الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

وعن إبراهيم بن أبى بكر السمال الأزدي (١) عمن أخبره «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الميت أولى بماله ما دام فيه الروح».

وما رواه في الكافي والفقيه عن مرازم (٢) عن بعض أصحابنا «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يعطى الشي‌ء من ماله في مرضه؟ فقال إذا أبان فيه فهو جائز ، وان أوصى به فهو من الثلث».

أقول : المراد بقوله «أبان فيه» أبي ينزه وعزله وسلمه الى من أعطاه إياه ولم يعلق إعطائه على موته.

وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن عمار الساباطي (٣) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الميت أحق بماله ما دام فيه الروح يبين به فان تعدى فليس له إلا الثلث» ،.

هكذا في الفقيه وبعض نسخ الكافي ، وفي التهذيب عوض «فان تعدى» «فان قال بعدي ، وهو الأنسب ، بقوله يبين به ، وفي بعض نسخ الكافي هكذا «قال : قلت له : الميت أحق بماله فيه الزوج ويبين به؟ قال : نعم ، فإن أوصى به فليس له إلا الثلث» وهذا هو المناسب.

وما رواه المشايخ المذكورون أيضا عن عمار بن موسى (٤) الموثق من بعض طرقه «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ، ان أوصى به كله فهو جائز له».

وهذا الخبر حمله الشيخ بالنظر الى ما تضمنه عجزه تارة على وهم الراوي ، وأخرى على فقد الوارث ، وثالثة على ما إذا أجاز الورثة.

وما رواه في التهذيب في الموثق عن عمار الساباطي (٥) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٧ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٧ ح ٧٥٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٨ ح ٦ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٩ ح ٥١٩.

(٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٨ ح ٧ وص ٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٨ ح ٧٥٦ وص ١٨٧ ح ٧٥٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٧ ح ٤٧٧ وص ١٥٠ ح ٥٢٠.

(٥) التهذيب ج ٩ ص ١٩٠ ح ٨٦٤.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٨١ ح ٣ وص ٣٨٢ ح ٦ و ٧ و ٥ وص ٣٨٣ ح ١٠.

٦٠١

في رجل يجعل بعض ماله لرجل في مرضه؟ قال : إذا أبانه جاز».

هذا ما حضرني من أدلة القول المذكور ، وهي كما ترى على ما قلناه ظاهرة الدلالة تمام الظهور ، لا يعتريها فتور ولا قصور.

وأما ما يدل على القول الآخر ، فمنه رواية علي بن عقبة (١) «عن الصادق عليه‌السلام في رجل حضره الموت فأعتق مملوكا له ليس له غيره ، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك كيف القضاء فيه؟ قال : ما يعتق منه إلا ثلثه ، وسائر ذلك ، الورثة أحق بذلك ، ولهم ما بقي».

وموثقة سماعة (٢) قال : «سألته عن عطية الوالد لولده؟ فقال أما إذا كان صحيحا فهو له يصنع به ما شاء فأما في مرض فلا يصلح».

وصحيحة الحلبي (٣) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المرأة تبرأ زوجها من صداقها في مرضها؟ قال : لا».

وموثقة سماعة (٤) قال : «سألته عن الرجل يكون لامرأته عليه الصداق أو بعضه فتبرءه منه في مرضها؟ قال : لا ولكنها ان وهبت له جازما وهبت له من ثلثها».

ورواية أبي ولاد (٥) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه الدين فتبرءه منه في مرضها؟ قال : بل تهبه له فتجوز هبتها له ، ويحسب ذلك من ثلثها ان كانت تركت شيئا».

وصحيحة علي بن يقطين (٦) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : الثلث والثلث كثير».

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) التهذيب ج ٩ ص ١٩٤ ح ٧٨١ وص ٢٠٠ ح ٨٠٠ وص ٢٠١ ح ٨٠٢ و ٨٠٣ وص ١٩٥ ح ٧٨٣ وص ٢٤٢ ح ٩٤٠. الوسائل.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٥ ح ٤ وص ٣٨٤ ح ١١ و ١٥ و ١٦ وص ٣٦٧ ح ١١ وص ٣٦٣ ح ٨.

٦٠٢

وصحيحة يعقوب بن شعيب (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يموت ماله من ماله؟ قال : له ثلث ماله ، وللمرأة أيضا».

ورواية عبد الله بن سنان (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «للرجل عند موته ثلث ماله ، وان لم يوص فليس على الورثة إمضاءه».

هذا ما حضرني من الأخبار التي استدلوا بها لهذا القول ، وأنت خبير بأن ترجيح أخبار القول الأول ظاهر من وجوه : أحدها ـ اعتضادها بظاهر القرآن بالتقريب الذي قدمنا ذكره ، وهو أحد المرجحات الشرعية التي دلت عليها مقبولة عمر بن حنظلة (٣) وغيرها من عرض الأخبار عند الاختلاف على القرآن ، والأخذ بما وافقه وطرح ما خالفه.

وثانيها ـ أن أخبارنا مخالفة للعامة ، وأخبار الخصم موافقة لهم ، كما نبه عليه كثير من أصحابنا من أن أكثر العامة على القول بمضمون الأخبار الأخيرة ، ومن أخبارهم في هذه المسئلة ما نقله شيخنا في المسالك عن صحاحهم (٤) «من أن رجلا من الأنصار أعتق ستة أعبد في مرضه لا مال له غيرهم ، فاستدعاهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، وجزأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة ، قال (قدس‌سره) : وعلى هذه الرواية اقتصر ابن الجنيد في كتابه الأحمدي ، وهذه القاعدة أيضا أحد القواعد المنصوصة عنهم (صلوات الله عليهم) في مقام الترجيح بين الأخبار في مقام الاختلاف.

