الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

الخامسة : لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في أن الوصي أمين ، لا يضمن ما بيده من الأموال التي تعلقت بها الولاية إلا بتعد أو تفريط ، وينبغي أن يكون المدار في التعدي وعدمه على مخالفة شرط الوصية وعدمها ، فلو ربك الدابة أو لبس الثوب لا لغرض يعود الى الطفل أو نفع يترتب عليه ، كان ذلك تعديا لأن مقتضى الوصية حفظهما أو بيعهما وصرفهما في الجهة المأمور بها ، فتصرفه فيها كذلك لأغراض نفسه تعد البتة.

أما لو تعلق بذلك غرض يعود الى الطفل ، كأن يركب الدابة للمضي في حوائج الطفل من استيفاء دينه ، أو جمع حواصله أو نحو ذلك ، ولبس الثوب لدفع الضرر عنه باللبس ، كما في ثياب الصوف ونحوها في أوقات الحر ونحو ذلك ، فإنه لا يكون تعديا ، بل ربما صار في بعض الأفراد واجبا عليه إذا علم حصول الضرر بدون ذلك.

وظاهر كلامهم أن غاية ما يوجبه التعدي والتفريط وجوب الضمان عليه مع بقائه على الوصاية ، ولا يوجب ذلك عزله ، مع أنهم قد صرحوا بأنه ان ظهر منه خيانة وجب على الحاكم عزله ، والظاهر أن التعدي والتفريط نوع خيانة أيضا إلا أنهم لم يصرحوا بذلك ، بل ربما ظهر من كلامهم في الحكم الأول عدم كون ذلك خيانة ، فينبغي التأمل في ذلك ، ثم ان ما ذكروه من أنه متى ظهرت منه خيانة وجب على الحاكم عزله ، ونصب غيره ظاهر فيما لو لم يشترط عدالة الوصي فإن للحاكم أن يعزل الخائن مراعاة لحق الأطفال ، ومصارف الصدقات ، ونحوها من تنفيذ الأمور الموصى بها.

وأما على تقدير اشتراط العدالة كما هو المشهور ، فإنه ينعزل بنفس الفسق وان لم يعزله الحاكم ، ولعل المراد بعزل الحاكم في كلامهم ما هو أعم من قوله عزلتك كما هو الحكم بالنسبة إلى القول الأول أو منعه من التصرف ، لأنه قد انعزل بنفس الفسق كما هو القول الثاني ، فالمراد بعزله يعنى منعه من التصرف ،

٥٨١

ولو عجز الوصي عن القيام بما أوصى به اليه ، قالوا : ضم اليه الحاكم من يساعده.

وظاهر كلامهم أنه لا فرق في العجز بين أن يكون عن الاستقلال بالوصية حال الوصية اليه ، أو تجدده بعد الوصية قبل موت الموصي أو بعده ، وبه صرح في التذكرة على ما نقل عنه حيث قال : الظاهر من مذهب علمائنا جواز الوصية الى من يعجز عن التصرف ، ولا يهتدى إليه لمشقة أو هرم أو غيرهما ، ويجبر نقصه بنظر الحاكم ، انتهى.

وعلى هذا فكما لا تبطل الوصية بالعجز الطاري كذا لا تبطل لو كان متصفا به ابتداء ، ولا يخلو من اشكال ، لأن الوصية اليه مع العلم لعدم إمكان قيامه بذلك لا فائدة فيها ، ولا يترتب عليها أثر ، فكيف يحكم بصحتها ، وضم الحاكم بعد ذلك شخصا آخر للقيام بها يكون من قبيل نصبه وصيا لمن لم يوص بالكلية ، فلا أثر له في صحة الوصية الاولى.

والى ما ذكرنا يميل كلام شيخنا الشهيد في الدروس حيث انه توقف في صحة الوصية إلى العاجز ابتداء ، فقال : ففي بطلانها من رأس ، وصحتها ويضم الحاكم اليه مقويا نظر ، ينشأ من وجوب العمل بقوله ما أمكن ، ومن عدم الفائدة المقصودة بالوصية ، انتهى.

أقول : لا ريب أن وجوب العمل بقوله انما يتم مع ترتب الأثر المقصود من الوصية عليه ، وإلا فمتى لم يترتب عليه أثر كما هو المفروض ، فإنه لا معنى لهذا الوجوب بالكلية.

وأما ما ذكره في المسالك في الاستدلال على ما ذكره الشهيد من أنه يمكن منع عدم الفائدة على هذا التقدير ، لجواز أن يكون العاجز ذا رأي وتدبير ولكنه عاجز عن الاستقلال ، فيفوض اليه الموصي أمره لذلك ، ويعتمد في إتمام الفعل على نصب الحاكم له معينا ، فتحصل الفائدة المطلوبة من الوصية ، ويسلم من تبديلها المنهي عنه.

٥٨٢

ففيه أولا أن المفروض في كلامهم كما سمعت من عبارة التذكرة «يعجز عن التصرف ولا يهتدى إليه» هو العجز عن ذلك بجميع أنواعه في رأي كان أو فعل ، والعاجز عن الاستقلال مع كونه ذا رأي وتدبير في قوة العاجز عن البعض مع القدرة على البعض ، وهو خلاف محل البحث.

وثانيا أن الاعتماد على نصب الحاكم أمر خارج عن الوصية ، لأنه كما عرفت في قوة نصب وصي لمن لا وصي له بالكلية ، ومحل البحث انما هو وصية الوصي على هذا الوجه الذي لا يترتب على وصيته أثر بالكلية ، لأن الوصية إلى العاجز الذي يعلم عدم قيامه بشي‌ء مما يوصى به إليه في قوة العدم ، ومن المقطوع به عقلا ان مثل هذا لا يصدر عن عاقل ، وانما هو فرض ذكروه.

