الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

على تقدير تسليم حكمها في المنجز ، انتهى.

أقول : لا يخفى ان تلك الرواية وان كانت غير ظاهرة في مدعى الشيخ كما ذكره إلا أن صحيحة الحلبي المذكورة أيضا لا تخلو من الطعن في متنها بما لا يقولون به ، فإنها دلت على أنه يستسعى العبد في دين مولاه ، وأنه يكون حرا إذا وفاه ، ولم يتعرض في الرواية لحق الورثة ، مع أن لهم في قيمته مع زيادتها عن الدين حقا ، والروايات المتقدمة متفقة على أنه يستسعى في الدين ، وفي حق الورثة.

وبذلك يظهر أن أن ما تدل عليه الرواية لا يقولون به ، وما يقولون به لا تدل عليه ، ولو قيل : بأن الرواية وان لم تدل عليه لكنه يضم إليها بدليل من خارج ، وتخصيص الأمر بوفاء الدين لا تنافيه.

قلنا ، هذا انما يتم لو كانت الرواية مطلقة ، وأما مع النص فيها بأنه بأداء الدين يكون حرا ، فهذا التقييد مناف لما دلت عليه ، ومنه يعلم أن هذه الرواية على ما هي عليه لا تصلح المعارضة الخبر المذكور ، فكيف مع انضمام تلك الأخبار الصحاح الصراح اليه ، كما عرفت ، فالأظهر حملها على ما قدمنا ذكره عن الشيخ (رحمة الله عليه).

وقد تلخص مما ذكرناه أن الأقوال في العتق المنجز ثلاثة : الأول ـ مذهب الشيخ المفيد ومن تبعه ، وهو توقف العتق على بلوغ قيمة العبد ضعف الدين وإلا فهو باطل ، وهذا مدلول الأخبار المتقدمة.

الثاني ـ قول العلامة والمحقق ومن تبعهما ، وهو أنه ينعتق من ثلث الباقي كائنا ما كان ، ولا يتقيد بضعف الدين ، وفي هذا القول تقديم حق الديان من ثلث الباقي ، ويستسعى فيما يخص الديان ، والوارث بالنسبة ، مثلا لو كانت قيمته ثلاثمائة درهم ، وعلى المولى من الدين مائتا درهم ، فإنه يكون للديان منه مائتان ، تبقى مائة له ثلثها ، وهي ثلاثة وثلاثون وثلث ، وثلثاها للورثة ، وهذه الثلاثة

٥٤١

والثلاثون وثلث تسع الثلاثمائة ، فعلى هذا ينعتق منه التسع ، ويسعى في ستة أتساع للديان ، وفي تسعين للورثة ، وحجة هذا القول كما عرفت صحيحة الحلبي ، وقد عرفت ضعفها عن المعارضة متنا وعددا.

الثالث ـ قول ابن إدريس وهو تنفيذ العتق من الأصل وسقوط الدين ، وهذا القول وان كان جيدا بالنظر الى الأخبار الدالة على أن منجزات المريض من الأصل كما سنتلوها عليك ان شاء الله تعالى بعد ذكر المسئلة ، أعني مسألة العتق منجزا مع الدين ، يجب الوقوف فيها على هذه الروايات ، لأنها أخص من تلك ، والقاعدة تقتضي تقديم الخاص والعمل به ، والله العالم.

السابعة : لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في صحة الوصية لأم الولد ، ولا خلاف أيضا في انعتاقها على ولدها من حصته بعد موت سيدها ، ولم يوص لها بشي‌ء ، وانما الخلاف فيما إذا أوصى لها بشي‌ء فهل ينعتق مما أوصى لها به أو من نصيب الولد أو من غيرهما؟ أقوال أربعة.

أحدها ـ ما ذهب اليه الشيخ في النهاية من أنها تعتق من نصيب ولدها على تقدير وفاء نصيب ولدها بقيمتها ، ويعطى ما أوصى لها به ، وهو مذهب المحقق في نكت النهاية ونقل عن العلامة في المختلف ، وعلل ذلك أن التركة تنتقل من حين الموت الى الوارث ، لعدم صلاحية الميت للتملك ، وعدم انتقالها للديان ، والموصى لهم إجماعا ، وعدم بقائها بغير مالك ، فتعين الوارث ، وحينئذ فيستقر ملك ولدها على جزء من أمه ، لأنها من التركة ، فتعتق عليه ، وتستحق الوصية.

وثانيها ـ أنها تعتق من الوصية ، فإن فضل منها شي‌ء عتق من نصيب ولدها ، وهو مذهب ابن إدريس ، والمحقق في باب الاستيلاد من الشرائع ، وفي هذا الباب تردد بين القولين المذكورين ، ووجه القول بكونها تعتق من الوصية ، لا من نصيب ابنها استنادا الى أن الإرث مؤخر عن الدين ، والوصية بمقتضى الآية (١)

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ١١.

٥٤٢

«مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ» فلا يحكم لابنها بشي‌ء حتى أنه يحكم لها بالوصية ، فإن وقت الوصية بقيمتها أعتقت كملا ، وان قصرت أكملت من نصيب ولدها ، وأورد عليه بأن المراد بالآيات استقرار الملك بعد المذكورات ، بمعنى أنه لا يملك الوارث ملكا مستقرا إلا بعد الوصية بالدين ، وإلا فاللازم من ذلك بقاء التركة من غير مالك ، لما عرفت من أن الميت غير صالح للملك ، والديان والموصى إليه لا يملك ، فلم يبق إلا الوارث ، أو صيرورة التركة بغير مالك ، والثاني ممتنع ، فتعين الأول.

وثالثها ـ أنها تنعتق من ثلث الميت ، وتأخذ الوصية ، وهو مذهب الشيخ أبى جعفر محمد بن علي بن بابويه نقله شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد ، واستدل له بصحيحة أبى عبيدة الآتية عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

ورابعها ـ أنها تعتق من الوصية أو نصيب الولد ، وتعطى بقية الوصية ، وهو مذهب ابن الجنيد.

