الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

النيابة فظاهر ، ولهذا وضع الشارع نصيبا للعامل ، ولا خلاف أنه يجب دفع الزكاة الى الامام والعامل ، ويبرأ ذمة الدافع ، وان تلف لأنهما كالوكيلين لأهل السهمين ، وأي استبعاد في أن يقول الفقير : وكلتك في قبض ما يدفعه المالك الي عن زكاته ، ولا يستلزم ذلك استحقان المطالبة ، بل إذا اختار المالك الدفع الى ذلك الفقير جاز الدفع الى وكيله ، انتهى.

أقول : والمسئلة لا يخلو عن شوب الاشكال ، وان كان قول ابن إدريس هو الأقرب الى جادة الاعتدال ، أما ما ذكره العلامة من أنه عمل مباح يقبل النيابة ، فإنه مصادرة ظاهرة ، لأن هذا هو عين المدعى ، إذ الخصم ينكر ذلك.

وما ذكره من الدفع الى الامام بيده أو يد عامله ، ففيه أنه ليس كون الامام هنا وكيلا عن المستحقين بأولى من كونه وكيلا عن المالك ، ويكون نائبا منابه في تفريقه على المستحقين ، ولهذا ان بعض الأصحاب صرح بكونه وكيلا عن المالك.

وكيف كان فهو مستثنى بالنصوص الدالة على ذلك ، حتى قيل : بوجوب الدفع اليه ، وان كان المشهور الاستحباب ونائبه عليه‌السلام في معناه.

وإنما يبقى الكلام فيما عداه ، ومما يتفرع على ذلك أنه لو تلف المال في يد الوكيل بتفريط أو غير تفريط فمقتضى كلام القائل بالجواز براءة ذمة المالك ، وهو مشكل ، لأنه مأخوذ عليه بظواهر النصوص في براءة ذمة الدافع الى المستحق ، والمتبادر منه كما هو الشائع المتعارف هو الدفع اليه بيده ، والحال أنه لم يدفع اليه بيده ، وكون الدفع الى وكيله دفعا اليه ، يتوقف على قيام الدليل على صحة الوكالة في هذه المسئلة.

ومما يتفرع على ذلك أيضا أنه لو تصرف الوكيل في المال المدفوع اليه صح ذلك ومضى ، لأن المستحق الذي وكله لا يستحق المطالبة به ، لأنه لا يصير ملكا له الا بعد قبضه ، فلا يستحق المطالبة به ، والدافع قد برئت ذمته كما هو المفروض

٤١

على هذا القول ، وهذا عين السفسطة ، ودعوى كون قبض الوكيل في حكم قبض الموكل ، يتوقف على صحة التوكيل بالدليل في الصورة المذكورة ، ويمكن أن يستدل لما ذكره العلامة بعموم أدلة الوكالة ، وليس هنا ما يصلح للمنع الا عدم تعيين الدفع الى ذلك الموكل ، وجواز العدول عنه الى غيره ، وهذا لا يصلح للمانعية ، إذ يكفي بناء على تسليمه أن يكون ذلك حقا له في الجملة ، وهو هنا كذلك ، ويمكن أن يؤيد ذلك بما صرحوا به من جواز الدفع إلى أطفال المؤمنين ، وأنه يدفع إلى وليهم ان كان ، أو عدل يقوم بإنفاقه عليهم ، وبالجملة فإن المسئلة لعدم الدليل الواضح باقية في قالب الاشكال ، والله سبحانه العالم.

الثالث : قد عرفت أن من جملة الشروط العلم بما فيه التوكيل ، ولو إجمالا قال في التذكرة : لا يشترط في متعلق الوكالة وهو ما وكل فيه أن يكون معلوما من كل وجه ، فإن الوكالة إنما جوزت لعموم الحاجة ، وذلك يقتضي المسامحة فيها ، ولكن يجب أن يكون مبينا من بعض الوجوه ، حتى لا يعظم الغرر ، ولا فرق في ذلك بين الوكالة العامة والخاصة ، فأما الوكالة العامة بأن يقول وكلتك في كل قليل وكثير ، فان لم يضف إلى نفسه فالأقوى البطلان ، لأنه لفظ مبهم بالغاية ، ولو ذكر الإضافة إلى نفسه ـ وقال : وكلتك في كل أمر هو لي أو في كل أموري أو في كل ما يتعلق بي ، أو في جميع حقوقي ، أو في كل قليل وكثير من أموري ، أو فوضت إليك جميع الأشياء التي تتعلق بي ، أو أنت وكيل مطلقا تصرف في مالي كيف شئت ، أو فصل الأمور المتعلقة به التي تجري فيها النيابة ، وفصلها فقال : وكلتك ببيع أملاكي وتطليق زوجاتي وإعتاق عبيدي أو لم يفصل على ما تقدم أو قال : وكلتك في كل أمر هو لي مما يناب فيه ، ولم يفصل أجناس التصرفات أو قال : أقمتك مقام نفسي في كل شي‌ء ـ فالوجه عندي الصحة في الجميع ، وبه قال ابن أبي ليلى ، وقال الشيخ : لا تصح الوكالة العامة ، وهو قول العامة ، إلا ابن أبى ليلى لما فيه من الغرر العظيم ، والخطر الكثير ، لأنه

٤٢

يلزمه فيه هبة ماله ، وتطليق نسائه ، وإعتاق رقيقه ، وأن يزوجه نساء كثيرة ، وتلزمه المهور الكثيرة ، والأثمان العظيمة فيلزم الغرر العظيم.

والجواب أنا نضبط جواز تصرف الوكيل بالمصلحة ، وكلما لا مصلحة فيه لم ينفذ تصرف الوكيل ، كما لو وكله في بيع شي‌ء وأطلق ، فإنه لا يبيع الا نقدا بثمن المثل من نقد البلد ، فكذا في الوكالة العامة ، انتهى.

أقول : ما نقل عن الشيخ هنا هو مذهبه في الخلاف ، وأما في النهاية فإنه قد وافق الأصحاب ، والقول بالصحة منقول أيضا عن الشيخ المفيد ، وسلار ، وابن البراج ، وابن إدريس ، وهو المشهور بين المتأخرين ، الا أن ظاهر الشرائع الميل إلى ما ذكره في الخلاف ، حيث قال : ولو وكل على كل قليل وكثير لا يصح لما يتطرق من الضرر ، وقيل : يجوز ، ويندفع الخبال باعتبار المصلحة ، وهو بعيد عن موضع الفرض ، نعم لو وكل على ما يملك صح ، لأنه يناط بالمصلحة.

