الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

أقول : لا يخفى أن سياق الرواية المذكورة ظاهر في أن اعتراف الرجل بذلك المال لذلك الشخص الذي سماه ، ليس له أصل بالكلية ، ولهذا ان الرجل المسمى لم يقبض المال ، ولم يأمر فيه بأمر ، بل تعجب من ذلك ، ولم يدر ما الذي حمل ذلك الرجل على الاعتراف له ، مع أنه لا يستحق في ذمته مالا بالكلية ، وحينئذ فقرينة التهمة في هذا الاعتراف ظاهرة ، فيجب بمقتضى ما تقدم أن يكون مخرجه من الثلث خاصة ، وظاهره أن المال باق في يد الأمين ، وحينئذ فيجب أن يحمل جوابه عليه‌السلام «بأن ذلك له يضعه حيث يشاء» اما على عدم وجود وارث لذلك الرجل المقر ، فان من لا وارث له ، له أن يوصى به كملا إلى من نشاء ، أو يعترف به كما هو أصح القولين في المسئلة ، أو على أن ذلك المال يخرج من الثلث ، أو أن الغرض من الجواب بيان صحة الانتقال والتملك بمجرد هذا الاعتراف مع قطع النظر عن هذه المسئلة بالكلية.

وكيف كان فالخبر غير خال من شوب الاشكال ، لما فيه من الإجمال.

ومنها رواية أبي بصير (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل معه مال مضاربة فمات وعليه دين ، وأوصى أن هذا الذي ترك لأهل المضاربة أيجوز ذلك؟ قال : نعم إذا كان مصدقا».

أقول : هذا الخبر مما ينتظم في سلك أخبار القول الثاني ، والتعبير بقوله «مصدقا» مثل قوله في تلك الاخبار «مرضيا ومأمونا».

ومنها رواية السكوني (٢) «عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أنه كان يرد النحلة في الوصية ، وما أقر عند موته بلا ثبت ولا بينة رده».

أقول : الظاهر أن المراد من قوله «يرد النحلة في الوصية» بمعنى يجعلها داخلة في الوصية ومن قبيلها ، فيكون الجار والمجرور متعلقا بيرد ، وأما احتمال

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ١٦٧ ح ٦٧٩ وص ١٦١ ح ٦٦٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٠ ح ١٤ و ١٢.

٦٢١

تعلقه بالنحلة فإنه يقتضي رد النحلة مطلقا ، وهو مخالف لظاهر الأخبار المتقدمة ، وغيرها ، والمراد بقوله «وما أقر به عند موته» الى آخر ما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار من الحمل على ما إذا كان غير مرضي بل متهما على الورثة فيكون معنى رده يعنى من الأصل وأن اخرج من الثلث ، وظاهر الخبر رده مطلقا ، إلا أنه لما كان مخالفا لما تقدم من الأخبار ، فالواجب حمله على ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه).

ومنها رواية محمد بن عبد الجبار (١) قال : «كتبت الى العسكري عليه‌السلام : امرأة أوصت الى رجل وأقرت له بدين ثمانية آلاف درهم ، وكذلك ما كان لها من متاع البيت من صوف وشعر وشبه وصفر ونحاس ، وكل مالها أقرت به للموصى اليه ، وأشهدت على وصيتها وأوصت أنه يحج عنها من هذه التركة حجتان ، ويعطى مولاه لها أربعمائة درهم وماتت المرأة ، وتركت زوجا ولم ندر كيف الخروج من هذا ، واشتبه علينا الأمر ، وذكر الكاتب أن المرأة استشارته فسألته أن يكتب لها ما يصح لهذا الوصي فقال : لا تصح تركتك لهذا الوصي إلا بإقرارك له بدين يحيط بتركتك بشهادة الشهود ، وتأمريه بعد أن ينفذ ما توصيه به ، فكتب له بالوصية على هذا ، وأقرت للوصي بهذا الدين ، فرأيك أدام الله عزك في مسئلة الفقهاء قبلك عن هذا ، وتعرفنا ذلك لنعمل به ان شاء الله؟ فكتب عليه‌السلام بخطه : ان كان الدين صحيحا معروفا مفهوما فيخرج الدين من رأس المال ان شاء الله وان لم يكن الدين حقا أنفذ لها ما أوصت به من ثلثها كفى أو لم يكف».

أقول : لما كان ظاهر سياق هذه الحكاية أن المرأة المشار إليها قاصدة بهذا الإقرار حرمان الوارث لم يرتب الحكم فيها على عدالة المقر ، وكونه مرضيا ، لأن المعلوم من السياق خلافه بل رتبه على ثبوت الدين ومعلومية صحته ، وهو

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٦١ ح ٦٦٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٩ ح ١٠.

٦٢٢

نظير ما تقدم في رواية السكوني من قوله عليه‌السلام «بلا ثبت ولا بينة رده» بناء على ما ذيلنا به من التأويل بأنه إذا كان متهما احتيج إلى إخراجه من الأصل إلى البينة الموجبة لثبوته ، وإلا فمن الثلث.

وأما قوله في الخبر المذكور «فرأيك أدام الله عزك في مسئلة الفقهاء قبلك» فإنه لا يخلو من غموض ، قال المحدث الكاشاني في الوافي : ما رأيك أو أعلمنا رأيك في سؤالنا الفقهاء الذين يكونون عندك من شيعتك عن هذا ، وفي تعرفنا ذلك منهم ، إذ ليس لنا إليك وصول ، وكان غرضه الاستئذان في مطلق سؤالهم من المسائل ، انتهى.