والذي وقفت عليه من الأخبار في المقام ما رواه المشايخ الثلاثة (رحمهم‌الله) في الصحيح عن أبى عبيدة (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل كانت له أم ولد وله منها غلام فلما حضرته الوفاة أوصى لها بألفي درهم أو بأكثر للورثة أن يسترقوها ، قال : فقال : لا ، بل تعتق من ثلث الميت ، وتعطى ما أوصى لها به» وزاد في الكافي والتهذيب وفي كتاب العباس «يعتق من نصيب ابنها ، وتعطى من ثلثه ما أوصى لها به».

وشيخنا الشهيد في شرح الإرشاد روى عن الشيخ (رحمة الله عليه) في التهذيب عن أحمد بن محمد عن علي بن محبوب عن جميل بن صالح عن أبى عبيدة (٢) «عن أبى الحسن عليه‌السلام في رجل أوصى لأم ولده بألفي درهم فقال : يعتق

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٩ ح ٤ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢٤ ح ٨٨٠ عن جميل بن صالح الفقيه ج ٤ ص ١٦٠ ح ٥٥٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٠ ح ٤.

(٢) لم نعثر عليه في التهذيب بهذا السند.

٥٤٣

من ثلث الميت ويعطى ما أوصى لها به» ، وفي كتاب العباس الى آخر ما تقدم ، ولم أقف على هذه الرواية في الوافي ، ولا في الوسائل فيحتاج إلى مراجعة التهذيب وظاهره أن هذا خبر آخر غير خبر أبى عبيدة المروي عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، فإنه جعل هذا الخبر المروي عن أبى الحسن عليه‌السلام دليلا للقول الأول ، والخبر المروي عن أبى عبد الله عليه‌السلام دليلا للقول الثالث ، والظاهر تغاير الخبرين ، فإن المروي عنه في أحدهما غير الأولى والمتن مختلف أيضا. فيكونان خبرين ، فينبغي الملاحظة ، لأني لم أقف على من نقله غيره ، ومدلولهما أنها تعتق من الثلث ، وتعطى ما أوصى لها به.

ونحوهما أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن احمد بن محمد بن أبى نصر (١) قال : «نسخت من كتاب بخط أبى الحسن عليه‌السلام فلان مولاك توفي ابن أخ له ، وترك أم ولد له ، ليس لها ولد ، فأوصى لها بألف هل تجوز الوصية؟ وهل يقع عليها عتق وما حالها؟ رأيك فدتك نفسي في ذلك ، فكتب عليه‌السلام يعتق من الثلث ، ولها الوصية». واستدل في المختلف لابن بابويه أيضا زيادة على صحيحة أبى عبيدة الأولى ووجه الاشكال فيها هو أن العتق من الثلث هنا ، لا يظهر له وجه ، ولهذا ان العلامة حمل الخبرين على ما إذا أوصى بعتقها ، وحملها آخر على ما لو كان نصيب ولدها بقدر الثلث ، ولا يخفى ما فيه.

وبالجملة فهذان الخبران ظاهران فيما ذهب اليه الصدوق ، وأن الاشكال فيها بما عرفت ظاهر.

نعم ما نقل من كتاب العباس من رواية الخبر بهذه الكيفية ظاهر في الدلالة على القول الأول ، وظاهر شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد الميل الى مذهب الشيخ في النهاية ، قال : والأقرب اختيار الشيخ ، لبناء العتق على التغليب والسراية ، ولهذا لو لم يكن ثمة وصية ولا مال للميت سواها عتق منها بنصيب ولدها ، وسعت

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٩ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢٤ ح ٨٧٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٠ ح ٥٦٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٩ ح ١.

٥٤٤

في الباقي لبقية الورثة.

وشيخنا في المسالك طعن في رواية كتاب العباس بأنها بمجرد وجودها في الكتاب المذكور لا يتم الاستدلال ، ولو صح السند ، ثم قال : ورواية أبي عبيدة مشكلة ، على ظاهرها ، لأنها إذا أعطيت الوصية لا وجه لعتقها من ثلثه ، لأنها حينئذ تعتق من نصيب ولدها كما ذكر في الحملين المتقدمين ، وقال : كلاهما بعيد ، إلا ان الحكم فيها بإعطائها الوصية كاف في المطلوب إذ عتقها من نصيب ولدها يستفاد من دليل خارج صحيح ، ويبقى ما نقل عن كتاب أبى العباس شاهدا على المدعى ، ولعل هذا أجود ، انتهى.

والمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال لما عرفت ، وان كان ما استجوده شيخنا المذكور لا تخلو من قرب ، وملخصه أن أقصى ما يمكن العمل به من هذه الأخبار هو أعطاها ما أوصى لها به ، فتعطى في ذلك ، وأما عتقها فيرجع فيه الى الأخبار الأخر الدالة على انعتاق أم الولد على ولدها من نصيبه بعد موت المولى ، وكل من الأمرين المذكورين حق مطابق للقواعد الشرعية.

واما اعتبار الثلث فلا يظهر له هنا وجه وجيه يترتب عليه العتق وهو ظاهر ، والله العالم.

الثامنة : قد صرح الأصحاب بأن إطلاق الوصية يقتضي التسوية ، فإذا أوصى لأولاده أو لإخوانه وأخواته وأخواله وخالاته وأعمامه وعماته ، فان الجميع أسوة في الوصية ، ولا خلاف في ذلك إلا في صورة الوصية لأعمامه وأخواله.

وعلل الأول بأن نسبة الوصية إليهم على السواء ، وليس في كلام الموصي ما يدل على التفضل ، وحينئذ فلا فرق بين الذكر منهم والأنثى ، ولا الصغير ولا الكبير ، ولا الأعمام ولا الأخوال ، لما ذكرنا واختلافهم في استحقاق الإرث أمر خارج ، بدليل من خارج ، فلا يقاس عليه ، ما يقتضي التسوية بمجرده ، إلا أن الخلاف هنا وقع فيما لو أوصى لأعمامه وأخواله ، فإن الشيخ وجماعة ذهبوا الى

٥٤٥

أن للأعمام الثلثين ، وللأخوال الثلث ، استنادا الى ما رواه المشايخ الثلاثة بأسانيدهم وفيها الصحيح والحسن والموثق عن زرارة (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعمامه وأخواله ، فقال : لأعمامه الثلثان ، ولأخواله الثلث».