قال في المسالك : والجواز مذهب الأكثر ، لاندفاع الغرر والضرر بمراعاة المصلحة في فعل الوكيل مطلقا ، والمصنف رد هذا القيد بأنه بعيد عن موضع الفرض ، فان الفرض كونه وكيلا في كل شي‌ء فيدخل فيه عتق عبيده ، وتطليق نسائه ، وهبة أملاكه ، ونحو ذلك مما يوجب الضرر ، والتقييد خروج عن الكلية.

وجوابه أن القيد معتبر وان لم يصرح بهذا العموم ، حتى لو خصص بفرد واحد تقيد بالمصلحة ، فكيف بمثل هذا العام المنتشر ، وفرق المصنف بين هذا العام وبين ما خصصه بوجه ، كقوله وكلتك على ما أملك ونحوه ، لاندفاع. معظم الغرر ، نظرا إلى أن رعاية المصلحة في الأمور المنتشرة أمر خفي جدا ، فإذا خصص متعلقها سهلت ، وهو غير واضح ، لأن رعاية المصلحة تضبط الأمرين ، وانتشار الأمور لا يمنع من ذلك ، فان مرجع المصلحة إلى نظر الوكيل ، فما علم فيه المصلحة يفعله ، وما اشتبه عليه يمتنع فعله ، ولأنه لو فصل ذلك العام المنتشر فقال : وكلتك في عتق عبيدي ، وتطليق زوجاتي وبيع أملاكي صح ،

٤٣

لأن كل واحد منضبط برعاية المصلحة على ما اعترفوا به ، وذلك مشترك بين الأمرين ، فالأقوى الجواز مطلقا ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن العموم المستفاد من هذه الأمثلة التي ذكرها في التذكرة مما ينافي اعتبار المصلحة ، كما أن تقييد هذا العموم مناف أيضا ، فإن ظاهر هذا العموم أن للوكيل إخراجه من جميع ما يملكه من أموال عينية وحقوق شرعية وإثبات ما عليه ربما لا يمكنه الخروج عن عهدته ، وجميع ذلك خلاف المصلحة عرفا وعادة ، كما أنه لو فصل كان كذلك ، فكلام المحقق لا يخلو عن قرب ، الا أن يقال : انه قد رضي بذلك ، فهو في حكم ما لو فعل ذلك بنفسه ، «والناس مسلطون على أموالهم». فيصح بناء على ذلك ، ولا ثمرة هنا للتقييد بالمصلحة ، لأنه من الظاهر المعلوم عدم المصلحة ، لو فعل ذلك تفصيلا ، مع قولهم بالجواز ، فكذا في صورة الإجمال الذي هو بمعناه.

وبالجملة فالأمر دائر بين احتمال عدم الصحة من لزوم الضرر ، وبين احتمال الصحة بناء على رضاه بذلك ، لمعلومية ذلك عنده ، كما أنه لو فعله بنفسه كان كذلك ، وأما التقييد بالمصلحة وعدمها فلا مدخل له هنا.

نعم لقائل أن يقول : ان ما ادعيتموه من أن للإنسان أن يفعل بنفسه وماله ما شاء ممنوع ، فإنه متى تجاوز في التصرف إلى حد يوجب الإسراف وإدخال الضرر على نفسه ، كان ممنوعا بالآيات والروايات الدالة على تحريم الإسراف ، ووجوب دفع الضرر عن النفس والمال (١) ، وحينئذ فيرجع الأمر إلى اعتبار المصلحة في تصرفه بنفسه أو وكيله ، وعلى هذا فيمكن القول ببطلان الوكالة في صورة العموم على وجه المذكور ، لإدخاله الضرر على نفسه ، لأن مقتضى هذا العموم الضرر كما عرفت ، كما أنه لو فصل هذا العموم كان ضررا بينا ، فتبطل الوكالة في الموضعين ، ويمكن أن يقال : بالصحة نظرا إلى أنه وان كان مقتضى العموم ذلك ، الا أن تقييد تصرف الوكيل بالمصلحة يزيل ذلك.

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٢ عدة روايات باب فضل القصد ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٦١ ب ٢٧.

٤٤

ومما يمكن أن يستدل به على جواز تصرف الإنسان في ماله كيف شاء وان أوجب الضرر صحيحة محمد بن يحيى الخثعمي (١) قال : «كنا عند أبي عبد الله عليه‌السلام جماعة إذ دخل عليه رجل من موالي أبي جعفر عليه‌السلام فسلم عليه ثم جلس وبكى ، ثم قال له : جعلت فداك إني كنت أعطيت الله تعالى عهدا ان عافاني الله من شي‌ء كنت أخافه على نفسي أن أتصدق بجميع ما أملك وان الله تعالى عافاني منه ، وقد حولت عيالي من منزلي إلى قبة من خراب الأنصار وقد حملت كل ما أملك ، فأنا بائع داري وجميع ما أملك فأتصدق به؟ فقال : أبو عبد الله عليه‌السلام انطلق وقوم منزلك وجميع متاعك وما تملك بقيمة عادلة واعرف ذلك ثم اعمد إلى صحيفة بيضاء فاكتب فيها جملة ما قومت ثم انظر الى أوثق الناس في نفسك فادفع إليه الصحيفة وأوصيه ومره ان حدث بك حدث الموت أن يبيع منزلك وجميع ما تملك فيتصدق به عنك ، ثم ارجع الى منزلك وقم في مالك على ما كنت فيه فكل أنت وعيالك مثل ما كنت تأكل ثم انظر بكل شي‌ء تصدق به فيما تستقبل من صدقة أو صلة قرابة أو في وجوه البر فاكتب ذلك كله وأحصه ، فإذا كان رأس السنة فانطلق الى الرجل الذي أوصيت إليه فمره أن يخرج إليك الصحيفة ، ثم اكتب فيها جملة ما تصدقت وأخرجت من صلة قرابة أو بر في تلك السنة ، ثم افعل ذلك في كل سنة ، حتى تفي لله بجميع ما نذرت فيه ويبقى لك منزلك ان شاء الله تعالى قال : فقال الرجل : فرجت عني يا بن رسول الله جعلني الله فداك».

