الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

اشتراط عدم ظهور فسقه.

وأما اشتراط ظهور عدالته فقد عرفت أن الاحتياط ـ حيث ان المسئلة غير منصوصة ـ يقتضيه.

بقي هنا شي‌ء وهو أنه على تقدير اشتراطها ابتداء هل يشترط استدامتها بمعنى أنه لو نصب عدلا ثم ظهر فسقه بطلت وصايته أم لا؟ المشهور الأول ، وكذا على القول بعدم اشتراطها لو أوصى الى العدل ، ثم ظهر فسقه بعد موت الموصي ، فإن المشهور بطلان وصايته ، ووجوب عزله ، والوجه في ذلك ، أما على اشتراطها ابتداء فظاهر ، لفوات الشرط ، وأما على عدم الاشتراط فلان الظاهر أن الباعث له على اختيار العدل ـ مع جواز الوصية إلى غيره ، كما هو مقتضى القول المذكور ـ إنما هو عدالته ، والوثوق بأمانته ، فإذا خرج عن حد العدالة فات الباعث ، وخرج عن الاستيمان ، إذ الظاهر أنه لو كان حيا لاستبدل به ، كذا احتج به في المختلف ، وذهب ابن إدريس إلى صحة الوصية ، وعدم بطلانها بذلك ، قال ـ بعد أن نقل عن الشيخ في المبسوط أنه لو تغيرت حالة الوصي لفسق أخرجت الوصية من يده ، لأن الفاسق لا يكون أمينا ـ ما لفظه : هذا الكتاب معظمه فروع المخالفين ، في كلام الشافعي وتخريجاته ، ولم يورد أصحابنا في ذلك شيئا ، لا رواية ولا تصنيفا ، والأصل صحة الوصية اليه ، والاعتماد عليه مع قوله تعالى (١) «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» وعزله عن الوصية وإخراجه منها تبديل وتغيير بلا خلاف.

أقول : لا ريب أن الشيخ هنا انما حكم بالبطلان ، بناء على مذهبه في المسئلة من اشتراط العدالة ابتداء كما هو المشهور ، وهو من القائلين بذلك ، كما تقدم نقله عنه في المبسوط ، وحينئذ فرد ابن إدريس وحكمه بالصحة يعطى مخالفته في هذه الصورة أيضا ، وأما في صورة ما اختاره ابن إدريس من عدم اشتراط العدالة ابتداء فهو بطريق أولى.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ١٨١.

٥٦١

والتحقيق أن يقال : إنا شرطنا العدالة كما هو المشهور ، فان الظاهر هو البطلان لو ظهر الفسق ، لأن اشتراطها ابتداء يقتضي الاستدامة ، لما عرفت من أن الغرض من شرط العدالة هو الوثوق والاطمئنان بعدم المخالفة في شي‌ء من الأمور الموصى بها ، والإتيان بها على الوجه المأمور به ، وذلك يقتضي الاستدامة في جميع تصرفاته.

وخلاف ابن إدريس على هذا التقدير ضعيف ، مع أنه قد صرح في كتاب الوصايا على ما نقله عنه في المختلف بأنه لو مات الوصي أو فسق ، أقام الحاكم مقامه من يراه ، وما استند اليه من النهى عن التبديل ليس على عمومه ، بل يجب تقييده بما إذا لم يخالف المشروع فلو خالف جاز تبديله ، ومتى لم يشترط العدالة ابتداء كما هو القول الآخر فان القول بعدم البطلان كما ذهب اليه ابن إدريس غير بعيد ، وما ذكره العلامة (رحمه‌الله عليه) في تعليل البطلان من أن الظاهر أن الباعث له على اختيار العدل انما هو عدالته جيد ، لو علم أن الباعث له على جعله وصيا هو عدالته ، وإلا فمجرد احتمال ذلك لا يكفي في الحكم بالبطلان ، إذ من الجائز والقريب كون الباعث على نصبه أمرا آخر ، من صحبته أو قرابته ، أو نحو ذلك ، وجاز أن يكون العدالة مزيدة في الباعث ، لا سببا تاما ، فلا يقدح فواتها ، ومن ثم ان المحقق في الشرائع لم يجزم هنا بالبطلان ، بل قال : أمكن القول بالبطلان.

وبالجملة فإن ما ذهب اليه ابن إدريس من الصحة على القول المذكور جيد ، إلا مع تحقق العلم بأن الباعث على نصب العدل هو العدالة ، والله العالم.

الثانية : قد صرحوا بأن من جملة الشروط أيضا في الوصية الحرية ، فلا تصح وصاية المملوك ، لاستلزامها التصرف في مال الغير ، لأن الوصاية يستدعي نظرا في الموصى به وسعيا في تنفيذه ، وهو موجب للتصرف في ملك الغير ، فلا يصح إلا بإذن المولى ، فتصح لزوال المانع ، ولا يخفى أن هذا انما يتم فيما إذا

٥٦٢

أوصى الى مملوك غيره.

وأما مملوك نفسه من قن أو مدبر أو مكاتب أو أم ولد فنقل في الدروس عن الشيخ عدم الصحة ، وعن الشيخ المفيد وسلار أنهما جوزا الوصية إلى المدبر والمكاتب مطلقا ، وظاهر المختلف أن محل الخلاف أعم من مملوك نفسه ، ولم يحضرني الآن ما يمكن تحقيق الحال منه ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه متى أذن له المولى في قبول الوصاية لم يكن له الرجوع من الأذن المذكور بعد موت الموصي ، وان كان في حياته فله الرجوع بشرط إعلام الموصي ، والحكم هنا في المولى كما في الموصي الحر ، باعتبار التفصيل في الرجوع بين الموت والحياة بشرط الاعلام وعدمه ، فيصح الرجوع بشرط كون ذلك في الحياة ، وبشرط الاعلام ، ويبطل في ما عدا ذلك كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى بعد ذكر المسئلة ، والمولى هنا في حكم الوصي المذكور في ذلك ، وان كان فعل ما تعلقت به الوصية منوطا بالمملوك.

