارثه ، انتهى.

فان قيل : وصف الحق بكونه من فلان يشعر بحصر القبض فيه ، لأن الصفة إذا زالت بموته لم يكن الحق المتعلق بالوارث موصوفا بكونه في ذمة فلان ، ولا يكون هو الموكل فيه.

فالجواب أن الوصف انما يفيد الاحتراز به عن دين آخر له في ذمة شخص آخر ، ولا اشعار فيه بتخصيص القبض ، ومع فرض أنه لا يكون له دين آخر على غيره فالصفة هنا لمجرد التوضيح ، فيكون كما لو قال : بع عبدي النائم ، أو الآكل أو ما شاكلهما من الأوصاف ، فإن له بيعه وإن انتبه أو ترك الأكل ، كذا حققه في المسالك ، والله سبحانه العالم.

٧٣

المطلب الخامس فيما تثبت به الوكالة :

وفيه مسائل الأولى : قالوا لا يحكم بالوكالة بدعوى الوكيل ولا موافقة الغريم ما لم يقم بذلك بينة وهي شاهدان ، ولا تثبت بشهادة النساء ولا بشاهد وامرأتين ، ولا بشاهد ويمين.

أقول : وتثبت أيضا بإقرار الموكل على نفسه ، ويظهر من التذكرة أن المستند ـ في عدم ثبوتها بشهادة النساء وشهادة رجل وامرأتين أو شاهد ويمين ـ هو الإجماع ، قال : وتثبت الوكالة بإقرار الموكل على نفسه أنه وكله ، وبشهادة عدلين ذكرين ، ولا تثبت بشهادة رجل وامرأتين ، ولا بشهادة رجل ويمين عند علمائنا أجمع.

وظاهر كلام المحقق هنا حيث نسب الحكم بذلك إلى قول مشهور التوقف ، فان مرمى هذه العبارة ذلك ، وقال في المسالك بعد نقل عبارة المصنف المشعرة بما ذكرنا هذا هو المذهب ، ولا نعلم فيه مخالفا ، ولأن متعلق الشاهد واليمين والشاهد والمرأتين الحقوق المالية ، والغرض من الوكالة الولاية على التصرف ، والمال قد يترتب عليها ، ولكنه غير مقصود بالذات هيهنا ويشكل الحكم فيما لو اشتملت الدعوى على الجهتين ، كما لو ادعى شخص على آخر وكالة بجعل ، وأقام شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه ، والظاهر أنه يثبت المال ، لا الوكالة ، ولا يقدح في ذلك تبعض الشهادة ، ومثله ما لو أقام ذلك بالسرقة ، فإنه يثبت المال لا القطع ، ولان المقصود بالذات هنا هو المال لا الولاية نعم لو كان ذلك قبل العمل اتجه عدم الثبوت ، لأن إنكار الوكالة أبطلها ، والمال لم يثبت بعد ، ويمكن أن يكون نسبة المصنف القول إلى الشهرة حينئذ المشعر بتوقفه فيه ، لأجل ذلك ، فيكون التوقف في عموم الحكم لا في أصله ، انتهى.

ويمكن تطرق النظر والاشكال إلى بعض مواضع هذا المقال ، منها ما استظهره

٧٤

من ثبوت المال دون الوكالة فيما لو ادعى الوكيل الجعالة عليها وأقام شاهدا وحلف معه ، أو ضم إليه امرأتين ، فإن فيه أنه لا ريب أن الجعالة فرع على الوكالة ، تابعة لها كما هو المدعى ، فكيف يثبت الفرع مع عدم ثبوت الأصل ، والتابع مع عدم وجود المتبوع ، بل هذا مما تنكره بديهة العقول.