وفيه أنه قد استفاضت الأخبار المعصومية وعضدتها الآيات القرانية بتحريم الإسراف. كقول أبي عبد الله عليه‌السلام في رواية حماد اللحام (٢) المروية في الكافي وتفسير العياشي لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق أليس الله تبارك وتعالى يقول «وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» وأحسنوا

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٥٨ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ٢٣٦ ح ١.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٣ ح ٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٥٨ ح ٧.

٤٥

ان الله يحب المحسنين» يعنى المقتصدين.

وفي رواية هشام ابن المثنى (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام الواردة في تفسير قوله تعالى «وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» ، فقال : كان فلان بن فلان الأنصاري سماه وكان له حرث ، فكان إذا أخذ يتصدق به يبقى هو وعياله بغير شي‌ء ، فجعل الله تعالى ذلك سرفا».

وفي صحيحة الوليد بن صبيح (٢) قال : «كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فجاءه سائل فأعطاه ثم جاء آخر فأعطاه ، ثم جاء آخر فقال يسع الله تعالى عليك ثم قال :

لو أن رجلا كان له مال يبلغ ثلاثين أو أربعين ألف درهم ثم شاء أن لا يبقى منها إلا وضعها في حق لفعل فيبقى لا مال له ، فيكون من الثلاثة الذين يرد دعاؤهم قلت من هم؟ قال : أحدهم رجل كان له مال فأنفقه في غير وجهه ، ثم قال : يا رب ارزقني فيقال له : «ألم أرزقك».

ومن ذلك خبر الصوفية (٣) المروي في الكافي الي غير ذلك من الأخبار الصريحة في تحريم ذلك ومن المقرر أن صحة نذر شي‌ء فرع مشروعيته ، فلو لم يكن مشروعا لم ينعقد نذره ، ومنه يعلم أن الرواية المذكورة واردة على خلاف القواعد الشرعية ، بل ربما يقال : أن دلالة هذه الرواية على ما ندعيه من بطلان النذر أقرب ، لأنه لو كان النذر صحيحا لأمره عليه‌السلام بالتصدق بأمواله حسبما نذره لأنه هو الواجب بالنذر ، ولما جاز نقلها إلى الذمة بالقيمة ثم التصدق بها تدريجا على وجه يندفع به الضرر الموجب لبطلان النذر لو لم يكن كذلك ، ولهذا ان الأصحاب قصروا العمل بالرواية على موردها لمخالفتها لمقتضى القواعد الشرعية كما عرفت والله سبحانه العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٥ ح ٥ ، الوسائل ج ٦ ص ٣٢٣ ح ٣.

(٢) الفقيه ج ٢ ص ٣٩ ح ٢٠ الكافي ج ٤ ص ١٦ ح ١ وفيه ألم أجعل لك سبيلا الى طلب الرزق.

(٣) الكافي ج ٥ ص ٦٥ ح ١.

وهما في الوسائل ج ٦ ص ٣٢٢ ح ١ وص ٣٠٢ ح ٨.

٤٦

المطلب الثالث في الموكل :

وفيه مسائل الاولى : يشترط فيه التكليف بالبلوغ والعقل وعدم الحجر عليه بالنسبة الى ما حجر عليه التصرف فيه ، وجملة من الأصحاب انما عبروا هنا بأنه يشترط أن يملك مباشرة ذلك التصرف بملك أو ولاية.

قال في التذكرة : يشترط في الموكل أن يملك مباشرة ذلك التصرف ، ويتمكن من المباشرة لما وكل فيه ، اما بحق الملك لنفسه ، وبحق الولاية عن غيره ، فلا يصح للصبي ـ ولا المجنون ولا النائم ، ولا المغمى عليه ولا الساهي ولا الغافل ـ أن يوكلوا ، سواء كان الصبي مميزا أم لا ، وسواء كانت الوكالة في المعروف أم لا ، وعلى الرواية المقتضية لجواز تصرف المميز أو من بلغ خمسة أشبار في المعروف ووصيته في المعروف ينبغى القول بجواز توكيله ، وكذا كل من يعتوره الجنون حال جنونه ، ولو وكل حال إفاقته صحت الوكالة ، لكن لو طرء الجنون بطلت الوكالة ، انتهى.

أقول : لا ريب أنه وردت الروايات الكثيرة (١) الظاهرة في جواز تصرف الصبي المميز بالعتق والوصية والصدقة بالمعروف من غير معارض ، وبها قال جملة من الأصحاب ، وبذلك تثبت له جواز التوكيل ، وان كان خلاف المشهور بينهم لإعراض أكثرهم من العمل بتلك الروايات ، ولهذا أحال ذلك هنا على تقدير ثبوت الرواية ، ومن ثم أيضا قال في المسالك بعد ذكر عبارة المصنف المرادفة لهذه العبارة والأقوى المنع.

وأما ما ذكره من بطلان وكالة المجنون لو وكل حال الإفاقة ، وطرء الجنون ، ومثله لو طرء الإغماء والحجر عما وكل فيه ، فالظاهر أن دليله أنه لا يصح التصرف من نفسه ، لو كان كذلك فمن وكيله بطريق أولى ، وقد مر أن من

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٣٢١ الباب ١٥ من أبواب أحكام الوقوف والصدقات.

٤٧

شرائط صحة التوكيل تملكه فعل ما وكل فيه ، ولا شك أنه ليس بما لك له في تلك الأحوال.

وفيه أنه ان أريد بطلان الوكالة بطرو هذه الأمور واستمرارها بحيث لا تحصل له الإفاقة من الجنون ولا من الإغماء ولا دفع الحجر فهو جيد ، وان أريد البطلان ولو مع زوال تلك الأمور كما هو الظاهر من كلامهم ، فإنه يمكن تطرق المناقشة إليه ، بأنه من الجائز أن اشتراط تملك الموكل لما وكل فيه انما هو باعتبار الابتداء ، بمعنى أنه لا يجوز له التوكيل الا فيما يملك التصرف فيه ، كما تقدم ذكره ، لا باعتبار الاستدامة ، فلو حصلت الوكالة في حال كونه مالكا للتصرف بحيث يصح وقوع ذلك الفعل منه ، فالوكالة صحيحة اتفاقا ، وبطلانها بمجرد عروض أحد هذه الأشياء يحتاج الى دليل ، ولا دليل على شرطية هذا الشرط في الاستدامة ، ولانتقاض ذلك بالنائم مع الاتفاق على عدم البطلان بالنوم ، ولعل دليلهم إنما هو الإجماع ، الا أنه لم يدعه أحد منهم فيما أعلم.