ومن جملة الشروط عندهم أيضا الإسلام إذا كان الموصي مسلما ، أو كافرا والوصية على أطفال المسلمين ، فلا تصح الوصية إلى كافر وان كان رحما ، لأنه ليس من أهل الولاية على المسلمين ، ولا من أهل الأمانة ، إلا أن يوصى الكافر الى مثله ان لم يشترط العدالة في الوصي ، وأما مع اشتراطها فهل يكفى عدالته في دينه أم تبطل مطلقا؟ وجهان : من أن الكفر أعظم من فسق المسلم ، ومن أن الغرض صيانة مال الطفل وأداء الأمانة ، وهو يحصل بالعدل منهم ، واضطرب كلام شيخنا الشهيد الثاني (قدس‌سره) هنا ، فرجح في المسالك الحكم بالصحة ، وفي الروضة المنع ، قال في المسالك : ويحتمل قويا الحكم بصحتها مطلقا مع عدالته في دينه ، لأن الغرض منها صيانة مال الطفل ، وحفظ حاله وأداء الأمانة ، وإذا كان الكافر في دينه مجانبا للمحرمات ، قائما بالأمانات حصل الغرض المطلوب بخلاف فاسق المسلمين ، وقال في الروضة : والأقوى المنع بالنظر الى مذهبنا ، ولو أريد صحتها عندهم وعدمه فلا غرض لنا في ذلك ، ولو ترافعوا إلينا فإن

٥٦٣

رددناهم الى مذهبهم ، وإلا فاللازم الحكم ببطلانها ، بناء على اشتراط العدالة ، إذ لا وثوق بعدالته في دينه ، ولا ركون إلى أفعاله لمخالفتها لكثير من أحكام الإسلام ، انتهى.

وأطلق الأكثر كالمحقق في الشرائع والشهيد في اللمعة والدروس والعلامة في جملة من كتبه وغيرهم جواز وصية الكافر الى مثله ، مع أن المشهور عندهم اشتراط العدالة في الوصي ، وهو مؤذن بالقول بالاكتفاء بعدالة الكافر في دينه ، وبه يظهر رجحان ما قواه في المسالك.

ومن جملتها البلوغ ، وقد تقدم الكلام في أنه لا تجوز الوصية إلى الصبي إلا أن يكون منضما الى بالغ ، وأنه لا يتصرف الصغير قبل البلوغ ، فإذا بلغ صار شريكا ، وللبالغ الاستقلال بالتصرف ما دام صغيرا ، قيل : وفائدة صحة الوصية إلى الصغير منضما مع عدم صحة تصرفه تأثير نصيبه في تلك الحال في جواز تصرفه بعد البلوغ.

أقول : ويدل على هذه الأحكام أعني صحة وصاية الصغير منضما الى البالغ وصحة تصرف البالغ وحده قبل بلوغ الصبي ، وعدم جواز تصرف الصبي قبل البلوغ ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى الى امرأة وأشرك في الوصية معها صبيا؟ فقال : يجوز ذلك وتمضى المرأة الوصية ولا تنتظر بلوغ الصبي وإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلا ما كان من تبديل وتغيير فان له أن يرده الى ما أوصى به الميت».

وما رواه المشايخ المذكورون في الصحيح عن محمد بن الحسن الصفار (٢) قال : «كتبت الى أبى محمد عليه‌السلام : رجل أوصى الى ولده وفيهم كبار قد أدركوا ، وفيهم صغار أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيته ويقضوا دينه لمن صح على الميت

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٤٦ ح ١ و ٢، التهذيب ج ٩ ص ١٨٤ ح ٧٤٣ وص ١٨٥ ح ٧٤٤، الفقيه ج ٤ ص ١٥٥ ح ١ و ٢، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٩ ح ٢ وص ٤٣٨ ح ١.

٥٦٤

بشهود عدول قبل أن يدركوا الأوصياء الصغار؟ فوقع عليه‌السلام نعم على الأكابر من الولدان أن يقضوا دين أبيهم ولا يحبسوه بذلك».

وما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه (١) حيث «قال عليه‌السلام : وإذا أوصى رجل الى امرأة وغلام غير مدرك ، فجائز للمرأة أن تنفذ الوصية ، ولا تنتظر بلوغ الغلام ، وليس للغلام إذا أرادت هي وأدرك الغلام أن يرجع في شي‌ء مما أنفذته المرأة إلا ما كان من تغيير أو تبديل».

وروى الصدوق في الفقيه عن علي بن الحكم عن زياد بن أبى الحلال (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) هل أوصى الى الحسن والحسين مع أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : نعم ، قلت : وهما في ذلك السن قال : نعم ، ولا يكون لغيرهما في أقل من خمس سنين». وظاهر هذا الخبر المنع من الوصية إلى الصبي قبل بلوغ خمس سنين ، ولم أطلع على قائل به ، والأخبار الدالة على الجواز غير مطلقة ، وظاهر الأصحاب الفتوى بإطلاقها ، ومقتضى الجمع بين تقييد الجميع إطلاقها بهذا الخبر ، ويحتمل أن يكون المراد بالوصية الى الحسن والحسين بالنسبة الى ما يجرى عليهما بعده من امتثال ما أمرهما به من الصبر ، والعمل بما وقع عليهما امتثالا لوصيته ، (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

بقي الكلام في أنه لو مات الصغير أو بلغ فاسد العقل فالمشهور أن للبالغ الانفراد بالوصية ، ولا يداخله الحاكم ، وعلل بأن شركة الصبي مشروطة ببلوغه كاملا ، ولم يحصل ، فيبقى الاستقلال الثابت له أولا بالنص على حاله عملا بالاستصحاب ، ومداخلة الحاكم مشروطة بعدم وجود الوصي المستقل ، وهو هنا موجود.

وقيل : باحتمال بطلان استقلاله بذلك ، لأن الموصي إنما فوض اليه الاستقلال

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٢٦.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ١٧٦ ح ٦١٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٣٩ ح ٣.