وبالجملة فما ذكروه من الصحة لا أعرف له وجها وجيها ، والمسئلة باقية في قالب الاشكال وللتوقف فيها مجال ، والله العالم.

السادسة : قال الشيخ في النهاية : إذا كان للوصي على الميت مال لم يجز له أن يأخذه من تحت يده ، إلا ما تقوم له به البينة ، وتبعه ابن البراج ونازعه ابن إدريس في ذلك ، فقال : هذا خبر واحد أورده (رحمه‌الله) إيرادا لا اعتقادا والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنه يأخذ من ماله في يده ، لأن من له على انسان مال ولا بينة له عليه ، ولا يقدر على استخلاصه ظاهرا ، فله أخذ حقه باطنا ، لأنه يكون بأخذ ماله من غير زيادة عليه محسنا لا مسيئا ، وقد قال الله تعالى (١) «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» ، انتهى.

وبما ذكره ابن إدريس صرح الشهيد في الدروس واللمعة ، وظاهر المحقق في الشرائع الميل الى ما ذكره الشيخ في النهاية حيث أفتى أولا بتقييد الجواز بغير اذن الحاكم بما إذا لم يكن له حجة ، ثم قال : وقيل يجوز مطلقا ، وأنت خبير بأن ظاهر كلام الشيخ هو أنه لا يجوز له الأخذ إلا مع الإثبات بالبينة عند

__________________

(١) سورة التوبة ـ الاية ٩١.

٥٨٣

الحاكم ، فلو تعذر الإثبات امتنع الأخذ.

وظاهر كلام المحقق ومثله ظاهر كلام العلامة في المختلف هو التوقف على الإثبات لو كان ثمة بينة ، إلا أنه في المختلف جعله الأولى ولو لم تكن له بينة كان له الأخذ من غير توقف على الإثبات ، وهو قول متوسط بين قولي الشيخ حيث أطلق توقف الجواز على البينة ، وقول ابن إدريس حيث جوز الأخذ مطلقا.

والأصل في هذا الاختلاف ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن بريد بن معاوية (١) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : ان رجلا أوصى الي فسألته أن يشرك معى ذا قرابة له ففعل ، وذكر الذي أوصى الي أن له قبل الذي أشركه في الوصية خمسين ومائة درهم ، وعنده رهن بها جام من فضة ، فلما هلك الرجل أنشأ الوصي يدعي أن له قبله أكرار حنطة ، قال : ان أقام البينة ، وإلا فلا شي‌ء له ، قلت له أيحل له أن يأخذ مما في يده شيئا؟ قال : لا يحل له ، قلت أرأيت لو أن رجلا عدا عليه فأخذ ماله ، فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ ، أكان ذلك له؟ قال : ان هذا ليس مثل هذا».

وهذه الرواية هي مستند الشيخ فيما ذهب إليه في النهاية ، وهي ظاهرة بل صريحة فيما ذهب اليه من العموم ، وابن دريس قد اعتمد على الروايات الكثيرة الدالة على جواز الأخذ مقاصة ممن له عليه الدين ، ولم يتمكن من إثباته وأخذه ، كما صرح به ، والامام عليه‌السلام في هذه الرواية قد أشار الى الفرق بين المسئلتين ، لما عارضه الراوي بتلك المسئلة ، وحينئذ فالاستناد الى تلك الأخبار في الحكم ، كما ذكره ابن إدريس مع إشارته عليه‌السلام الى أن هذه المسئلة ليست مثل ذلك مشكل.

ولعل المراد بخروج هذه المسئلة عن تلك القاعدة التي تكاثرت بها الأخبار ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٧ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٢ ح ٩١٠ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٤ ح ٦١٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٩ ح ١.

٥٨٤

أن هذا الوصي المدعي له شريك في التصرف والتنفيذ ، وهو الوصي الآخر ، فلا يجوز له التصرف بدونه ، وجواز التصرف للوصي الآخر بحيث يدفع اليه ما ادعاه موقوف على الإثبات شرعا ، لأنه ليس له أن يمكنه بمجرد دعواه ، كغيره ممن يدعي على الميت مالا ، بل يجب عليه طلب البينة منه واليمين ، كما هو المقرر في الدعوى على الميت ، ولا يكفى هنا مجرد الثبوت في الواقع ، كما في تلك المسئلة ، لأن ذلك مخصوص بما إذا لم يطلع عليه أحد سواه ، فإنه يجوز له الأخذ مقاصة ، وعلى هذا فالحكم المذكور مختص بمورد الرواية ، وهو وجود وصيين ، ودعوى أحدهما ليمكن توجيه الفرق بين المسئلتين.

وأما على ما ادعاه الشيخ من فرض المسئلة في الوصي ، وان كان واحدا وادعى دينا على الموصي ، فإن الظاهر هنا ما ذهب اليه ابن إدريس ، لأن هذا الفرد أحد أفراد تلك القاعدة التي تكاثرت بها الأخبار ، وقد تقدم تحقيق الكلام فيها في صدر الفصل الأول في البيع من كتاب التجارة (١) وبذلك يظهر أيضا ما في فتوى المحقق ، بتوقف جواز أخذ الوصي واستيفاء حقه على الإثبات ان وجدت البينة ، فإنه ان كان هذا مذهبه في تلك المسئلة كما هو أحد القولين فيها فلا اشكال ، وان كان مذهبه ثمة ، كما هو المشهور من جواز الأخذ مقاصة وان أمكن الإثبات ، فإنه لا معنى لهذا الاشتراط هنا ، مع كون هذه المسئلة أحد أفراد تلك القاعدة.

وبالجملة فالواجب الوقوف على مورد الرواية من وجود وصيين ، أحدهما يدعي المال كما ذكرناه ، فإنه أخص من تلك المسئلة ، وأما لو كان الوصي متحدا فإنه من جملة أفراد تلك المسئلة ، يحكم فيها ما يحكم في تلك المسئلة من جواز الأخذ مقاصة ، كما هو الأشهر الأظهر ، وعلله في المسالك بأن الغرض كونه وصيا في إثبات الديون ، فيقوم مقام الموصي في ذلك ، والغرض من البينة والإثبات

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٤٩.