وبالجملة فإن أصالة صحة الوكالة ثابتة ، والبطلان يحتاج الى دليل ، والدليل الذي أوردوه قاصر ، كما عرفت.

والظاهر أن المراد بمن له حق الولاية هو الأب والجد والوصي والحاكم الشرعي ، أما الأب والجد فظاهر ، وأما الوصي إذا كان وصيا على الأطفال فإن له ولاية كولاية الأبوين ، وكذلك الوصي في إخراج الحقوق اليه ذلك ، فان معنى وصيته اليه بذلك جعله كنفسه.

قال في التذكرة : للوصي أن يوكل ، وان لم يفوض إليه الموصي ، ذلك بالنصوصية ، لأنه يتصرف بالولاية كالأب والجد ، لكن لو منعه الموصي من التوكيل وجب أن يتولى بنفسه ، وليس له أن يوكل حينئذ لقوله تعالى (١) «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ» الآية ويجوز للحاكم أن يوكل عن السفهاء والمجانين

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ١٨١.

٤٨

والصبيان من يتولى الحكومة عنهم ، ويستوفي حقوقهم ، ويبيع عنهم ، ويشتري لهم ، ولا نعلم فيه خلافا ، انتهى.

وأما العبد على القول بملكه فإنه ليس له التوكيل على الأشهر الأظهر إلا بإذن الموصي ، لأنه وان ملك الا أنه محجور عليه ، كما تقدم تحقيقه في كتاب البيع وفي كتاب الحجر.

نعم استثنى من ذلك الطلاق ، فإنه بيد من أخذ بالساق ، فله التوكيل فيه ولو أحلنا ملكه كما هو أحد القولين ، فوقوع التوكيل منه إنما يكون في حق مولاه ، فيتوقف على الاذن ، لأنه لا يجوز له التصرف مباشرة بدون الاذن ، ولا يملك التصرف.

وقد عرفت أن التوكيل في أمر فرع صحة تملك التصرف فيه ، ومثله سائر أفراد المحجور عليهم ، فإنه يجوز لهم التوكيل ، فيما لا يتعلق به الحجر ، قال في التذكرة : وللمحجور عليه بالفلس أو السفه أو الرق أن يوكلوا فيما لهم الاستقلال حيث شاؤا من التصرفات ، فيصح من العبد أن يوكل فيما يملكه من دون إذن سيده ، كالطلاق والخلع ، وطلب القصاص ، والمفلس له التوكيل في الطلاق والخلع وطلب القصاص ، والمعاملة بغير عين المال ، والتصرف في نفسه ، فإنه يملك ذلك ، وأما ماله فلا يملك التصرف فيه ، وأما مالا يستقل أحدهم بالتصرف فيه فيجوز فيه مع إذن الولي والمولى ، انتهى.

وما يشعر به كلامه من جواز توكيل السفيه مع إذن المولى قد تأمل فيه بعض المحققين ، قال : فإنه بمنزلة المجنون والصبي ، وقد منع منهما وما اعتبر بإيقاعه بحضور الولي أيضا وبرضاه لعدم الاعتداد بعبارته.

أقول : قد مر في كتاب الحجر نقل الخلاف فيما لو أذن الولي للسفيه في البيع فقيل : بالمنع وهو مذهب المبسوط وابن البراج ، وقيل : بالصحة ، ونقله العلامة في المختلف عن بعض علمائنا واختار ، فينبغي أن يكون الكلام هنا كذلك ،

٤٩

الا أن الأقرب هو الصحة في الموضعين ، والفرق بينه وبين الصبي والمجنون ظاهر ، فان عبارتيهما مسلوبة الصحة ، لعدم التكليف الذي هو مناط ذلك بخلاف السفيه. فان الحجر عليه إنما هو من حيث خوف الإفساد والتبذير ، وعدم الإصلاح في تصرفاته ، وهذا مأمون بالإذن له فلا مانع حينئذ من الصحة ، ولو وكله إنسان في شراء نفسه من مولاه فالمشهور الصحة ، قالوا : والمراد وكالته باذن مولاه لتوقف تصرفاته على الاذن منه ، الا ما استثنى والظاهر أنه يكفى في الاذن المذكور إيجاب السيد للبيع مخاطبا به العبد ، وان كان ظاهر كلام جملة منهم الاذن الخاص في ذلك ، وربما قيل : بالمنع لاشتراط مغايرة المشتري للمبيع ، والمشترى والمبيع هنا واحد ، وهو العبد ، ورد بأن المغايرة الاعتبارية كافية ، وربما قيل. بلزوم كون السيد موجبا قابلا.

وفيه أيضا ما تقدم ، قال في المبسوط : إذا وكل رجل عبدا في شراء نفسه من سيده قيل : فيه وجهان : أحدهما يصح ، كما لو وكله في شراء عبد آخر باذن سيده ، والثاني لا يصح ، لأن يد العبد كيد السيد وإيجابه وقبوله بإذنه بمنزلة إيجاب سيده وقبوله ، فإذا كان كذلك وأوجب له سيده وقبله كان السيد هو الموجب القابل للبيع ، وذلك لا يصح ، فكذلك هيهنا ، ثم قال : والأول أقوى.

وقال ابن البراج : الأقوى عندي أنه لا يصح الا أن يأذن له سيده في ذلك ، فان لم يأذن له فيه لم يصح ، قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : والحق ما قوية الشيخ ، لأن بيع مولاه رضا منه بالتوكيل ، انتهى.

أقول : ومن كلامه يفهم أن من أطلق من الأصحاب كالشيخ والمحقق والعلامة فإن مرادهم الاكتفاء بالإيجاب ، وما يدل عليه من الرضا بذلك عن الاذن الصريح ، وظاهر كلام ابن البراج تقدم الإذن أولا قبل العقد ، وهو ظاهر شراح كلام المحقق والعلامة ، والحق ما ذكره في المختلف ، والله سبحانه العالم.