أقول : الظاهر أنه لا يخلو من بعد ، وقال : شيخنا المجلسي في حواشيه على كتب الأخبار لعل المراد بالفقهاء الأئمة عليهم‌السلام أي نطلب رأيك أو نتبعه ، أو ان رأيت المصلحة في أن تعرفنا ما أجاب به الأئمة المتقدمة عليك عند سؤالهم عن هذه المسئلة ، فعلى الأخير يكون وتعرفنا معطوفا على مسئلة ، تفسيرا لها ، ويحتمل أن يكون المراد السؤال عن فقهاء أهل البلد ، وتعريف الجواب بأن يقرأ قبلك بكسر القاف وفتح الباء ، وعلى التقديرين يكون هذا النوع من الكلام الغير المعهود من أصحابهم للتقية ، وعلى الثاني لنهاية التقية ويمكن أن يكون المراد ما رأيك في مسئلة سألنا الفقهاء قبل أن نسئلك فيها يعنى فقهاء بلد السائل ، انتهى.

أقول : والذي يظهر لي من العبارة المذكورة أن المراد انما هو عرفنا رأيك في هذه المسئلة التي سئل الفقهاء قبلك لنعمل بما تعرفنا دون ما قالوا أولئك الفقهاء فيها ، وحينئذ يكون المراد بالفقهاء فقهاء العامة.

ومنها رواية مسعدة بن صدقة (١) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام لا وصية لوارث ولا إقرار بدين». يعني إذا أقر المريض لأحد من

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٦٢ ح ٦٦٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٠ ح ١٣.

٦٢٣

الورثة بدين فليس له ذلك ، وحمله الشيخ في التهذيبين تارة على التقية وأخرى على المتهم ، وما زاد على الثلث.

أقول : ما تضمنه من النهي عن الوصية للوارث فلا ريب في حمله على التقية ، لأن ذلك مذهب الجمهور ، وأخبارنا المعتضدة باتفاق أصحابنا دالة على الجواز كما تقدم تحقيقه في المسئلة المذكورة من المقصد الأول ، وأما المنع من الإقرار بالدين فهو يتعين الحمل على أحد الحملين ، والله العالم.

المسئلة الثالثة : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن من مات ولا وارث له ، هل له أن يوصي بجميع ماله الى من شاء أم لا؟ فذهب الشيخ في الخلاف وابن إدريس والعلامة في المختلف الى الثاني ، وذهب ابن الجنيد والصدوق في المقنع وهو ظاهر الشيخ في كتابي الأخبار الى الأول ، وهو ظاهر المحدثين المحسن الكاشاني في الوافي والحر العاملي في الوسائل ، وهو المختار.

وقال في المختلف : قال الشيخ في الخلاف : من ليس له وارث قريب أو بعيد ، ولا مولى نعمة لا يصح أن يوصي بأكثر من الثلث ، وذهب أبو حنيفة وأصحابه وشريك ، الى أن له أن يوصي بجميع ماله ، وروي ذلك في أحاديثنا ، ثم استدل بصحة الوصية بالثلث إجماعا ولا دليل على الزائد ، وروى معاذ بن جبل (١) «عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه قال : ان الله تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم». ولم يفرق بين أن يكون له وارث أم لا ، وقال ابن إدريس أيضا : لا يصح الا في الثلث ، وقال ابن الجنيد : روى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام (٢) أنه قال : «ومن أوصى بالثلث فقد بلغ المدى». يعنى بذلك إذا كان له ورثة ومن تجاوز ذلك الى الثلث لم يجز إلا أن تشاء الورثة ، فأما من لا وارث له فجائز أن يوصى بجميعه لمن شاء ، وفيما شاء مما أبيح الوصية فيه ،

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٩ الباب ٩ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٩٢ ح ٧٧٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٠ ح ١.

٦٢٤

وقال الصدوق في المقنع : إذا مات الرجل ولا وارث له ولا عصبة قال : يوصي بماله حيث شاء في المسلمين والمساكين ، والمعتمد الأول ، لما تقدم ، واحتج الآخرون بما روى السكوني (١) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنه سئل عن الرجل يموت ولا وارث له ولا عصبة ، قال : يوصى بماله حيث شاء في المسلمين والمساكين وابن السبيل.

وقد روى الشيخ والصدوق معا عن عمار بن موسى (٢) «عن الصادق عليه‌السلام قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ان أوصى به كله فهو جائز له». وتأولاه بأنه إذا لم يكن وارث قريب أن بعيد ، فيوصي به كله ، واستدلا بما سبق من حديث السكوني ، والوجه ترك هذه الرواية لضعفها ، انتهى كلامه في المختلف.

أقول : العجب من الشيخ (قدس‌سره) أنه استدل على ما ذهب إليه في الخلاف من عدم صحة الوصية في الصورة المذكورة بأن الوصية بالثلث مجمع عليه ، وما زاد لا دليل عليه مع أنه بعد أن نقل عن أبي حنيفة أن له أن يوصي بجميع ماله قال : وروى ذلك في أحاديثنا ، وحينئذ فإذا اعترف برواية ذلك في أحاديثنا كيف يتم له قوله «والوصية بما زاد على الثلث لا دليل عليه» والدليل موجود باعترافه ، إلا أن يبين وجه قدح فيه يوجب عدم العمل به ، ومع ذلك يستند الى هذه الرواية العامية ، ويطرد هذه الرواية التي اعترف بها.

وأعجب من ذلك قول العلامة بعد ذلك ، والمعتمد الأول ، بما تقدم ، وأشار بالأول إلى مذهب الشيخ في الخلاف ، وأشار بما تقدم الى الاستدلال الشيخ مع ما عرفت فيه من القصور الظاهر لكل ناظر.

نعم يمكن أن يستدل لما ذهب اليه الشيخ في الخلاف ومن تبعه بإطلاق بعض الروايات الدالة (٣) على أنه متى أوصى بما زاد على الثلث وجب رده الى

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٨٨ ح ٧٥٤.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٨٧ ح ٧٥٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٠ ح ٥٢٠.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٩٢ ح ٧٧٣.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٠ ح ١ وص ٣٨٢ ح ٥ وص ٣٥٨ الباب ٨ ح ١.