والى هذه الرواية أشار في الشرائع بأنها مهجورة ، قال : ولو أوصى الى أعمامه وأخواله كانوا سواء على الأصح ، وفيه رواية مهجورة ، وحملت على ما لو أوصى على كتاب الله ، وعلى ذلك حملها غيره ايضا ، ولا يخفى ما فيه من البعد.

ويؤيد الخبر المذكور أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن سهل (٢) عن أبى محمد عليه‌السلام في حديث قال : «وكتبت اليه : رجل له ولد ذكور وإناث فأقر لهم بضيعة أنها لولده ، ولم يذكر أنها بينهم على سهام الله عزوجل وفرائضه ، الذكر والأنثى فيه سواء؟ فوقع عليه ينفذون فيها وصية أبيهم على ما سمي ، فان لم يكن سمى شيئا ردوها الى كتاب الله عزوجل ان شاء الله تعالى». والظاهر أنه إلى هذه الرواية أشار في المسالك بقوله ، وفي رواية أخرى ضعيفة ، يقتضي قسمة الوصية بين الأولاد الذكور والإناث على كتاب الله ، وهي مع ضعفها لم يعمل بها أحد.

أقول : أشار بالضعف فيها الى كون الراوي لها سهل بن زياد ، وهو ضعيف.

وفيه أولا أن ضعفها بهذا الاصطلاح المحدث لا يقتضي ضعفها عند المتقدمين الذين لا أثر عندهم لهذا الاصطلاح ، فلا ضير فيه ، وان أراد عدم العمل به من المتقدمين ، فان مقتضى ما حرر الصدوق في صدر كتابه كونه عاملا بها ، حيث نقلها ولم يتعرض للطعن فيها ولا ردها ، وقد اشتهر بينهم نسبة المذاهب إليه في الفقيه بذلك ، وثالثا أنه لا يخفى على المنصف أن الأحكام الشرعية توقيفية ، لا مسرح للعقول فيها على السماع والورود من صاحب الشرع ، ورد الأخبار بعد ورودها

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٤٥ ح ٣ و ١، التهذيب ج ٩ ص ٢١٤ ح ٨٤٥ و ٨٤٦ الوسائل ج ١٣ ص ٤٥٤ الباب ٦٢ وص ٤٥٥ ح ٢.

٥٤٦

من غير معارض لها من الأخبار بل بمجرد هذه الاعتبارات العقلية والتعليلات التخريجية لا يخلو من الجرأة على صاحب الشريعة.

نعم لو كان هنا نص يدل الى ما ادعوه من أن الإطلاق يقتضي التسوية لتم ما ذكروه ، ووجب التأويل فيما عارضه ، ولكن ليس الأمر كذلك.

وبالجملة ، فإنه يجب العمل بما دلت عليه النصوص المذكورة ، وفيما خرج عن موضع النصوص اشكال ، والأقرب أنه كذلك أيضا ، لأن الظاهر أن ذكر الأعمام والأخوال في الصحيحة المتقدمة إنما خرج مخرج التمثيل ، ويؤيده أن ظاهر الثانية كون ذلك قاعدة كلية ، وهو أنه ان سمي وعين التسوية أو التفصيل اتبع ، وان أطلق رد الى كتاب الله عزوجل ، ولكن الألف بالمشهورات ولا سيما إذا زخرفت بالإجماعات ربما أوجب طرح الروايات كما في هذا الموضع وغيره ، والله العالم.

التاسعة : لو أوصى لذوي قرابته أو لأهل بيته أو عشيرته أو قومه أو جيرانه ، فإنه يجب الرجوع فيه الى معاني هذه الألفاظ ، وما ينصرف إليه إطلاقها.

فنقول أما لفظة القرابة فقد اختلف كلام أصحابنا ، بل الواحد منهم في تحقيق معناه المراد منه لعدم النص الوارد منه في ذلك ، والأكثر منهم على الرجوع فيه الى العرف.

قالوا : لأنه المحكم في مثل ذلك حيث لا نص ، ومرجعه الى المعروفين بنسبته عادة ، سواء في ذلك الوارث وغيره ، وقيل : لمن يتقرب إليه إلى آخر أب أو أم له في الإسلام.

فقال الشيخ في النهاية إذا أوصى لقرابته كان ذلك في جميع ذوي نسبته الراجعين الى آخر أب أو أم في الإسلام بالتسوية ، وكذا قال الشيخ المفيد ، إلا أنه قال : ولا يرجع على من يتعلق بمن نأى عنهم في الجاهلية.

وقال في الخلاف إذا أوصى بثلثه لقرابته فمن أصحابنا من قال : يدخل فيه

٥٤٧

كل من تقرب إليه إلى آخر أب وأم في الإسلام ، واختلف الناس في القرابة. فقال الشافعي : إذا أوصى بثلثه لقرابته ولأقربائه ولذي رحمه ، فالحكم واحد ، فإنه ينصرف الى المعروفين من أقاربه في العرف ، فيدخل فيه كل من يعرف في العادة أنه من قرابته ، سواء كان وارثا أو غير وارث ، قال : وهذا قريب يقوى في نفسي ، وليس لأصحابنا فيها نص عن الأئمة عليهم‌السلام.

وقال في المبسوط : قال قوم : ان هذه الوصية للمعروفين من أقاربه في العرف فيدخل فيه كل من يعرف في العادة أنه من قرابته ، سواء كان وارثا أو غير وارث وهو الذي يقوى في نفسي ، وقال قوم : انه يدخل فيه كل ذي رحم محرم ، وأما من ليس بمحرم له فإنه لا يدخل فيه ، وان كان له رحم مثل بني الأعمام أو غيرهم ، وقال قوم : انها للوارث من الأقارب ، وأما من ليس بوارث فإنه لا يدخل فيه ، والأول أقوى ، لأن العرف يشهد به ، وينبغي أن يصرف في جميعهم ، وفي أصحابنا من قال : انه يصرف ذلك الى آخر أب وأم له في الإسلام ، ولم أجد به نصا ولا عليه دليلا مستخرجا ولا به شاهدا.