الثانية : قالوا : ليس للوكيل أن يوكل إلا بإذن من الموكل ، لأن الوكيل

٥٠

لا يملك مباشرة ما وكل فيه بنفسه قبل الوكالة ، ومن شرط صحة التوكيل تملك الموكل للتصرف بنفسه ولا ولاية له ، فلا بد من الاذن حينئذ ، الا أن يدل اللفظ بإطلاقه أو عمومه على ذلك ، كقوله اصنع ما شئت ، ونحوه من الأمثلة المتقدمة في كلامه في التذكرة ، وان لم يحصل ذلك صريحا ولا ضمنا ، لكن دلت القرائن على ترفع الوكيل عن مثل ذلك الفعل لشرفه وعلو منزلته ، وعدم لياقة مباشرة ذلك الفعل به أو عجزه عنه فكذلك أيضا ، لكن يجب علم الموكل بذلك.

تنبيهات :

الأول : قال في التذكرة : التوكيل على ثلاثة أقسام الأول : أن يوكل الموكل وكيله في التوكيل ، فيجوز أن يوكل إجماعا ، والثاني : أن ينهاه عن التوكيل ، فليس له أن يوكل ، الثالث : أطلق الوكالة ، وأقسامه ثلاثة : أحدها أن يكون العمل مما يرتفع الوكيل عن مثله ، كالأعمال الدنية في حق أشراف الناس المرتفعين عن مثلها في العادة ، كما لو وكله في البيع والشراء ، والوكيل أمين لا يتبدل بالتصرف في الأسواق ، أو يعجز عن عمله لكونه لا يحسنه ، فله التوكيل فيه ، لأن تفويض مثل هذا التصرف إلى مثل هذا الشخص لا يقصد منه إلا الاستنابة ، وهو قول علمائنا أجمع وأكثر الشافعية.

الثاني : أن يكون العمل مما لا يرتفع الوكيل عن مثله الا أنه عمل كثير منتشر لا يقدر الوكيل على فعل جميعه ، فيباشره بنفسه ، ولا يمكنه الإتيان بالكل ، فعندنا يجوز له التوكيل ، ولا نعلم فيه مخالفا ، وله أن يوكل فيما يزيد على قدر الإمكان قطعا ، وفي قدر الإمكان اشكال أقربه ذلك ، لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه ، فجازت في جميعه كما لو أذن له في التوكيل فيه بلفظ ، وللشافعية ثلاث طرق ، ثم ساق الكلام الى أن قال الثالث ما عدا هذين القسمين ، وهو ما أمكنه فعله بنفسه ، ولا يرتفع عنه ، وقد قلنا أنه لا يجوز له أن يوكل فيه الا بإذن الموكل ، إلى أن قال : إذا وكله بتصرف وقال : افعل ما شئت لم يقتض ذلك

٥١

الاذن في التوكيل ، لأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه ، وقوله اصنع ما شئت لا يقتضي التوكيل ، بل يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه ، وهو أصح قولي الشافعية ، والثاني أن له التوكيل وبه قال أحمد ، واختاره الشيخ في الخلاف ، لأنه أطلق الإذن بلفظ يقتضي العموم في جميع ما شاء فيدخل في عمومه التوكيل وهو ممنوع ، انتهى.

أقول : والنصوص هنا غير موجودة ، الا أن ما ذكره جيد بناء على الجري على مقتضى تعليلاتهم في أمثال هذه المقامات ، الا فيما ذكره من قوله وفي قدر الإمكان اشكال أقربه ذلك ، فان الظاهر أن ما قربه بعيد ، قوله «لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه» إلى آخره ممنوع ، بل إنما اقتضت جواز التوكيل فيما يعجز عنه من حيث العجز ، لاعترافه أخيرا بأن التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه ، وهو هنا بالنسبة إلى محل الاشكال عنده ممكن ، لأن المفروض أنه ممكن لا يتعلق به عجز ، فلا يجوز التوكيل فيه ، بل يجب عليه مباشرته بنفسه ، كما هو مقتضى الوكالة باعترافه.

والى ما أشرنا أشار في المسالك أيضا ، فقال بعد ذكر جواز التوكيل فيما يرتفع عنه التوكيل أولا ثم الجواز فيما يعجز عنه ما لفظه : ويقتصر في التوكيل في الأخير على ما يعجز عنه ، لأن توكيله خلاف الأصل ، فيقتصر فيه على موضع الحاجة ، وهو جيد ، وكذا قوله : ان قوله افعل ما شئت لا يقتضي الاذن في التوكيل ، فان الظاهر هنا انما هو ما نقله عن الشيخ من الجواز حسبما قدمنا نقله عنهم.

ومن جملة من صرح بذلك شيخنا في المسالك فقال : فان أذن له في التوكيل صريحا فلا اشكال ، وكذا لو دل اللفظ بإطلاقه أو عمومه على ذلك ، كاصنع ما شئت أو مفوضا ونحوه ، وبما أوردناه عليه في هذين الموضعين اعترف في القواعد ، فقال : ولا يصح توكيل الصبي الى أن قال : ولا الوكيل إلا بإذن

٥٢

موكله صريحا أو فحوى ، مثل اصنع ما شئت ، والأقرب أن ارتفاع الوكيل عن المباشرة واتساعه وكثرته بحيث يعجز عن المباشرة اذن في التوكيل معنى فحينئذ الأقرب أنه يوكل فيما زاد على ما يتمكن منه لا الجميع انتهى.

وبيان ذلك هنا أن إطلاق التوكيل يقتضي تصرفا يتولاه بنفسه ، كما صرح به ، فلا بد لزيادة هذا القيد ونحوه من فائدة تترتب عليه ، والا لكان لغوا من القول ولا ريب أن من جملة ما يشاء توكيل الغير إذا شاء ، ولو حمل هذا اللفظ على ما دل عليه أصل الوكالة من غير أن يكون له فائدة تترتب عليه لكان اللازم ما قلناه ، ولا شك أنه هو المتبادر من اللفظ ، الا أن يكون ثمة قرائن حالية توجب الخروج عن ذلك.

ثم ان ما ذكره من جواز التوكيل في صورة الترفع والعجز ينبغي تقييده بما أشرنا إليه آنفا من علم الموكل بذلك ، لأنه لو لم يعلم الموكل بشي‌ء من هذين العذرين المانعين من القيام بما وكل فيه لم يجز لذلك الوكيل توكيل غيره ، لانتفاء القرينة من جانب الموكل التي هي مناط الإذن ، لأن معرفة الموكل بكونه يرتفع أو يعجز في قوة الإذن له بالتوكيل ، كما عرفت من عبارة القواعد المذكورة ، وأنه انما وكله ، والحال كذلك إلا مع رضاه واذنه بالتوكيل ، بخلاف ما لو لم يعلم بذلك ، وهو ظاهر.