٥٨٥

عند الحاكم جواز كذب المدعي في دعواه ، فنيطت بالبينة شرعا ، وعلمه بدينه أقوى من البينة التي يجوز عليها الخطأ ، ولأنه بقضاء الدين محسن (١) «وما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» قال : وبهذا يظهر الفرق بين دين الموصي وغيره ، حيث لا يعلم به الوصي ، وعلى تقدير علمه يمكن تجدد البراءة منه ، فلا بد من إثباته ، حتى باليمين مع البينة بذلك ، انتهى.

والأولى جعل ذلك وجها للنصوص الدالة على جواز الأخذ والمقاصة للوصي الذي هو أحد أفراد تلك القاعدة ، فإنها هي الأصل في إثبات الحكم المذكور.

تذنيب :

قد ظهر مما قررناه أنه متى كان الوصي متحدا فان الظاهر كما هو المشهور أنه يجوز له استيفاء دينه عملا بروايات تلك القاعدة المشهورة.

بقي الكلام فيما لو كان الدين لغيره ، وهو عالم به ، بمعنى أنه سمع إقرار الموصي به قبل الموت بزمان لا يمكن فيه القضاء ، ويكون المستحق ممن لا يمكن في حقه الإبراء ، كالطفل مثلا والمسجد ونحوهما ، فان ظاهر الأصحاب أن للوصي أداء الدين المذكور ، أما لو كان أصحاب الدين كبارا يمكن الإبراء في حقهم ، فلا بد من إحلافهم على بقائه ، وان علم به سابقا ، إلا أنهم (رضي‌الله‌عنهم) صرحوا بأنه لا يكفي إحلاف الوصي إياهم ، إلا إذا كان مستجمعا لشرائط الحكم ، بمعنى كونه فقيها جامع الشرائط ، وصرحوا بأنه ليس للحاكم أن يأذن له في التحليف ، بناء على علمه بالدين ، بل لا بد من ثبوته عند الحاكم ، لأن الحكم لا يجوز لغير أهله ، نعم له بعد ثبوته ـ عنده بالبينة ـ توكيله في إحلافهم.

أقول : وعلى هذا تخرج المسئلة عن الاكتفاء بعلم الموصي في جواز أداء الدين العالم به ، وتبقى ثمرة ذلك في تولية تحليفهم.

__________________

(١) سورة التوبة ـ الاية ٩١.

٥٨٦

السابعة : لا خلاف في أن الموصى لو أذن لوصيه بالإيصاء ، فإنه يجوز له إجماعا ، وكذا لا خلاف فيما لو منعه ، فإنه لا يجوز له ، وانما محل الخلاف السكوت عن كل من الأمرين وإطلاق الوصية ، فالمشهور المنع ، وأن النظر بعده للحاكم الشرعي ، وهو مذهب الشيخ المفيد وأبى الصلاح وابن إدريس والمحقق والعلامة وغيرهم ، وذهب جمع منهم الشيخ في النهاية وابن الجنيد والقاضي ابن البراج الى الجواز ، والشيخ في النهاية بعد أن قال : بجواز الإيصاء.

قال : وقال بعض أصحابنا : أن ليس له أن يوصى الى غيره بما كان يتصرف فيه ، فإذا مات كان على الناظر في أمر المسلمين أن يقيم من ينظر في ذلك ، فان لم يكن هناك امام كان لفقهاء آل محمد عليهم‌السلام ، وذوي الآراء منهم أن يتصرفوا في ذلك إذا تمكنوا منه ، وان لم يتمكنوا فليس عليهم شي‌ء ، ولست أعرف بهذا حديثا مرويا.

وقال في الخلاف : إذا أوصى الى غيره وأطلق الوصية ، ولم يقل إذا متّ فوصيي فلان ، ولا قال : فمن أوصيت إليه فهو وصيي ، لأصحابنا فيه قولان : المروي أن له أن يوصي الى غيره ، وقال بعض أصحابنا : ليس له أن يوصى فإذا مات أقام الناظر في أمر المسلمين من ينظر في تلك الوصية. دليلنا على القولين ، روايات أصحابنا (رضي‌الله‌عنهم) بجواز الإيصاء.

أقول : أنظر الى ما دل عليه الكلام الأول من أنه ليس يعرف بهذا حديثا والى ما دل عليه الكلام الأخر ، من أن دليل القولين روايات أصحابنا.

وقال ابن الجنيد والقاضي ابن البراج : وقد روى ابن بابويه في كتابه في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (١) «أنه كتب الى أبى محمد الحسن بن علي عليه‌السلام رجل كان وصي رجل فمات فأوصى إلى رجل آخر هل يلزم الوصي وصية الرجل الذي كان هذا وصيه؟ فكتب عليه‌السلام : يلزمه بحقه ، ان كان له قبله حق ان شاء الله

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٦٨ ح ٥٨٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٠ الباب ٧٠ ح ١.

٥٨٧

تعالى». الظاهر أن المراد بالحق هنا حق الإيمان.

أقول : أنت خبير بما في الرواية المذكورة من الإجمال ، وتعدد الاحتمال ، والمستدل بها قد استدل بها بناء على ما ذكره من تفسير الحق بحق الإيمان ، فكأنه عليه‌السلام قال : يلزمه القيام بوصيته ان كان مؤمنا وفاء لحقه ، بسبب الايمان ، فإنه يقتضي معونة المؤمن وقضاء حوائجه.