٥٦٥

الى حين بلوغ الصبي ، فكأنه جعله مستقلا إلى مدة مخصوصة لا مطلقا.

أقول : والظاهر أنه من هنا نقل عن العلامة في التذكرة والشهيد في الدروس التردد في هذا الحكم ، وفي المسالك رجح الأول ، ثم قال : نعم لو بلغ رشيدا ثم مات بعده ولو بلحظة زال الاستقلال ، لفقد شرطه.

إلحاق :

ما ذكرنا من الصفات المشترطة في الوصي وهي الكمال والإسلام والحرية وزاد بعضهم اهتداء الوصي إلى فعل ما أوصى فيه ، وقد وقع الخلاف في وقت اعتبارها على أقوال ثلاثة ، نقلها الشيخ في المبسوط : الأول ـ أنها تعتبر حال الوصية ، لأنها حالة القبول والاستيمان والركون اليه ، ومخاطبته بالعقد ، وحالة الوفاة ، لأنها حالة ثبوت التصرف له ، وهذا القول اختيار الشيخ وابن إدريس وظاهر اختيار المحقق.

الثاني ـ اعتبار حالة الوفاة لأنها حالة ثبوت الولاية ، ولا عبرة بالتقدم لعدم نفوذ تصرفه حينئذ.

الثالث ـ اعتبارها في جميع الحالات من حين الوصية إلى حين الوفاة ، عملا بالاحتياط ، وهذه الأقوال كلها مشتركة في اعتبار حال الوفاة ، وقد نقلها الشهيد في شرح الإرشاد ، وسيأتي ان شاء الله تعالى مزيد تحقيق في ذلك.

الثالثة : لو أوصى الى اثنين فلا يخلو إما أن يشترط اجتماعهما ، وحينئذ فلا يجوز لأحدهما أن يتفرد عن صاحبه بشي‌ء من التصرف ، لأن الظاهر من شرط الاجتماع أنه لم يرض برأي أحدهما منفردا ، وبالجملة فإن ولايتهما لم تثبت إلا على هذا الوجه.

وإما أن يجوز لهما الانفراد ، ولا ريب أن تصرف كل منهما منفردا جائز بمقتضى الوصية ، لأن كل واحد منهما وصي مستقل ، ويجوز لهما حينئذ اقتسام

٥٦٦

المال ، وتصرف كل منهما فيما يخصه ، ولكن ليست هذه القسمة حقيقة بل لكل منهما التصرف في نصيب الآخر ، لأن كلا منهما وصي في المجموع ولهذا انه لا فرق في القسمة بين كونها متساوية أو متفاوتة ، حيث لا تحصل بها ضرر.

وإما أن يطلق ، وهذا هو محل الاشكال والبحث ، فقيل ـ وهو مذهب الشيخ في الاستبصار والمبسوط وقبله الصدوق في الفقيه وغيرهما وعليه أكثر المتأخرين كالمحقق والعلامة والشهيد وغيرهم ـ : بأن الواجب الاجتماع ، لأن المفهوم من الإطلاق ارادة الاجتماع ، لو حصل الاشتباه ، فللقائل أن يقول ثبوت الولاية لهما مجتمعين معلوم ومتفق عليه ، وثبوتها لكل واحد منفردا مشكوك فيه ومختلف فيه ، فالواجب الأخذ باليقين المؤيد بالاتفاق عليه ، ويرجع الى أصالة انتفائها عن كل واحد منفردا.

وقيل ـ وهو مذهب الشيخ في النهاية ـ : بجواز الانفراد ، وهذا الاختلاف نشأ من اختلاف إفهامهم في روايات المسئلة.

ومنها ما رواه في الكافي في الصحيح عن محمد بن يحيى (١) قال : «كتب محمد بن الحسن الصفار الى أبى محمد عليه‌السلام : رجل مات وأوصى الى رجلين أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة ، والآخر بالنصف ، فوقع عليه‌السلام : لا ينبغي لهما أن يخالفا الميت ، وأن يعملا على حسب ما أمرهما ان شاء الله تعالى».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن بريد بن معاوية (٢) قال : «ان رجلا مات وأوصى إلي وإلى آخر أو الى رجلين فقال أحدهما لصاحبه : خذ نصف ما ترك ، وأعطني النصف مما ترك فأبى عليه الآخر ، فسألوا أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فقال : ذلك له». وهاتان الروايتان هما الدائرتان في كلام الأصحاب وهما محل البحث والاختلاف.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٤٦ ح ١ وص ٤٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٥ ح ٧٤٥ و ٧٤٦ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥١ ح ٥٢٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٠ ح ١ و ٣.

٥٦٧

وقال عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) وإذا أوصى رجل الى رجلين فليس لهما أن ينفرد كل منهما بنصف التركة ، وعليهما إنفاذ الوصية على ما أوصى الميت ، وبهذه العبارة عبر الشيخ علي بن الحسين بن بابويه على ما نقله عنه في المختلف.

قال في الفقيه بعد نقل حديث الصفار ، وهذا التوقيع عندي بخطه عليه‌السلام وعليه العمل ، ثم قال بعد إيراد الخبر الثاني : لست أفتى بهذا الحديث بل أفتي بما عندي بخط الحسن بن علي عليه‌السلام ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الأخذ بقول الأخير كما أمر به الصادق عليه‌السلام.

قال الشيخ في التهذيب ونعم ما قال : رادا على الصدوق ظن أنهما متنافيان ، وليس الأمر على ما ظن ، لأن قوله عليه‌السلام : ذلك له ، يعني «في الحديث الأخير» أن له أن يأبى عليه ولا يجيبه الى ملتمسه. فلا تنافي.

أقول : والصدوق (رحمة الله عليه) ظن رجوع الإشارة إلى صدر الخبر المتضمن لطلب أحدهما القسمة وأن الامام عليه‌السلام جوز ذلك له ، وهو بعيد جدا ، بل الحق هو رجوع الإشارة إلى الامتناع من القسمة ، فيكون موافقا للخبر الأول ، فإنه ظاهر في عدم جواز القسمة ، وأن مقتضى الإطلاق بجعلهما وصفين هو الاجتماع.