وقال ابن الجنيد : ومن جعل وصية لقرابته وذوي رحمه غير مسمين كان لمن تقرب اليه من جهة ولده أو والديه ، ولا اختار أن يتجاوز بالتفرقة ولد الأب الرابع ، لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم يتجاوز ذلك في تفرقة سهم ذوي القربى من الخمس.

وابن إدريس في هذه المسئلة اختار ما ذهب اليه الشيخ في الخلاف والمبسوط وكذا ابن البراج ، وهو المشهور في كلام المتأخرين.

قال في المختلف : والمعتمد قول الشيخ في المبسوط والخلاف ، حملا للفظ على المعنى العرفي عند تجرده عن الوضع الشرعي ، كما هو عادة الشرع في ذلك والقول الذي اختاره في النهاية قد اعترف في المبسوط بأنه لم يجد عليه نصا ولا عليه دليلا ولا به شاهدا ، وكفى به حجة على نفسه.

٥٤٨

والمراد من هذا القول الارتقاء بالقرابة بالأدنى الى ما قبله ، وهكذا الى أبعد جد وجدة له في الإسلام ، وفروعهما ، ويحكم للجميع بالقرابة ، ولا يرتقي إلى آباء الشرك وان عرفوا بقرابته ، وربما استدل على التخصيص بالإسلام والانقطاع بالكفر بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «قطع الإسلام أرحام الجاهلية» ، وقوله عزوجل لنوح في حق ابنه (٢) «إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» ولا دلالة في ذلك على مطلوب الشيخ ، لأن قطع الرحم للجاهلية لا يدل على قطع القرابة مطلقا ، مع أصناف الكفار ، وكذا قطع الأهلية في ابن نوح ، والعرف واللغة يشهد ان بأن من بعد جدا كالأجداد البعيدة لا يدخل في القرابة ، وان كان مسلما ، ومن قرب جدا دخل وان كان كافرا إلا أن تدل القرينة على ارادة المسلم.

ولم أقف في هذا المقام على شي‌ء من الأخبار إلا على ما رواه الشيخ في الصحيح عن أحمد بن محمد بن أبى نصر (٣) قال : «نسخت من كتاب بخط أبى الحسن عليه‌السلام رجل أوصى لقرابته بألف درهم وله قرابة من قبل أبيه وأمه ما حد القرابة يعطى من كان بينه وبينه قرابة؟ أو لها حد ينتهى اليه رأيك فدتك نفسي؟ فكتب عليه‌السلام : ان لم يسم أعطاها قرابته» ، وهذا الجواب وان كان لا يخلو من نوع إجمال ، إلا أن الظاهر أن المعنى فيه أنه لم يسم شخصا بعينه ولا صنفا بعينه ، فإنه يعطى من شملته القرابة عرفا ، وفيه تأييد للمعنى المشهور حينئذ.

وأما ما ذهب اليه ابن الجنيد فقيل عليه ان ما ذكره من عدم تجاوز الرابع غير لازم ، وفعل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بالخمس ذلك ، لا يدل على نفي القرابة مطلقا عما عداه ذلك : فان ذلك معنى آخر للقربى ، فلا يلزم ذلك في حق غيره ، حيث يطلق.

وكيف كان فإنه يدخل فيه الذكر والأنثى ، والفقير والغني ، والوارث

__________________

(١) مسالك الافهام ج ١ ص ٤٠٩ وما عثرنا على هذه الرواية بعد الفحص في مظانه.

(٢) سورة هود ـ الاية ٤٦.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ٢١٥ ح ٧٤٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٥٩ الباب ٦٨.

٥٤٩

وغيره ، والقريب والبعيد ، ولا فرق بين قوله أوصيت لأقاربى أو قرابتي ، أو لذوي قرابتي أو لذوي رحمي ، لأن مرجع الجميع الى معنى واحد.

وأما أهل بيته فقد قال المحقق في الشرائع : لو قال لأهل بيته دخل فيه الآباء والأولاد والأجداد.

قال شيخنا في المسالك بعد ذكر ذلك : لا إشكال في دخول من ذكر ، لاتفاق أهل التفاسير على ذلك ، انما الكلام في دخول غيرهم ، فان الاقتصار على ما ذكر يقتضي كون علي عليه‌السلام ليس من أهل البيت لخروجه عن الأصناف الثلاثة مع أنه داخل إجماعا.

وقال العلامة : يدخل فيهم الآباء والأجداد والأعمام والأخوال وأولادهم وأولاد الأولاد الذكر والأنثى ، ثم قال : وبالجملة كل من يعرف بقرابته ، وهذا يقتضي كون أهل بيته بمنزلة قرابته ، وحكي عن تغلب أنه قال : أهل البيت عند العرب آباء الرجل وأولادهم ، كالأجداد والأعمام وأولادهم ، ويستوى فيه الذكور والإناث ، وما اختاره العلامة من مساواة أهل البيت للقرابة ، هو الظاهر في الاستعمال ، يقال : الفلانيون أهل بيت في النسب ، معروفون ، وعليه جرى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة» ، والأقوى الرجوع الى عرف بلد الموصي ، ومع انتفائه يدخل كل قريب : وأما أهل بيت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فإنهم أخص من ذلك بالرواية الواردة عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في حصرهم في أهل الكساء ، انتهى كلامه ، زيد مقامه وعلت في الخلد أقدامه.

أقول : قال الفقيه محمد بن طلحة الشافعي في كتاب مطالب السؤال في مناقب آل الرسول في بيان معاني الآل وأهل البيت والعترة ما صورته : وأما اللفظة الثانية وهي أهل البيت فقد قيل : هم من ناسبه الى جده الأدنى ، وقيل :

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ١٨٧ الباب ٢٩ ح ٦.