ولا يخفى ما فيه ، والأقرب في معنى الخبر ما ذكره شيخنا في المسالك ، واليه أشار العلامة في المختلف من حمل الحق في الخبر على حق الوصية إلى الوصي الأول ، بمعنى أن الوصية تلزم الوصي الثاني بحق الأول ان كان له ، أي للأول قبله ، يعنى قبل الوصي الأول حق ، بأن يكون قد أوصى اليه ، وأذن له أن يوصي ، فقد صار له قبله حق الوصية ، فإذا أوصى بها لزمت الثاني ، وهذا الاحتمال ان لم يكن أرجح لا أقل أن يكون مساويا ، وبه يسقط الاستدلال بالخبر في هذا المجال ، على أن حق الايمان لا يختص بهذا الوصي الثاني ، بل يجب على كل مؤمن كفاية ، والكلام في اختصاص هذا الوصي من حيث الوصاية ، لا من حيث جهة المعونة العامة.

وبالجملة فالأصل يقتضي المنع من التعدي الى غير الوصي الأول ، لأن المتبادر من استنابته في التصرف مباشرته بنفسه ، وبموته يسقط ذلك ، وتفويض التصرف الى غيره يحتاج الى دليل ظاهر ، والرواية على ما عرفت من الإجمال ، وتعدد الاحتمال لا تصلح للاستدلال.

فان قيل : ان ما ادعيتموه من أن المتبادر من استنابة الوصي في التصرف مباشرته بنفسه ، ينتقض عليكم بالتوكيل فيما هو وصى فيه ، فان للوصي أن يوكل فيما جرت العادة بالتوكيل فيه ، بل وغيره على ما اختاره في المسالك أيضا ، فلو اقتضى إطلاق الإيصاء المباشرة ، لما جاز التوكيل ، وبعضهم اعتمد على هذا دليلا للقائلين بهذا القول ، فقال : ويدل عليه جواز الوكالة ، فكما جازت الوكالة جاز الإيصاء.

٥٨٨

والجواب عن ذلك أولا بأنه يرجع الى قياس الوصاية على الوكالة ، ومع قطع النظر عن كونه قياسا مع الفارق ، غير صحيح على أصولنا معشر الإمامية

وثانيا ما ذكره شيخنا في المسالك واليه أشار الشهيد قبله في شرح الإرشاد من الفرق بين الوكالة والوصاية ، لأن الوكالة على جزئيات مخصوصة ملحوظة بنظره حيا يمضى منها ما وافق غرضه ، ويرد ما خالف ، بخلاف الإيصاء الذي لا يحصل أثره إلا بعد الموت ، وفوات نظره ، وأيضا فإن الوصي في حال حياته مالك للتصرف على الوجه المأذون فيه ، ووكيله بمنزلته ، بخلاف تصرف الوصي بعد وفاته ، لزوال ولايته المقصورة بنفسه ، وما في حكمه بموته.

وكيف كان فالظاهر بناء على المشهور أنه يرجع الأمر في تنفيذ وصاية الموصي الأول إلى الحاكم ، أو عدول المؤمنين مع عدمه ، كما صرحوا به في غير موضع ، إلا أن الظاهر من عبارة الشيخ المتقدم نقلها عن كتاب النهاية الاختصاص هنا بالإمام أو نائبه الفقيه الجامع الشرائط ، ومثلها عبارة الشيخ المفيد أيضا ، ويمكن تقييدهما بما أشرنا إليه مما صرح به الأصحاب في أمثال هذا الموضع ، كما سيأتي في المسئلة ان شاء الله تعالى ، والله العالم.

الثامنة : لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو مات ولم يوص الى أحد وكان له تركة وأموال وأطفال ، فإن النظر في تركته للحاكم الشرعي ، وانما الخلاف في أنه لو لم يكن ثمة حاكم فهل لعدول المؤمنين تولي ذلك أم لا؟ الذي قد صرح الشيخ وتبعه الأكثر الأول ، وقال ابن إدريس بالثاني.

قال الشيخ في النهاية : إذا مات انسان من غير وصية كان على الناظر في أمر المسلمين أن يقيم له ناظرا ينظر في مصلحة الورثة ، ويبيع لهم ويشترى ، ويكون ذلك جائزا فان لم يكن السلطان الذي يتولى ذلك أو يأمر به ، جاز لبعض المؤمنين أن ينظر في ذلك من قبل نفسه ، ويستعمل فيه الأمانة ويؤديها من غير إضرار بالورثة ، ويكون ما يفعله صحيحا ماضيا.

٥٨٩

وقال ابن إدريس : والذي يقتضيه المذهب أنه إذا لم يكن سلطان يتولى ذلك فالأمر فيه الى فقهاء شيعه آل محمد عليهم‌السلام من ذوي الرأي والصلاح ، فإنهم عليهم‌السلام قد ولوهم هذه الأمور ، ولا يجوز لمن ليس بفقيه ان يتولى ذلك بحال ، فان تولاه فإنه لا يمضى شي‌ء مما يفعله ، لأنه ليس له ذلك بحال ، فأما إن تولاه الفقيه مما يفعله ، صحيح جائز ماض ، انتهى.

وتردد المحقق في الشرائع ، والواجب أولا ذكر ما وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بالمقام ، ثم الكلام فيها بما رزق الله فهمه منها بتوفيق الملك العلام وبركة أهل الذكر عليهم‌السلام.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (١) قال : «مات رجل من أصحابنا ، ولم يوص فرفع أمره الى قاضي الكوفة فصير عبد الحميد القيم بماله ، وكان الرجل خلف ورثة صغارا ومتاعا وجواري ، فباع عبد الحميد المتاع فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه في بيعهن إذ لم يكن الميت صير إليه الوصية وكان قيامه فيها بأمر القاضي لأنهن فروج قال : فذكرت ذلك لأبي جعفر عليه‌السلام فقلت له : يموت الرجل من أصحابنا ولا يوصى الى أحد ويخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منا لبيعهن أو قال : يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه ، لأنهن فروج ، فما ترى في ذلك؟ قال : فقال : إذا كان القيم مثلك ومثل عبد الحميد فلا بأس».

وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن علي بن رئاب (٢) في الصحيح في بعض طرقه قال : «سألت أبا الحسن موسى عليه‌السلام عن رجل بيني وبينه قرابة ، مات وترك أولادا صغارا وترك مماليك وغلمان وجواري ولم يوص فما ترى

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٢٠٩ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٤٠ ح ٩٣٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٦٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٩ ح ٩٢٨ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦١ ح ٥٦٤.

وهما في الوسائل ج ١٢ ص ٢٧٠ ح ٢ وج ١٣ ص ٢٧٤ ح ١.

٥٩٠

فيمن يشتري منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ وما ترى في بيعهم؟ قال : فقال : ان كان لهم ولي يقوم بأمرهم باع عليهم ونظر لهم وكان مأجورا فيهم ، قلت : فما ترى فيمن يشترى منهم الجارية يتخذها أم ولد؟ قال : لا بأس بذلك ، إذا باع عليهم القيم لهم الناظر فيما يصلحهم وليس لهم أن يرجعوا فيما صنع القيم لهم والناظر لهم فيما يصلحهم».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن إسماعيل بن سعد الأشعري (١) في الصحيح قال : «سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل مات بغير وصية وترك أولادا ذكرانا وغلمانا صغارا ، وترك جواري ومماليك هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال : نعم ، وعن الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت ، ولا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه وله أولاد صغار وكبار؟ أيجوز أن يدفع متاعه ودوابه الى ولده الأكابر أو إلى القاضي؟ وان كان في بلده ليس فيها قاض كيف يصنع؟ وان كان دفع المال إلى ولده الأكبر ولم يعلم به فذهب ولم يقدر على رده كيف يصنع؟ قال : إذا أدرك الصغار وطلبوا فلم يجد بدا من إخراجه ، إلا أن يكون بأمر السلطان ، وعن الرجل يموت بغير وصية وله ورثة صغار وكبار أيحل شراء خدمه ومتاعه من غير أن يتولى القاضي بيع ذلك ، فان تولاه قاض قد تراضوا به ، ولم يستعمله الخليفة أيطيب الشراء منه أم لا؟ فقال : إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس به إذا رضى الورثة بالبيع ، وقام عدل في ذلك».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن سماعة (٢) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل مات وله بنون وبنات صغار وكبار من غير وصية وله خدم ومماليك وعقد كيف يصنع الورثة بقسمة ذلك الميراث ، قال ان قام رجل ثقة قاسمهم ذلك

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦٦ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٩ ح ٩٢٧.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٦٧ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٤٠ ح ٩٢٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦١ ح ٥٦٣.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٥ ح ٣ وص ٤٧٤ ح ٢.

٥٩١

كله فلا بأس.

أقول : لا يخفى ان الظاهر من هذه الأخبار باعتبار ضم بعضها الى بعض ، وحمل مطلقها على مقيدها ومجملها على مفصلها هو ما صرح به الأكثر ، فإنه هو الأقرب منها والأظهر.

أما صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع فإنه عليه‌السلام قد أجاب فيها (١) «إذا اتفق أن القيم الذي نصبه القاضي مثلك ومثل عبد الحميد يعني في الوثاقة والعدالة فلا بأس» ومن المعلوم أن نصب القاضي عندنا في حكم العدم ، فمرجع الكلام إلى أنه ان تولى ذلك ثقة فلا بأس ، وهو أظهر ظاهر في المراد.

أما صحيحة علي بن رئاب فالولي فيها مجمل ، يجب حمله على ما يدل عليه غيرها من الحاكم الشرعي أو عدول المؤمنين كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى.

وأما صحيحة إسماعيل بن سعد الأشعري فقد دل صدرها على جواز بيع الجواري مع عدم وجود وصي كما هو المفروض في السؤال وهو وان كان مطلقا ، لكن يجب تقييد إطلاقه بتولي العدول لذلك ، كما نبه عليه في آخر السؤال الأخير ، بقوله فلا بأس إذا رضي الورثة بالبيع يعنى الكبار منهم ، وقام عدل في ذلك يعني بالنسبة إلى الصغار ، وأظهر من ذلك موثقة سماعة حيث شرط عليه‌السلام في صحة الميراث المذكور قيام ثقة عن الأطفال يقاسم البالغ منهم.

وبالجملة فإن الروايات المذكورة ظاهرة في جواز قيام العدل الثقة بذلك ، وأنه بهذه الأخبار مأذون في الدخول ، سواء وجد الإمام أم لا ، ولا يبعد القول بجواز تولية ذلك أيضا مع وجود الفقيه الجامع للشرائط ، وان كان ظاهر الأصحاب خلاف ذلك ، لأن القائلين بهذا القول قيدوا ذلك بتعذر الفقيه ، لأنه النائب العام كما تضمنته مقبولة عمر بن حنظلة (٢) ونحوها إلا أنه يمكن أن يقال : انه بهذه الأخبار قد حصل الإذن للثقة العدل منهم عليه‌السلام بتولي ذلك مطلقا ،

__________________

(١) نقل بالمعنى.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤١٢ ح ٥ ، الوسائل ج ١٨ ص ٣ ح ٤.

٥٩٢

كما هو ظاهرها.

وأخبار النيابة موردها كما هو الظاهر من سياقها انما هو الفتوى في الأحكام ، والقضاء بين الخصوم ، وأما مثل الولاية على طفل أو مال غائب أو نحو ذلك ، فليس في الأخبار ما يدل على اختصاصه بالإمام أو الفقيه الجامع للشرائط.

نعم ذلك وقع في كلام الأصحاب ، وبذلك يظهر لك ما في كلام ابن إدريس من الضعف والقصور لبنائه على أن الثقة غير مأذون له في الدخول في هذه الأمور.