والظاهر أن الشيخ في النهاية إنما قال : بجواز الانفراد ، تعويلا على رواية بريد المذكورة ، بحمل الإشارة فيها على الرجوع ، الى صدر الخبر ، كما توهمه الصدوق (رحمة الله عليه) ، ولكنه في التهذيبين رده بما عرفت.

وبالجملة فالظاهر من الخبرين المذكورين هو ما ذكره الشيخ في كتابي الأخبار وهو وجوب الاجتماع ، وعدم جواز الانفراد ، وأصرح منهما في ذلك كلامه عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي.

وأما ما ذكره في المسالك من عدم دلالة رواية الصفار على وجوب الاجتماع ، قال : لأن لفظ لا ينبغي ظاهر في الكراهة لا الحظر ، ففيها دلالة على جواز الانفراد

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٢٦ الباب ٤٣ ح ١.

٥٦٨

على كراهة ، وتبقى تلك مؤيدة لها كما فهمه الشيخ في فتوى النهاية ، فإنه أجود مما فهمه في التهذيب ، مع أن المتأخرين كالعلامة في المختلف ومن بعده فهموا من الرواية المنع من الانفراد ، واستحسنوا حمل الرواية الأخرى على ما ذكره الشيخ (رحمة الله عليه) ، وربما رجح الحمل بأن الإباء أقرب من القسمة ، فعود اسم الإشارة إليه أولى ، وفيه أن الإشارة بذلك الى بعيد فحمله على القسمة أنسب باللفظ ، انتهى.

ففيه : أولا ـ أن ما ذكره من أن لفظ لا ينبغي ظاهر في الكراهة ان أراد باعتبار العرف الجاري بين الناس الآن فهو كذلك ، ولكن لا حجة فيه ، وان أراد باعتبار عرفهم عليهم‌السلام فهو ممنوع ، فإن ورود لا ينبغي في التحريم وينبغي في الوجوب أكثر كثير في الأخبار ، كما لا يخفى على من جاس خلال الديار ، وقد حققنا في غير موضع مما تقدم ، سيما في كتاب العبادات ، ان هذا اللفظ من الألفاظ المتشابهة بحسب العرف الشرعي والحمل على أحد معنييه يحتاج إلى القرينة ، والقرينة هنا واضحة في التحريم ، وأن لا ينبغي بمعنى لا يجوز ، لأن مرجع الكلام ومحصله إلى النهي عن مخالفة الميت ، ولا ريب أن المخالفة محرمة ، لأنها متضمنة للتبديل المنهي عنه في الآية ، وإذا ثبت أن المخالفة محرمة علم أن لفظ «لا ينبغي في المقام» بمعنى لا يجوز ، كما هو واضح ، ويؤكده قوله ثانيا «ويعملا على حسب ما أمرهما» وفي الجميع إشارة الى أن القسمة والانفراد المسئول عنه في الخبر مخالفة للميت فيما أمر به ، وأنهما متى فعلا ذلك لم يعملا على حسب ما أمرهما ، ومنه يعلم أن مقتضى الإطلاق هو الاجتماع كما ذكرنا سابقا.

وثانيا ـ أن ما ذكروه في ترجيح عود الإشارة إلى القسمة ـ من أن الإشارة في الخبر وقعت بلفظ ذلك ، وهي أنسب بالحمل على البعيد ، فتكون الإشارة راجعة إلى القسمة ـ مردود ، بأن الذي في الرواية انما هو الإشارة بذاك التي هي للقريب ، لا بذلك كما توهمه (قدس‌سره) فتكون الإشارة راجعة إلى الامتناع ،

٥٦٩

لأنه هو الأقرب ، هذا مع الجري على مقتضى هذه المضايقات البعيدة ، وإلا فباب المجاز في الكلام أوسع من أن يتطرق اليه هذا الإلزام ، سيما مع ظهور الحكم من الأخبار بما عرفت من التحقيق ، والى بعض ما أوردناه عليه أولا تنبه أخيرا فعدل الى القول بالتحريم.

وأما ما ذكره في الوافي اعتراضا على الشيخ في الاستبصار أنه لو لا تفسير الحديث بما فسره لكانا متنافيين ، وليس الأمر على ما ظن ، لان حديث الصفار ليس نصا على المنع من الانفراد ، لجواز أن يكون معناه أنه ليس عليهما إلا إنفاذ وصاياه على ما أمرهما ، وان لا يخالفا فيها أمره تفردا أو اجتمعا ، أو يكون معناه أنه ان نص على الاجتماع وجب الاجتماع ، وان جوز الانفراد جاز الانفراد ، وبالجملة انما الواجب عليهما أن لا يخالفا ، انتهى.

فلا يخفى ما فيه ، ولولا أنه اعترف بعد هذا الكلام بما أشرنا إليه ، فقال في تتمة الكلام المذكور : إلا أن ما ذكره صاحب الاستبصار هو الأحسن والأوفق والأصوب ، انتهى ، لأوضحنا ما فيه ، وقد تلخص مما ذكرناه وجوب الاجتماع في صورة الإطلاق ، كما هو الأشهر الأظهر ، فشرط الاجتماع لو وقع حينئذ محمول على التأكيد ، والمراد بوجوب اجتماعهما في الصورتين اتفاقهما ، وأن لا يصدر شي‌ء من الأمور الموصى بها إلا عن اتفاق منهما على كونه مصلحة ، وإذا توقف على عقد وقع من أحدهما بإذن الآخر ، أو إذنا لثالث.

وتمام تحقيق البحث في المقام يتوقف على بيان أمور الأول : إذا تشاح الوصيان في صورة وجوب الاجتماع عليهما من الإطلاق ، بناء على الأشهر الأظهر أو في صورة اشتراط الموصى بمعنى أنهما تمانعا ، وأبى كل واحد على صاحبه ما يريده ، فقد أطلق جمع منهم الشيخ في المبسوط عدم جواز تصرف أحدهما ، والوجه فيه ظاهر ، لأن الموصى لم يرض برأي أحدهما منفردا فيكون تصرفه حينئذ تصرفا بغير اذن ، كتصرف الأجنبي.

