الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

للآية المتقدمة ، والأخبار المذكورة معها.

أقول : لقائل أن يقول : ان الأخبار المذكورة لا دلالة فيها على أزيد من وجوب تنفيذ الوصية كما أوصى به الموصي ، وهو لا يستلزم جواز ذلك ، بل من الممكن أن يكون ما فعله محرما يأثم عليه وان وجب تنفيذه على الوصي ، واليه تشير الأخبار المذكورة ، فإن الظاهر من الأخبار أن معنى سبيل الله هو جميع وجوه البر كما تقدم بيانه ، وان تفسيره بالجهاد إنما هو مذهب العامة ، ولهذا انه عليه‌السلام في خبر يونس بن يعقوب أمر بصرفه في ذلك لكون الموصي مخالفا.

وبالجملة فإن النهي عن موادة الذمي وصلته التي من جملتها الوصية له لا ينافي وجوب تنفيذها بالآية المذكورة ، ألا ترى أن البيع بعد النداء يوم الجمعة محرم يأثم فاعله مع أنه صحيح لو وقع ، ومرجع ذلك الى أن الآية قد دلت على أنه يجب تنفيذ ما أوصى به حسبما أوصى به ، سواء كان ما فعل من الوصية جائزا أو محرما ، واثم تحريمه انما يتعلق به ، لا بالموصي ، نعم تبقى المعارضة بين الآيتين المذكورتين ، والجمع بينهما مشكل ، وقد مر في كتاب الوقف مزيد كلامه في ذلك : وأما استناده فيما ذكره الى الخبر النبوي المذكور ، والى أنه تجوز هبته وإطعامه فهو ناش من الغفلة عن مراجعة النصوص الواردة في هذا الباب ، وذلك فإنه قد روى ثقة الإسلام في الكافي النهي عن إطعام الكافر ، عن أبي يحيى (١) عن بعض أصحابنا «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من أشبع مؤمنا وجبت له الجنة ، ومن أشبع كافرا كان حقا على الله أن يملأ جوفه من الزقوم ، مؤمنا كان أو كافرا».

وروى الصدوق قدس‌سره في كتاب معاني الأخبار بسنده فيه عن النهيكي (٢) رفعه الى أبي عبد الله عليه‌السلام «أنه قال من مثل مثالا أو اقتنى كلبا فقد خرج من الإسلام فقلت له : هلك إذا كثير من الناس ، فقال : انما عينت بقولي «من مثل

__________________

(١) أصول الكافي ج ٢ ص ٢٠٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٦ ص ٥٢٣ ح ١.

(٢) معاني الأخبار ص ١٨١ ، الوسائل ج ١٦ ص ٥٢٣ ح ٢.

٥٢١

مثالا» من نصب دينا غير دين الله ودعى الناس اليه ، وبقولي «من اقتنى كلبا مبغضا لأهل البيت اقتناه فأطعمه وسقاه من فعل ذلك فقد خرج عن الإسلام».

وعن معلى بن الحسين (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : «من أشبع عدوا لنا فقد قتل وليا لنا».

وفي وصيته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لأبي ذر المنقولة في كتاب مجالس الشيخ (٢) : «يا أبا ذر لا يأكل طعامك إلا تقي. الى أن قال : أطعم طعامك من يحب في الله ، وكل طعام من يحبك في الله».

وروى في التهذيب عن عمر بن يزيد (٣) «قال سألته عن الصدقة على النصاب وعلى الزيدية ، فقال : لا تصدق عليهم بشي‌ء ولا تسقهم من الماء ان استطعت ، وقال : الزيدية هم النصاب».

وعن ابن أبى يعفور (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ما تقول في الزكاة؟ الى أن قلت : فيعطى السؤال منها شيئا؟ قال : فقال : لا والله إلا أن ترحمه فان رحمته فأعطه كسرة ثم أو مى بيده فوضع إبهامه على أصول أصابعه».

وفي رواية أبي بصير (٥) «عن الصادق عليه‌السلام قال : أبو عبد الله عليه‌السلام أترون أنما في المال الزكاة وحدها ، ما فرض الله في المال من غير الزكاة أكثر ، تعطى منه القرابة والمتعرض لك ممن يسألك فتعطيه ما لم تعرفه بالنصب ، فإذا عرفته بالنصب فلا تعطه إلا أن تخاف لسانه فتشترى دينك وعرضك منه».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدلالة على ذلك ، وهي مؤيدة لما دلت

__________________

(١) معاني الأحبار ص ٣٦٥.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي ج ٢ ص ١٤٨ ط النجف الأشرف.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٤ ص ٥٣ ح ١٤١ و ١٤٢.

(٥) الكافي ج ٣ ص ٥٥١ ح ٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٦ ص ٥٢٤ ح ٣ و ٤ وج ٦ ص ٢٨٨ ح ٢ وص ١٥٣ ح ٦ وص ١٧٠ ح ١.

٥٢٢

عليه الآية المذكورة أعني قوله تعالى (١) «لا تَجِدُ قَوْماً» الآية ويعضده هذه الآية أيضا قوله عزوجل (٢) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» الى أن قال «وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ».

وأنت خبير بما فيها من التسجيل على النهي عن الموادة لهم على أبلغ وجه وأكده ، ولا ريب أن الوصية لهم نوع محبة كما لا يخفى ، وبما ذكرناه من الاعتضاد بهذه الآية والأخبار المذكورة يظهر ترجيح العمل بآية «لا تَجِدُ قَوْماً» على الآية الأخرى وهي (٣) «لا يَنْهاكُمُ اللهُ» الآية.

ومن المحتمل قريبا تخصيص هذه الآية بمعنى لا ينافي ما دلت عليه تلك الآيات والأخبار ، كما ذكره الطبرسي في كتاب مجمع البيان ، قال : أي ليس ينهاكم الله عن مخالطة أهل العهد الذين عاهدوكم على ترك القتال ، وبرهم ومعاملتهم بالعدل ، وهو قوله (٤) «أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ» أي وتعدلوا فيما بينكم وبينهم من الوفاء بالعهد ، نقل ذلك عن الزجاج ، وإذا قام هذا الاحتمال فلا دلالة في الآية على المخالفة ، ثم نقل قولا بأنها منسوخة بآية (٥) «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» عن ابن عباس والحسن وقتادة وعلى هذا فلا إشكال أيضا إلا أن ظاهر كلامه الأخير يؤذن بالمخالفة ، وقد تقدم نقله في كتاب الوقف.