٥٥٠

من اجتمع معه في رحم ، وقيل : من اتصل به بسبب أو نسب ، وهذه كلها موجودة فيهم عليهم‌السلام ، فإنهم يرجعون الى جده عبد المطلب بنسبهم ، ويجتمعون معه في رحم ويتصلون به بسببهم ونسبهم ، فهم أهل بيته حقيقة ، ثم روى حديثا من صحيح مسلم (١) عن زيد بن أرقم ، وفيه : فقال له حصين : من أهل بيته يا زيد؟ نسائه أهل بيته؟ قال : أهل بيته من حرمت عليه الصدقة بعده.

أقول : والمعنى الثاني والثالث مما ذكره ابن طلحة قريب من معنى القرابة المشهور ، ويؤيده ما ذكره في كتاب المصباح المنير قال : وأهل الرجل يأهل ويأهل أهولا إذا تزوج ، وتأهل كذلك ، ويطلق الأهل على الزوجة ، والأهل أهل البيت والأصل فيه القرابة ، وقد أطلق على الاتباع ، انتهى ، وهو ظاهر في أن الأصل إطلاق أهل البيت على قرابة الرجل ، وقد أطلق على أتباعه ، وان لم يكن من قرابته ، وبالجملة فما نقل عن العلامة لا يخلو من قرب.

وكيف كان فالظاهر أن معاني هذه الألفاظ أعنى أهل البيت والآل والعترة ونحوها بالنسبة إلى إطلاقها على أهل بيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعترته أخص مما هو المشهور من معانيها عرفا أو لغة ، ولتحقيق ذلك مقام آخر ، وأما معاني باقي الألفاظ المتقدمة فقد تقدم تحقيق الكلام فيها في كتاب الوقف ، وهذان اللفظان حيث لم يتقدم لهما ذكر تعرضنا للكلام فيهما ، والله العالم.

العاشرة : الظاهر أنه لا خلاف في أنه تصح الوصية للحمل الموجود حين الوصية ، وان لم تحله الحياة ، لكن يكون ذلك مراعى بوضعه حيا ، فتصح بمجرد وجوده وان كان استقرارها مشروطا بوضعه حيا ، فلو وضعته ميتا بطلت الوصية ، وان كان حال الوصية حيا في بطن أمه ، كما أنها تصح بوضعه حيا وان لم يكن حال الوصية حيا ولم تلجه الروح ، ومعنى استقرارها تحقق صحتها من حين موت الموصي ، ومع وضعه ميتا يتبين البطلان من ذلك الوقت ، وحينئذ

__________________

(١) مسند أحمد ج ٤ ص ٣٦٧.

٥٥١

فالنماء المتخلل بين الولادة وموت الموصي يتبع العين ، ولم أقف في هذا المقام على نص ، غير أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على ما ذكرناه ، فإنه لم ينقل هنا خلاف في شي‌ء من هذه الأحكام.

وإذا استقرت الوصية بولادته حيا لا يقدح فيها موته بعد ذلك ، بل ينتقل الى ورثته ، وهو ظاهر ، إلا أن ظاهر كلامهم اشتراط القبول من الوارث ، بل صرح في المسالك أيضا باشتراط القبول في الحمل ، فأوجب القبول على وليه ، قال في الكتاب المذكور بعد أن ذكر أن الوصية تنتقل الى الوارث لو مات بعد ولادته حيا ما صورته : لكن يعتبر هنا قبول الوارث لإمكانه في حقه ، وانما أسقطنا اعتباره عن الحمل لتعذره كما سقط اعتباره في الوصية للجهات العامة ، ووجه سقوطه عن الوارث تلقيه الملك عن المولود المالك لها بدون القبول ، ثم قال : والمتجه اعتبار القبول في الوصية للحمل مطلقا ، فيقبل وليه ابتداء ، ووارثه هنا وتظهر الفائدة فيما لو ردها قبل قبوله ، فان اعتبرناه بطلت ، وإلا فلا أثر للرد انتهى

أقول : قد تقدم القول في تحقيق اشتراط القبول في الوصية لمعين وعدمه ، وبينا أنه لا دليل على ما ذكروه من الاشتراط ، بل ظواهر جملة من النصوص العدم ، تقدم ذلك في المسئلة الثانية من المقصد الأول في الوصية (١) وكذا في المسئلة الخامسة والسادسة من المقصد المذكور ، وأشرنا أيضا الى أن ما ادعوه ـ وان اشتهر بينهم ـ من أن الوصية عقد تفتقر إلى الإيجاب والقبول مما لم يقم عليه دليل ، كما تقدم ذكره في المسئلة الاولى من مسائل المقصد المشار اليه.

وبالجملة فإنه ليس في هذه المواضع ما يمكن الاعتماد عليه من الأدلة الشرعية ، سوى مجرد كلامهم وتعليلاتهم ، ومن أراد تحقيق الحال يرجع الى المسائل المذكورة ، ثم ان في حكمه أولا بأن الحمل من قبيل الجهات العامة ، فلا تتوقف الوصية له على القبول ، ثم رجوعه عن ذلك في الحمل فحكمه بأنه

__________________

(١) ص ٣٨٧.

٥٥٢

يقبل وليه ، لقائل أن يقول : أنه كما أن للحمل ولي ، فكذا الجهات العامة لها ولي وهو الحاكم ، فلم جوزت الوصية لها من غير اشتراط القبول؟ ولم لا توجب أن يقبل لها الحاكم ، لأنه وليها ، والفرق بين مسئلتي الحمل والجهات العامة مع وجود الولي لكل منهما غير ظاهر ، كما لا يخفى ، وبالجملة فإن البناء إذا كان على غير أساس حصل فيه الانعكاس ، وذكر فيه الالتباس.

بقي هنا شي‌ء وهو أن القبول المشترط هنا هل يشترط فيه القبول اللفظي أو يكفي فيه القبول الفعلي ، والرضاء بذلك؟ صرح العلامة في المختلف في هذه المسئلة بالثاني ، وهو جيد ، وقد تقدمت الإشارة إليه في المسائل المتقدم ذكرها أيضا ، والله العالم.