٦٢٥

الثلث وبطلت الوصية بالزائد ، بإطلاقها دالة على وجوب الرد الى الثلث ، وجد وارث ثمة أم لم يوجد ، إلا أن فيه أن أكثر الأخبار قد تضمنت وجود الوارث في البين ، ففي جملة منها أنه تمضى الوصية في الثلث ، وترد الباقي على الورثة ، وفي جملة إلا أن تجيز الورثة ، وحينئذ فيحمل إطلاق تلك الأخبار على هذه.

ومما يعضد رواية السكوني موثقة عمار المتقدمة في كلام العلامة الدالة على أنه ان أوصى بماله كله فهو جائز ، بحملها على عدم الوارث ، إذ لا جائز أن يعمل بها على ظاهرها فيلزم طرحها ، والعمل بالخبر مهما أمكن أولى من طرحه ، كما صرحوا به في غير موضع ، والعلامة في المختلف انما تمسك في ردها بضعف السند ، بناء على هذا الاصطلاح الغير الصحيح ولا المعتمد ، ومن لا يعمل به لا يصح عنده رد الخبر بغير معارض.

فان قيل : أخبار كون (١) «الامام وارث من لا وارث له». تعارض هذه الرواية ، قلنا : ما ذكرت من الأخبار مطلق أو عام ، وهذه الرواية خاصة أو مقيدة فالقاعدة تقتضي تقديم العمل بهذه الرواية وتخصيص تلك الأخبار أو تقييدها بها.

على أنه مما يعضد هذه الرواية ما رواه الشيخ في الصحيح عن احمد بن محمد بن عيسى (٢) قال : «كتب اليه محمد بن إسحاق المتطيب : وبعد أطال الله بقاك نعلمك يا سيدنا انا في شبهة من هذه الوصية التي أوصى بها محمد بن يحيى درياب ، وذلك أن موالي سيدنا وعبيده الصالحين ذكروا أنه ليس للميت أن يوصي إذا كان له ولد بأكثر من ثلث ماله ، وقد أوصى محمد بن يحيى بأكثر من النصف مما خلف من تركته ، فان رأى سيدنا ومولانا أطال الله بقاءه أن يفتح غياب هذه الظلمة التي شكونا ويفسر ذلك لنا نعمل عليه ان شاء الله تعالى فأجاب عليه‌السلام : ان كان أوصى بها من قبل أن يكون له ولد فجائز وصيته وذلك أن ولده ولد من بعده».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ٣٨٦ الباب ٤٤ وص ١٩٧ ح ٧٨٩ ، الوسائل ج ١٧ ص ٥٤٧ الباب ٣ وج ١٣ ص ٣٧٠ ح ٢.

٦٢٦

وظاهر الخبر المذكور أنه لو أوصى بأكثر من الثلث ولو بالمال كله قبل وجود الوارث ، ثم تجدد له وارث ، ولم يعدل الموصي عن الوصية الى أن مات ، فإنه يجب العمل بتلك الوصية ، ويحرم الوارث من المال الموصى به ، وهو حكم غريب وفرع عجيب لم أقف على من نبه عليه ، ولا تنبه اليه.

وربما يقال : ان أدلة الإرث كتابا وسنة يقتضي وجوب رد ما زاد على الثلث الى الوارث ، إلا أنه يمكن القدح فيه ، بأن تلك الأدلة مطلقة ، وهذا الخبر خاص بصورة الوصية بالمال وتقدمها على وجود الوارث ، والقاعدة تقتضي تقديم العمل به ، سيما مع صحة الخبر باصطلاحهم ، وكيف كان فالخبر المذكور ظاهر فيما دلت عليه رواية السكوني من صحة الوصية بالمال كله مع عدم وجود الوارث ، فالقول بذلك متعين. وفاقا لما قدمنا ذكره عن أصحابنا.

وقال في الدروس بعد ذكر استحباب إقلال الوصية : وأن الخمس أفضل من الربع ، والربع أفضل من الثلث : وقال علي بن بابويه : إذا أوصى بماله كله فهو أعلم ، ويلزم الوصي إنفاذه لرواية عمار (١) «ان أوصى به كله فهو جائز له ، وحملها الشيخ على من لا وارث له ، فجوز الوصية بجميع المال لمن لا وارث له ، وهو فتوى الصدوق وابن الجنيد لرواية السكوني ، ومنع الشيخ في الخلاف من الزيادة على الثلث مطلقا ، وهو مختار ابن إدريس والفاضل ، انتهى.

أقول : ظاهر كلام شيخنا المذكور هو التوقف في المسئلة حيث اقتصر على نقل الخلاف الذي فيها ، ولم يرجح شيئا من القولين ، ولا طعن في أحد الجانبين وأما ما نقله عن الشيخ علي بن بابويه فقد تقدم الكلام فيه ، وبينا أن مستنده في ما ذكره من الحكم المذكور انما هو كتاب الفقه الرضوي ، فإن عبارته هنا عين عبارة الكتاب كما أوضحناه في جملة من الأبواب ، ولكنهم خفي عليهم ذلك استدلوا له بهذه الرواية ، والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٨٧ ح ٧٥٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٢ ح ٥.

٦٢٧

المسئلة الرابعة : قال الشيخ في النهاية : إذا قال الموصي لوصيه اقض عني ديني ، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث فان تمكن من قضائه ولم يقض وهلك المال كان ضامنا له ، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل ، وان كان قد عزل من أصل المال ولم يتمكن من إعطائه أصحاب الديون وهلك من غير تفريط من جهته كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بالدين من الذي أخذوه ، وتبعه ابن البراج ، وبهذه العبارة قال ابن إدريس ، إلا أنه زاد في عبارة الشيخ ، فقال في كتابه : وإذا قال الموصي لوصيه اقض عني ديني ، وجب عليه أن يبدأ به قبل الميراث ، فان تمكن من قضائه ولم يقضه وهلك المال كان ضامنا له ، وليس على الورثة لصاحب الدين سبيل ان كان قد صار إليهم من التركة حقهم ، فان كان قد عزله الوصي من أصل المال ، وقسم الباقي بينهم ، ولم يتمكن من إعطائه أصحاب الديون وهلك من غير تفريط من جهته ، كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بالدين من الذي صار إليهم وأخذوه واقتسموه ، انتهى.