ومنها قوله في السرقة أنه يثبت بذلك المال لا القطع ، يعنى لو أقام شاهدا وامرأتين أو شاهدا مع اليمين على أن زيدا سرق يثبت المال المسروق ، ولم يثبت القطع على السارق ، مع أن هذين أعنى ثبوت المال والقطع معلولا علة واحدة ، وهي السرقة فإن ثبتت ثبتتا ، وإلا فلا ، فكيف يثبت بالبينة المذكورة أحدهما دون الآخر.

وبذلك يظهر بقاء الإشكال الذي ذكره لما عرفت من ضعف ما استظهره فإنه لا ينطبق على القواعد والأصول بل هو مما تنكره بديهة العقول.

ومنها جملة عبارة المصنف المشعرة بتوقفه على هذه الصورة الخاصة ، وهي إنكار الموكل الوكالة قبل عمل الوكيل ، فإنه بعيد غاية البعد ، أما أولا فلأنها صورة نادرة ، لا يحسن أن يحمل عليها الإطلاق ، واما ثانيا ، فإنه متى كان الإنكار في الصورة المذكورة من مبطلات الوكالة ، فلا معنى لفرض المسئلة بإقامة الشهادة واليمين معه ، أو ضم المرأتين ، فإنه إقامة بينة على أمر قد حصل بطلانه ، بل لا يحسن فرضه ، والتمثل به بالكلية كما لا يخفى على ذوي الذوق السليم.

وكيف كان فإنه لا مندوحة عن الحمل على ذلك وان بعد ، لاتفاق الأصحاب المعتضد بالأخبار الدالة على اختصاص الثبوت بهذين الأمرين بالمال ، والوكالة ليست مالا ، وإنما هي ولاية كما عرفت.

بقي الكلام هنا في شيئين أحدهما ما قدمنا نقله عنهم من قولهم أنه لا يحكم بالوكالة بدعوى الوكيل ولا بموافقة الغريم ما لم يقم بينة ، ينبغي تخصيصه بحصول المنازع في الوكالة ، بأن ينكرها الموكل ، والا فإن الظاهر أنه لو ادعاها ولا منازع له فإنه يصح تصرفه ، والشراء منه ، لأن هذا أحد أفراد القاعدة الكلية ، وهي من ادعى

٧٥

ولا منازع له فإنه يسمع دعواه ، وعلى هذا عمل كافة الناس في ارسالهم الوكلاء بأموالهم إلى البلدان البعيدة التي يتعذر فيها إقامة البينة على الوكالة ، ويبيعون ويشترى الناس منهم من غير نكير ولا توقف. وكان الأئمة عليهم‌السلام يفعلون كذلك يرسلون الوكلاء للتجارة لهم في مصر ونحوها فلو لم يقبل دعوى الوكيل الوكالة في ذلك لزم الحرج الشديد ، والضيق ، ويؤيده قبول قول المرأة في الخروج من العدة ، وموت الزوج (١) وأنها حللت نفسها بتزويج محلل ، ثم طلاقه لها ، وخبر الكيس (٢) ، الذي بين أولئك الجالسين فقال أحدهم لمن هذا الكيس الدراهم أو الدنانير؟ فقال : أحدهم هو لي فقال عليه‌السلام هو له وبالجملة فالظاهر أن الحكم المذكور لا اشكال فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد أشبعنا الكلام في تحقيق هذه القاعدة في كتاب الزكاة في مسئلة ما لو ادعى الفقير الفقر هل يسمع دعواه أم لا؟ ثم ان ظاهر كلامهم أنه في صورة التوقف بالإثبات على الشاهدين ، لا بد من ضم حكم الحاكم بذلك في باب الوكالة وغيرها ، الا ما استثني من رؤية الهلال ، فإنه يكفي فيه مجرد السماع عن الشاهدين ، كما هو ظاهر جملة من أخبار تلك المسئلة ، وقد تقدم تحقيقه في كتاب الصيام.