والمراد بالناصب في هذه الأخبار هو المخالف الغير المستضعف ، ولا الجاهل بالإمامة لا ما يتوهمه متأخر وأصحابنا من المعلن بعداوة أهل البيت عليهم‌السلام كما

__________________

(١) سورة المجادلة ـ الاية ٢٢.

(٢) سورة الممتحنة ـ الاية ١.

(٣ و ٤) سورة الممتحنة ـ الاية ٨.

(٥) سورة التوبة ـ الاية ٥.

٥٢٣

تقدم تحقيقه في غير مقام ، ولا سيما في كتب العبادات.

وبذلك يظهر لك ما في قوله «انا لا نسلم أنه لو أوصى للكافر من حيث انه كافر لكانت الوصية باطلة» ، فإن فيه ما عرفت من أنه لا منافاة بين إنفاذ الوصية بعد وقوعها ، وعدم جواز الوصية له ، ومحل البحث إنما هو جواز الوصية ، وقد دلت الأخبار التي سردناها على عدم جواز صلة الكافر ، والوصية من جملة ذلك ، فلا يجوز حينئذ ، ولكن بعد وقوعها وإن أثم الموصي بذلك لا تجوز مخالفته لمقتضى الأخبار المذكورة المعتضدة بالآية الدالة على النهي عن التبديل والمخالفة لما أوصى به.

واستدل للقول الثالث بما ورد من الحث على صلة الرحم مطلقا ، فيتناول الذمي ، ورد بأن ذلك غير مناف لما دل على صلة غيره.

أقول : هذا الجواب انما يتم لو دل الدليل على صلة غيره ممن هو محل البحث ، وأما على ما ذكرناه من عدم جواز ذلك كما عرفته ، فالقول المذكور وما علل به جيد لا بأس به ، إلا أنه يمكن أن يقال : انه قد تعارض هنا عمومان : أحدهما ـ ما دل على صلة الرحم متدينا كان أو غيره ، وثانيهما ـ ما دل على المنع من صلة الكافر مطلقا رحما كان أو غيره ، كما عرفت من الأخبار التي ذكرناها ، وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج الى دليل ، ومن ذلك يظهر أن الأظهر هو القول بالمنع مطلقا ، ويؤيده أنه الأحوط من هذه الأقوال ، والاحتياط أحد المرجحات الشرعية في مقام التعارض بين الأدلة ، هذا بالنسبة إلى الذمي.

وأما الحربي والمراد به ما هو أعم من الوثني أو الذمي الذي لا يقوم بشرائط الذمة ، والظاهر أن المشهور بينهم هو عدم صحة الوصية له ، واستدل عليه بقوله تعالى (١) «إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ» الآية ، والحربي ناصب نفسه لذلك.

__________________

(١) سورة الممتحنة ـ الاية ٩.

٥٢٤

قال في المسالك : وفيه نظر ، لأن الحربي قد لا يكون مقاتلا بالفعل بل ممتنعا من التزام شرائط الذمة ، فلا يدخل في الآية ، وقوله عليه‌السلام في الخبر السابق «أعطه لمن أوصى له ، وان كان يهوديا أو نصرانيا» ، واستشهاده بالآية يتناول بعمومه الحربي ، لأن «من» عامة في المتنازع وكذلك اليهودي والنصراني شامل للذمي وغيره ، حيث لا يلتزم بشرائط الذمة ، انتهى.

أقول : من المحتمل قريبا ـ بل الظاهر أنه هو المراد ـ أن المراد بالقتال في الدين انما هو بعد طلبهم الى الدخول في الدين ، أو القيام بالجزية ان كانوا من أهل الكتاب ، بمعنى انكم إذا طلبتموهم الى ذلك قاتلوكم ، ولم يجيبوا دعوتكم ، ونصبوا لكم القتال ، لا أن المراد أنهم يبتدءونكم بالقتال ، وينصبون لكم الحرب ، وان لم تدعوهم إلى الإسلام ، إذ من الظاهر أن أهل مكة الذين هم مورد الآية وغيرهم انما قاتلوا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بعد الدعوة الى الإسلام ، وطلبهم الى الدخول فيه ، وإلا فلو كف عنهم لكفوا عنه ولم يقاتلوه بالكلية.

وأما الاستناد إلى ما ذكره من قوله عليه‌السلام في الخبر السابق «أعطه لمن أوصى له وان كان يهوديا» ، فان فيه ما قدمنا تحقيقه من أنه لا يلزم من وجوب التنفيذ صحة الوصية ، بل يجب على الوصي إنفاذ ما أوصى به وان كان أصل الوصية منهيا عنه ، جمعا بين الآيات والأخبار الدالة على النهي عن صلة الكافر وموادته ، والوصية من قبيل ذلك ، وبين الأخبار المشار إليها الدالة صريحا على وجوب تنفيذ ما أوصى به ، وليس فيما ذكرناه من هذا القول ما يطعن به عليه ، إلا كونه خلاف المشهور بينهم ، وإلا فالقواعد الشرعية لا تنافيه بل تعضده ، كما تقدمت الإشارة إليه.

ثم ان ما استدل به على عدم صحة الوصية للحربي وكذا الوقف عليه أن مال الحربي في‌ء للمسلمين ، فلا يجب دفعه إليه لأنه غير مالك ، فلو جازت

٥٢٥

الوصية له لكان إما أن يجب على الوصي دفعه اليه وهو باطل لما تقدم ، أو لا يجب وهو المطلوب ، إذ لا معنى لبطلان الوصية إلا عدم وجوب تسليمها الى الموصى له.