والعلامة في المختلف قد استدرك عليه الزيادة الأولى ، واعترضه فيها ، فقال بعد نقل ذلك : والمعتمد أن نقول في الفرض الأول إذا كان قد بقي من المال شي‌ء وأخذه الورثة سواء كان حقهم ، أو أزيد ، أو أنقص ، كان لصاحب الدين مطالبة الورثة بأقل الأمرين من حقه ومما صار إليهم ، ثم يرجع الورثة على الوصي بتفريطه لعدم انحصار حق صاحب المال فيما تلف ، وان حمل المال في قول الشيخ وهلك المال بأن هلك جميعه قبل أن يصل الى الوارث منه شي‌ء استقام الحكم وانتظم ، والظاهر أن مراد الشيخ وابن البراج ذلك ، ولكن ابن إدريس لقلة تفطنه زاد ما أفسد به الكلام من حيث لا يشعر ، انتهى.

أقول : وهذه المناقشات بعد ظهور المعنى بقرائن الحال والمقال من ابن إدريس للشيخ ، ومن العلامة لابن إدريس مما يستغنى عنه ، فان من الظاهر أن الورثة ما لم يصل إليهم شي‌ء من التركة ، لا يتعلق بهم حق من الديون بالكلية ،

٦٢٨

ومع وصول شي‌ء لهم لا يتعلق بهم ولا يجب عليهم وفاء ما زاد عنه ، ومع هلاك التركة في يد الوصي بتفريطه يلزمه الضمان ، ولا رجوع على الورثة بشي‌ء ، لأنه لم يصل إليهم منها شي‌ء ، وهذه أحكام معلومة متفق عليها بينهم.

ثم أن الذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسئلة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في رجل توفي فأوصى الى رجل وعلى الرجل المتوفى دين فعمد الذي أوصى اليه فعزل الذي للغرماء فرفعه في بيته وقسم الذي بقي بين الورثة ، فسرق الذي للغرماء من الليل ممن يؤخذ؟ قال : هو ضامن حين عزله في بيته يؤدى من ماله».

وعن أبان (٢) عن رجل قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى الى رجل أن عليه دينا؟ فقال : يقضى الرجل بما عليه من دينه ، ويقسم ما بقي بين الورثة ، قلت : فسرق ما أوصى به من الدين ، ممن يؤخذ الدين أمن الورثة أم من الوصي؟ فقال : لا يؤخذ من الورثة ، ولكن الوصي ضامن لها».

قال في التهذيبين : انما يكون الوصي ضامنا للمال إذا تمكن من إيصاله إلى المستحق فلم يفعل ، انتهى وهو جيد ، فان الضمان انما يلزم مع التفريط ، والتفريط ليس إلا مع إمكان الدفع الى صاحبه ، والإخلال بذلك كما تكاثرت به الأخبار في جملة من الأحكام.

والذي يكشف عن ذلك ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن محمد بن مسلم (٣) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل بعث زكاة ماله ليقسم فضاعت ، هل عليه ضمانها حتى تقسم؟ فقال : إذا وجد لها موضعا فلم يدفعها فهو لها ضامن ، الى أن قال : وكذلك الوصي الذي يوصى اليه يكون ضامنا لما دفع

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ١٦٨ ح ٦٨٥ و ٦٨٤.

(٣) الكافي ج ٣ ص ٥٥٣ ح ١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٤١٧ ح ٢ وص ٤١٨ ح ٤ وج ٦ ص ١٩٨ ح ١.

٦٢٩

إليه إذا وجد ربه الذي أمر بدفعه إليه ، فان لم يجد فليس عليه ضمان».

ثم انه مع التفريط ولزوم الضمان للوصي لا يتعين رجوع الديان على الوصي ، بل يتخيرون بين الرجوع على الوصي أو على الورثة فيما قبضوه من حصصهم ، وترجع الورثة على الوصي ، لأن ما عزله الوصي لا يتعين للدين بمجرد عزله ما لم يصل الى الديان ، بل الدين يتعلق بالتركة كائنا ما كانت ، وكيف كان فالضمان انما هو على الوصي ، والنقصان انما هو عليه من ماله ، لأن الورثة متى أخذ منهم الديان الدين رجعوا به عليه ، فلا يلحقهم ضمان ولا نقص ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : إذا انتقل الى المريض من ينعتق عليه كأبيه وابنه مثلا فلا يخلو إلا أن يكون بغير عوض أو بعوض ، وعلى التقديرين فإما أن يكون الملك اختياريا أو قهريا ، وعلى تقدير الملك بعوض ، فإما أن يكون العوض موروثا أولا ، فهذه صور ست :