الحادية عشر : المشهور أن الموصى له إذا مات قبل الموصي ولم يرجع الموصي عن وصيته فإن الوصية تنتقل إلى ورثة الموصي له ، قال شيخنا المفيد (عطر الله مرقده) إذا أوصى الإنسان لغيره بشي‌ء من ماله فمات الموصى له قبل الموصي بذلك كان ما أوصى به راجعا الى ورثته ، فان لم يكن له ورثة رجع الى مال الموصي ، الى أن قال : ولصاحب الوصية إذا مات الموصى له قبله أن يرجع فيما أوصى له به ، فان لم يرجع فهو لخلف الموصى له ، ورواه ابن بابويه في كتابه وهو مذهب مشهور للأصحاب ، انتهى.

وقال ابن الجنيد : ولو كانت الوصية لأقوام بعينهم مذكورين مشار إليهم كالذي يقول لولد فلان ، وهؤلاء ، فإن ولد فلان غيرهم لم يدخل في الوصية ، ولو مات أحدهم قبل موت الموصي بطل سهمه.

قال العلامة في المختلف بعد نقل كلام ابن الجنيد : ولا بأس بهذا القول عندي ، لأن الوصية عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول ، وقد بينا أن القبول المعتد به هو الذي يقع بعد الوفاة ، فصار الموت حينئذ لا عبرة به ، انتهى.

٥٥٣

وتدل على المشهور وهو المؤيد المنصور صحيحة محمد بن قيس (١) وقد تقدمت في المسئلة الخامسة من مسائل المقصد الأول ، وتقدم أيضا ذكر ما استند اليه العلامة في القول بالبطلان هنا وهو صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (٢) وموثقة منصور بن حازم (٣) ، وقد حققنا الكلام في المقام ثمة بما لا مزيد عليه.

والفرق بين ما ذكرنا في المسئلة السابعة وما ذكر هنا أن مطرح البحث في المسئلة السابعة هو أن الوارث هل يرث القبول لو مات الموصى له قبل الموصي ولم يقبل أم لا؟ وليس فيها تعرض لملك الموصى به وعدمه ، إلا أنا قد أوضحنا بالأدلة الشرعية في أثناء البحث ، أنه يملكه الموصى له ، ويملكه وارثه بعده والغرض من هذه المسئلة هنا بيان أن الموصى به ينتقل بموت الموصي له الى وارثه ان لم يرجع الموصي عن الوصية أم لا ، سواء كان مورثه قد قبل الوصية قبل موت الموصي أم لا ، فلو فرض أنه قبل الوصية في حياة الموصي ثم مات في حياته واكتفينا بالقبول الواقع في حياة الموصي لم يفتقر وارثه الى القبول ، ولكن يبقى الخلاف في بطلان الوصية وعدمه ، وهو المقصود بالبحث هنا ، وان لم يكن قد قبل ، انتقل الى الوارث حق القبول ، ومعه يملك الموصى به على الخلاف ، وهو المقصود بالذكر هنا ، وقد حققنا في المسائل المتقدمة المشار إليها ضعف جميع ما بنوا عليه ، وفرعوا عليه من القول بأن الوصية عقد يتوقف على الإيجاب والقبول وأنه لا دليل على القبول بوجه ، بل الروايات ظاهرة في خلافه ، وان الحكم في هذه المسئلة المذكورة هنا ، هو أنه بموت الموصى له تنتقل الوصية إلى الوارث ما لم يرجع الموصي ، سواء كان الموت في حياة الموصي أم بعد موته ، وأن ما استند اليه العلامة ، وقبله ابن الجنيد (رحمة الله عليه) من القول بالبطلان ، ليس في الأدلة ما يدل عليه صريحا ، والروايتان المذكورتان فيهما من الإجمال

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٣ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٠ ح ٩٠٣. الوسائل ج ١٣ ص ٤٠٩ ح ١.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٩ ص ٢٣١ ح ٩٠٦. الوسائل ج ١٣ ص ٤١٠ ح ٤ و ٥.

٥٥٤

ما يمنع من الاستناد إليهما في الاستدلال ، فلا تنهضان قوة في معارضة صحيحة محمد بن قيس ، ونحوها مما دل على ما دلت عليه من الأخبار الصريحة في المطلوب.

وبالجملة فإن قوة القول المشهور في الظهور كالنور على الطور لا يعتريها قصور ولا فتور ، كما لا يخفى على من نظر بعين التأمل والتدقيق فيما قدمناه في المسائل المشار إليها من التحقيق الرشيق.

بقي الكلام فيما لو لم يخلف الموصى له أحدا فإن الظاهر من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه يرجع الى ورثة الموصي ، وبذلك صرح شيخنا المفيد (رحمه‌الله) فيما تقدم من نقل عبارته ، وقال المحقق في الشرائع : ولو لم يخلف الموصى له أحدا رجعت الى ورثة الموصي.

قال في المسالك : هذا تتمة الحكم السابق : وحاصله ان الموصى له إذا مات في حياة الموصي ولم يخلف وارثا رجعت الوصية إلى ورثة الموصي ، بمعنى بطلانها حينئذ ، وهذا الحكم شامل بإطلاقه لما لو كان موت الموصى له قبل قبوله وبعده والحكم في الأول واضح ، لأنه بموته قبل القبول وعدم قيام أحد مقامه في القبول تبطل الوصية ، ويرجع الى ورثة الموصي ، ويحتمل على هذا أن ينتقل حق القبول الى وارثه العام ، وهو الإمام ، لأنه وارث في الجملة ، فيرث حق القبول كما يرثه وارثه الخاص ، لقيامه مقامه في إرث جميع ما يورث عنه ، ويتولاه نائبه العام ، وهو الحاكم الشرعي مع غيبته ، إلا أن هذا الاحتمال لم يذكروه مع توجهه ، وأما الحكم الثاني وهو ما إذا كان موته بعد القبول حيث اعتبرنا القبول المتقدم على الوفاة ، فيشكل القول ببطلان الوصية حينئذ ، لتمام سبب الملك بالإيجاب والقبول ، وتوقفه على الشرط وهو الموت لا يوجب بطلانه ، ومن ثم انتقل الى الوارث لو كان ، فكما أنه لحصول الشرط يتم الملك للوارث فينبغي أن يتم هنا أيضا.