الثاني : قال في التذكرة ، إذا أذن له أن يوكل فأقسامه ثلاثة : الأول : أن يقول له : وكل عن نفسك ، ففعل كان الثاني وكيلا للوكيل ، ينعزل بعزل الأول إياه ، لأنه نائبه وهو قول الشافعي ، ثم ذكر الخلاف في ذلك من العامة وأقوالهم الى أن قال : والثاني : لو قال : وكل عني فوكل عن الموكل ، فالثاني وكيل للموكل وليس لأحدهما عزل الآخر ، ولا ينعزل أحدهما بموت الأخر ، ولا جنونه وانما ينعزل أحدهما بعزل الموكل ، فأيهما عزله انعزل.

الثالث : لو قال : وكلتك بكذا وأذنت لك في توكيل من شئت ، أو في أن توكل وكيلا ولم يقل عني ولا عن نفسك ، بل أطلق فللشافعية وجهان : أحدهما

٥٣

أنه كالصورة الأولى ، وهي أن يكون وكيلا عن الوكيل ، لأن المقصود من الاذن في التوكيل تسهيل الأمر على الوكيل ، وأصحهما عندهم أنه كالصورة الثانية يكون وكيلا للموكل ، فان التوكيل تصرف يتولاه باذن الموكل ، فيقع عنه إذا جوزنا للوكيل أن يوكل في صورة سكوت الموكل عنه ، فينبغي ان يوكله عن موكله ، ولو وكل عن نفسه ، فللشافعية وجهان ، انتهى.

أقول : ظاهر كلامه هو التوقف في القسم الثالث حيث لم يذكر فتواه في ذلك ، وإنما اقتصر على نقل الوجهين من كلام الشافعية ، وذكر تعليلاتهم ، ويحتمل أن يكون عدم رده لما ادعوه من الأصحية ولا رد دليلها مؤذنا باختياره ذلك ، ورجحه بعض محققي متأخري المتأخرين ، قال : لأن صاحب المال إذا أذن بتوكيل من يوكل في بيع ماله أنه يوكله عن نفسه ، ولأنه ثبت بذلك توكيله وبإذنه في فعل الثاني ذلك الموكل فيه فعزله ومنعه من ذلك يحتاج إلى دليل ، والأصل عدمه والاستصحاب يفيده ، انتهى.

أقول : والمراد من قوله يوكل في صورة سكوت الموكل يعنى مع فهم الجواز من القرائن كما تقدم لا مطلقا ، فإنه لا قائل به.

الثالث : قال في التذكرة أيضا : كل وكيل جاز له التوكيل فليس له ان يوكل الا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين فيفيد جواز التوكيد فيما فيه الخطر والضرر كما أن الاذن في البيع يقتضي الإذن بثمن المثل ، الا أن يعين له الموكل فيجوز سواء كان أمينا أو لا ، اقتصارا على ما نص عليه المالك ، ولأن المالك قطع نظره بتعيينه ، ولو وكل أمينا فصار خائنا فعليه عزله ، لأن تركه يتصرف في المال مع خيانته تضييع وتفريط على المالك ، وللشافعية وجهان : في أن يحل له عزله ، انتهى.

أقول : الظاهر من كلامهم من غير خلاف يعرف هو عدم اشتراط العدالة في الوكيل ، وغاية ما ذكروه في شروطه هو البلوغ والعقل ، والإسلام ان كان

٥٤

الغريم مسلما ، بل صرح في الشرائع بجواز كونه فاسقا أو كافرا أو مرتدا ، والظاهر أنه لا فرق في ذلك بين الوكيل عن المالك ، والوكيل عن وكيله ، لأن الحكم في الوكيل لا يزيد على الحكم في المالك فكل من جاز للمالك توكيله ، جاز لوكيله كذلك ، لأنه قائم مقام المالك وفي حكمه ، إلا أن يقوم دليل على الفرق بينهما ، ولا أعرف لذلك دليلا ، والأصل العدم في الموضعين ، وما ذكره هنا من التعليل بقوله لأنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين إنما يتم لو قلنا : باشتراط الوثاقة والأمانة فيمن يوكله الموكل.

وقد عرفت أنه غير شرط ولم يصرح به أحد منهم بل إنما صرحوا بخلافه ، وكيف يتم ما ذكره من أنه لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين بمعنى أنه ليس يرضى بذلك ولا يجيزه ، والحال أنه يوكل الفاسق المقطوع بكونه غير أمين كما عرفت ، فلو كان نظر الموكل مقصورا على الأمين ، وان ذلك من شروط الوكالة لامتنع توكيله الفاسق ، وكيف يراعى هذا النظر في وكيل وكيله ، ولا يراعى في وكيله هو.

وبالجملة فإنه إذا صحت وكالته للفاسق والكافر. المعلوم عدم أمانتهم ، والجائز وقوع الخطر والضرر بوكالتهم ، فلم لا يجوز فيمن يوكله الوكيل والخطر والضرر في الموضعين متدارك بفسخ الموكل الوكالة ، وقياسه ذلك على الاذن في البيع المقتضى لثمن المثل قياس مع الفارق ، فإن البيع لما كان الغالب فيه هو البيع بثمن المثل حمل عليه الإطلاق ، لما عرفت في غير موضع مما تقدم أن الإطلاق إنما يحمل على الأفراد الغالبة الشائعة ، بخلاف التوكيل ، لما عرفت من أن للموكل توكيل الفاسق والكافر والمرتد ونحوهم ممن لا أمانة لهم ، فإطلاق توكيل الوكيل لغيره إنما ينصرف إلى ذلك ، لا إلى خلافه وعكسه من اشتراط الأمانة فيه ، وبما صرح به هنا صرح في القواعد أيضا ، فقال : وكل موضع للوكيل أن يوكل فيه فليس له أن يوكل الا أمينا الا أن يعين الموكل

٥٥

غيره ، على أن ما ذكره من التعليل بقوله لا نظر للموكل في توكيل من ليس بأمين لا يخرج عن المصادرة ، لأن هذا عين المدعى كما هو الظاهر.