واعترضه في المسالك بأن فيه منع استلزام عدم وجوب دفع الوصية إليه بطلانها ، لأن معنى صحتها ثبوت الملك له إذا قبله فيصير حينئذ ملكا من أملاكه يلزمه حكمه ، ومن حكمه جواز أخذ المسلم له ، فإذا حكمنا بصحة وصيته ، وقبضه الوصي ثم استولى عليه من جهة أنه مال الحربي ، لم يكن منافيا لصحة الوصية ، وكذا لو منعه الوارث لذلك ، وان اعترفوا بصحة الوصية.

وتظهر الفائدة في جواز استيلاء الوصي على العين الموصى بها الحربي ، فيختص بها دون الورثة ، وكذا لو استولى عليها بعض الورثة دون بعض ، حيث لم يكن في أيديهم ابتداء ، ولو حكمنا بالبطلان لم يأت هذا ، بل يكون الموصى به من جملة التركة ، لا يختص بأحد من الورثة.

أقول : يمكن أن يقال : أن مراد المستدل المذكور هو أنه لما أباح الشارع ماله وجعله فيئا للمسلمين ، دل ذلك على كونه غير أهل للملك ، بمعنى أنه لا يدخل شي‌ء في ملكه ، بأي نحو كان ، وأن هذا المال الذي كان عنده انما هو بمنزلة الأشياء المباحة للناس ، كل من سبق اليه وحازه ملكه دون غيره ، وكونه في يده قبل الاستيلاء عليه بالقهر والغلبة من المسلمين ، لا يدل على الملك ، وعلى هذا فلا يجوز إدخال شي‌ء في ملكه بوصية أو غيرها ، حتى أنه بعد الدخول في ملكه ، يصير فيئا للمسلمين ، كما ذكره (قدس‌سره) بل تصبر الوصية إليه باطلة ، ويكون الموصى به من جملة التركة كما ذكره أخيرا ، وهو احتمال قريب وجيه لا بد لنفيه من دليل.

الرابعة : قالوا : لا تصح الوصية لمملوك الأجنبي ولا لمدبره ، ولا لأم ولده ، ولا لمكاتبة المشروطة ، أو الذي لم يؤد من مكاتبته شيئا ، وان أجاز مولاه.

أقول : أما عدم جواز الوصية لمملوك الغير قنا كان أو مدبرا أو أم ولد ،

٥٢٦

فاستدلوا عليه بانتفاء أهلية الملك بالنسبة إلى هؤلاء ، وهو شرط في صحة الوصية.

وفيه أن هذا إنما يتم على القول بأن المملوك لا يملك شيئا مطلقا ، كما هو أحد الأقوال في المسئلة ، وأما على القول بأنه يملك وان كان في التصرف محجورا إلا بإذن المولى ، فإنه لا مانع من صحة الوصية له ، فيعتبر قبوله كغيره ، وربما استدل على عدم الصحة برواية عبد الرحمن بن الحجاج (١) عن أحدهما عليهما‌السلام قال : «لا وصية لمملوك».

وفيه أن الخبر كما يحتمل نفي الوصية من الغير له ، كذلك يحتمل نفى أن يوصى المملوك لغيره ، لاحتمال أن يكون الإضافة هنا الى الفاعل ، أو المفعول.

وأما بالنسبة إلى مكاتب الغير إذا كان مشروطا أو مطلقا ولم يؤد شيئا بالكلية ، فالمشهور أن الحكم فيه كما في سابقه ، لبقاء المملوكية.

وقيل : بصحة الوصية للمكاتب مطلقا ، لانقطاع سلطنة المولى عنه ، ولهذا يصح بيعه واكتسابه ، وقبول الوصية نوع من الاكتساب.

أقول : والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بالمكاتب ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (٢) عن أبى جعفر عليه‌السلام في مكاتب كذا في كتابي الكافي والتهذيب وفي الفقيه «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في مكاتب كانت تحته امرأة حرة ، فأوصت له عند موتها بوصية فقال : أهل الميراث لا نجيز وصيتها له ، انه مكاتب لم يعتق ولا يرث ، فقضى أنه يرث بحساب ما أعتق منه ، ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه ، وقضى في مكاتب أوصى له بوصية وقد قضى نصف ما عليه فأجاز له نصف الوصية وقضى في مكاتب قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز ربع الوصية ، وقال في رجل حر أوصى لمكاتبة ، وقد قضت سدس ما كان عليها وأجاز بحساب ما أعتق منها».

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢١٦ ح ٨٥٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٢٨ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢٣ ح ٨٧٤ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٠ ح ٥٥٨.

وهما في الوسائل ج ١٣ ٤٦٦ ح ٢ وص ٤٦٨ الباب ٨٠.

٥٢٧

وشيخنا في المسالك بناء على ما حصل له من الوهم في محمد بن قيس في أمثال هذا السند من كونه مشتركا ، والحديث به ضعيف. رد هذه الرواية بذلك ، بعد أن أوردها دليلا للقول الأول ، واختار القول الثاني وجعله الأقوى ، وهو ضعيف ، فان محمد بن قيس في هذا السند وأمثاله هو الثقة ، كما قطع به جملة من تأخر عنه ، ومنهم سبطه السيد السند في شرح النافع ، فتكون الرواية صحيحة بحسب العمل بمقتضى هذا الاصطلاح ، هذا مع تأيدها بجملة من الأخبار الدالة على أن المكاتب إذا أوصى صحت وصيته بقدر ما أعتق منه خاصة ، ومقتضى كلامه المتقدم صحة وصيته مطلقا ، لانقطاع سلطنة المولى عنه الى آخر ما ذكره ، مع أن الأخبار قد قصرت الصحة على قدر ما انعتق منه.

ومنها صحيحة محمد بن قيس (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في مكاتب قضى بعض ما كوتب عليه أن يجاز من وصيته بحساب ما أعتق عنه ، وقضى في مكاتب قضى نصف ما عليه فأوصى بوصية فأجاز نصف الوصية ، وقضى في مكاتب قضى ثلث ما عليه ، وأوصى بوصية فأجاز ثلث الوصية».