الأولى ـ أن يملكه بغير عوض ويكون الملك اختياريا ، كما لو أوصى له أحد بأبيه أو أمه فقبل الوصية أو وهبه له بغير عوض ، فقبل الهبة ، فإن قلنا أن منجزات المريض من الأصل كما هو أحد القولين في المسئلة ، كان انعتاقه من الأصل ، ولا اشكال فيه ، وان قلنا أن المنجزات من الثلث كما هو المشهور بين المتأخرين فوجهان : بل قولان : أحدهما ـ للمحقق في الشرائع مدعيا عليه الإجماع وهو أن عتقه من الأصل أيضا ، قال : ولو أوصى له بأبيه فقبل الوصية ، وهو مريض ، عتق عليه من أصل المال إجماعا ، لأنه انما يعتبر من الثلث ما يخرجه عن ملكه ، وهنا لم يخرجه بل بالقبول ملكه ، وانعتق عليه تبعا لملكه ، ومرجع استدلاله إلى أمرين : أحدهما الإجماع ، وثانيهما ما ذكره من أن المعتبر من الثلث على القول به في المنجزات ، انما هو بالنسبة الى ما يخرجه المريض عن ملكه بنفسه اختيارا ، كما لو أعتق العبد أو وهب أو تصدق أو نحو ذلك ، وهنا لم يخرج المريض شيئا على هذا الوجه ، وانما المخرج له هو الله سبحانه حين ملكه بالقبول ، وانعتق

٦٣٠

عليه قهرا تبعا للملك. فلم يكن مفوتا شيئا باختياره ، وانما جاء الفوات من قبل الله عزوجل».

وثانيهما ـ للعلامة في التحرير وهو أن عتقه من الثلث ، كالعتق اختيارا ، استنادا الى أن اختيار السبب وهو قبوله الوصية وقبوله الهبة في المثالين المتقدمين اختيار للمسبب ، وهو العتق المترتب على القبول ، فمتى كان الأول معذورا كان الثاني كذلك ، وهو يرجع الى منع كون العتق قهريا كما ادعاه ذلك القائل ، بل هو اختياري له ، فإنه لو لم يقبل لما دخل في ملكه ، ولما انعتق عليه ، ولما قبل باختياره ترتب عليه ذلك ، فيكون من قبيل عتق العبد باختياره ، وبالجملة فإنه لا يلزم من كون الخروج قهريا كونه من الأصل ، وانما يلزم ذلك لو لم يكن مستندا الى اختيار المريض المتملك بالقبول ، كما ذكرناه لكنه مستند اليه ، وبذلك يظهر الجواب عن أحد الدليلين المتقدمين.

وأما الثاني وهو الإجماع ففيه ما ذكره شيخنا في المسالك ولنذكره بطوله لقوة وجودة محصوله ، وان كان قد قدمنا نبذة منه في غير موضع فيما تقدم ، وهو أيضا قد خالفه في غير موضع من كتابه هذا ، لكنه الحق الحقيق بالاتباع ، وان كان قليل الاتباع ، قال قدس‌سره : ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة بخلافه ، لأن الحق أن إجماع أصحابنا انما يكون حجة مع تحقق دخول المعصوم في جملة قولهم ، فان حجيته انما هو باعتبار قوله عندهم ، ودخول قوله في قولهم في مثل هذه المسئلة النظرية غير معلوم ، وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على ذلك ، فقال : ان حجية الإجماع لا يتحقق إلا مع العلم القطعي بدخول قول المعصوم في قول المجمعين ، ونهى عن الاغترار بمن يتحكم ، ويدعى خلاف ذلك ، وهذا عند الإنصاف عين الحق ، فإن إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قوله جماعة معروفين بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم تحكم بارد ، وبها يظهر جواز مخالفة الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا

٦٣١

فيها الإجماع ، إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق لهم ذلك كثيرا ، لكن زلة القدم متسامحة عند الناس دون المتأخر ، انتهى وهو جيد متين كما لا يخفى على الحاذق المكين.

الثانية ـ الصورة بحالها ولكن ملكه بغير اختيار كحصوله له بالإرث ، وينبغي القطع بكونه من الأصل هنا ، وان قلنا في سابق هذه الصورة بكونه من الثلث ، لعدم الاختيار في السبب ولا في المسبب ، ونقل عن التذكرة أنه جعل العتق أقرب ، وربما قيل : بأنه متى قلنا في الصورة الأولى بكونه من الثلث ، فيحتمل كونه هنا كذلك ، فيتحقق الملك للمريض فيكون معدودا من جملة أمواله ، فانعتاقه يفوت عليهم المالية ، وفيه أنه لم يتلف على الوارث شي‌ء مما هو محسوب مالا ، لأنه بمجرد الإرث ينعتق عليه ، وأيضا فإن العتق قهري والملك قهري ، وقد عرفت في الصورة السابقة : أن وجه القول بكونه من الثلث انما هو لكون السبب اختياريا وهنا ليس كذلك كما عرفت.

الثالثة ـ أن يملكه بعوض موروث اختيارا ، بمعنى أن يملكه باختياره بعوض لو بقي في مدة ، لأنه ينتقل بعد الموت لوارثه كالشركاء بثمن المثل ، فمن قال : ان المنجزات مخرجها من الأصل ، فإنه يكون هنا من الأصل ، وهو ظاهر ، ومن قال انها من الثلث ففي انعتاقه قولان : أحدهما ـ أنه من الثلث كما اختاره العلامة في الإرشاد ، وفي الأحكام المعنوية من القواعد ، وعلل بأن تملكه له باختياره سبب في عتقه فجرى مجرى المباشرة خصوصا عند من يجعل فاعل السبب فاعل المسبب كالجبائين ، قال في المسالك : وهذا هو الأصح.

وثانيهما ـ نفوذه من الأصل ، لأنه إنما يحجر عليه في التبرعات ، والشراء بثمن المثل ليس بتبرع ، فلا يكون محجورا عليه ، والعتق حصل بغير اختياره ، فلا يعتبر فيه الثلث ، وهذا القول اختيار العلامة في كيفية التنفيذ من كتاب القواعد.

٦٣٢

ورد بأن بذل الثمن في مقابلة ما قطع بفواته وزوال ماليته بالانعتاق تضييع على الوارث كما لو اشترى ما يقطع بموته عاجلا.

وشيخنا الشهيد في شرح الإرشاد اقتصر على نقل القولين المذكورين ، ونقل دليل كل منهما ولم يرجح شيئا منهما ولا طعن في شي‌ء من الدليلين المذكورين وهو مؤذن بالتوقف في ذلك.