قال في المسالك : ويستثني من موضع الخلاف ما يضطر إليه الأطفال والدواب من المؤنة ، وصيانة المشرف على التلف ، فان ذلك ونحوه واجب على الكفاية على جميع المسلمين ، فضلا عن العدول منهم ، حتى لو فرض عدم ترك مورثهم مالا فمؤنة الأطفال ونحوهم من العاجز عن التكسب واجب على المسلمين من أموالهم كفاية ، كإعانة كل محتاج ، وإطعام كل جائع يضطر اليه ، فمن مال المحتاج إليه أولى ، انتهى.

ومرجع كلامه (قدس‌سره) الى أن هذه الأشياء التي يضطر إليها يجب إخراجها عن محل الخلاف ، بمعنى أنها لا يتوقف على وجود الإمام أو النائب أو الثقة ، فلو لم يوجد أحد منهم امتنع النظر فيه ، بل يجب ذلك على الكافة وجوبا كفائيا ان لم يوجد أحد من هؤلاء ، وهو جيد.

وقال في المسالك أيضا : اعلم أن الأمور المفتقرة إلى الولاية إما أن يكون أطفالا أو وصايا أو حقوقا أو ديونا فان كان الأول فالولاية فيهم لأبيه ، ثم لجده لأبيه ، ثم لمن يليه من الأجداد على ترتيب الولاية ، الأقرب منهم الى الميت فالأقرب ، فإن عدم الجميع فوصي الأب ، ثم وصي الجد ، وهكذا فان عدم الجميع فللحاكم ، والولاية في الباقي غير الأطفال للوصي ، ثم للحاكم ، والمراد به السلطان العادل أو نائبه الخاص أو العام مع تعذر الأولين ، الى ان قال : فان فقد الجميع

٥٩٣

فهل يجوز أن يتولى النظر حينئذ في تركة الميت من يوثق به من المؤمنين؟ قولان : ثم نقل القولين المتقدمين في المسئلة ، ونفى البأس عن القول المشهور ، والله العالم.

التاسعة : لو أوصى بالنظر في مال ولده إلى أجنبي وله أب فللأصحاب في ذلك أقوال ثلاثة : أحدها ـ البطلان مطلقا ، لما تقدم في كلام شيخنا الشهيد الثاني من أن ولاية الجد وان علا على الولد مقدمة على ولاية وصي الأب ، وحينئذ فإذا نصب الأب وصيا على ولده المولى عليه مع وجود أبيه أي جد الطفل لم يصح مطلقا ، لأن ولاية الجد ثابتة بأصل الشرع ، فليس للأب نقلها عنه ، ولا جعل شريك له في ذلك.

وثانيها ـ بطلان الولاية زمان ولاية الجد خاصة ، بمعنى أنه لو أوصى الأب إلى أجنبي فإن ولايته تبطل ما دام الجد موجودا ، وبعد موت الجد تعود الولاية إلى الوصي ، لأن ولاية الأب شاملة للأزمان كلها إلا زمان ولاية الجد ، فيختص البطلان بزمان وجوده.

ورد بأن الأب لا ولاية له بعد موته مع وجود الجد ، فإذا انقطعت ولاية الأب بموته لم يقع ولاية وصيه ، فإذا مات الجد افتقر عود ولايته ـ لتؤثر في منصب الوصي ـ إلى دليل ، إذ الأصل عدم عودها ، فلا تصح في حال حياة الجد ، ولا بعد موته.

ودعوى ـ أن ولاية الأب ثابتة في جميع الأزمان المستقبلة التي من جملتها ما بعد موت الجد ـ غير معلوم ، بل هو محل البحث والنزاع ، كما لا يخفى ، وانما المعلوم انقطاع ولايته بعد موته ، مع وجود الجد بعده ، لا ثبوتها بعد موت الجد.

وثالثها ـ صحة الولاية في الثلث خاصة ، لأن له إخراجه عن الوارث أصلا ، فيكون له إثبات ولاية غيره عليه بطريق أولى ، ورد بمنع الولاية بل الملازمة ،

٥٩٤

فان ازالة الملك يقتضي إبطال حق الوارث منه أصلا ، وهو الأمر الثابت له شرعا وأما بقائه في ملك الوارث فإنه يقتضي شرعا كون الولاية عليه لمالكه ، أو وليه الثابت ولايته عليه بالأصالة ، فلا يكون للأب عليه ولاية بالنسبة إليه أصلا ، ومن ذلك ظهر أن أجود الأقوال الأول ، ونقل الأول والأخير عن الشيخ في المبسوط نقله في المسالك.

العاشرة : اختلف الأصحاب وغيرهم في وقت اعتبار الشروط المعتبرة في صحة الوصاية من الكمال والإسلام والحرية والعدالة ونحوها مما تقدم ، هل هو عند الوصية؟ أو عند الموت؟ أو من حين الوصية مستمرا الى أن ينفذها بعد الموت ، فقيل : بالأول ، وهو مختار الأكثر ، كما نقله في المسالك ، والمراد باعتبار وجودها حال الوصية بمعنى وجودها قبلها ، ولو بآن ما قضية للشرطية ، فإن الشرط يعتبر تقدمه على المشروط.

قالوا : والوجه في هذا القول أن هذه المذكورات شرائط صحة الوصية ، فإذا لم تكن حال إنشائها موجودة لم يكن العقد صحيحا ، لأن عدم الشرط يوجب عدم المشروط كما في شرائط سائر العقود ، ولأنه في وقت الوصية ممنوع من التقويض الى من ليس بالصفات ، والنهي في المعاملات إذا توجه الى ركن العقد دل على الفساد ، ولأنه يجب في الوصي أن يكون بحيث لو مات الموصي كان نافذ التصرف ، مشتملا على صفات الوصاية ، وهو هنا منتف ، لأن الموصي لو مات في هذه الحال لم يكن الوصي أهلا لها.