وصحيحة أبان (٢) عمن حدثه «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في مكاتب أوصى بوصية ، قد قضى الذي كوتب عليه الأشياء يسيرا فقال : تجوز بحساب ما أعتق منه».

ورواية محمد بن قيس (٣) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في حديث قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصية مكاتب قد قضى بعض ما كوتب عليه أن تجاز من وصيته بحساب ما أعتق منه». وبذلك يظهر لك مزيد ضعف القول المذكور.

تنبيهان :

الأول : قال في المختلف : المشهور أنه لا تصح الوصية لعبد الغير ولا لمكاتبة المشروط وغير المؤدي ، وقال الشيخ في المبسوط وتبعه ابن البراج : إذا أوصى

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٢٣ ح ٨٧٦ و ٨٧٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٦٨ ح ١ وص ٤٦٩ الباب ٨١ ح ٢ وص ٤٦٨ الباب ٨١ ح ١.

(٣) هذه الرواية تكرار منه (قدس‌سره).

٥٢٨

لعبد نفسه أو لعبد ورثته كان ذلك صحيحا ، لأن الوصية للوارث عندنا تصح ، وكذا ان أوصى لمكاتبة أو لمكاتب ورثته كانت الوصية صحيحة ، ولو أوصى لعبد الأجنبي لم تصح الوصية ، لما ورد في الخبر في ذلك ، وفي كلامه نظر ، فإن الوصية للعبد ان كانت وصية لمولاه صحت ، وان كان العبد لأجنبي ، لأنه تصح الوصية له وان لم يكن لم يبق فرق بين الوارث والأجنبي ، وبالجملة فهذا التفصيل مشكل ، انتهى.

الثاني : قال في المختلف : قال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) إذا أوصى لعبد له كاتبه جاز مما أوصى له بحساب ما أعتق عنه ، ويرجع الباقي الى مال الورثة ، وكذا قال سلار ، وقال ابن البراج : يصح أن يوصى لمكاتبة ، وهو المشهور ، فان قصد المفيد برجوع الباقي الى الورثة من غير أن يسقط من مال الكتابة بقدره بل يكون لهم مجانا ، لزم إبطال الوصية للمكاتب ، سواء كان الموصى المالك أو غيره ، وهو مخالف لظاهر فتوى الأصحاب ، وان قصد رجوعه إليهم وإسقاط ما يقابله من مال الكتابة ، فهو حسن ، على أن إبطال الوصية للمكاتب الغير المشروط لا يخلو عندي من نظر ، انتهى.

أقول : ما نقله عن الشيخ المفيد (قدس الله روحه) هو القول الأول الذي دلت عليه صحيحة محمد بن قيس المتقدمة ، وهي الاولى من رواياته ، وما نقله عن ابن البراج هو القول الثاني ، وظاهره أنه المشهور بينهم ، وقد عرفت اختيار صاحب المسالك له ، وعرفت ما فيه.

وأما ما أورده على الشيخ المفيد من أن حكمه برجوع الباقي من الوصية على الورثة مجانا يعنى من غير احتساب ذلك من مال الكتابة الذي يستحقونه يلزم منه إبطال الوصية.

ففيه أنه يجب أولا تحقيق البحث في المسئلة كما قدمنا ذكره من أنه هل الوصية للمكاتب مطلقا صحيحة ، أم لا؟ بل تكون مراعاة بأنه في المطلق ان لم

٥٢٩

ينعتق منه شي‌ء فهي غير صحيحة ، وان انعتق منه شي‌ء فيصح بنسبة ما انعتق منه ، وأنت قد عرفت أنه لا دليل للقول بالصحة مطلقا ، إلا ما ذكره في المسالك من ذلك التعليل الاعتباري العليل ، وأن القول الثاني هو مدلول الصحيحة المتقدمة كما عرفت المعتضدة بما ذكرناه من الأخبار الأخر ، وما ذكره من لزوم إبطال الوصية لا ضير فيه إذا اقتضته الأدلة الشرعية ، على أن الإبطال بالكلية انما يتجه لو لم ينعتق منه شي‌ء بالكلية ، وإلا فإنه يكون العتق بالنسبة.

وبالجملة فقول الشيخ المفيد هو الموافق للاخبار كما عرفت ، وما ذكره من أن كلام الشيخ المذكور مخالف لفتوى الأصحاب فلا ضير فيه إذا اعتضدته الأدلة الشرعية ، خلا ما ذكره الأصحاب كما عرفت في الباب.

الخامسة : اختلف الأصحاب (رحمهم‌الله) في صحة وصية الإنسان لمملوكه فقال الشيخ المفيد في المقنعة والشيخ في النهاية : إذا أوصى الإنسان لعبده بثلث ماله ينظر في قيمة العبد قيمة عادلة ، وان كانت قيمته أقل من الثلث أعتق وأعطى الباقي ، وان كانت مثله أعتق وليس له شي‌ء ، ولا عليه شي‌ء ، وان كانت القيمة أكثر من الثلث بقدر السدس أو الربع أو الثلث أعتق بمقدار ذلك ، واستسعى في الباقي لورثته ، وان كانت قيمته على الضعف من ثلثه ، كانت الوصية باطلة ، وتبعهما ابن البراج في كتابي الكامل والمهذب.

وقال الشيخ في الخلاف إذا أوصى لعبد نفسه صحت الوصية ، وقوم العبد وأعتق إذا كان ثمنه أقل من الثلث ، وان كان ثمنه أكثر من الثلث استسعى العبد فيما يفضل للورثة ، وأطلق ، وكذا قال أبو الصلاح.

وقال سلار : ان كانت أقل من الثلث عتق وأعطى ما فضل ، وان كانت أكثر بمقدار الربع والثلث من الثلث عتق بمقدار الثلث ، واستسعى في الباقي.

وقال الشيخ علي بن الحسين بن بابويه : إذا أوصى لمملوكه بثلث ماله ، قوم المملوك قيمة عادلة ، فإن كانت أكثر من الثلث استسعى في الفضل ثم أعتق وان كانت قيمته أقل من الثلث أعطى ما فضلت قيمته عليه ، ثم أعتق.