الرابعة ـ أن يملكه بعوض موروث ملكا قهريا بغير اختياره ، بأن يكون مستندا الى حكم الشارع وأمره له به كما لو كان نذر في حال الصحة ، أو في حال المرض ان قلنا بكونه من الأصل ، بأنه ان وجد قريبة يباع بعوض ، وهو قادر عليه اشتراه ، فان هذا من الأصل على القولين ، ويحتمل ضعيفا كونه من الثلث بحصول السبب المقتضى للتصرف في المرض ، ووجه ضعفه بإسناد ذلك الى إيجاب الشارع فكان عليه بمنزلة الدين.

الخامسة ـ أن يملكه بعوض غير موروث كما لو آجر نفسه للخدمة به ، فإنه عندهم يعتق من الأصل لعدم تفويته شيئا على الوارث.

السادسة ـ أن يملكه كذلك بغير اختياره ، بل بإلزام الشارع كما لو نذر تملكه بالإجارة كذلك ، والحكم في هذه الصور كسابقتها بطريق أولى ، والله العالم.

المسئلة السادسة : الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في صحة الوصية بالإشارة على المراد مع تعذر اللفظ ، وكذا الكتابة مع التلفظ أيضا ، والقرينة الدالة على الدالة قصد الوصية بها.

ويدل على الأول ما رواه في الفقيه عن محمد بن أحمد عن السندي بن محمد عن يونس بن يعقوب عن أبى مريم (١) ذكره عن أبيه «أن أمامة بنت أبى العاص

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٤١ ح ٩٣٥ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٦ ح ٥٠٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٧ ح ١ وج ١٦ ص ٥٩ ح ١.

٦٣٣

وأمها زينب بنت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كانت تحت علي بن ابى طالب عليه‌السلام بعد فاطمة عليها‌السلام فخلف عليها بعد علي عليه‌السلام المغيرة بن النوفل فذكر أنها وجعت وجعا شديدا حتى اعتقل لسانها ، فجاءها الحسن والحسين عليهما‌السلام ابنا علي عليه‌السلام وهي لا تستطيع الكلام : فجعلا يقولان لها والمغيرة كاره لذلك : أعتقت فلانا وأهله؟ فجعلت تشير برأسها نعم ، وكذا وكذا فجعلت تشير برأسها أي نعم لا تفصح بالكلام ، فأجازا ذلك لها».

ورواه الشيخ بهذا السند مثله ، ورواه بسند آخر في الصحيح عن الحلبي (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أن أباه حدثه أن أمامة.» الحديث.

وما رواه عبد الله بن جعفر الحميري (٢) في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن عن علي جعفر عن أخيه قال : «سألته عن رجل اعتقل لسانه عند الموت أو امرأة فجعل أهليهما يسأله أعتقت فلانا وفلانا فيومئ برأسه أو تومئ برأسها ، في بعض نعم ، وفي بعض لا ، وفي الصدقة مثل ذلك ، أيجوز ذلك؟ قال : نعم هو جائز».

وما رواه في الكافي بسنده عن محمد بن جمهور (٣) عن بعض أصحابنا «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين عليه‌السلام كانت أول امرأة هاجرت الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من مكة إلى المدينة على قدميها الى أن قال : وقالت لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) : انى أريد أن أعتق جاريتي هذه فقال لها : ان فعلت أعتق الله بكل عضو منها عضوا منك من النار ، فلما مرضت أوصت الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وأمرت أن يعتق خادمها واعتقل

__________________

(١) التهذيب ج ٨ ص ٢٥٨ ح ٩٣٨.

(٢) قرب الاسناد ص ١١٩.

(٣) أصول الكافي ج ١ ص ٢٥٣ ح ٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٧ الباب ٤٩ ح ٢ و ٣.

٦٣٤

لسانها ، فجعلت تومئ إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) إيماء ، فقبل رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وصيتها» الحديث.

ويدل على الثاني ما رواه الصدوق عن عبد الصمد بن محمد عن حنان بن سدير (١) عن أبيه «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : دخلت على محمد بن الحنفية ، وقد اعتقل لسانه فأمرته بالوصية فلم يجب ، قال : فأمرت بالطست فجعل فيه الرمل فوضع فقلت له : فخط بيدك قال : فخط وصيته بيده في الرمل ونسخت أنا في صحيفة». وما رواه الشيخ عن محمد بن أحمد بن يحيى عن عبد الصمد بن محمد مثله ، انما الخلاف والاشكال في الاكتفاء بالكتابة في الاختيار ، فظاهر أكثر الأصحاب عدم الاكتفاء بذلك.

قال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة بعد قول المصنف انه يكفى الإشارة والكتابة مع تعذر اللفظ ـ ما صورته : ولا تكفيان مع الاختيار وان شوهد كاتبا أو علم خطه أو عمل الورثة ببعضها ، خلافا للشيخ في الأخير أو قال : انه بخطي ، وأنا عالم به ، وهذه وصيتي فاشهدوا علي بها ، ونحو ذلك بل لا بد من تلفظه أو قرائته عليه واعترافه بعد ذلك ، لأن الشهادة مشروطة بالعلم ، وهو منفي هنا خلافا لابن الجنيد حيث اكتفى به مع حفظ الشاهد له عنده ، ثم قال : والأقوى بقراءة الشاهد له مع نفسه مع اعتراف الوصي بمعرفة ما فيه وأنه موصى به ، وكذا القول في المقر ، انتهى.

أقول : أما ما نقله عن الشيخ فإنه إشارة الى ما ذكره في النهاية حيث قال : إذا وجدت وصية بخط الميت ، ولم يكن اشهد عليها ولا أقر بها كان الورثة بالخيار بين العمل بها وبين ردها وإبطالها ، فإن عملوا بشي‌ء منها لزمهم العمل بجميعها ، واعترضه ابن إدريس في ذلك ، فقال : وقد روي أنه إذا وجدت وصية بخط الميت

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٤٦ ح ٥٠٥ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٤١ ح ٩٣٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٦ ح ١.