قال في التذكرة : ولو قال يعنى الوكيل الذي شهد عدلان على وكالته ما أعلم صدق الشاهدين لم تثبت وكالته ، لقدحه في شهادتهما على اشكال ، أقربه ذلك ، ان طعن في الشهود ، والا فلا ، لأن الاعتبار بالسماع عند الحاكم ، وجهله بالعدالة مع علم الحاكم بها بنفسه أو بالتزكية لا يضر في ثبوت حقه ، انتهى.

وربما أشعر هذا الكلام بأنه مع معرفته عدالتهما ، فإنه لا يحتاج إلى ضم حكم الحاكم ، وكيف كان فهذا الفرض المذكور إنما يكون في غير صورة النزاع بإنكار الموكل الوكالة وادعاء الوكيل لها ، وقد عرفت أنه لا تتوقف الوكالة

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٦٢ باب أنها مصدقة على نفسها ح ١ و ٢ ، الوسائل ج ١٤ ص ٤٥٦ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٩٢ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٠٠ ح ١.

٧٦

هنا على البينة بل يقبل مجرد دعوى الوكيل لها من غير راد لدعواه ، ولا منازع.

وثانيهما أن الظاهر من كلامهم عدم ثبوتها بالاستفاضة حيث خصوا الثبوت بالإقرار والعدلين ، ويحتمل أن يكون الحصر إضافيا بالنسبة إلى رجل وامرأتين أو رجل ويمين ، ونحوهما من شهادة النساء ، وشهادة رجل وحده ، فلا ينحصر في الأمرين المذكورين ويؤيده أنهم جمعوا بين العدلين ، والاستفاضة في مواضع.

والظاهر عدم الفرق بين هذه المواضع ، الا أن الظاهر الوقوف على ما ثبت بالدليل ، فإن الأحكام الشرعية صحة وبطلانا وجوازا وتحريما يدور مدار الأدلة الشرعية ، وقد ثبت هنا ثبوته بالإقرار ، للأدلة الدالة على (١) «أن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». والعدلين للروايات الدالة على الثبوت بهما في جميع أبواب الدعاوي فغيرهما يتوقف على الدليل.

وما ربما يتوهم من كون الاستفاضة ربما كانت أقوى من الشاهدين مدفوع بأن العمل بالشاهدين ليس من حيث افادة الظن ، وحصول الظن بهما ، كما قيل فإذا حصل ما هو أقوى منه ثبت به بطريق الأولوية بل إنما ذلك من حيث كونه تعبدا محضا فإنه كثيرا ما يحصل الظن الأقوى منهما بغيرهما من الأسباب ، ومع ذلك فلا يجوز الحكم به ، ولهذا ان بعض الأصحاب جعل شهادة الشاهدين إنما هي من قبيل الأسباب الموجبة للحكم على الحاكم الشرعي لا من حيث افادة الظن ، والله سبحانه العالم.

الثانية : المشهور في عبارات الأصحاب وكذا غيرهم أن شاهدي الوكالة إذا اختلفا في تاريخ ما شهدا به لم تثبت الوكالة ، وكذا لو اختلفا في اللغة عربية وفارسية ، وكذا في العبارة بأن يقول : أحدهما بلفظ وكلتك ، ويقول الآخر : بلفظ استنبتك ، بل لا بد من اتفاقهما في كل من هذه الأمور المذكورة ، أما لو كانت

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٢٣٥ ح ٧٩ و ٨٠ ، الكافي ج ٧ ص ٢١٩ باب ما يجب على من أقر على نفسه بحد ومن لا يجب عليه الحد ، الوسائل ج ١٦ ص ١٣٣ ح ٢ الباب ٣ من أبواب الإقرار.

٧٧

الشهادة على الإقرار بها فإنها لا يضر ذلك.