٥٣٠

وقال ابن الجنيد : لو أوصى للمملوك بثلث ماله ، فقد روي (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : فان كانت الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع القيمة ، وان كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ، ودفع اليه ما فضل من الثلث بعد القيمة».

ويخرج الثلث من جميع التركة ، ولو كانت الوصية للمملوك بمال مسمى لم يكن لعتاقه يجوز إخراج ذلك من غير رقبته ، ولو كانت جزء من التركة كعشر أو نحوه كان العبد بما يملكه من ذلك الجزء من رقبته متحررا ، أو باقية كما قلنا ، واختار ابن إدريس مذهب الشيخ في الخلاف.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والمعتمد أن نقول ان كانت الوصية بجزء مشاع كثلث أو نصف أو ربع قوم العبد وأعتق عن الوصية ، فإن فضل من قيمته شي‌ء استسعى في الفاضل للورثة ، سواء كان الفاضل ضعف قيمته أو أقل أو أزيد ، وان قضى عتق وأخذ الفاضل ، فان ساواه عتق ، ولا شي‌ء له ولا عليه ، وان كانت الوصية بعين بطلت ولا شي‌ء له ، ولا يعتق منه شي‌ء.

وقال المحقق في الشرائع : ويعتبر ما أوصى به المملوك بعد خروجه من الثلث ، فان كان بقدر قيمته أعتق ، وان كان قيمته أقل أعطى الفاضل ، وان كانت أكثر سعى للورثة فيما بقي ما لم يبلغ قيمته ضعف ما أوصى له به ، فان بلغت ذلك بطلت الوصية ، وقيل : تصح ويسعى في الباقي كيف كان وهو حسن ، انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذه المسئلة ما رواه الشيخ في التهذيب عن الحسن بن صالح الثوري (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى لمملوك له بثلث ماله ، قال : فقال : يقوم المملوك بقيمة عادلة ، ثم ينظر ما يبلغ ثلث الميت ، فان كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع القيمة ، وان كان الثلث أكثر من قيمة العبد أعتق العبد ودفع اليه

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ٢١٦ ح ٨٥١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٧ ح ٢.

٥٣١

ما فضل من الثلث بعد القيمة».

وما ذكره الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه الرضوي (١) حيث قال : «وان أوصى لمملوكه بثلث ماله قوم المملوك قيمة عادلة ، فإن كانت قيمته أكثر من الثلث استسعى في الفضلة ثم أعتق». وهذه عين عبارة الشيخ علي بن بابويه المتقدمة ، إلا أنه عليه‌السلام لم يذكر ما إذا كانت قيمته أقل ، ولعل هذه الزيادة كانت في نسخة الكتاب الذي عند الشيخ المزبور ، ويحتمل أنها من كلامه (رحمه‌الله) تتميما لمعنى الكلام.

وكيف كان فينبغي أن يعلم أن الكلام هنا في مقامين الأول ـ أن مقتضى الروايتين ـ وهو صريح العلامة في المختلف وابن الجنيد ، وظاهر الشيخين فيما تقدم نقله عنهما ، وكذا الشيخ علي بن بابويه ـ هو الفرق بين ما إذا كانت الوصية بجزء مشاع كثلث أو نصف أو ربع ، فان الحكم فيه ما ذكر من التفصيل ، وبينما إذا كانت الوصية بعين ، فإنه تبطل الوصية من رأس ، لأن المملوك لا يملك ، وعلى تقدير ملكه فإنه لا يجوز التخطي الى غير ما أوصى به ، لأنه يكون تبديلا للوصية فالتخطى الى رقبته تبديل للوصية حينئذ ، فلا يجرى فيه الحكم المذكور في الخبرين.

وحكم الوصية بالمعين وان كان غير مذكور في كلام المشايخ الثلاثة المذكورين ، إلا أن تخصيصهم هذا التفصيل بالوصية بالمشاع ، ظاهر في أنه لا يجري في المعين ، وليس بعده إلا البطلان ، وظاهر كلام الأكثر كالشيخ في الخلاف وابن إدريس والمحقق فيما نقلناه عنه وغيرهم هو العموم ، ولهم في تعليل ذلك كلمات عليلة ، والظاهر هو القول الأول عملا بالخبرين المذكورين.

وانما يبقى الكلام في صحة الوصية له بالمعين وعدمها ، وهو مبني على صحة تملك العبد وعدمه ، وإلا فالتخطى إلى الرقبة على تقدير الصحة مشكل

__________________

(١) فقه الرضا (عليه‌السلام) ص ٤٠.

٥٣٢

لما عرفت ، ونحن انما صرنا إلى التخطي إلى الرقبة فيما إذا كانت الوصية بجزء مشترك ، للخبرين المتقدمين ، وبيان الوجه فيما دلا عليه ، ما ذكره في المختلف وهو أن الجزء المشاع يتناول نفسه. أو بعضها ، لأنه من جملة الثلث الشائع ، والوصية له بنفسه صحيحة ، والفاضل قد استحقه بالوصية ، لأنه يصير جزء ، فيملك بالوصية ، فيصير كأنه قال أعتقوا عبدي من ثلثي ، وأعطوه ما فضل منه ، انتهى ، وهذا كله مفقود في صورة التعيين.

الثاني ـ أن المفهوم من كلام الشيخين المتقدم أنه في صورة ما إذا كانت قيمته أكثر من الثلث الموصى له بقدر ضعف ما أوصى به ، كما لو كانت قيمته مائتين الموصى له به يبلغ مائة. فإنه تبطل الوصية في هذه الصورة ، وانما تصح فيما إذا كانت أقل من الضعف ولو يسيرا فيعتق منه بقدر الوصية ان خرجت من الثلث ، وإلا فبقدر الثلث ، ويستسعى للورثة في الباقي كما لو أوصى له بمائة وخمسين ، وقيمته مائتان ، فإنه ينعتق منه بالوصية ثلاثة أرباعه ، ويسعى للورثة في ربع قيمته ، وهو خمسون.