٦٣٥

ولم يكن أشهد عليها ولا أمر بها ، فإن الورثة بالخيار بين العمل بها وبين ردها وإبطالها ، فإن عملوا بشي‌ء منها لزمهم العمل بها جميعا ، على ما روى في بعض الأخبار وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنهم إذا أقروا بشي‌ء منها وقالوا به ، وقالوا : ان هذا حسب صحيح أوصى به دون ما عداه مما في هذا المكتوب ، فإنه لا يلزم العمل بجميع ما في المكتوب إلا بما أقروا به دون ما عداه ، وانما هذه رواية وخبر واحد أورده الشيخ إيرادا ، وقد بينا أن أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها في الشرعيات ، انتهى.

أقول والذي وقفت عليه في الاخبار مما يتعلق بهذه المسئلة هو ما رواه الصدوق (قدس الله روحه) عن إبراهيم بن محمد الهمداني (١) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام : رجل كتب كتابا بخطه ولم يقل لورثته هذه وصيتي ولم يقل انى قد أوصيت ، إلا أنه كتب كتابا فيه ما أراد أن يوصى به ، هل يجب على ورثته القيام بما في الكتاب بخطه ولم يأمرهم بذلك؟ فكتب عليه‌السلام : ان كان له ولد ، ينفذون كل شي‌ء يجدون في كتاب أبيهم في وجه البر أو غيره». ورواها الشيخ في التهذيب أيضا الا أنه قد سقط من قلمه ما بين كتاب الأول الى كتاب الثاني ، والأقرب من سقط قلمه كما وقع له أمثال ذلك مما لا يحصى في متون الأخبار وأسانيدها ، وقد قدمنا التنبيه عليه في جملة من مواضع كتب العبادات.

وأنت خبير بأن الرواية المذكورة ظاهرة في وجوب تنفيذ ما يجدونه في وصيته بخطه بخلاف ما ذكره الأصحاب من منع ذلك ، وتخصيص الجواز بحال الضرورة وعدم إمكان التلفظ.

وأما ما ذكره الشيخ في النهاية من أن الورثة بالخيار بين العمل بها إذا كانت كذلك ، وبين ردها وابطالها ، وأنه مع اختيار العمل بشي‌ء منها يلزمهم

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٤٢ ح ٩٣٦ مع اختلاف يسير ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٦ ح ٥٠٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٧ ح ٢.

٦٣٦

العمل بجميعها ، فلم يصل إلينا فيه خبر ، ولا ورد به أثر ، فقول ابن إدريس «وقد روى أنه إذا وجدت وصية» الى آخر كلامه الظاهر أنه من قبيل ما قدمنا ذكره في غير موضع ، من أن الشيخ لما كانت عادته غالبا الإفتاء في كتاب النهاية بمتون الأخبار ، توهم ابن إدريس أن هذه الفتوى من الشيخ مستندة الى خبر وصل اليه بذلك ، فنازعه فيه بناء على ذلك ، واحتمال وصول خبر الى الشيخ بذلك مع عدم وصوله لنا وان أمكن ، إلا أنه بعيد ، سيما بعد ما عرفت من النظائر التي قدمنا ذكرها من إفتاء الشيخ في الكتاب المذكور ، واعتراض ابن إدريس عليه بأنه خبر واحد ، مع أنه لم يرد في تلك الفتوى خبر بالكلية ، وكيف كان فحيث قد عرفت أن هذه الفتوى من الشيخ لما لم يرد لها مستند من الأخبار فلا تعويل عليها.

وانما يبقى الكلام في خبر الهمداني المذكور ، وما دل عليه من وجوب العمل بالوصية المكتوبة بخطه ، وان لم تخبر ورثته بها بالكلية ، فإن ظاهر الأصحاب (رضوان الله عليهم) كما عرفت عدم العمل بهذه الوصية ، والظاهر أنهم لم يقفوا على الخبر المذكور ، وإلا لأجابوا عنه ، ورد الخبر من غير معارض شرعي ولا دليل مرعي غير مسموع ، وظاهر صاحب الفقيه العمل به ، والقول بما دل عليه ، وسند الخبر المذكور في الفقيه صحيح أو حسن ، لأن طريقه الى إبراهيم المذكور حسن ، أو صحيح بإبراهيم بن هاشم ، وأما إبراهيم بن محمد الهمداني المذكور فهو وان لم يكن حديثه في الصحيح فلا أقل ان يكون في الحسن ، لما ذكره علماء الرجال فيه ، من أنه كان وكيل الناحية ، وكان حج أربعين سنة ، وعن الكشي توثيقه في ترجمة أحمد بن إسحاق ، وروى توكيله وجلالة قدره في بعض التوقيعات.

وبالجملة فإن الخبر المذكور حسن السند ، واضع المتن ، لا تطرق للطعن فيه بوجه من الوجوه ولا معارض له كما عرفت إلا مجرد كلامهم ، فالعمل به متعين ، والله العالم.

٦٣٧

ختام به الإتمام :

يشمل على جملة من أخبار نوادر الأحكام.

روى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى الى امرأة ، وأشرك في الوصية معها صبيا؟ فقال : يجوز ذلك ، وتمضى المرأة الوصية ولا تنتظر بلوغ الصبي فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل أو تغيير ، فان له أن يرده الى ما أوصى به الميت». وهو صريح في جواز الوصية إلى المرأة.