ولكن أصحابنا (رضوان الله عليهم) كما قدمنا ذكره في غير موضع ولا سيما في كتب العبادات قد ألغوا العمل بهذه القواعد المنصوصة عن أئمتهم (صلوات الله

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ١٩١ ح ٧٧٠ وص ٢٤٢ ح ٩٣٩.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٤١٢ ح ٥. الوسائل.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٢ ح ٢ وص ٣٦٣ ح ٧ وج ١٨ ص ٣ و ٤.

(٤) المسالك ج ١ ص ٤٢٤ ، المستدرك ج ٢ ص ٥٢١ الباب ١٦ ح ٣.

٦٠٣

عليهم) واتخذوا لهم قواعد لا دليل عليها ، ولا مستند لها من الجمع بين الأخبار بحمل الأمر على الاستحباب ، والنهي على الكراهة ، وجعلوا ذلك قاعدة كلية في جميع أبواب الفقه ، وان عارضتها تلك القواعد المنصوصة كما لا يخفى على المتتبع لكلامهم في الخائض في بحور نقضهم وإبرامهم.

وثالثها ـ أن ما استدللنا به من الأخبار صريح الدلالة على المطلوب والمراد ، عار عن وصمة الطعن والإيراد ، ولهذا ان متأخري أصحابنا القائلين بالمشهور بينهم انما يتيسر لهم الطعن في أسانيدها ، بناء على هذا الاصطلاح المحدث ـ وعلى هذا فمن لا يرى العمل به ـ كما هو الحق الحقيق بالاتباع حسبما جرى عليه متقدمو علمائنا للصدور عنهم ، والاتباع ـ فلا مجال للطعن بذلك عنده ، على أنك قد عرفت أن فيها الصحيح والموثق ، وهم قد عملوا بالموثقات في مواضع لا تحصى ، وغمضوا العين عن مخالفة اصطلاحهم.

وبالجملة فإنك قد عرفت أنه لا مسرح للطعن في دلالتها ، بخلاف أخبارهم ، فإنها غير خالية عن الإجمال ، المانع من الاستناد إليها في الاستدلال ، كما سيأتيك بيانه ان شاء الله تعالى في المقام.

ورابعها ـ اعتضاد أخبارنا بالإجماع على صحة التصرف المدلول عليه بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «الناس مسلطون على أموالهم».

خرج منه ما خرج من التصرف المعلق على الموت بدليل ، وبقي الباقي لعدم الدليل الناص على الخروج كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

وخامسها ـ اتفاق القائلين من الطرفين على لزوم التصرف لو برء عن مرضه ، وأنه ينفذ من الأصل ، وهذا لا وجه له على القول الآخر ، إلا باعتبار أن يكون صحيحا غير لازم ، موقوفا على الإجازة من الوارث ان مات ، فيكون البرء كاشفا عن الصحة واللزوم واجازة الوارث ، وعدمها كاشفا عن اللزوم وعدمه ، حسبما

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.

٦٠٤

قالوه في بيع الفضولي.

وأنت خبير بأنه وان اشتهر ذلك في كلامهم ، وبنوا عليه في نقضهم وإبرامهم ، إلا أنا لم نظفر له بدليل في أمثال هذه المقامات ، إلا على وجوه اعتبارية لا تصلح أن تكون مستندا في الأحكام الشرعية ، كما حققنا ذلك بما لا مزيد عليه فيما تقدم في مسئلة البيع الفضولي من كتاب البيع (١) حيث إن المشهور بينهم صحته لوجوه اعتبارية ، لفقوها وتخريجات وهمية صوروها ، مع أن الأخبار تردها وتمنعها كما أوضحنا ذلك في الموضع المشار إليه بأوضح بيان ، لم يسبق إليه أحد من علمائنا الأعيان ، ويزيده تأكيدا أنه لا يخفى أن مقتضى الأدلة كتابا وسنة هو وجوب الوفاء بالعقود ، وترتب أثرها عليها من جواز التصرف بجميع أنواع التصرفات ، وإبطال ذلك يحتاج الى دليل قاطع ، ليمكن الخروج به عن الدليل الأول ، فما خرج بدليل وجب الوقوف فيه على ما اقتضاه الدليل ، وما لم يقم عليه دليل من كتاب وسنة فهو باق على مقتضى الدليل الأول وحينئذ فلزوم التصرف بعد البرء في موضع النزاع كما وقع عليه الاتفاق ، انما نشأ من لزوم الوصية أولا في حال المرض ، كما ندعيه ، الا انه انما وقعت الوصية صحيحة غير لازمة كما يدعونه ، حتى فرعوا عليه هذا القول.

وسادسها ـ ما تقدمت الإشارة إليه من عدم صلوح هذه الروايات لمعارضة ما ذكرناه من الأخبار ، لما فيها من الإجمال ، بل الاختلال في جملة منها ، والاعتلال الموجب لسقوطها عن درجة الاستدلال ، وها نحن نشير الى تلك الأخبار على التفصيل.

فمنها رواية علي بن عقبة ، وهي أوضح أدلة القائلين بذلك القول المشهور ، وأظهر الوجوه فيها عندي هو الحمل على التقية ، لمطابقتها كما عرفت للرواية العامية ، وتعارضها على الخصوص ، بما رواه في الفقيه عن هارون بن مسلم عن

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٧٦.