٥٧٠

واستثنى جماعة منهم المحقق ما تدعو الحاجة اليه ، ولا يمكن تأخيره إلى وقت الاتفاق ، من نفقة اليتيم والرقيق والدواب ، ومثله شراء كفن الميت ، وزاد بعضهم قضاء ديونه ، وإنفاذ وصية معينة ، وقبول الهبة عن الصغير مع خوف فوات النفع.

وفصل العلامة في القواعد ، ففرق بين صورة الإطلاق في الوصية ، وبين صورة النهي عن الانفراد ، فاحتمل ضمان المنفرد في الصورة الثانية ، وجوز ما لا بد منه في الصورة الأولى ، وحمل كلام الأصحاب على ذلك.

وأورد عليه بأن من الأصحاب من صرح بعدم الفرق بين الحالين ، فلا يمكن حمل كلامه على ما ذكره من التفصيل ، وبأن حالة الإطلاق ان حملت على ارادة الاجتماع كما فهمه الأكثر فلا فرق بينهما وبين حالة النهي عن الانفراد إلا باعتبار التأكيد في هذه دون تلك كما تقدمت الإشارة إليه ، فلا وجه للفرق بالكلية حينئذ ، وقيل : ويضمن المنفرد مطلقا ، وهو الأوفق بالعلة المتقدمة ، ونقل عن أبى الصلاح أنه مع التشاح يرد الناظر في المصالح الأمر الى من كان أعلم بالأمر وأقوى عليه ، ويجعل الباقي تبعا له ، وفيه ما عرفت من أن الموصي لم يوص برأي أحدهما منفردا ، حيث أمر بالاجتماع إما بالتصريح به ، أو لكونه مقتضى الإطلاق كما عرفت ، فكيف يخص به أحدهما ، وان كان أعلم أو أقوى وقد منعه الموصي من ذلك.

ثم انه قد صرح جملة من الأصحاب بأنه مع التشاح والتعاسر منهما يجبرهما الحاكم على الاجتماع ، فان اتفق وإلا استبدل بهما ، وهو على إطلاقه مع القول باشتراط العدالة في الوصي كما عليه الأكثر لا يخلو من الإشكال ، لأنه بالتشاح والتعاسر منهما مع إمكان الاجتماع وانما قصدا بذلك محض العناد من كل منهما للآخر يثبت فسقهما الموجب لعزلهما عن الوصية ، فيجب أن يستبدل الحاكم بهما ، لا أنه يجبرهما على الاجتماع ، والحال كما عرفت.

٥٧١

ولقد أحسن ابن إدريس هنا حيث قال في مسئلة التشاح : وان ناقض نفسه بما ذكره في المسئلة الأولى قال : ان تشاحا في الوصية والاجتماع لم تنفذ بشي‌ء مما تصرفا فيه ، الى أن قال : وللناظر في أمور المسلمين الاستبدال بهما ، لأنهما حينئذ قد فسقا ، لأنهما أخلا بما وجب عليهما القيام به ، وقد بينا أن الفسق يخرج الوصية من يده ، انتهى مع أنه في مسئلة اشتراط العدالة وعدمه ، صرح أولا بالاشتراط ، ثم عدل عنه في آخر كلامه ، فقال : والذي يقتضيه أصول مذهبنا ويشهد به أصولنا وروايتنا أن العدالة في الوصي ليست شرطا في صحة الوصية ، للإجماع على صحة إيداع الفاسق وهي أمانة فكذا الوصية ، انتهى ، ثم عقب ذلك بمسئلة الوصيين ، وقال فيها ما عرفت ، والجميع في موضع واحد ، وربما أمكن فرض التشاح من غير استلزام الفسق فيما إذا اختلف رأيهما في وجه المصلحة مثلا ، فلا يمكنهما الاجتماع على رأي واحد ، لأن كل واحد مكلف بما يقتضيه رأيه من الحكم ، وينبغي أن يستثني هذا من محل البحث المذكور ، فإنه لا يمكن إجبار الحاكم هنا لهما على الاجتماع ، وعلى هذا يخص محل البحث بما يمكن فيه الاجتماع ويكون التشاح ناشيا عن التشهي والميل الطبيعي كأن يريد أحد الوصيين تفرقة صدقة المال الموصى به لذلك على أناس مخصوصيين ، ويريد الآخر غيرهم مع تساوى الجميع في الاستحقاق ، أو أراد أحدهما شراء نوع من المأكول والملبوس للطفل ، وأراد الآخر غيره مع التساوي في المصلحة ، ونحو ذلك فان هذا هو محل البحث.

ونقل عن العلامة في التذكرة أنه بالغ في المسئلة ، وصرح بأنهما لا ينعزلان بالاختلاف ، وأن اللذين أقامهما الحاكم نائبان عنهما وهو عجيب ، والله العالم.

الثاني : قالوا : لو مرض أحدهما أو عجز ضم اليه الحاكم من يقويه ، وهذه العبارة لا تخلو من الإجمال ، وتعدد الاحتمال ، فيحتمل أن يكون المراد

٥٧٢

منها أن المضموم اليه هو المريض والعاجز بأن يكون الضمير في «اليه» و «يقويه» راجعا الى المريض ، والعاجز ، بمعنى أن الحاكم يضم إليهما شخصا يقويهما ويعينهما على التصرف ، ويساعدهما على ذلك ، فان المرض والعجز لا يخرجهما عن الوصاية ، لجواز الوصية ابتداء الى المريض والعاجز ، فكما لا يقدح في الابتداء ، كذا لا يقدح في الاستدامة ، وأيضا على هذا فيعتبر اجتماع الثلاثة في التصرف.