وروى في التهذيب والفقيه عن السكوني (٢) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : المرأة لا يوصى إليها ، لأن الله تعالى قال (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)». وهذا الخبر حمله في التهذيبين على الكراهة أو التقية ، قال : لأنه مذهب كثير من العامة قال : وانما قلنا بذلك لإجماع علماء الطائفة على الفتوى بالخبر الأول ، وأشار به الى خبر علي بن يقطين المذكور ، وقال في الفقيه بعد أن عنون الباب بكراهة الوصية إلى المرأة تم أورد خبر السكوني قال : وفي خبر آخر (٣) «سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن قول الله عزوجل (٤) (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ)» قال : لا تؤتوها شارب الخمر ولا النساء ، ثم قال : وأي سفيه أسفه من شارب الخمر». ثم قال : في الفقيه وانما يعني كراهة اختيار المرأة للوصية ، فمن أوصى إليها لزمها القيام بالوصية على ما تؤمر به ويوصى إليها ان شاء الله تعالى ، انتهى.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٦ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٤ ح ٧٤٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٥ ح ٥٣٨. الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٩ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٤٥ ح ٩٥٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٨ ح ٥٨٥. الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٢ ح ١.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ١٦٨ ح ٥٨٦. الوسائل ج ص ٤٤٢ ح ٢.

(٤) سورة النساء ـ الاية ٤.

٦٣٨

أقول : والأقرب الحمل على التقية التي هي أحد القواعد المنصوصة في الجمع بين الأخبار ، دون الكراهة ، وان كانت هي المعمول عليها بينهم وبلغ في الاشتهار غايته.

وروى ثقة الإسلام عن أبى بصير (١) في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : أعتق أبو جعفر عليه‌السلام من غلمانه عند موته شرارهم ، وأمسك خيارهم ، فقلت له : أبه تعتق هؤلاء ، وتمسك هؤلاء فقال : انهم قد أصابوا مني ضربا فيكون هذا بهذا». ورواه الشيخ والصدوق مثله.

أقول : فيه دلالة على استحباب عتق من ضربه السيد ، وان كان هو استحقاق.

وروى المشايخ الثلاثة عن عمر بن يزيد (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : مرض علي بن الحسين عليه‌السلام ثلاث مرضات ، في كل مرض يوصي بوصية ، فإذا أفاق أمضى وصيته».

أقول : يفهم من هذا الخبر استحباب إمضاء الوصية بعد البرء من ذلك المرض الذي أوصى فيه.

وعن أحمد بن حمزة (٣) قال : «قلت له : ان في بلدنا ربما أوصى بالمال لآل محمد عليهم‌السلام ، فيأتوني به فأكره أن أحمله إليك حتى أستأمرك ، فقال : لا تأتني به ولا تعرض له».

أقول : الظاهر أنه محمول على التقية ، لأن الظاهر أن المسئول هو الكاظم عليه‌السلام وكانت التقية في وقته شديدة ، وأحمد بن حمزة في زمانه عليه‌السلام كان من الوكلاء.

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٧ ص ٥٥ ح ١٣ وص ٥٦ ح ١٤ وص ٥٨ ح ٣ التهذيب ج ٩ ص ٢٤٦ ح ٩٥٦ و ٩٥٥ وص ٢٤٦ ح ٩٥٥ وص ٢٣٣ ح ٩١١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧١ ح ٦٠٠ وص ١٧٢ ح ٦٠١ وص ١٧٤ ح ٦١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٢ الباب ٨٤ ولباب ٨٥ وص ٤٨٠ ح ١.

٦٣٩

وعن حماد بن عثمان (١) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : أوصى رجل بثلاثين دينارا لولد فاطمة عليها‌السلام قال : فأتى بها الرجل أبا عبد الله عليه‌السلام فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام ادفعها الى فلان ، شيخ من ولد فاطمة عليها‌السلام ، وكان معيلا مقلا ، فقال له الرجل : إنما أوصى بها الرجل لولد فاطمة عليها‌السلام فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : انها لا تقع من ولد فاطمة عليها‌السلام وهي تقع من هذا الرجل وله عيال».

أقول : الظاهر أنه لما علم عليه‌السلام أن هذا الموصى به لا يسع ولد فاطمة عليها‌السلام جميعا لكثرتهم ، أو لا يمكن إيصاله إليهم لتفرقهم ، وانما يمكن إعطاؤه لبعض منهم خص هذا الشيخ المعيل به ، حيث انها يقع منه وينتفع بها.

وروى في الكافي قال : وكتب إبراهيم بن محمد الهمداني (٢) إليه عليه‌السلام ميت. وروى في التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني قال : كتبت اليه ميت ، ورواه الشيخ بسند آخر عن أحمد بن هلال قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام ميت أوصى بأن يجرى على رجل ما بقي من ثلثه ، ولم يأمر بإنفاذ ثلثه هل للوصي أن يوقف ثلث الميت بسبب الاجراء فكتب عليه‌السلام : ينفذ ثلثه ولا يوقف».

أقول : الظاهر أن معنى الخبر المذكور أنه أوصى أن ينفق على رجل من ثلثه ما بقي ذلك الرجل ، فلو مات الرجل قبل نفاد الثلث يرجع الباقي الى ورثة الموصي ولم يأمر بإنفاذ الثلث ، أي لم يوص اليه بالثلث كملا على وجه ينحصر استحقاقه فيه وفي ورثته من بعده ، فهل للوصي أن يقطع الاجراء عليه ويجعله موقوفا؟ حيث انه لم يوص له بالثلث كملا ولم يستحقه كملا بالوصية ، فكتب عليه‌السلام : ليس له أن يوقفه ، بل يجب أن يجرى عليه النفقة من الثلث ما دام الرجل موجودا والثلث باقيا كما هو مقتضى الوصية.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٨ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٣ ح ٩١٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٦ ح ٣٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٤ ح ٥٩٩ وص ١٩٧ ح ٧٨٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٧ ح ٥٢٥.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٤٨٠ ح ٢ وص ٣٣٠ الباب ٧.

٦٤٠