٦٠٥

مسعدة بن صدقه (١) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام أن رجلا من الأنصار توفي وله صبية صغار ، وله ستة من الرقيق ، فأعتقهم عند موته ، وليس له مال غيرهم ، فأتى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأخبر فقال : ما صنعتم بصاحبكم؟

قالوا : دفناه قال : لو علمت ، ما دفناه مع أهل الإسلام ، ترك ولده يتكففون الناس». وظاهر الخبر نفوذ الوصية حيث لم يحكم (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بتخصيص الصحة بالثلث ، كما تضمنه خبر علي بن عقبة ، وكذا الخبر العامي ، بل حكم بصحتها ، حيث ذمه «بأنه ترك ولده يتكففون الناس» أي يسألونهم بأكفهم ، فلو لا الحكم بصحتها لما كان لهذا الكلام معنى ، والخبر إما محمول على الكراهة المؤكدة كما ظاهر من كلام الأصحاب ، واليه يشير قوله عليه‌السلام في رواية سماعة المتقدمة برواية صاحب الكافي «إلا أن الفضل في أن لا يضيع من يعوله ، ولا يضر بورثته» ، أو التحريم ، ولا ينافيه نفوذ الوصية ، كما صرح به المحدث الكاشاني في الوافي.

وكيف كان فالخبر المذكور من الأخبار الدالة على ما ذكرنا ، وان لم نذكره فيما سبق.

واحتمل في المسالك أيضا حمل رواية علي بن عقبة على الوصية ، قال : لأن حضور الموت قرينة منعه من مباشرة العتق ، ويجوز نسبة العتق اليه لكونه سببه القوي بواسطة الوصية ، قال : وهذا وان كان بعيدا ، إلا أنه مناسب ، حيث لم يبق للرواية عاضد ، انتهى.

ولا يخفى ما فيه ، وما ذكرناه من الحمل على التقية هو الأظهر ، لكنهم (رضي‌الله‌عنهم) حيث لم يلتفتوا الى هذه القواعد في الجمع بين الأخبار ، كما قدمنا ذكره ، اضطروا الى مثل هذه التحزيجات البعيدة.

ثم إنه على تقدير تسليمها فموردها خاص ، والمدعى أعم من ذلك ، ودعوى

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٣٧ ح ٤٧٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٣ ح ٩.

٦٠٦

الأولوية ممنوعة ، بل هو قياس محض ، وعدم القائل باختصاص الحكم به لا يسوغ قياس غيره عليه.

ومنها موثقة سماعة الأولى وفي معناها رواية جراح المدائني ، وأول ما فيهما أنه لا قائل بهما على ظاهرهما ، لأن ظاهرهما المنع من عطية الوالد لولده في المرض مطلقا ، زاد على الثلث أم لا ، بل بلغ الثلث أو لم يبلغ ، والحمل على معناه أنه لا يصلح من الأصل ، بل يصلح من الثلث ، وان كان صحيحا في حد ذاته ، إلا أنه بعيد من سياق الخبرين ، إذ لا يعتبر في شي‌ء من الخبرين للأصل والثلث ، وانما السؤال عن العطية بقول مطلق ، فأجاب عليه‌السلام «أنه في حال الصحة يفعل ما يشاء ، وفي حال المرض فليس له ذلك».

والثاني ـ انهما أخص من المدعى ، فلا ينهضان حجة على العموم.

الثالث ـ احتمال حمل العطية في المرض على الوصية ، ولعله الأقرب للاعتبار ، ليحصل به الجمع بين الأخبار ، بمعنى أنه حينئذ أنه لا يوصى له بما زاد على الثلث ، وأما في الصحة فإن له أن يعطيه ماله جميعا ، ويبينه به ، والشيخ في التهذيبين حمل حديث سماعة المذكورة تارة على الكراهة ، لأنه إضرار بسائر الورثة وإيحاش لهم ، وأخرى على ما إذا لم يكن على جهة الوصية ، بل يكون هبة من غير ابانه وتسليم ، واعترضه المحدث الكاشاني في الوافي ، فقال : التأويل الأول ينافيه ما مر من تحريم الإضرار ، والثاني ينافيه قوله مع اشتراط الجواز بالصحة ، بينه في حديث جراح ، بل سائر ما بعده من أخبار هذا الباب ، فإن الإبراء وهبة ما في الذمة لا يفتقران إلى الإبانة ، فالصواب أن تحمل هذه الأخبار على ظواهرها ، ويخص المنع من العطية في المرض بمورده أعنى الوارث ، وسره ما ذكره في التهذيبين من الايحاش ، فان فعل حسبت من الثلث ، كما تدل عليه الأخبار الأخيرة ، انتهى.

أقول : فيه أولا أن ما ذكره الشيخ من تأويل رواية سماعة بحمل المنع

٦٠٧

من عطية الولد في المرض على الكراهة جيد ، لا بأس به.

قوله «أنه ينافيه ما مر من تحريم الإضرار» إشارة إلى ما قدمنا نقله عنه من جملة حديث مسعدة بن صدقة الدال على قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ما دفناه مع أهل الإسلام على تحريم العتق ، كذلك مردود ، بأن الظاهر انما هو حمله على تأكيد الكراهة ، كما يشير اليه خبر سماعة الذي أشرنا إليه ثمة وقوله عليه‌السلام فيه «إلا أن الفضل أن لا يضيع من يعوله ، ولا يضر بورثته» فان الخبر صريح في كراهية الإضرار ، دون التحريم الذي توهمه ، وكم لهم عليهم‌السلام من المبالغة في النهي عن المكروهات ما يلحقها بالمحرمات ، والأمر بالمستحبات مما يدخلها في حيز الواجبات كما لا يخفى على الفطن البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

وثانيا ـ أن تخصيصه هذه الأخبار بمعنى المنع من العطية في المرض بالوارث ، مردود بما قدمناه من تكاثر الاخبار واتفاق الأصحاب على جواز الوصية للوارث ، وعطيته في المرض ، وأن المنع من ذلك انما هو مذهب العامة ، كما تقدم في المسئلة الثانية من المقصد الخامس ، وتقدم أن ما دل على خلاف ذلك فهو محمول على التقية.