ويحتمل أن يكون المراد أن المضموم اليه هو الوصي الآخر المدلول عليه بأحدهما ضمنا ، وحينئذ يكون الضمير في «اليه» وفي «يقويه» راجعا إلى الوصي الآخر المشار اليه ، وعلى هذا يراد بالعجز والمرض البالغين حد المنع وعدم إمكان التصرف ، وبهذا صرح في الدروس فإنه جعل الضميمة مع عجز أحدهما كما لو جن أو فسق ، ومن الظاهر أن جعل العاجز والمريض كالمجنون والفاسق اللذين لا وصاية لهما يعطى بلوغ العجز والمرض الى حد يمنع من القيام بشي‌ء من الوصايا ، فيكون المضموم اليه هو الوصي الآخر البتة.

وبالجملة فإنه ينبغي أن يكون المدار في ذلك على مرتبتي العجز والمرض ، فان بلغتا إلى حد العجز الكلي وهو الحد الذي يمنع من القيام بشي‌ء من الوصايا ، فإنه يكون للضم إلى الوصي الآخر ، وإلا فإن الضم الى المريض والعاجز ، لأن العجز والمرض إنما منع عن القيام بالجميع مع ثبوت أصل القدرة ، فيكون المضموم إليهما مساعدا لهما في الأشياء التي تضعف عنها قوتهما ، وعلى هذا فتكون الأوصياء ثلاثة ، كما تقدم.

الثالث : قالوا : لو مات أحد الوصيين أو فسق لم يضم الحاكم الى الآخر. وجاز له الانفراد ، لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود وصي ، وتردد فيه بعضهم.

أقول : ينبغي أن يعلم أن ذكر الموت والفسق انما خرج مخرج التمثيل ، والمعنى أنه لو تعذرت مشاركة أحد الوصيين للآخر على الاجتماع ، لأحد الموانع

٥٧٣

كموت أو فسق أو عجز كلي أو جنون أو غيبة بعيدة ، فالمشهور هو أن الحكم في ذلك ما ذكر من استقلال الآخر بالوصية ، من غير أن يضم اليه الحاكم بدلا من الوصي الآخر ، لأنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي ، وهو هنا موجود ونصب الآخر معه لا يخرجه من كونه وصيا ، ولهذا يقال : نصب وصيين ، هكذا قيل.

وفيه أن الظاهر من نصب الوصيين الذي قد عرفت آنفا أن مقتضاه الاجتماع ، وهو أن الموصي لم يرض برأي أحدهما منفردا كما تقدم ذكره ، فتصرفه وحده مناف لمقتضى الاجتماع المفهوم من الإطلاق ، ومنه يعلم أنه مناف لغرض الموصي.

وقولهم أنه لا ولاية للحاكم مع وجود الوصي مسلم لو كان الوصي منفردا ، وأما في صورة الاشتراك فهو ممنوع ، وصدق وجود الوصي حقيقة هنا ممنوع ، بل الموجود جزء وصي ، وإطلاق الوصي عليه مجاز ، وبه يثبت المنع من انتفاء ولاية الحاكم هنا ، بل الولاية له ثابتة ، لأن ولايته تتعلق بما لا يشرع إنفاذه لغيره من أحكام الميت ، وهو هنا كذلك.

قال في المسالك : والأقوى وجوب الضم ، وليس للحاكم أن يفوض اليه وحده ، وان كان عنده صالحا للاستقلال ، لأن الموصي لم يرض برأيه وحده ، وعند وجود ارادة الموصي لا تعتبر ارادة الحاكم ، لأن ذلك كمنعه من كونه وصيا بالانفراد ، فلا يتخطاه الحاكم ، انتهى وهو جيد.

الرابعة : لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في أن للوصي أن يرد الوصاية ما دام الموصى حيا بشرط أن يبلغه ذلك ، فلو مات الموصى قبل الرد أو بعده ولم يبلغه لزمه القيام بها ، وبذلك تكاثر الأخبار.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (طيب الله تعالى مراقدهم) عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان أوصى رجل الى رجل وهو غائب فليس له أن يرد وصيته ، فإن أوصى اليه ، وهو بالبلد ، فهو بالخيار ان شاء قبل ، وإن شاء لم يقبل».

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٥ ح ٨١٤ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٤ ح ٤٩٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٨ ح ١.

٥٧٤

والمراد أنه مات الموصى في تلك الغيبة ، قبل أن يعلمه الوصي بالقبول أو عدمه ، فإنه يجب عليه القيام بالوصاية ، وان لم يقبل».

وما رواه في الكافي والفقيه عن فضيل بن يسار (١) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل يوصى اليه فقال : إذا بعث بها اليه من بلد فليس له ردها ، وان كان في مصر يوجد فيه غيره فذلك اليه».

والتقريب فيه ما تقدم في سابقه ، بمعنى أنه لو مات الموصي بعد البعث وقبل وصول الجواب اليه بالقبول وعدمه ، وحاصله أنه إذا أوصى اليه والوصي غائب عن البلد ، ثم مات لزمه القيام بالوصية قبل أو لم يقبل ، وان أوصى اليه وهو حاضر فإنه مخير بين القبول وعدمه ، لأن المصر يوجد فيه غيره.

وعن منصور بن حازم (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : أوصى الرجل إلى أخيه ، وهو غائب فليس له أن يرد عليه وصيته ، لأنه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها طلب غيره».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الفضيل (٣). وكذلك الشيخ في التهذيب «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يوصي اليه؟ قال : إذا بعث بها من بلد اليه ، فليس له ردها».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٤) «وإذا أوصى رجل الى رجل وهو شاهد فله أن يمتنع من قبول الوصية ، وكان الموصى إليه غائبا ، ومات الموصي من قبل أن يلتقي مع الموصى إليه ، فإن الوصية لازمة للموصى إليه».

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٥ ح ٨١٥ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٤ ح ٤٩٧.

(٢ و ٣) الكافي ج ٧ ص ٦ ح ٣ و ٤، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٦ ح ٨١٦ و ٨١٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٥ ح ٥٠٠. الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٨ ح ٣.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٨ ح ٢ و ٣ وص ٣٩٩ ح ٥.