قال في التذكرة : من شرط قبول الشهادة اتفاق الشاهدين على الفعل الواحد ، فلو شهد أحدهما أنه وكله يوم الجمعة ، وشهد الآخر أنه وكله يوم السبت لم تثبت البينة ، لأن التوكيل يوم الجمعة غير التوكيل يوم السبت ، فلم تكمل شهادتهما على فعل واحد ، ولو شهد أحدهما أنه أقر بتوكيله يوم الجمعة وشهد أنه أقر يوم السبت ، تثبتت الشهادة ، لأن الإقرارين اخبار عن عقد واحد ، ويشق جمع الشهود على إقرار واحد ليقر عندهم في حالة واحدة ، فجوز له الإقرار عند كل واحد وحده رخصة للمقر ، وكذا لو شهد أحدهما أنه أقر عنده بالوكالة بالعربية ، وشهد الآخر أنه أقر بها بالعجمية تثبتت الوكالة ، ولو شهد أحدهما أنه وكله بالعربية ، وشهد الآخر أنه وكله بالعجمية لم تثبت ، لأن الإنشاء هنا متعدد ولم يشهد بأحدهما شاهدان ، وكذا لو شهد أحدهما أنه قال : وكلتك ، وشهد الآخر أنه قال : أذنت لك في التصرف ، أو قال : جعلتك وكيلا أو شهد أنه قال جعلتك جريا أي وكيلا لم يتم الشهادة ، لاختلاف اللفظ ، ولو شهد أحدهما أنه وكله ، وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف ، ثبتت الشهادة لأنهما لم يحكيا لفظ الموكل ، وانما عبرا عنه بلفظهما واختلاف لفظهما لا يؤثر إذا اتفق معناه ، انتهى وعلى هذا النهج كلامه في سائر كتبه وغيره.

الا أن ظاهر كلام الشرائع هو صحة الشهادة في صورة الاختلاف في الوكالة كما في الإقرار وظاهره عدم الفرق بين الوكالة والإقرار في صحة الشهادة حيث قال : ولو شهد أحدهما بالوكالة في تاريخ ، والآخر في تاريخ آخر ، قبلت شهادتهما نظرا إلى العبارة في الإشهاد ، إذ جمع الشهود لذلك في الموضع الواحد قد يعسر ، وكذا لو شهد أحدهما أنه وكله بالعجمية ، والآخر بالعربية ، لأن ذلك يكون إشارة إلى المعنى الواحد ، ولو اختلفا في لفظ العقد بأن يشهد أحدهما أن الموكل قال : وكلتك ، ويشهد الآخر أنه قال : استنبتك لم تقبل ، لأنها شهادة على عقدين

٧٨

إذ صيغة كل واحد منهما مخالفة للأخرى ، وفيه تردد ، إذ مرجعه إلى أنهما شهدا في وقتين ، أما لو عدلا من حكاية لفظ الموكل واقتصرا على إيراد المعنى جاز ، وان اختلفت عبارتهما ، انتهى.