وثالثا ـ أنه مع تسليم ما ذكره من تخصيص المنع من العطية في المرض بالوارث ، ففيه أن إثبات حكم كلي بورود ذلك في جزئي خاص سيما مع عدم الصراحة كما عرفت لا يخلو من الاشكال.

ورابعا ـ أنه إذا كان متى فعل ، صح وحسب من الثلث ، فأي اختصاص بالمنع بالوارث ، إذ الاحتساب من الثلث مما لا نزاع فيه ، لوارث كان أو أجنبي ، فلا يظهر لمنع الوارث هنا وجه.

وبالجملة فإن كلامه هنا لا يخلو عندي من النظر الظاهر ، للخبير الماهر

٦٠٨

ومنها صحيحة الحلبي (١) وما في معناها من موثقة سماعة الثانية (٢) ، ورواية أبي ولاد (٣) وأول ما فيها ما ذكره شيخنا في المسالك من أن مضمونها لا يقول به أحد ، لأن الإبراء مما في الذمة صحيح بالإجماع ، دون هبته ، فالحكم فيها بالعكس ، فكيف يستند الى مثل ذلك.

الثاني ـ أنها أخص من المدعى فلا تنهض حجة على العموم.

الثالث ـ معارضتها بظاهر الآية المفسرة في صحيحة زرارة (٤) بالصداق ، وأنه متى طابت نفسها عنه بإبراء أو هبة حل له في مرض كان أو صحة زاد على الثلث أو نقص ، كل ذلك لإطلاق الآية ، والخبر المذكور ، فان قيل : ان إطلاق الآية والخبر المفسر لها يجب تخصيصه بهذه الأخبار ، قلنا : هذه الأخبار حيث كانت معلومة بما عرفت من المنع من جواز الإبراء الذي لا خلاف ولا إشكال في جوازه ، يشكل الاعتماد عليها في التخصيص ، سيما ان الآية والخبر المذكورين قد اعتضدا بالأخبار الكثيرة المتقدمة في أدلة القول الأول ، فالتخصيص لهما تخصيص للجميع ، وهذه الأخبار للعلة المذكورة مع خصوص موردها كما عرفت يضعف عن تخصيص الجميع.

وأما ما تكلفه جمع من متأخري مشايخنا (رفع الله أقدارهم) في الجواب عن الطعن الأول في هذه الروايات ، بالحمل على أنه عليه‌السلام كان يعلم أن حق المرأة لم ينتقل إلى ذمة الرجل ، وانما كان عينا موجودة ، فلأجل ذلك منع من الإبراء الذي لا يقع إلا على ما في الذمة ، وأمر بالهبة ، فلا يخفى ما فيه ، على الفطن النبيه ، من التكلف والتعسف الذي يدركه كل ناظر ويعيه ، على أن هذا الاحتمال إنما ذكروه في رواية سماعة ، وغاية إمكانه ، قصره على قضية واحدة ، مع أن رواية

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤) التهذيب ج ٩ ص ٢٠١ ح ٨٠٢ و ٨٠٣ وص ١٩٥ ح ٧٨٣ وص ١٥٢ ح ٦٢٤. الوسائل ج ١٣ ص.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٤ ح ١٥ و ١٦ وص ٣٦٧ ح ١١ وص ٣٣٩ ح ١.

٦٠٩

أبى ولاد قد تضمنت الدين ، ووقع الجواب فيها بهذا التفصيل ، فكيف يكون المراد بذلك العين الخارجة في الذمة خاصة.

ومنها صحيحة علي بن يقطين ونحوها صحيحة يعقوب بن شعيب ، ورواية عبد الله بن سنان ، والظاهر من الجميع هو الحمل على ما بعد الموت ، أما صحيحة يعقوب بن شعيب فهي كالصريحة في ذلك ، حيث قال : الرجل يموت فما له من ماله؟ أي بعد موته ، فلا وجه حينئذ للاستدلال بها على المنجزات ، كما هو محل البحث ، وقريب منها الروايتان الأخريان لقوله «عند موته».

وبالجملة ان لم يكن ما ذكرنا هو الأظهر ، فلا أقل لأن يكون مساويا في الاحتمال ، وبه يسقط الاستناد إليها في الاستدلال ، ويؤيد ما ذكرناه من الحمل على الوصية ، تكرر هذا المعنى في الأخبار ، ودلالتها على أن غاية ما للميت الوصية به من ماله هو الثلث. وقد تقدمت ، ولعل وجه الحكمة في منع الشارع له من الزيادة على الثلث في الوصية التي يكون تنفيذها بعد الموت ، وتجويز التصرف له في حال مرضه في ماله مطلقا ، وان يفعل ما يشاء ، ويعطيه ويبينه لمن يشاء ، كما صرحت به أخبار القول الأول ، هو أن المال بعد الموت لما ينتقل إلى الورثة ، ويخرج عن ملكه وتصرفه ، فإنه يسهل على النفس السخاء به ، والجود به لمن يشاء ، فمن أجل ذلك اقتضت الحكمة الربانية منعه من الزيادة في الوصية على الثلث ، خوف الإضرار بالورثة ، والتعدي عليهم ، بل صرحت بكراهة الوصية بالثلث ، رعاية لهم هذا مع حفظه له ، وشحه به وحرصه عليه ، وهذه الحكمة ليست حاصلة في الحي ، وان كان مريضا ، فان البرء ممكن ، والشح بالمال في الجملة حاصل ، فيكون كتصرف الصحيح في ماله ، لا في مال غيره ، وتوهم كون حال المرض في معرض أن يكون للورثة بخلاف الصحيح مطلقا ممنوع ، فرب مريض عاش ، وصحيح عجل به الموت ، كما هو المشاهد بالوجدان في غير زمان ولا مكان.