وظاهر كلام المحقق وهو اختياره في المسالك أيضا ، أنه لا فرق بين الأمرين بأن يكون قيمته بقدر ضعف ما أوصى له به أو أقل ، فإنه ينعتق بحساب ما أوصى له به مطلقا ، ما لم يزد عن الثلث ، فان زاد فبحساب الثلث ، وهذا هو ظاهر كلام الشيخ في الخلاف ، وأبى الصلاح والشيخ علي بن بابويه وابن إدريس ، ونقله الشهيد في نكت الإرشاد عن المحقق في النكت ، قال : واستدل عليه الشيخ بإجماع الفرقة.

قال في المسالك ـ بعد إيراد رواية حسن بن صالح المتقدمة دليلا للشيخين فيما ذهب اليه ـ : ووجه دلالة الرواية من جهة مفهوم الشرط في قوله فيها «فان كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعى العبد في ربع القيمة» فإن مفهومه أنه لو لم يكن أقل بقدر الربع لا يستسعى ، وانما يتحقق عدم

٥٣٣

الاستسعاء مع البطلان ، ولا يخفى عليك ضعف هذا التنزيل ، فان مفهومهما أن الثلث ان لم يكن أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة لا يستسعى في ربع القيمة ، لا أنه لا يستسعى مطلقا ، وهذا مفهوم صحيح لا يفيد مطلوبهم ، فلا ينافي القول بأنه يستسعى بحسابه ، فان كان أقل بقدر الثلث يستسعى في الثلث أو بقدر النصف ، فيستسعى في النصف ، وهكذا وأيضا فلو كان المفهوم الذي زعموه صحيحا لزم منه أنه متى لم يكن الثلث أقل من قيمته بقدر الربع لا يستسعى بل تبطل الوصية ، وهذا شامل لما لو كانت القيمة قدر الضعف وأقل من ذلك الى أن يبلغ النقصان قدر الربع فمن أين خصصوا البطلان بما لو كانت قيمته قدر الضعف؟ ما هذا إلا عجيب عجاب من مثل هذين الشيخين الجليلين ، انتهى وهو جيد وجيه.

السادسة : إذا كان على الإنسان دين وأوصى بعتق مملوكه ، وليس له سواه أو أعتقه منجزا فقد اختلف كلام الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في ذلك فقال الشيخ المفيد (قدس‌سره) في كتاب المقنعة إذا كان على الإنسان دين ، ولم يخلف إلا عبدا أو عبيدا فأعتقهم عند الموت ، نظر في قيمة العبد أو العبيد وما عليه من الدين فان كان أكثر من قيمة العبد بطل العتق ، وبيع العبيد وتحاص الغرماء بثمنهم ، وكذا ان استوت القيمة والدين ، فان كانت قيمة العبد أكثر من الدين السدس أو الثلث ونحو ذلك بيع العبد ، وبطل العتق ، وان كان قيمة العبد ضعف الدين ، كان للغرماء النصف منهم ، وللورثة الثلث ، وعتق منهم السدس ، لأن لصاحبهم الثلث من تركته يضع به ما يشاء ، فوصيته نافذة في ثلث مماليكه ، وهو السدس ، بهذا جاء الأثر من آل محمد عليهم‌السلام.

وقال الشيخ في النهاية : إذا أوصى لإنسان بعتق مملوك له ، وكان عليه دين فان كان قيمة العبد ضعف الدين استسعى العبد في خمسة أسداس قيمته ، ثلاثة أسهم للديان ، وسهمان للورثة ، وسهم له ، وان كانت قيمته أقل من ذلك بطلت الوصية وبذلك قال ابن البراج.

٥٣٤

وقال ابن إدريس : الذي يقتضيه المذهب أنه لا وصية قبل قضاء الدين ، بل الدين مقدم على الوصية ، والتدبير عندنا وصية ، فلا تمضى الوصية إلا بعد قضاء الدين ، فان عمل عامل بهذه الرواية يلزمه أن يستسعى العبد ، سواء كانت قيمته ضعفي الدين أو أقل من ذلك ، لأنه متى كانت قيمته أكثر من الدين بأي شي‌ء كان فان الميت الموصى قد استحق في الذي فضل عن الدين ثلثه ، فتمضى وصيته في ذلك الثلث ، ويعتق العبد ، ويستسعى في دين الغرماء وما فضل عن ثلثه الباقي للورثة ، ولي في ذلك نظر ، فإن أعتقه في الحال ، وبت عتقه قبل موته ، مضى العتق وليس لأحد من الديان ، ولا الورثة عليه سبيل ، لأنه ليس بتدبير ، وانما هو عطية منجزة في الحال ، وعطاياه المنجزة صحيحة ، على الصحيح من المذهب ، لا تحسب من الثلث بل من الأصل.

وقال العلامة في المختلف : والمعتمد أن تقول ان أحاط الدين بقيمة العبد بطل العتق ، سواء كان قد نجزه من مرض موته أو أوصى به ، وان قصر الدين عن قيمته عتق ثلث الفاضل ، واستسعى في الباقي.

وقال المحقق في الشرائع : ولو أوصى بعتق مملوكه وعليه دين ، فان كانت قيمة العبد بقدر الدين مرتين أعتق المملوك ، وسعى في خمسة أسداس قيمته ، وان كانت قيمته أقل بطلت الوصية بعتقه ، والوجه أن الدين يقدم على الوصية فيبدأ به ، ويعتق منه الثلث فيما فضل عن الدين ، أما لو نجز عتقه عند موته كان الأمر كما ذكر أولا ، عملا برواية عبد الرحمن عن أبى عبد الله عليه‌السلام.

أقول : والواجب أولا نقل ما وصل الي من الأخبار في المسئلة المذكورة ، ثم الكلام فيها بما وفق الله سبحانه لفهمه منها ، فمن ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج (١) في الصحيح قال : «سألني أبو عبد الله عليه‌السلام

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٦ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢١٧ ح ٨٥٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٢٣ ح ٥.