(٤) المستدرك ج ٢ ص ٥٢٢ الباب ٢١ ح ٢.

٥٧٥

أقول : وهذا الخبر مبين لما اجعل في الأخبار المتقدمة كما ذيلناها به ، وتحقيق الكلام في المقام أنك قد عرفت فيما تقدم أن الوصية من العقود الجائزة في حياة الموصي فلكل من الموصي والموصى له بمال ونحوه ، والموصى إليه بالولاية ، فسخها في حياة الموصي إجماعا.

وأما بعد موته فان قبل كل من الموصى له والموصى إليه فليس له الرد اتفاقا ، وان لم يقبل في حال الحياة جاز له الرد بعد وفاته ، إلا أنه في الموصى إليه مشروط بأن يبلغ الموصي ويعلمه الرد في حال حياته ، فلو لم يعلمه ذلك في حال الحياة لزمه القيام بذلك ، ولم يكن لرده أثر يترتب عليه ، هذا هو المشهور.

وعليه تدل الأخبار المذكورة ، لأنها كما عرفت متفقة في أنه لو كان الموصى إليه غائبا ومات الموصي بعد الوصية فليس له الرد ، سواء بلغه الخبر وردها ، ولكن لم يبلغ الرد الموصي أو لم يبلغه الخبر إلا بعد موت الموصي ، فإنه ليس له الرد ، بل يجب عليه القبول ، وحينئذ فالحكم في هذه الصورة كما في الصورة الأولى أعني موت الموصى بعد قبول الوصي ، فإنه ليس للوصي الرد بعد موته اتفاقا.

وذهب العلامة في التحرير والمختلف إلى أنه يجوز له الرجوع ما لم يقبل ، قال في المختلف : أطلق الأصحاب عدم جواز رد الوصية إذا لم يعلم الوصي بها حتى يموت الموصي ، أو يعلم ويرد ، ولما يعلم الموصي بالرد ، لروايات كثيرة ثم نقل رواية منصور بن حازم ، وصحيحة محمد بن مسلم قال : والوجه عندي المصير الى ذلك ان كان قد قبل الوصية أولا ، وان لم يكن قبل ولا علم جاز له الرجوع ، للأصل ، ولازالة الضرر الواصل بالتحمل غير المستحق ، وقد قال الله تعالى (١) «ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» وقال عليه‌السلام (٢) «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام». وتحمل الأحاديث على حصول القبول ، لأنه عقد ولا بد فيه من القبول ،

__________________

(١) سورة الحج ـ الاية ٧٨.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٢٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٧ ص ٣٤١ ح ٣.

٥٧٦

وقد نبه الشيخ في المبسوط وفي مسائل الخلاف ، عليه ، فقال : إذا قبل الوصية له أن يردها ما دام الموصي حيا ، فان مات فليس له ردها ، واستدل بإجماع الفرقة ، وبأن الوصية قد لزمته بالقبول ، انتهى.

وقال في الدروس بعد ذكر القول المشهور في المختلف : يجوز الرد إذا لم يعلم بالوصية حتى مات ، للحرج والضرر ، ولم نعلم له موافقا عليه ، انتهى.

أقول : يظهر من شيخنا في المسالك الميل الى ما ذكره العلامة هنا حيث قال بعد ذكر القول المشهور : وأن الأصحاب استندوا فيه الى الأخبار التي قدمنا هنا ، ثم نقل قول العلامة ودليله ما هذه صورته : ، والحق أن هذه الأخبار ليست صريحة في المدعى ، لتضمنها أن الحاضر لا يلزمه القبول مطلقا ، والغائب يلزمه مطلقا ، وهو غير محل النزاع ، نعم في تعليل الرواية المتقدمة إيماء إلى الحكم ، إلا أن إثبات مثل هذا الحكم المخالف للأصول الشرعية بإثبات حق الوصاية على الموصى اليه على وجه القهر ، وتسليط الموصي على إثبات وصيته على من شاء ، بحيث يوصي ويطلب من الشهود كتمان الوصية إلى حين موته ، ويدخل على الوصي الحرج والضرر غالبا بمجرد هذه العلة المستندة إلى سند غير واضح بعيد ، ولو حملت هذه الأخبار على سبق القبول ، أو على شدة الاستحباب كأن أولى ، ولو حصل للوصي ضرر ديني ، أو دنيوي أو مشقة لا يتحمل مثلها عادة أو لزم من تحملها عليه ما لا يليق بحاله من شتم ونحوه قوي جواز الرجوع ، انتهى.

أقول : قد عرفت مما ذيلنا به بعض الأخبار المتقدمة وبه صرح عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي أن حكمه عليه‌السلام في تلك الأخبار على الغائب بأنه يلزمه القيام بالوصية متى أوصى اليه في حال الغيبة ومات الموصي أعم من أن يكون الوصي قد قبل الوصية لما بلغه الخبر أو لم يقبل ، فإنه لا أثر لعدم قبوله بعد موت الموصى ، أما على الأول فظاهر ، وهو مما لا خلاف فيه ، وأما على الثاني وهو محل الخلاف ، فلظاهر هذه الأخبار ، فإنها دلت كما عرفت على أنه بالوصية إليه حال

٥٧٧

غيبته وموت الموصي يجب على الوصي القيام بالوصية ، رضي بالوصية أو امتنع ، فان امتناعه لا أثر له بعد موت الموصى وهذا هو محل الخلاف.

وأما إذا كان حاضرا للوصية مشافها لها ، فإنه لا يلزمه القبول ، وله أن يردها ولا ضير فيه ، لأن الموصى حي.