٦١٠

وبالجملة فإن التصرف في الصورة الأولى لما كان بعد زمان الموت الذي ينتقل فيه المال الى الوارث صار كأنه تصرف في مال الوارث ، فمنع منه ، والتصرف في الصورة الأخرى لما كان في الحياة ولا تعلق له على الموت ، كان كتصرف الصحيح في ماله ، يفعل به ما يشاء.

وبما شرحناه يظهر لك أن أكثر هذه الأخبار غير ظاهرة الدلالة ، وما ربما يظهر منه ذلك فسبيله الحمل على التقية التي هي الأصل في اختلاف الأخبار ، وأما روايات القول الأول الذي عليه المعول ، فهي جميعا صريحة الدلالة ، واضحة المقالة ، لا مجال للطعن في دلالتها بوجه من الوجوه ، نعم بناء على هذا الاصطلاح المحدث الذي قد عرفت أنه لا أصل له ، ولا دليل عليه ، بل الأدلة على بطلانه لمن نظر بعين الإنصاف ورجع اليه ، اتجه لأصحاب هذا الاصطلاح الطعن فيها بضعف السند ، مع أنك قد عرفت أن فيها الصحيح ، ومن أجل ما قلنا توقف شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد البحث في المسئلة في ترجيح أحد القولين ، وتبعه المحدث الكاشاني في المفاتيح ، كما هي عادته فيه غالبا ، فقال في المسئلة المذكورة : وفي منع المريض من التبرعات المنجزة التي لا تستلزم تفويت المال على الورثة من غير عوض زيادة على الثلث من دون إذنهم أو إجازتهم قولان : وفي الأدلة من الجانبين نظر ، إذ ما صح سنده غير دال ، وما هو دال غير صحيح السند ولا معتبر ، إلا موثق في طرف الجواز ، مؤيد بالأصل ، وهو أن صاحب المال أحق بماله ما دام حيا ، ولكنه معارض بالأكثرية والأشهرية ، انتهى.

وبالجملة فإن من لا يرى العمل بهذا الاصطلاح المحدث ، وانما عمله على الاصطلاح القديم في الحكم بصحة جميع الأخبار ، فإنه لا يرتاب ولا يشك في صحة ما اخترناه.

٦١١

تذنيب :

ممن اختار القول المشهور بين المتأخرين العلامة في المختلف ، واحتج عليه برواية علي بن عقبة ، ورواية أبي ولاد وصحيحة علي بن يقطين المتقدم جميعه في المقام.

ورواية علي بن أبي حمزة عن أبى بصير (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أعتق رجل عند موته خادما له ، ثم أوصى بوصية أخرى ألغيت الوصية ، وأعتقت الجارية من ثلثه ، إلا أن يفضل من ثلثه ما يبلغ الوصية».

واستدل أيضا بصحيحة زرارة (٢) «عن الصادق عليه‌السلام قال : إذا ترك الدين عليه ومثله أعتق المملوك ، واستسعى».

ورواية حفص بن البختري (٣) ورواية الحسن بن الجهم (٤) الدالتين على ما دلت عليه صحيحة زرارة المذكورة.

وهذه الروايات وأمثالها قد تقدمت في المسئلة السادسة فيما إذا كان على الإنسان دين ، فأعتق مملوكه الذي ليس له سواه منجزا ، من القصد الخامس في الموصى له ، ثم احتج ببعض الأدلة الاعتبارية كما هي قاعدتهم الى أن قال : احتج المخالف بأنه مالك تصرف في ملكه ، فكان سائغا ماضيا كالصحيح ، والجواب المنع من الملازمة ، والقياس باطل في نفسه ، والفرق ظاهر ، انتهى.

أقول : انظر الى هذه المجازفة الظاهرة في عدم استدلاله للقول المذكور بشي‌ء من تلك الروايات المتعددة الصريحة مع كثرتها ، كما عرفت ، وانما أورد هذا التعليل الاعتباري ورده بما ذكره ، وهو عجب من مثله (قدس‌سره) فان كان ذلك عن عدم اطلاع على شي‌ء من تلك الأخبار فهو عجيب من مثله ، وان كان

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٩٧ ح ٧٨٦.

(٢ و ٣ و ٤) التهذيب ج ٩ ص ١٦٩ ح ٦٨٨ و ٦٨٩ و ٦٩٠. الوسائل ج ١٣.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٥ ح ٦ وص ص ٤٢٢ ح ٢ و ١ وص ص ٤٢٣ ح ٤.

٦١٢

مع الاطلاع عليها فهو أعجب ، ومن نظر في كلامه هذا ورأى الأخبار الدالة على القول الذي اختاره ، ولم ير في مقابلتها إلا هذا التعليل العليل ، فإنه لا يعتريه الشك في تقليده ، والحزم بما ذكره ، وأما الروايات التي استدل بها فقد عرفت الجواب عن جملة منها.

بقي الكلام فيما استدل به من صحيحة زرارة وروايتي الحفص والحسن بن الجهم وأمثالها مما قدمنا ذكره في المسئلة ، فإنه لا ريب في دلالتها على ما ذكروه ، إلا أنا قد قدمنا في تلك المسئلة أن وجه الجمع بين هذه الأخبار وبين الأخبار التي استندنا إليها هنا في الدلالة على ما اخترناه من خروج المنجزات من الأصل ، هو العمل بتلك الأخبار ، لأنها أخص فيخصص بها عموم هذه الأخبار وإطلاقها ، لأن مورد تلك الأخبار العتق مع الدين المزاحم له ، فيجب العمل فيها بما دلت عليه تلك ، ويجب الوقوف فيه على ما دلت عليه اخبار هذه المسئلة.