أقول : الظاهر أن القول الأول هو الأنسب بالقواعد والأصول ، والأقرب عند التأمل في هذه النقول ، لما تقدم في كلام التذكرة ، وتوضيحه أن الصيغة الواقعة في أحد اليومين غير الواقعة في اليوم الآخر ، وكل واحدة من الصيغتين المذكورتين لم يقم عليها شاهدان ، بل شاهد واحد ، وقول المحقق هنا في تعليل ما ادعاه من الصحة ، نظرا إلى العادة في الإشهاد الى آخره لا معنى له ، الا أن يحمل الاشهاد في اليوم الثاني على الإقرار ، لا على التوكيل ، وهو خارج عن محل البحث والمدعى ، لأن الصيغة متى حصلت في اليوم الأول فقد تم العقد بها ، وما تأخر انما يكون إقرارا واعترافا بها ، والمدعى انما هو الشهادة على الوكالة وانها هل تثبت مع اختلاف التاريخ أم لا؟ لا الإقرار ، فيكون كلامه خروجا عن محل البحث ان حمل على إرادة الإقرار ، والا فهو لا معنى له بالكلية لما عرفت ، والفرق بين الشهادة على التوكيل والشهادة على الإقرار في أنه تصح الشهادة في الثاني مع الاختلاف في التاريخ ونحوه مما تقدم ، دون الأول ، أن الوكالة إنشاء لا خارج له يقصد مطابقته ، والإقرار له خارج نفس أمري يقصد بالأخبار مطابقته ، ولا يلزم من تعدد الخبر تعدد الخارج ، فإن الإنسان يفعل فعلا ، ويخبر بذلك الفعل مرارا متعددة في أوقات متعددة بألفاظ مختلفة أو متحدة ، والأمر الخارج لا دخل له في ذلك ، ولا يتعلق به تعدد ، ولا اختلاف بتعدد الاخبار واختلافه. بخلاف الوكالة التي هي إنشاء لا واقع له يقصد مطابقته ، فان تعدد زمانه ومكانه واختلاف صيغته توجب اختلافه ، ومع هذا الاختلاف فإنه لم يقم البينة الشرعية ، وهي العدلان على فرد من هذه الأفراد المختلفة ، بل انما قام بها شاهد واحد ، كما هو المفروض ، ومن أجل ذلك يثبت الإقرار مع الاختلاف دون الوكالة.

٧٩

وأما قول المحقق الأردبيلي انتصارا لما ذكره المحقق هنا حيث قال بعد كلام في المقام : أيضا لم نجد لهم دليلا على عدم اعتبار اتحاد الشاهد للقبول على كل عقد من العقل والنقل ، بل نجده مجرد الدعوى ، فلم لا يجوز الاكتفاء بشاهد واحد في كل عقد إذا كان مما يقبل التعدد ، ولا يضره ، فإنه من الجائز أن يقول عند شاهد عدل يوم الجمعة وكلتك ، وفي يوم السبت عند آخر (وكيل كردم شما را) ، لغرض من الأغراض مثل الاشهاد كما في الإقرار الى آخره ، ففيه أنه لا ريب أنه بالتوكيل في يوم الجمعة قد حصلت الوكالة الشرعية المترتب عليها أحكامها المقررة ، وهذا التوكيل الثاني في يوم السبت ان قصد به التوكيل ، والإنشاء كما هو المفهوم من كلامه فهو لا يخرجه عن اللغو في القول ، لما عرفت من ثبوت التوكيل وحصوله ، وترتب أحكام التوكيل عليه بلا خلاف ، وان أريد الإقرار والاعتراف تم ما ذكره ولكنه خلاف ما أراده ، وبذلك يظهر لك ما في قوله ، فلم لا يجوز الاكتفاء بشاهد واحد في كل عقد إذا كان مما يقبل التعدد ، فاني لا أعرف لقبول عقد الوكالة هنا التعدد دون غيره من العقود وجها ، فإنه ان ثبت الوكالة بما يترتب عليها بالعقد الأول ، فلا معنى لهذا التعدد ، والا فلا تورد ، بل الثاني في الحقيقة إنما يرجع الى الإقرار والاعتراف كما هو ظاهر لمن تأمل بعين الإنصاف.

أقول : ومما يمكن أن يؤيد به القول المشهور ما هو المفهوم من جملة من قضايا أمير المؤمنين عليه‌السلام في تفريق الشهود متى حصلت الريبة في شهادتهم من الأخذ بالمشخصات الزمانية والمكانية والقولية ونحو ذلك ، وانه متى اختلفت الشهود في ذلك أبطل شهادتهم ونقل عليه‌السلام مثله عن داود ودانيال عليهما‌السلام والأخبار المشار إليها مشهورة (١) ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : لو ادعى الوكالة عن غائب في قبض ماله ، وكان لذلك الغائب مال عند أحد فإن كان ثمة بينة على الوكالة وجب تسليم ذلك اليه ، وان لم تكن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ٢٠٢ ح ١.

٨٠