وقيل : بالثاني وأن المعتبر اجتماعها عند الوفاة ، حتى لو أوصى الى من ليس بأهل ، فاتفق كماله عند الوفاة واستكماله الشرائط صحت الوصية ، لأن المقصود منها التصرف بعد الموت ، فيعتبر اجتماع الشروط حينئذ ، لأنه محل الولاية ، ولا حاجة الى وجودها قبل ذلك ، لانتفاء الفائدة.

وقيل : بالثالث ، وهو الاعتبار من حين الوصية إلى حين الوفاة ، والى هذا

٥٩٥

القول مال شيخنا الشهيد في الدروس ، حيث قال (عطر الله مرقده) بعد ذكر الشرائط : ثم هذه الشرائط معتبرة منذ الوصية إلى حين الموت ، فلو اختل أحدها في حالة من ذلك بطلت. وقيل : يكفى حين الوصية ، وقيل : حين الوفاة.

قالوا : والوجه في هذا القول ، أما حين الوصية ، فلما تقدم في توجيه القول الأول ، وأما الاستمرار الى حين الوفاة ، فلأن الوصاية من العقود الجائزة ، فمتى عرض اختلال أحد شرائطها بطلت كنظائرها ، ولأن المعتبر في كل شرط حصوله في جميع أوقات المشروط ، فمتى أخل في أثناء الفعل وجب فوات المشروط إلا ما استثنى في قليل من الموارد بدليل من خارج.

قال في المسالك : وربما يقال : أنه لا يستثني منه شي‌ء لأن ما خرج عن ذلك يدعى أن الفعل المحكوم بصحته عند فوات الشرط ليس مشروطا به مطلقا ، بل في بعض الأحوال دون بعض ، وهذا أولى ، انتهى.

وقيل : وهو الرابع أن المعتبر وجود الشرائط من حال الوصية الى أن ينتهي متعلقها بأن يبلغ الطفل ويخرج الوصايا ويقضي الديون وغير ذلك ، لأن اشتراط هذه الأمور يقتضي فوات مشروطها متى فات بعضها في كل وقت ، فلو فرض فوات بعضها بعد الوصية الى قبل انتهاء الولاية بطلت ، قال في المسالك بعد ذكر ذلك : وهذا هو الأقوى.

أقول : مبنى هذه الأقوال كلها على أن الوصية عقد ، فيجب أن يراعى فيه ما يراعى في سائر العقود ومن القواعد المقررة عندهم أن العقد إذا كان مشروطا بشرط ، فهو عدم عند عدم شرطه ، فهذا العقد إذا كان مشروطا بكون الموصى إليه معتبرا بهذه الصفات ، فلا بد من وجود هذه الصفات ، وإلا لبطل.

بقي الكلام والخلاف في وقت اعتبارها ، هل هو حال الوصية خاصة ، أو عند الوفاة؟ أو من حين الوصية إلى حين الوفاة؟ أو إلى ان ينتهي متعلق الوصاية؟ وأنت خبير بأن كون الوصية عقد مثل سائر العقود ، فيشترط فيها ما يشترط فيها ، وان كان

٥٩٦

هو المشهور في كلامهم ، بل ظاهرهم الاتفاق عليه ، إلا أنه لم يقم عليه دليل تركن النفس اليه ، بل ربما ظهر من الأخبار خلافه ، فإنهم قد جعلوا أيضا من جملة الواجبات فيه بناء على كونها عقدا القبول ، مع أنا لم نقف فيه على دليل ، بل ربما دل الدليل على خلافه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في جملة من مسائل المقصد الأول ، وغاية ما يستفاد من الأخبار أن الوصية بالنسبة الى الموصى له لا يخرج عن العطية ، وبالنسبة إلى الوصاية لا يخرج عن الاذن والاستنابة ، ولا عقد هنا بالكلية.

فمما يدل على ما قلناه في الوصاية ما تقدم في المسئلة الثانية من خبر علي بن يقطين (١) في «رجل أوصى الى امرأة وأشرك في الوصية معها صبيا فقال عليه‌السلام : يجوز ذلك ، وتمضى المرأة الوصية ، ولا تنتظر بلوغ الصبي». الخبر فإنه لا يدل على أزيد من أن الرجل أمر المرأة بأن تنفذ ما عينه لها فيه ، واستنابها ، وضم إليها الصبي المذكور ، وأي عقد هنا يفهم من هذا الكلام أو قبول لفظي كما اعتبروه في المقام ، ونحو ذلك صحيحة الصفار المذكورة (٢) ثمة في «رجل أوصى الى ولده وفيهم كبار وصغار أيجوز للكبار ان ينفذوا وصيته ، ويقضوا دينه ، قبل أن يدرك الأوصياء الصغار؟ فوقع عليه‌السلام : نعم» الخبر : فان المتبادر من هذا الكلام أن الموصى استناب أولاده ، وأمرهم واذن لهم في تنفيذ هذه الوصايا بأن قال : افعلوا كذا وكذا ، فوجب عليهم بعد موته القيام بذلك ، وأي دلالة لهذا الكلام على عقد في المقام ، وعلى هذا النهج جملة الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، فان سموا مثل هذا الأمر والاذن والاستنابة عقدا فلا مشاحة في التسمية ، ولكن ما ذكروه من ترتب أحكام العقود عليه ممنوع ، وإلا لجرى ذلك في كل من أمر شخصا بأمر ، وأذن له في فعل.

وبالجملة فإنك عرفت في المباحث السابقة أن ما يدعونه من العقد في كثير من تلك المواضع لا يخلو من الإشكال أيضا.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٤٦ ح ١ و ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٩ ح ٢ وص ٤٣٨ ح ١.