وأما رواية أبي بصير التي استدل بها ، فالجواب عنها ما عرفت في الجواب عن رواية علي بن عقبة ، ولنا بناء على اصطلاحهم رد هذه الرواية وأمثالها من رواية علي بن عقبة وغيرهما مما ليس بصحيح باصطلاحهم بضعف الاستناد ، إلزاما لهم باصطلاحهم ، فلا تقوم لهم بها حجة علينا كما لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الثانية : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في إقرار المريض إذا مات في مرضه على أقوال : أحدها ـ أنه ينفذ من الأصل مطلقا ، من غير فرق بين إقراره في حال مرضه ، أو صحته ، وهو مذهب سلار حيث قال : من كان عاقلا يملك أمره فيما يأتي ويذر ، فإقراره في مرضه كإقراره في صحته ولم يفرق بين الدين ولا العين ، ولا بين الوارث ولا الأجنبي ، ولا بين أن يكون المقر متهما في إقراره أو غير متهم ، وهو اختيار ابن إدريس.

وثانيها ـ أنه من الأصل أيضا لكن بشرط عدالة المقر ، وانتفاء التهمة ، لوارث كان الإقرار أو لأجنبي ، ومن الثلث مع انتفاء أحد القيدين ، وهو مذهب

٦١٣

الشيخين وابن البراج ، والمحقق في الشرائع ، والشهيد الثاني في المسالك ، وسبطه السيد السند في شرح النافع ، والمحدث الشيخ بن الحسن الحر العاملي في الوسائل وغيرهم ، بل صرح في المسالك أنه مذهب المحقق في النافع.

حجة القول الأول كما ذكروه عموم (١) «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». ولأنه بإقراره يريد إبراء ذمته من حق عليه في حال الصحة ، ولا يمكن التوصل اليه إلا بالإقرار ، فلو لم يقبل إقراره بقيت ذمته مشغولة ، وبقي المقر له ممنوعا من حقه ، وكلاهما مفسدة ، واقتضت الحكمة قبول قوله.

وأنت خبير بما فيه من إمكان المناقشة وتطرق البحث اليه ، أما الحديث المذكور فإنه يخص عمومه بالأخبار الآتية الدالة على أنه مع التهمة وعدم العدالة لا ينفذ إقراره.

وأما التعليل الآخر ففيه ، الإقرار كما يحتمل أن يكون لما ذكره من ارادة إبراء ذمته ، وأن ذمته مشغولة واقعا ، كذلك يحتمل أن يكون قصده من الإقرار مجرد حرمان الوارث ومنعه ، وان ذمته غير مشغولة ، كما تشير الى ذلك الأخبار الآتية المصرحة باشتراط نفي التهمة ، وكونه مرضيا ، والاستدلال المذكور مبني على الاحتمال الأول ، وهو غير متعين ، سيما مع دلالة الأخبار المذكورة على ما ذكرناه.

وبالجملة فترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ليمكن التفريع عليه والبناء على ما يقتضيه يحتاج الى دليل ، وليس فليس.

وأما القول الثاني فيدل عليه أما بالنسبة إلى الوارث فصحيحة منصور بن حازم (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا ، فقال : ان كان الميت مرضيا فأعطه له ، وموثقة أبي أيوب (٣) «عن أبي

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ١٣٣ الباب ٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤١ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٦٠ ح ٦٥٧. الوسائل ج ١٣.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٦ ح ١ وص ٣٧٨ ح ٨.

٦١٤

عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى لبعض ورثته أن له عليه دينا فقال : ان كان الميت مرضيا فأعطه الذي أوصى له ، وأما بالنسبة إلى الأجنبي ، فصحيحة ابن مسكان عن العلاء بياع السابري (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة استودعت رجلا مالا فلما حضرها الموت قالت له : ان المال الذي دفعته إليك لفلانة ، وماتت المرأة ، فأتى أولياءها الرجل ، فقالوا له : أنه كان لصاحبتنا مال ، لا نراه إلا عندك ، فأحلف لنا ما قبلك شي‌ء ، أفيحلف لهم؟ فقال : ان كانت مأمونة عنده فيحلف لهم ، وان كانت متهمة فلا يحلف ، ويضع الأمر على ما كان ، فإنما لها من مالها ثلثه».

وأما القول الثالث فيدل عليه بالنسبة إلى الإقرار للأجنبي ، وأنه من الثلث ، صحيحة ابن مسكان (٢) عن العلاء المتقدمة ، وأما بالنسبة إلى الوارث ، وأنه من الثلث مطلقا ، فاستدل عليه بصحيحة إسماعيل بن جابر (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أقر لوارث له وهو مريض بدين قال : قال. يجوز عليه إذا أقر به دون الثلث». وقوى جماعة منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، وسبطه السيد السند في شرح النافع ، حمل الرواية المذكورة وما اشتملت عليه من اعتبار الثلث على حالة التهمة جمعا بينها ، وبين صحيحة منصور المتقدمة.

وزاد في المسالك احتمال أن نفوذه كذلك بغير قيد ، وهو لا ينافي توقف غيره عليه ، قال : مع أن ظاهرها غير مراد ، لأنه اعتبر نقصان المقر به عن الثلث ، وليس ذلك شرطا إجماعا ، انتهى.

أقول : بل الوجه هو الأول الذي يحصل به الجمع بينها وبين الصحيحة المشار إليها ، والرواية التي معها.

واحتمل بعض مشايخنا (عطر الله تعالى مراقدهم) أن يكون «دون» في

__________________

(١ و ٢ و ٣) الكافي ج ٧ ص ٤٢ ح ٣ و ٤، التهذيب ج ٩ ص ١٦٠ ح ٦٦١ و ٦٥٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٠ ح ٥٩٥ و ٥٩٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٧ ح ٢ و ٣.