٥٣٥

هل يختلف ابن أبى ليلى وابن شبرمة؟ فقلت : بلغني أنه مات مولى لعيسى بن موسى وترك عليه دينا كثيرا وترك مماليك يحيط دينه بأثمانهم فأعتقهم عند الموت فسألهما عيسى بن موسى عن ذلك ، فقال ابن شبرمة : أرى أن يستسعيهم في قيمتهم ، فتدفعها الى الغرماء ، فإنه قد أعتقهم عند موته ، وقال ابن أبى ليلى : أرى أن أبيعهم وادفع أثمانهم إلى الغرماء ، فإنه ليس له أن يعتقهم عند موته ، وعليه دين يحيط بهم ، وهذا أهل الحجاز اليوم يعتق الرجل عبده وعليه دين كثير ، فلا يجيزون عتقه إذا كان عليه دين كثير ، فرفع ابن شبرمة يده الى السماء فقال : سبحان الله يا ابن أبى ليلى متى قلت هذا القول؟ والله ما قلته إلا طلب خلافي ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فعن رأي أيهما صدر الرجل؟ قال : قلت : بلغني أنه أخذ برأي ابن أبى ليلى ، وكان له هوى في ذلك ، فباعهم وقضى دينه ، قال : فمع أيهما من قبلكم ، قلت له : مع ابن شبرمة ، وقد رجع ابن أبى ليلى إلى رأي ابن شبرمة بعد ذلك ، أما والله ان الحق لفي الذي قال ابن أبى ليلى ، وان كان قد رجع عنه ، قلت : هذا ينكسر عندهم في القياس فقال : هات قايسني فقلت : أنا أقايسك؟ فقال : لتقولن بأشد ما يدخل فيه من القياس ، فقلت له : رجل ترك عبدا لم يترك مالا غيره ، وقيمة العبد ستمائة درهم ، ودينه خمسمائة درهم فأعتقه عند الموت ، كيف يصنع؟ قال : يباع العبد ويأخذ الغرماء خمسمائة درهم ، ويأخذ الورثة مائة درهم ، فقلت : أليس قد بقي من قيمة العبد مائة درهم عن دينه؟ فقال : بلى ، فقلت : أليس للرجل ثلثه يصنع به ما شاء ، قال : بلى ، قلت : أليس قد أوصى للعبد بالثلث من المائة حين أعتقه ، فقال : ان العبد لا وصية له ، انما ماله لمواليه ، فقلت له : فإذا كان قيمة العبد ستمائة درهم ، ودينه أربعمائة ، قال : كذلك يباع العبد ، فيأخذ الغرماء أربعمائة درهم ، ويأخذ الورثة مائتين ، فلا يكون للعبد شي‌ء ، قلت له : فإن قيمة العبد ستمائة درهم ودينه ثلاثمائة درهم فضحك وقال : من هيهنا أتى أصحابك فجعلوا الأشياء شيئا واحدا ،

٥٣٦

ولم يعملوا السنة ، إذا استوى مال الغرماء ومال الورثة أو كان مال الورثة أكثر من مال الغرماء لم يتهم الرجل على الوصية ، وأجيزت وصيته على وجهها ، فالآن يوقف هذا ، فيكون نصفه للغرماء ويكون ثلاثة للورثة ، ويكون له السدس».

وما رواه في الكافي عن زرارة (١) في الحسن أو الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام في رجل أعتق مملوكه عند موته ، وعليه دين ، قال : ان كان قيمته مثل الدين الذي عليه ومثله ، جاز عتقه ، وإلا لم يجز».

ورواه الشيخ في التهذيب في الصحيح أو الحسن عن زرارة الحديث مقطوعا ، ورواه في الفقيه عن ابن أبى عمير عن جميل عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما رواه في التهذيب عن حفص بن البختري (٢) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا ملك المملوك سدسه استسعى وأجيز».

قال في الوافي : لعل الحكم مختص بما إذا كان العتق عند الموت أو بعده وكان على مولاه دين كما يظهر من سائر أخبار الباب وإلا يلزم تقييد أخبار السراية الماضية كلها بذلك ، وهو مشكل ، انتهى.

وما رواه في التهذيب عن زرارة (٣) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا ترك الدين عليه ومثله أعتق المملوك واستسعى».

وما رواه في الكافي عن الحسن بن الجهم (٤) في الموثق قال : «سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : في رجل أعتق مملوكا له وقد حضره الموت ، وأشهد له بذلك وقيمته ستمائة درهم ، وعليه دين ثلاثمائة درهم ولم يترك شيئا غيره ، قال :

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٧ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢١٨ ح ٨٥٦ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٦ ح ٥٨٠.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٩ ص ١٦٩ ح ٦٨٩ و ٦٨٨.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٢٧ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ٢١٨ ح ٨٥٥.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٤٢٥ ح ٦ وص ٤٢٢ ح ١ وح ٢ وص ٤٢٣ ح ٤.

٥٣٧

يعتق منه سدسه ، لأنه إنما له منه ثلاثمائة درهم ، ويقضى منه ثلاثمائة درهم فله من الثلاثمائة درهم ثلثها وله السدس من الجميع». ورواه الشيخ في التهذيب مثله ، «الا أن الذي فيه «لأنه إنما له منه ثلاثمائة وله السدس من الجميع» وما بينهما لم يذكره.

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن الحلبي (١) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في الرجل يقول : ان متّ فعبدي حر وعلى الرجل دين قال : ان توفي وعليه دين قد أحاط بثمن العبد بيع العبد ، وان لم يكن أحاط بثمن العبد استسعى العبد في قضاء دين مولاه ، وهو حر إذا وفاه».

والشيخ في التهذيبين قيده بما إذا كان الدين أنقص من ثمن العبد بمقدار النصف جمعا بينه وبين الأخبار المذكورة قبله.