وبالجملة فإنه لا يظهر لي وجه صحة لما ذكره ، ولعله لسوء فهمي القاصر وضعف بصيرتي الحاسر ، وبذلك يظهر أن ما أطال به المحقق الأردبيلي هنا الكلام بعد نقل العبارة المذكورة من أن المراد بالأمانة العدالة بالمعنى المشهور بين الأصحاب أو مجرد اطمينان النفس به في عدم الخيانة لا أعرف له وجها لأن هذا البحث فرع صحة هذا الشرط ، وقد عرفت ما فيه وانه لا وجه له ، ولا دليل عليه الا أن يقال بذلك في الوكيل : ولا قائل بذلك بل القول إنما هو بخلافه كما عرفت ، والله سبحانه العالم.

الثالثة : لا يجوز للموكل أن يوكل فيما لا يجوز له مباشرته كما تقدم في صدر هذا المطلب ومن فروع ذلك أنه لا يجوز للمسلم أن يوكل ذميا في شراء خمر أو خنزير ، لأنه لا يجوز شراءه ، وإن جاز ذلك للذمي ، ومنها أنه لا يجوز للمحرم أن يوكل في عقد النكاح ولا ابتياع الصيد ، ولا يجوز له أيضا أن يتوكل فيما ليس للمحرم فعله كابتياع الصيد وإمساكه وعقد النكاح ، وهذا الحكم قد ذكره الأصحاب في أحكام الموكل فعبروا بالعبارة الأولى ونحوها ، وفي أحكام الوكيل فعبروا بالعبارة الثانية ونحوها ، والوجه في ذلك ظاهر ، فإنه كما يشترط في الموكل أن لا يوكل إلا فيما يجوز له مباشرته ، كذلك يشترط في الوكيل أن لا يكون وكيلا إلا فيما يكون قادرا على الإتيان به بنفسه ، وحينئذ فكما لا يجوز للمحرم أن يوكل في العقد فكذلك لا يجوز له أن يتوكل فيه ، وقد تقدم الكلام في ذلك في الحج ، إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا إشكال في تحريم إيقاع العقد فيهما في حال الإحرام ، وكذا التوكيل فيه.

وانما الكلام فيما لو وقع التوكيل في حال الإحرام لإيقاع العقد بعد الإحلال ، فإن ظاهر إطلاقهم هنا هو البطلان ، مع أن الذي صرح به جملة منهم

٥٦

في كتاب الحج هو الجواز ، تمسكا بالأصل السالم عن المعارضة.

وكذا الكلام في أنه هل يخص التحريم بما إذا كان العقد للموكل ، أو أعم من ذلك؟ اشكال ، وان كان المتبادر من كلامهم الأول.

قال في المسالك : وهل التحريم مشروط بكون العقد للموكل كما هو ظاهر الكلام والنص ، أو هو أعم من ذلك حتى يحرم على الأب والجد ، وشبههما التوكيل حال الإحرام في إيقاع عقد المولى عليه ، وكذا الوكيل الذي يسوغ له التوكيل كل محتمل ، وطريق الاحتياط واضح ، انتهى والله سبحانه العالم.

الرابعة : قالوا : يستحب أن يكون الوكيل تام البصيرة فيما وكل فيه عارفا باللغة التي يحاور بها ، وعن ابن البراج ان ذلك واجب ، وكذا عن ظاهر أبي الصلاح ، ثم ردوا ذلك بأنه ضعيف ، قالوا : ويكره لذوي المروات بان يتولوا المنازعة بأنفسهم ، والمراد بأهل المروات يعني أهل الشرف والخطر والمناصب الجليلة الذين لا يليق بهم الامتهان.

ونقل الأصحاب في كتب الفروع أنه روي (١) «أن عليا عليه‌السلام وكل عقيلا في خصومة ، وقال ، ان للخصومة قحما ان الشيطان ليحضرها وأني لأكره أن أحضرها». وفي الصحاح القحمة بالضم المهلكة ، والمراد بأن للخصومة قحما أي انه تقحم بصاحبها الى ما لا يريده.

أقول : لم أقف على هذا الخبر فيما حضرني من كتب أخبارنا بل الموجود فيها إنما هو ما يدل على خلافه «من تحاكم علي عليه‌السلام (٢) مع من رأى درع طلحة أخذت غلولا عنده ، فقال عليه‌السلام درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة ، فأنكر من هي بيده ، فدعاه المنكر إلى المحاكمة إلى شريح القاضي فحاكمه اليه». والقضية

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١١ ، النهاية لابن الأثير ج ٤ ص ١٩ ، لسان العرب ج ١٢ ص ٤٦٣ وفيه وكل عبد الله بن جعفر.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٧٣ ح ١٥٢ ، الوسائل ج ١٨ ص ١٩٤ ح ٦.

٥٧

مشهورة مروية «وتحاكم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) مع صاحب الناقة إلى رجل من قريش ، ثم الى علي عليه‌السلام. والرواية بها متعددة ، وتحاكم علي بن الحسين عليهما‌السلام (٢) الى قاضي المدينة مع زوجته الشيبانية لما طلقها وادعت عليه المهر». وهذه كلها كما ترى ظاهرة في عدم الكراهة ، إذ لا ريب في أنهم عليهم‌السلام سادات أرباب الشرف ، بل لا شرف فوق شرفهم.

نعم ما ذكروه باعتبار العرف الذي عليه الناس الآن مما لا شك فيه ، ومن الطرائف المناسبة للمقام أنه ادعى رجل من عامة الناس على رجل من أهل الشرف في بلادنا البحرين ، وكان من عادة ذلك الرجل الشريف لعلو مقامه أن يجلس بجنب الحاكم ، فلما ادعى عليه ذلك ، قال له الحاكم : قم واجلس إلى جنب خصمك ما دامت الخصومة ، فإن هذا هو مقتضى الشرع ، فإذا فرغت الخصومة عد الى مكانك ، فقال الرجل : انى لا أبيع مقامي هذا بأضعاف ما يدعيه هذا المدعى وأني أشهدكم أني قد سلمت اليه دعواه ، ولا أقوم من مجلسي هذا ، وهو غاية في المحافظة على شرف النفس وعزتها ، وعدم امتهانها ومذلتها والله سبحانه العالم.