٦١٥

الرواية بمعنى «عند» وأن يكون المراد الثلث وما دون ، ويكون الاكتفاء مبنيا على الغالب ، لأن الغالب أما زيادته عن الثلث ، أو نقصانه ، وكونه بقدر الثلث بغير زيادة ولا نقص نادر ، انتهى.

أقول : والحمل الثاني غير بعيد فقد وقع التعبير بمثل هذه العبارة في إرادة المعنى المذكور في جملة من موارد الأحكام ، وعليه حمل قوله (١) عزوجل «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ» أي اثنين فما فوق.

ثم أقول : قد روى ثقة الإسلام في الكافي والشيخ في التهذيب في الصحيح عن أبى ولاد (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مريض أقر عند الموت لوارث بدين له عليه؟ قال : يجوز ذلك ، قلت : فإن أوصى لوارث بشي‌ء؟ قال : جائز».

وظاهر هذه الرواية إنما ينطبق على القول الأول ، لكنها معارضة بصحيحة منصور بن حازم (٣) وموثقة أبي أيوب (٤) المتقدمتين ، وقضية الجمع بين الجميع تقييد إطلاق هذه الرواية بتلك الروايتين.

وكيف كان فهي كما ترى ظاهرة في رد القول الثالث بالنسبة إلى الوارث ، سواء قيدت أم لم تقيد ، لأنه قد حكم بكون الإقرار للوارث من الثلث مطلقا ، وهذه الرواية بحسب ظاهرها قد دلت على كونه من الأصل مطلقا ، فهي ظاهرة في رده من أصله ، وبالنظر الى تقييدها بتلك الروايتين يكون ردا عليه في بعض ما أطلقه ، مضافا الى ذلك ما عرفت في الرواية التي استدل له بها ، وبما حررناه يظهر لك أن أظهر الأقوال الثلاثة المذكورة هو القول الثاني.

وفي المسئلة أيضا أقوال آخر ، منها الفرق بين المضي من الأصل والثلث بمجرد التهمة ، وانتفائها.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ١١.

(٢ و ٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٤٢ ح ٥ وص ٤١ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٦٠ ح ٦٦٠ وص ١٥٩ ح ٦٥٦ وص ١٦٠ ح ٦٥٧، الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٧ ح ٤ وص ٣٧٦ ح ١ وص ٣٧٨ ح ٨.

٦١٦

ومنها جعل مناط الفرق المذكور العدالة.

ومنها تعميم الحكم للأجنبي بكونه من الأصل ، وتقييد ذلك في الوارث بعدم التهمة.

وقد ذكر جمع من الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) أن المراد بالتهمة هنا الظن المستند إلى القرائن الحالية والمقالية الدالة على أن المقر لم يقصد بإقراره الاخبار عن حق متقدم ، وإنما المراد تخصيص المقر له بما أقر به ، وحرمان الوارث من حقه أو بعضه ، والتبرع به للغير ، فلذلك جرى مجرى الوصية في الخروج من الثلث خاصة.

والظاهر أن المراد من العدالة في كلامهم هو ما أشار إليه في صحيحة منصور ، وموثقة أبي أيوب بقوله مرضيا ، أى يعتمد على قوله ، ولا يظن به التهمة وقصد حرمان الورثة بإقراره ، وهو المراد أيضا من قوله عليه‌السلام في رواية العلاء بياع السابري «ان كانت مأمونة».

وبالجملة فإنه لما كان الميت ليس له من ماله بعد الموت إلا الثلث خاصة ، وما زاد فهو للوارث ، منع من تصرفه فيه بالوصية ونحوها ، وحينئذ فإذا اعترف بالدين ـ الذي مخرجه من حيث هو من الأصل لتعلقه بالذمة ـ من حيث احتمال اعترافه للصحة والبطلان ، وجب التفصيل فيه بما دلت عليه هذه الأخبار ، من أنه إذا كان مرضيا مأمونا ، له ديانة وورع يحجزه عن مخالفة الحدود الشرعية والأوامر الإلهية ، وجب العمل بظاهر اعترافه ، وأخرج من الأصل ، وإلا فإنما يخرج من الثلث.

وبهذا فيظهر ما في كلام جملة من الأصحاب من أن الإقرار انما يكون من الثلث مع ظهور التهمة ، ومع الشك والجهل بالحال يرجع فيه الى أصالة عدمها ، فيجب الخروج من الأصل ، فإنه خلاف ظاهر الأخبار المذكورة حيث إنها صريحة في كون الإخراج من الأصل مشروطا بكون المقر مرضيا مأمونا ، ومقتضاه

٦١٧

أنه مع الجهل وعدم العلم بوجود الشرط ، أو العلم بعدم وجوده يكون الإخراج من الثلث ، لعدم وجود الشرط الموجب لانتفاء المشروط.

وهذا التحقيق يرجع في الحقيقة إلى القول المتقدم بأن مناط الفرق المذكور العدالة ، كما هو منقول عن العلامة في التذكرة ، وأنها هي الدافعة للتهمة ، وهذا هو ظاهر الأخبار المتقدمة.

ويظهر الفرق بين هذا القول والقول الثاني ما لو كان المقر على ظاهر العدالة ، وقامت القرائن الحالية أو المقالية على التهمة ، فعلى الاكتفاء بظاهر العدالة ، يكون الإخراج من الأصل ، ولا يلتفت الى ما دلت عليه القرائن المذكورة ، وعلى تقدير المشهور من ضم عدم التهمة إلى العدالة وجعلهما شرطين ، يكون الإخراج من الثلث ، لانتفاء أحد الشرطين.

وأنت خبير بأن اعتبار انتفاء التهمة منفردا أو منضما الى شرط العدالة لا يعرف له مستند من الاخبار ، إلا ما يفهم من شرط الامانة وكونه مرضيا الذي هو عبارة عن العدالة عندهم بالتقريب الذي قدمناه.