٥٥٥

ويمكن الجواب بأن الملك لما كان مشروطا بالموت لا يحصل بدونه كما هو ظاهر ، وحينئذ فلا بد من مستحق صالح للتملك لينتقل اليه الملك ، فان مجرد السبب وان كان تاما لم يوجب نقل الملك قبل حصول الشرط ، وحينئذ فإن كان للموصى له وارث انتقل حق الوصية اليه ، وحكم بملكه ، لأن له أهلية الملك وان لم يقبل بناء على القبول السابق ، وان لم يكن له وارث لم يجد الملك محلا قابلا له لينتقل إليه ، إذ ليس هناك إلا الموصى له ، وقد فاتت أهليته للملك بموته أو وارثه والغرض عدمه.

نعم يتمشى على الاحتمال السابق هنا بطريق الأولى ، أن ينتقل الى الامام لتمام سبب الملك وحصول الشرط للملك ، والامام وارث للموصى له كالخاص ، فينتقل الملك اليه ، وان لم نقل بانتقال حق القبول إليه ، لأن الحق هنا أقوى ، انتهى كلامه زيد مقامه.

أقول قد عرفت مما حققناه في المسائل المشار إليها آنفا أنه لا دليل على هذا القول الذي يكررون ذكره ، ويفرعون عليه ما يذكرونه من الفروع ، وان غاية ما يستفاد من الأخبار المتكثرة في باب الوصية هو أنه متى أوصى أحد لأحد بشي‌ء فإنه يصح ، ويكون لزومه مراعى بموت الموصي قبل الرجوع فيه ، فمتى مات الموصي كذلك وجب على الوصي أو الورثة إنفاذ الوصية ، هذا غاية ما يفهم من الأخبار ، وهم انما رتبوا ذلك واستندوا فيما ذكروه الى كون الوصية عقدا يشترط فيه الإيجاب والقبول ، مع أنهم لم يوردوا على ذلك دليلا إلا مجرد ظاهر اتفاقهم إن تم ، وحينئذ فيأتي على ما ذكرناه أنه متى أوصى الى أحد بشي‌ء ومات الموصى له في حياة الموصي ، فإن كان له وارث فالأشهر الأظهر كما عرفت أنه تنتقل الوصية إلى الوارث ، ويكون لزومها مراعى بموت الموصي ، فان مات ولم يرجع وجب إنفاذها.

وأما إذا مات الموصى له وليس له وارث ومات الموصي والحال هذه من غير أن يرجع في الوصية فظاهرهم كما عرفت أنه تبطل الوصية ، لما ذكره هنا في

٥٥٦

المسالك من التعليلات المذكورة ، وزاد احتمال رجوع الوصية الى الامام عليه‌السلام ومرجع ما ذكرناه الى ما ذكروه من الحكم الثاني.

وأما الإشكال الذي أورده عليه فقد عرفت الجواب عنه بما ذكره ، وهو الحق في المقام ، والأصحاب قد ذكروا هنا في صورة البطلان أنه تنتقل الوصية إلى ورثة الوصي ، وحق الكلام أن يقال الى الموصي ، لأن المفروض أن الموصى له مات في حياة الموصي ، والحال أنه لا وارث له وقت موته ، ومقتضى الحكم ببطلان الوصية في تلك الحال ، هو الانتقال الى الموصي ، لأن ذلك مفروض في حياته وهو ظاهر هذا.

ولو كان موت الموصى له إنما وقع بعد موت الموصي ، والحال أنه ليس له وارث ، فيحتمل ما ذكره ابن إدريس من البطلان في صورة ما لو تعذر صرف الوصية في الوجه الموصى به ، وقد عرفت ضعفه ، ويحتمل أن تكون الوصية للإمام عليه‌السلام لأنه الوارث لمن لا وارث له ، والموصى له قد ملكها واستقر ملكه عليها بالوصية وموت الموصي ، ويحتمل وهو الأقرب الصدقة به عنه ، لما تقدم في المسائل السابقة من صحيحة العباس بن عامر (١) قال : «سألته عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ، ولم يترك عقبا ، قال اطلب له وارثا أو مولى فادفعها اليه ، قلت : فان لم أعلم له وليا ، قال : اجهد على أن تقدر له على ولي فان لم تجده وعلم الله منك الجهد فتصدق بها».

ومن هذه الرواية يعلم بعد ما احتمله في صورة البطلان من الصحة بحمل الوارث على الامام بقوله نعم يتمشى على الاحتمال السابق الى آخره ، فان المتبادر من إطلاق الوارث انما هو الوارث الخاص ، فما ذكره من احتمال الإمام في كلا الموضعين بعيد جدا ، ولهذا لم يذكره غيره من الأصحاب كما اعترف به ، والوجه فيه ما ذكرناه ، والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٣١ ح ٩٠٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٠٩ ح ٢.

٥٥٧

الثانية عشر : قالوا : لو أوصى للأقرب نزل على مراتب الإرث من حيث المرتبة لا من حيث الاستحقاق ، فإن الوصية يتساوى فيها الذكر والأنثى ، والمتقرب بالأبوين ، والمتقرب بالأم ، وان كانوا اخوة ، والمراد من تنزيله على المراتب مراعاة المرتبة الأولى من مراتب الإرث ، وتقديمها على الثانية ، وكذا الثانية على الثالثة ، وحينئذ فلا يعطى الأبعد في المرتبة مع وجود الأقرب ومقتضى ذلك تقديم العم من الأب على ابن العم من الأبوين ، وان كان ابن العم مقدما في الإرث لدليل خارج ، مع احتمال تقديمه هنا أيضا ، نظرا إلى الأقربية بحسب الإرث ، لكنه يخرج بقيد المنع من إعطاء الأبعد مع وجود الأقرب ، هذا ملخص ما ذكروه في ذلك ، والله العالم.

المقصد السادس في الوصاية :

بكسر الواو وفتحها وهي الولاية على إخراج حق أو استيفائه أو على طفل ومجنون يملك الموصي الولاية عليه أصالة كالأب والجد له ، أو بالعرض كالوصي عن أحدهما المأذون له في الإيصاء ، ولو نهي لم يوص ومع الإطلاق خلاف يأتي ذكره أن شاء الله تعالى.