المطلب الرابع في الوكيل :

وفيه أيضا مسائل الاولى : كلما يشترط في الموكل من البلوغ والعقل ، ونحوهما ، وضابطه ما تقدم من التمكن من التصرف يشترط في الوكيل أيضا ، قال في الشرائع : الوكيل يعتبر فيه البلوغ وكمال العقل ، ولو كان فاسقا أو كافرا أو مرتدا ، ولو ارتد المسلم لم تبطل وكالته ، لأن الارتداد لا يمنع الوكالة ابتداء ، فكذا استدامة.

وقال في التذكرة : كما يشترط في الموكل التمكن من مباشرة التصرف في الموكل فيه بنفسه ، يشترط في الوكيل التمكن من مباشرته بنفسه ، وذلك بأن يكون صحيح العبارة فيه فلا يصح للصبي ولا للمجنون أن يكونا وكيلين في

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٦٠ ح ١ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٠٠ ح ١.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٣٥ ح ٥ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٤٢ ح ١.

٥٨

التصرفات ، سواء كان مميزا الى آخر ما قدمنا نقله عنه في سابق هذا المطلب من الأفراد المعدودة ثمة ، وعلى هذا النهج كلام غيرهما.

وهو كما ترى ظاهر بل صريح فيما قدمنا ذكره من عدم اشتراط الوكيل وعدم اشتراط كونه أمينا كما ذكره العلامة فيما قدمنا نقله عنه في وكيل الوكيل وكان ذكر المرتد في عبارة الشرائع ـ بعد ذكر الكافر الشامل له ، لدفع توهم بطلان تصرفاته بعد الردة ، فإن البطلان مخصوص بما كان من أمواله ، فإنه يمنع منها دون مال الغير الذي وكل فيه ، فإنه لا يدخل في ذلك ولا يمنع من تصرفه فيه بحسب الوكالة.

وما ذكره في التذكرة من الشرط المذكور ، بمنزلة الضابط الكلي للوكيل ، ولكنه يحتاج أيضا الى قيد زائد على ما ذكره ، كما نبه عليه المحقق في عبارة الشرائع بقوله : وكلما له أن يليه بنفسه وتصح النيابة فيه صح أن يكون فيه وكيلا ، والأول احتراز عما لا يصح أن يليه بنفسه ولا يتمكن من مباشرته بنفسه ، كتوكيل المحرم في عقد النكاح إيجابا وقبولا ، وتوكله في حفظ الصيد وشرائه ، إذ ليس للمحرم أن يلي ذلك بنفسه كما تقدم ذكره.

ومنه الصبي والمجنون كما ذكره في التذكرة فإنهما لا يليان ذلك ، ومنه الكافر لا يجوز له تزويج المسلمة ففي جميع هذه المواضع التي لا يملك فيها التصرف لنفسه لا يجوز له أن يكون وكيلا فيها ، الا أن ظاهر ابن إدريس الجواز في الأخير.

والثاني احتراز عما لا تصح النيابة فيه وان صح أن يليه بنفسه ، كالعبادات ونحوها مما تقدم ذكره مما يليه الإنسان بنفسه من صلاة وصوم ونحوهما ، فإنه لا تصح النيابة فيها ، لكونها مطلوبة من المكلف مباشرة ، ويدخل في هذا الضابط المحجور عليه لسفه أو فلس من جهة ، ويخرج من جهة ، فمن جهة ما حجر عليه التصرف فيه يخرج ، ومن جهة ما خرج عن موضع الحجر مما له التصرف فيه يدخل ، لأنهما يليان لأنفسهما بعض الأفعال ، فتصح وكالتهما فيها.

الثانية : يجوز ، للمرئة أن تتولى طلاق غيرها بلا خلاف ولا إشكال ، لأن

٥٩

الطلاق مما يقبل النيابة ، ولا فرق بين نيابة الذكر والأنثى ، أما نيابتها في طلاق نفسها فمحل خلاف ، وقد تقدمت اشارة اليه في المورد الثاني من المطلب الثاني.

وكذا يجوز وكالتها في عقد النكاح عندنا ، ولم ينقل فيه الخلاف الا عن الشافعي ، حيث منع من توكيلها فيه إيجابا وقبولا كالمحرم ، قال في التذكرة :

يجوز للمرأة أن يتوكل في عقد النكاح إيجابا وقبولا عندنا ، الى آخره وقال فيها أيضا : بجواز توكيلها في رجعة نفسها ، وتوكيل امرأة أخرى.

أقول : أما الحكم الأول مما ذكره فظاهر ، وأما الثاني فلا يخلو من توقف لأن أصالة صحة الطلاق ثابتة الى أن يحصل الرافع لها بيقين ، ولم يثبت من الشارع زوالها بتوكيلها في الرجعة ، والظاهر أن الكلام هنا كالكلام في توكيلها في طلاق نفسها وسيأتي تحقيق الحال فيه في موضعه إنشاء الله.

ويجوز وكالة العبد باذن مولاه لانه لا مانع من ذلك الا كون منافعه مملوكة للمولى ، وحينئذ فإذا حصل الاذن زال المانع ، وظاهر إطلاق كلام أكثر الأصحاب هو توقف ذلك على الاذن ، أعم من يكون ما وكل فيه مما يمنع شيئا من حقوق المالك أولا ، بأن يوكله في إيجاب عقد أو قبوله في حال خلوه عن أمر المولى له بشي‌ء أو في حال اشتغاله بأمره حيث لا منافاة بين القيام بالأمرين.

ويدل على ذلك ما تقدم من أن منافعه بأسرها مملوكة لسيده ، فلا يجوز التصرف في شي‌ء منها قليلا أو كثيرا إلا باذنه وذهب في التذكرة إلى جواز توكيله بغير إذنه ، إذا لم بمنع شيئا من حقوقه ، واليه يميل كلام جملة ممن تأخر عنه ، كالمسالك والمحقق الأردبيلي في شرح الإرشاد ، نظرا إلى شهادة الحال ، وانتفاء الضرر.

وأما وكالته في شراء نفسه ، فقد تقدم الكلام فيها ، وفي حكمها وكالته في عتق نفسه ، بأن يوكله مولاه في عتق نفسه ، ووجه المنع هنا من حيث أنه يعتبر مغايرة المعتق اسم الفاعل ، للمعتق اسم المفعول ، والجواب الاكتفاء بالمغايرة

٦٠