٥٩٧

إذا عرفت ذلك وثبت أن غاية ما تدل عليه الأخبار هو الاذن والاستنابة في تنفيذ هذه الأمور الموصى بها.

فنقول : ينبغي أن تكون تلك الشروط محلها وقت التنفيذ ، واعتبارها في ذلك الوقت ، وهذا يرجع الى القول الثاني من الأقوال المتقدمة ، وما طعن به في المسالك ـ على هذا القول ورده به ـ من قوله ويضعف بأن الوصاية لما كانت عقدا ولم يحصل شروطها حالة الإيجاب وقع العقد فاسدا ، فيه ما عرفت من أنه لا دليل على هذا العقد الذي بنوا الكلام عليه في المقام وغيره ، وكلامنا انما هو مبني على عدمه ، فلا يرد علينا ما أورده ، ولعل القائل بهذا القول من أصحابنا أيضا يمنع كون الوصية عقدا فلا يرد عليه ما أورده ، وهذه الأقوال مع التعليلات التي ذيلت بها كلها للعامة ، كما لا يخفى على من راجع كتاب التذكرة ، وغيره من الكتب التي تصدوا فيها لنقل أقوالهم.

وفيها من البعد عن ساحة الأخبار ما لا يخفى على ذوي البصائر والأبصار ، ولأصحابنا في عدد الأقوال في المسئلة اضطراب ، فمنهم من أنها إلى أربعة حسبما ذكرناه كشيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ومنهم من جعلها ثلاثة كشيخنا الشهيد في الدروس وشرح الإرشاد ، ومنهم من رجعها الى اثنين خاصة ، كالمحقق والشيخ ، ولكل وجه اعتباري يدفعه ما ذكره غيره ، والله العالم.

المقصد السابع في اللواحق :

وفيه أيضا مسائل الاولى : اختلف الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في منجزات المريض ، والمراد بها المعجلة حال الحياة إذا كانت تبرعا كالمحابات في المعاوضات من البيع بأقل من ثمن المثل ، والشراء بأزيد منه ، والهبة ، والصدقة ، والوقف ، والعتق ، وبالجملة فما اشتمل على تفويت المال بغير عوض ، كالهبة وما بعدها ، والمحاباة كالأولين ، ونحوهما ، هل يخرج من الأصل أو الثلث؟ مع الاتفاق على

٥٩٨

أنه لو برء ، من مرضه لزم ذلك ، وكان مخرجه من الأصل ، وانما الخلاف فيما لو مات في مرضه ذلك ، فذهب الشيخان في النهاية والمقنعة وابن البراج وابن إدريس إلى أنه من الأصل ، وهذا القول هو الظاهر عندي من الأخبار بعد النظر فيها بعين التأمل والاعتبار ، واليه مال جملة أفاضل متأخري المتأخرين ، كالمحدث الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي ، والفاضل المولى محمد باقر الخراساني في الكفاية ، والمحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني (قدس الله أرواحهم).

وذهب الشيخ في المبسوط ، والصدوق ، وابن الجنيد الى أن ذلك من الثلث وهو المشهور بين المتأخرين ومنشأ الخلاف المذكور اختلاف الأخبار في ذلك واختلاف الأنظار والأفهام في تلك المدارك ، وها أنا أذكر أدلة كل من القولين مذيلا لها بما تنكشف به ان شاء الله تعالى غشاوة الاشكال ، ويجتمع به على وجه لا يعتريه الاختلال مستمدا منه سبحانه إفاضة الصواب ، والعصمة من الوقوع في شباك الاضطراب والارتياب.

فأقول : مما يدل على القول الأول وهو الذي عليه القول ، ظاهر قوله عزوجل (١) «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً».

وقد روى الشيخ في الصحيح عن زرارة (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : فقال «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً» وهذا يدخل فيه الصداق والهبة».

والتقريب أنه دل بإطلاقه على ما يشمل الصحة والمرض ، فتكون الآية دالة بمعونة تفسيرها بالخبر المذكور على صحة الهبة في مرض الموت مطلقا من غير تقييد بالثلث.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الموثق عن عمار

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥٢ ح ٦٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٩ ح ١.

٥٩٩

الساباطي (١) «أنه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : صاحب المال أحق بماله ما دام فيه شي‌ء من الروح ، يضعه حيث يشاء».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (٢) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يكون له الولد أيسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ قال : هو ماله يصنع به ما يشاء ، الى أن يأتيه الموت».

ورواه المشايخ الثلاثة عن أبى بصير (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما قيل : من احتمال أن يكون المراد بإتيان الموت ما يشمل حضور مقدماته ، فيشمل مرض الموت ، فهو من الاحتمالات الباردة ، والتخريجات الكاسدة كما يكشف عنه تتمته في بعض طرق صاحب الكافي فإنه رواه بطريق آخر الى أبى بصير (٤) عنه عليه‌السلام وزاد فيه «ان لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيا ان شاء وهبه ، وان شاء تصدق به ، وان شاء تركه ، الى أن يأتيه الموت ، فان أوصى به فليس إلا الثلث ، إلا أن الفضل في أن لا يضع من يعوله ، ولا يضر بورثته».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن بإبراهيم بن هاشم (٥) أو الصحيح على القول بصحة حديثه ، وهو المختار ، وفاقا لجمع من علمائنا الأبرار عن أبى شعيب المحاملي عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الإنسان أحق بماله ما دامت الروح في بدنه».

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٧ ح ١ وص ٨ ح ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٦ ح ٧٤٨ وص ١٧٨ ح ٧٤٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٩ ح ٥١٧.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٨ ح ٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٧ ح ٧٥٠ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٩ ح ٥١٨.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٨ ح ١٠.

(٥) الكافي ج ٧ ص ٨ ح ٩ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٧ ح ٧٥١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٨١ ح ٤ و ١ و ٢ وص ٣٨٣ ح ٨.

٦٠٠