والبحث في هذا المقصد يقع في مسائل الأولى : يشترط في الوصي الكمال بالبلوغ ، والعقل فلا تصح إلى صبي بحيث يتصرف حال صباه مطلقا ، ولو ضم الى كامل نفذ تصرف الكامل حتى يبلغ الصبي فيشتركان ، وسيأتي ما فيه مزيد تحقيق للمسئلة ان شاء الله تعالى ، ولا الى مجنون ، ولو طرأ الجنون على الوصي فقد صرحوا بأنه تبطل وصيته ، وهل تعود بعود العقل؟ جزم العلامة بالعدم ، وتردد في الدروس ، ولو كان المجنون يعتوره أدوارا ، قال في الدروس : الأقرب الصحة ، وتحمل على أوقات الإفاقة ، قال : والفرق بينه وبين ما إذا طرأ الجنون انصراف الوصية في ابتدائها إلى أوقات الإفاقة ، وانصرافها هناك الى دوام عقله ، الذي لم

٥٥٨

يدم ، وهل يشترط فيه العدالة؟ المشهور ذلك ، وهو مذهب الشيخ في المبسوط ، والشيخ المفيد في المقنعة ، وابن حمزة وابن البراج وسلار ، وتبطل الوصية إلى الفاسق ، وقيل : بالعدم ، وهو اختيار ابن إدريس بعد الاضطراب في كلامه ، واليه ذهب المحقق في النافع ، والعلامة في المختلف.

احتج الأولون بوجوه منها ـ أن الوصية استيمان على مال الأطفال ، ومن يجرى مجريهم من الفقراء والجهات التي لا يراعيها المالك ، والفاسق ليس أهلا للاستئمان على هذا الوجه ، وان كان أهلا للوكالة ، لوجوب التثبت عند خبره ، ومنها أن الوصية تتضمن الركون باعتبار فعل ما أوصى اليه به ، من تفرقة المال وإنفاقه وصرفه في الوجوه الشرعية ، والفاسق ظالم لا يجوز الركون اليه ، لقوله تعالى (١) «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ».

ومنها ـ أن الوصية استنابة على مال الغير لا على مال الموصي ، لانتقاله عنه بعد موته ، وولاية الوصي إنما تثبت بعد الموت فيشترط في النائب العدالة ، كوكيل الوكيل ، بل أولى لأن تقصير وكيل الوكيل مجبور بنظر الوكيل والموكل ، وذلك من أكبر البواعث على تحرز وكيل الوكيل من تجاوز الحد ، بخلاف الوصي فإن ولايته بعد موت الموصى على الجهات التي أشرنا إليها ، وهي مما لا يشارفه فيها أحد غالبا.

احتج العلامة في المختلف على ما تقدم نقله عنه من عدم اشتراط العدالة ، قال : لأنها نيابة فتتبع اختيار المنوب كالوكالة.

واستند ابن إدريس إلى الإجماع على جواز إيداع الفاسق ، قال : وهي أمانة فكذا الوصية ، وأورد عليه بظهور الفرق بين الوكالة والوصية بما تقدم من مراعاة الموكل حال الوكيل في كل وقت مختار ، وبأنه في الوكالة تسلط على مال نفسه ، وفي الوصية على مال غيره ، ولهذا اشترطت العدالة في وكيل الوكيل.

__________________

(١) سورة هود ـ الاية ١١٣.

٥٥٩

أقول : والتحقيق أن يقال ان الناس بالنسبة إلى العدالة وعدمها على أقسام ثلاثة : أحدها ـ العادل ، وهو من عرف بالقيام بالواجب واجتناب المحرمات ، وثانيها ـ الفاسق ، وهو من أخل بشي‌ء من الواجبات أو ارتكب المحرمات ، وثالثها ـ مجهول ، وهو من لا يعرف بشي‌ء من الأمرين ، والدليلان الأولان ـ من أدلة القول الأول ـ غاية ما يدلان عليه نفي الفاسق ، دون المجهول الحال ، وحينئذ فيجوز وصاية المجهول الحال ولا تلزم العدالة.

وأما الدليل الثالث فإن أريد بالعدالة المشترطة في وكيل الوكيل ظهور العدالة فيه بالمعنى المتقدم ، فالاستدلال به مصادرة ، لأنه عين المتنازع ، وان أريد عدم ظهور الفسق سلمناه ، ولكنه لا يفيد الاشتراط المدعي.

وبالجملة فإن المسئلة عارية من النص والاحتياط فيه مطلوب ، وظواهر جملة من النصوص بالنسبة الى من مات وله أموال ، وورثة صغار ، ولا وصي له ، اشتراط عدالة المتولي لذلك ، وهو وان كان خارجا عما نحن فيه ، إلا أن فيه إشعارا بأن المتولي لأمر الوصاية ينبغي أن يكون عدلا مؤتمنا ، ولا فرق بين الأمرين ، إلا كون الأول منصوبا من قبل الشرع ، وهذا منصوب من قبل الموصي ، وإلا فهو بالنسبة الى ما يتصرف فيه واحد ، وحينئذ فكما تراعى العدالة فيه من حيث ان الناصب له الشرع ، كذا تراعى من حيث ان الناصب الموصي ، فلا ينصب لذلك إلا عدلا ، والفرق بينهما بأن الموصي له التسلط على ماله بدفعه الى من يشاء ، ويسلط عليه من يختاره ، لأن «الناس مسلطون على أموالهم» (١). بخلاف الحاكم الشرعي المنوط تصرفه بالمصلحة دون ما فيه مفسدة ضعيف ، فإن الموصي بعد الموت وانتقال التركة وفيهم الصغير ، وفيها الوصايا الى الجهات العامة ونحو ذلك من التصرفات التي تحتاج الى الوثوق والايتمان ، لا تعلق له بذلك ، فتصرفه فيما ذكر إنما هو تصرف في مال الغير ، لا مال نفسه كما ذكره ، ومما ذكرناه يعلم أنه لا ريب في

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.

٥٦٠