أقول : وتحقيق الكلام في المقام هنا يقع في موضعين الأول : لا يخفى أنه من القواعد المقررة بينهم كما تقدم ذكره أن الوصية المتبرع بها إنما تنفذ من ثلث المال ، وأن الدين يقدم أولا ، ثم تعتبر الوصية من ثلث ما بقي بعد الدين ، وأن المنجزات المتبرع بها في مرض الموت بحكم الوصية في خروجها من الثلث عند الأكثر ، ولا ريب أن العتق من جملة التبرعات.

وعلى هذا فإذا أوصى بعتق مملوكه تبرعا أو أعتقه منجزا بناء على أن المنجزات من الثلث ، وكان عليه دين ، فان كان الدين يحيط بالتركة بطل العتق والوصية به ، وهو مما لا خلاف فيه ، ولا اشكال نصا وفتوى ، وان فضل من التركة فضل بعد الدين وان قل ، فمقتضى القواعد المذكورة صرف ثلث الفاضل في الوصايا فيعتق من العبد بحساب ما يبقى من الثلث ، ويسعى في باقي قيمته سواء كانت قيمته بقدر الدين مرتين أو أقل ، لأن العتق تبرع محض ، فيخرج من الثلث والمعتبر منه ثلث ما يبقى من المال بعد الدين على تقديره ، كغيره من التبرعات.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢١٨ ح ٨٥٧ ، الفقيه ج ٣ ص ٧٠ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٢٣ ح ٣.

٥٣٨

وبهذا قال جماعة من الأصحاب ، بل أكثر المتأخرين كما ذكره في المسالك ، ومنهم العلامة في المختلف وابن إدريس على ما ذكره من التردد ، والمحقق بالنسبة إلى الوصية والقول الثاني ـ وهو أنه انما يصح العتق إذا كانت قيمته ضعفي الدين ، وسعى في خمسة أسداس قيمته ، ثلاثة للديان وسهمان للورثة ـ للشيخ المفيد والشيخ في النهاية والقاضي استنادا الى ما قدمناه من الروايات الصحيحة الصريحة في ذلك ، والأصحاب لم يوردوا منها إلا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فمنهم من وقف عليها ، وخص الحكم بتنجيز العتق ، كما هو مورد الرواية دون الوصية ، وقوفا فيما خالف الأصل على مورده.

ومنهم من رده ، واطرحها لمخالفتها للرواية الدالة على تلك القواعد ، قال : في المسالك بعد ذكر صحيحة عبد الرحمن : وروي عن زرارة في الحسن مثله ، إلا أن الرواية به مقطوعة ، فلذا لم يذكرها المصنف هنا ، واقتصر على رواية عبد الرحمن لصحتها.

أقول : عذره في ذلك واضح ، وهو أنه اقتصر على مراجعة التهذيب وهي في بعض مواضعه كما ذكره حسبما قدمنا ذكره ، وإلا فهي في الكافي بسنده الى الامام عليه‌السلام ونحوها الروايات الأخر ، وهي صريحة صحيحة ، ولكنهم لم يقفوا عليها ، وبذلك يظهر لك أن الأظهر هو الوقوف عليها ، والعمل بمقتضاها ، وبها تخصص أخبار تلك القواعد ان ثبتت.

نعم احتج القائلون بالقول الأول بصحيحة الحلبي المتقدمة ، ولهذا ان الشيخ تأولها بما قدمنا نقله عنه ، جمعا بين الأخبار وهو جيد.

أقول : ويمكن أن يقال : ولعله الأقرب العاري عن وصمة القيل والقال أن ما ذكروه من الاشكال والمخالفة في هذه الروايات لمقتضى القواعد المقررة مبني على أن المنجزات في حكم الوصية مخرجها الثلث ، وإلا فلو قلنا بأن مخرجها الأصل كما هو ظاهر كلام ابن إدريس المتقدم ، وهو الحق الظاهر من الأخبار

٥٣٩

كما سيأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى في المسئلة عند ذكرها ، فلا اشكال بحمد الملك المتعال ، وعلى تقديره فالظاهر أنه لا يقيد بكون القيمة ضعف الدين أو غيره وبالجملة فإنه يندفع بذلك ما ذكروه من الإشكال الذي أوردوه على هذه الروايات ، وان بقي فيها اشكال من وجه آخر على هذا القول.

وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه والوقوف على مواردها حسب ، هذا بالنسبة إلى المنجزات.

وأما الوصية فلم يتعرضوا عليهم‌السلام لها في شي‌ء من النصوص المذكورة ، كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ومما حققناه يظهر لك صحة ما أشرنا إليه في غير موضع مما تقدم أن الأظهر هو الوقوف في الأحكام على موارد الأخبار ، ولا يلتفت الى ما يدعونه من القواعد في مقابلتها ، فان هذه القواعد غير معلومة ، وان دلت الأخبار على بعض أفرادها ومع ثبوت كونها قواعد فالتخصيص فيها ممكن ، لا منافاة فيه

الثاني : أن مورد الروايات المتقدمة هو العتق المنجز ، وهو الذي صرح به الشيخ المفيد ومن تبعه ، والشيخ في النهاية ومن تبعه عدوا الحكم إلى الوصية بالعتق.

قال في المسالك : ولعله نظر الى تساويهما في الحكم وأولويته في غير المنصوص ، لان بطلان العتق المنجز على تقدير قصور القيمة عن ضعف الدين مع قوة المنجز لكونه تصرفا من المالك في ماله ، والخلاف في نفوذه من الأصل يقتضي بطلانه في الأضعف ، وهو الوصية بطريق أولى انتهى ، ولا يخفى ما فيه.

وأورد أيضا على الشيخ القائل بتعديها : بصحيحة عبد الرحمن إلى الوصية ، معارضتها فيها بصحيحة الحلبي المتقدمة ، فإنها تدل بإطلاقها على انعتاقه متى زادت قيمته عن الدين ، وهو الموافق لما تقرر من القواعد ، فلا وجه لعمل الشيخ بتلك الرواية مع عدم ورودها في مدعاه ، واطراح هذه الرواية ومن الجائز اختلاف حكم المنجز والموصى به في مثل ذلك كما اختلفا في كثير من الأحكام

٥٤٠