وحينئذ فكيف يتم قوله «أن ما تضمنته الأخبار غير محل النزاع وأنها غير صريحة في المدعى» وقد عرفت من كلام العلامة ومن كلامه هو أيضا أن محل النزاع هو أن يثبت للموصى إلزام بالقيام بوصيته مع عدم قبوله ، ولا علمه بذلك ، بل يكون قهرا عليه ، وهذا هو الذي دلت عليه الأخبار بالتقريب الذي ذكرناه ، ولهذا أن غيره من الأصحاب كالعلامة في المختلف وغيره ممن قال بالقول المشهور متفقون على دلالة الأخبار على القول المذكور ، وهو الذي فهموه منها ، وغاية ما يتمسك به العلامة معارضتها بالأدلة الدالة على نفي الضرر والحرج ، فتأمل الأخبار المذكورة جمعا بين الأدلة بالحمل على القبول ، وهو الظاهر من كلامه أيضا ، وهو زاد احتمال الحمل على شدة الاستحباب.

وأنت خبير بما في التأويلين المذكورين من البعد ، وأما المعارضة بالأدلة على نفى الضرر والحرج ، فإنا نمنع حصول الضرر والحرج بمجرد الوصية اليه ، وإلا للزم عدم جواز قبول الوصاية مطلقا ، فإنه لا يجوز للإنسان أن يلقى نفسه في الضرر ، لو كان مجرد الوصية إليه يستلزم ذلك ، نعم لو فرض اتفاق ذلك في بعض الموارد كما فرضه (قدس‌سره) في آخر كلامه ، فإنه يجوز له الرجوع دفعا للضرر عن نفسه ، وبه يحصل الجمع بين أخبار الضرر وأخبار المسئلة ، ولا يحتاج الى ما ذكروه من التأويلين البعيدين.

وأما ما ذكره من أن إثبات هذا الحكم مخالف للأصول الشرعية بإثبات حق الوصاية على الموصى اليه على وجه القهر الى آخر كلامه في ذلك.

ففيه أنه إذا ثبت ذلك بالأدلة الصحيحة كما عرفته من هذه الروايات مع

٥٧٨

صحتها باصطلاحهم من غير معارض لها في البين ، فإنه يجب تخصيص الأصول التي ذكرها بهذه الأخبار ، إذ ما من عام إلا وقد خص ، ولم يبق حينئذ إلا مجرد الاستبعاد العقلي الذي فرضه ، وهو غير مسموع في مقابلة الأخبار ، سيما مع صحتها وتكاثرها ، ووضوح دلالتها كما فصلناه ، والله العالم.

إلحاق :

قال الصدوق : إذا دعي الرجل ابنه الى قبول وصيته فليس له أن يأبى وإذا أوصى رجل الى رجل فليس له أن يأبى ان كان حيث لا يجد غيره ، وإذا أوصى رجل الى رجل وهو غائب عنه ، فليس له أن يمتنع من قبول وصيته.

أقول : أما الحكم الأول فيدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن على بن الريان (١) قال : «كتبت الى أبى الحسن عليه‌السلام رجل دعاه والده الى قبول وصيته هل له أن يمتنع من قبول وصيته؟ فوقع عليه‌السلام : ليس له أن يمتنع».

وأما الثاني فالظاهر أن الدليل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة أيضا في الصحيح أو الحسن عن هشام بن سالم (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل يوصي الى الرجل بوصية فأبى أن يقبلها؟ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام لا يخذله على هذه الحال».

وظاهره (قدس‌سره) حمل الخبر على وجوب القبول ، ولذا قيده بأن لا يجد غيره ، وفيه تأييد لما ذكرناه ردا على شيخنا المتقدم ذكره ، وينبغي تقييد كلامه بما قيدت به الأخبار المتقدمة من موت الموصي بعد الوصية والعلامة في المختلف حمل القبول في الأولين أولا على شدة الاستحباب ، ثم قال : على أن امتناع الولد نوع عقوق ، ومن لا يوجد غيره يتعين عليه ، لأنه فرض كفاية ، وبالجملة فأصحابنا

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٧ ح ٦ وص ٦ ح ٥، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٦ ح ٨١٩ و ٨١٨ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٥ ح ٤٩٨ و ٤٩٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٠٠ الباب ٢٤ وص ٣٩٩ ح ٤.

٥٧٩

لم ينصوا على ذلك ، ولا بأس بقوله ، انتهى.

وفيه عدول الى القول بوجوب القبول ، وفي حكمه ـ بكون القبول فرض كفاية يتعين مع عدم وجود فرد آخر ـ ما يوجب الإيراد عليه فيما تقدم نقله عنه من عدم وجوب قيام الموصى إليه بالوصاية بعد موت الوصي ، إذا أوصى اليه وهو غائب وان لم يعلم ، ولم يقبل ، لأن وجوب قبول الوصية كفاية انما هو حال حياة الموصي أما بعد موته فإنها يتعين فيمن أوصى اليه كما لو لم يكن غيره حال الحياة ، فإنه يصير القبول واجبا عينيا.

إلحاق آخر :

قد عرفت أنه يشترط في جواز الرد في الحياة بلوغ الخبر الموصى ، لكن يبقى الكلام في أنه لو بلغه الخبر ، ولم يمكنه إقامة وصي غيره ، فهل يكفي في جواز الرد مجرد بلوغ الخبر وان لم يوجد وصى غيره ، أو لا بد من تقييده بإمكان وجود وصى آخر عوض الأول؟ وظاهر إطلاق الفتاوى الأول ، وظاهر النصوص الثاني.

ومنها صحيحة هشام بن سالم أو حسنته المتقدمة ، وقوله عليه‌السلام فيها «لا يخذله على هذه الحال» ، وقد عرفت حملها على عدم وجود غيره ، كما صرح به الصدوق وغيره.

ومنهم العلامة في المختلف كما تقدم ، والشهيد في الدروس ، ومقتضاها كما عرفت أنه مع عدم وجود الغير لا يجوز له الرد ، ويشير الى ذلك قوله عليه‌السلام في صحيحة الفضيل بن يسار المتقدم «وان كان في مصر يوجد غيره فذاك اليه» وقوله في صحيحة منصور بن حازم «لأنه لو كان شاهدا فأبى أن يقبلها يطلب غيره» فإنهما ظاهران في تعليق جواز الرد على وجود الغير ، فلو لم يوجد الغير لقبول الوصية لم يجز له الرد ، والله العالم.

٥٨٠