اللهم إلا أن يقال : ان قيام القرائن بالتهمة الموجب لظنها ينافي العدالة المذكورة ، ولا يجامعها وهو غير بعيد ، وان صرح في المسالك بخلافه ، وجوز اجتماعهما ، بناء على أن العدالة المبنية على الظاهر لا تزول بالظن ، وفيه منع ظاهر فإن العدالة انما تبنى على الظن ، واللازم من ذلك تقابل الظنين وترجيح أحدهما على الآخر يحتاج الى مرجح ، والظاهر أنه لما ذكرناه ذهب صاحب الكفاية إلى قول آخر في المسئلة ، فقال ـ بعد أن فسر التهمة بما قدمنا نقله عن جمع من الأصحاب ـ ما هذا لفظه : والأقوى أن التهمة بالمعنى المذكور توجب المضي من الثلث مطلقا ، وكون المقر ممن يوجب قوله الظن بصدقه ، لكونه أمينا مصدقا يوجب المضي من الأصل ، وفي غير ذلك تأمل ، انتهى.

ومحل التأمل في كلامه ما لو انتفى الوصفان كما في غير العدل ، أو المجهول

٦١٨

العدالة الذي لم تظهر قرائن التهمة عليه ، وقد عرفت آنفا أن مقتضى ظواهر الأخبار الدالة على اشتراط كونه مرضيا في الخروج من الأصل ، أنه متى فقد الشرط وجب انتفاء المشروط ، فالحكم بأنه من الثلث في هذه الصورة بناء على ذلك الظاهر أنه لا اشكال فيه ، إلا أن ما ذكره من التأمل في أمثال هذه المواضع لا يخلو من وجه.

هذا : وقد صرح جملة من الأصحاب منهم العلامة في التذكرة والشهيدان بأنه لو برء المريض فالظاهر نفوذ إقراره من الأصل ، تمسكا (١) «بأن إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». السالم عما يصلح للمعارضة ، فإن رواية العلاء مفروضة في الإقرار الواقع في مرض الموت ، وغيرها لا عموم فيه بحيث يتناول من برء بعد المرض ، واليه مال السيد السند في شرح النافع ، وهو جيد.

تذنيب

بقي في المقام روايات تتعلق بالمسئلة لا بأس بنقلها ، وبيان ما اشتملت عليه ، ومنها صحيحة الحلبي (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : الرجل يقر لوارث بدين؟ فقال : يجوز إذا كان مليا».

وصحيحته (٣) الأخرى قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أقر لوارث بدين في مرضه أيجوز ذلك؟ قال : نعم إذا كان مليا» ، وضمير اسم كان يحتمل رجوعه الى الوارث الذي أقر له ، والغرض من ذكر ملاءته كون ذلك قرينة على صدق المقر في إقراره له ، ويحتمل عوده الى المقر ، ويجعل ذلك كناية عن صدقه وأمانته ، وعلى هذين الاحتمالين يكون مخرجه من الأصل ، ويحتمل رجوعه الى المقر أيضا لا باعتبار الأول بل باعتبار التخصيص بالثلث ، بأن تبقى ملاءته

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ص ١٣٣ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤١ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥٩ ح ٦٥٥.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ١٩٠ ح ٤٠٥.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٨ ح ٥ و ٧.

٦١٩

بالثلثين ، وحاصل الجواب أنه يجوز إقراره في الثلث خاصة ، فيكون مخرجه منه دون الأصل.

ويمكن تأييد هذا المعنى بموثقة سماعة (١) قال : «سألته عمن أقر للورثة بدين عليه وهو مريض؟ قال يجوز عليه ما أقر به إذا كان قليلا».

بحمل القليل فما دونه ، بمعنى أن مخرج هذا الذي أقر به من الثلث ، وعلى هذا تكون هذه الروايات مطابقة لمذهب المحقق في النافع إلا أن تحمل على التهمة كما تقدم ذكره في صحيحة إسماعيل بن جابر (٢) إلا أن الاستناد إليها مع ما هي عليه من الإجمال الموجب لاتساع دائرة الاحتمال لا يخلو من الاشكال ، والحق أن هذه الأخبار لا يظهر لها معنى يعتمد عليه ، ولا يفهم منها حكم يرجع اليه.

ومنها صحيحة سعد بن سعد (٣) «عن الرضا عليه‌السلام قال : سألته عن رجل مسافر حضره الموت ، فدفع مالا الى رجل من التجار ، فقال : ان هذا المال لفلان بن فلان ليس لي فيه قليل ولا كثير ، فادفعه اليه يصرفه حيث شاء ، فمات ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعل له بأمر ، ولا يدرى صاحبه ما الذي حمله على ذلك كيف يصنع؟ قال : يضعه حيث شاء».

قال بعض مشايخنا (رضوان الله عليهم) : قوله «يضعه حيث شاء» أي هو ماله يضعه حيث يشاء ، إذ ظاهر إقراره أنه أقر له بالملك ، ويكفي ذلك في جواز تصرفه ، فلا يلزمه بيان سبب الملك ، ويحتمل أن يكون المراد أنه أوصى اليه بصرف هذا المال في أي مصرف شاء ، فهو مخير في الصرف فيه مطلقا أو في وجوه البر ، انتهى.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٦٠ ح ٦٥٨.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٢ ح ٤.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٦٣ ح ٢٣ وفيه «عن سعد بن إسماعيل عن أبيه» ، التهذيب ج ٩ ص ١٦٠ ح ٦٦٢.

وهما الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٩ ح ٩ وص ٣٧٧ ح ٣ وص ٣٧٨ ح ٦.

٦٢٠