الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

أو غيرها ، وقد دل قوله تعالى (١) «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ» على الاكتفاء بالرجل والامرأتين والأخبار بذلك مستفيضة ، يأتي ان شاء الله تعالى في موضعها اللائق بها ، وكذا تثبت فيما إذا كانت مالا بشهادة الواحدة ربع ما شهدت به ، وبشهادة اثنتين ، النصف ، وبثلاث ثلاثة أرباع ، وبالأربع الجميع ، روى الشيخ في التهذيب في الصحيح عن ربعي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصى ليس معها رجل؟ فقال : يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها».

وما رواه في الفقيه (٣) في الصحيح عن حماد بن عيسى عن ربعي مثله بأدنى تفاوت.

وعن محمد بن قيس (٤) في الصحيح عن أبى جعفر عليه‌السلام : قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في وصية لم تشهدها إلا امرأة فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية».

ورواه بسند آخر عن محمد بن قيس (٥) ايضا مثله إلا انه «زاد إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها».

وعن أبان (٦) عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه «قال في وصية لم تشهدها إلا امرأة فأجاز شهادة المرأة في الربع من الوصية حساب شهادتها».

وأما ما رواه الشيخ في التهذيب عن إبراهيم بن محمد الهمداني (٧) قال : «كتب أحمد بن هلال الى أبى الحسن عليه‌السلام امرأة شهدت على وصية رجل لم يشهدها غيرها ، وو في الورثة من يصدقها ، وفيهم من يتهمها فكتب عليه‌السلام : لا ، إلا أن يكون رجل وامرأتان ، وليس بواجب أن تنفذ شهادتها».

وما رواه محمد بن إسماعيل بن بزيع (٨) في الصحيح قال : «سألت الرضا عليه‌السلام

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٨٢.

(٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٦) الكافي ج ٧ ص ٤ ح ٤ و ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٠ ح ٧١٩ و ٧٢٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٢ ح ٤٨٦.

(٧ و ٨) التهذيب ج ٦ ص ٢٦٨ ح ٧١٩ وص ٢٨٠ ح ٧٧١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٥ ح ١ وص ٣٩٦ ح ٤ و ٣ و ٢ وص ٣٩٧ ح ٨ وج ١٨ ص ٢٦٦ ح ٤٠.

٥٠١

عن امرأة ادعى بعض أهلها أنها أوصت عند موتها من ثلثها بعتق رقبة لها أيعتق ذلك وليس على ذلك شاهد إلا النساء؟ قال : لا تجوز شهادة النساء في هذا». فحملهما الشيخ في التهذيبين على عدم نفاذها في الجميع ، وان نفذت في الربع ، وجوز في الاستبصار الحمل على التقية أيضا.

أقول : وهو الظاهر ، فإن الأول بعيد عن سياق لفظ الخبرين المذكورين ، وهل يتوقف بثبوت ما ذكر بشهادتهن على اليمين ، المشهور العدم ، لإطلاق النصوص المذكور فإنها ظاهرة في ثبوت ذلك بمجرد الشهادة ، ولا بعد فيه ، وان كان مخالفا لحكم غيره من الحقوق ، فإنها مختلفة بحسب الشهادة اختلافا كثيرا ، ونقل عن العلامة في التذكرة توقف الحكم في جميع الأقسام على اليمين ، كما في شهادة الرجل الواحد ، ورد بأن اليمين مع شهادة الواحد توجب ثبوت الجميع ، فلا يلزم مثله في البعض ، ولو فرض انضمام اليمين الى الاثنتين والثلاث ثبت الجميع ، لقيامهما مقام الرجل ، أما الواحدة فلا يثبت بها سوى

الربع مطلقا ، انضمت اليمين لها أم لا ، على أن في ثبوت الجميع بانضمام اليمين الى الاثنتين أو الثلاث إشكالا أيضا ، لأن مقتضى النصوص انما هو النصف في الأول ، وثلاثة أرباع في الثاني ، بمجرد الشهادة ، ووجود اليمين حيث لم يعتبرها الشارع هنا في حكم العدم ، وقيام الاثنتين مقام الرجل في بعض الموارد لا يستلزم قياس ما نحن فيه عليه ، حتى أنه يخرج عن مقتضى ظواهر النصوص بذلك.

وبالجملة فالظاهر هو الوقوف على ظاهر النصوص المذكورة ولو شهد رجل واحد ففي ثبوت النصف بشهادته من غير يمين نظرا الى قيام شهادته مقام اثنتين ، أو الربع خاصة ، لأنه متيقن ، من حيث انه لا يقصر عن المرأة ، أو سقوط شهادته أصلا وقوفا فيما خالف الأصل على مورده أوجه ، قال في المسالك : أوسعها الأوسط.

أقول : بل أظهرها الأخير لما ذكر ، واختياره الأوسط باعتبار أنه لا يقصر

٥٠٢

عن المرأة لمجرد خيال ، والأحكام الشرعية لا تبنى على تقريبات العقول ، فكم من حكم يقربه العقل تحكم النصوص بخلافه ، وكم من حكم يبعده العقل تحكم به النصوص.

وهل يشترط في قبول شهادة المرأة في الوصية تعذر الرجال؟ المشهور العدم ، عملا بعموم النصوص المتقدمة ، ونقل عن إدريس وقبله ابن الجنيد الاشتراط ، وهو ضعيف.

الثاني : المشهور في كلام الأصحاب بل الظاهر أنه لا خلاف فيه كما نقله في المسالك عدم قبول شهادة النساء منفردات في الولاية ، وعلل بأنها ليست وصية بمال ، بل هي تسلط على تصرف فيه ، وليست أيضا مما يخفى على الرجال غالبا ، وذلك هو ضابط محل قبول شهادتهن منفردات.

والمشهور أيضا ـ بل الظاهر أنه لا خلاف فيه إلا ما يظهر من المحقق في الشرائع حيث تردد في ذلك ـ هو أنه لا تثبت الوصية بالولاية بالشاهد واليمين ، وذلك لأن ضابط الثبوت بالشاهد واليمين ما كان من حقوق الآدميين مالا أو المقصود منه المال ، وولاية الوصاية لا تدخل في ذلك.

ونقل عن الشيخ في المبسوط أنه قوى قبول الوصية بالولاية بالمرأتين مع الشاهد ، ونقل عن ابن الجنيد أيضا ، وأورد عليه أن اللازم من ذلك قبولها بالشاهد واليمين أيضا ، لأن كل ما ثبت بشاهد وامرأتين ، ثبت بشاهد ويمين ، وقيل ـ في وجه تردد المحقق هنا ـ : أن منشأه مما ذكر ، ومن أن الوصية بالولاية قد يتضمن المال ، كما إذا أراد أخذ الأجرة أو الأكل بالمعروف بشرطه ، ولما فيه من الإرفاق ، والتيسير ، فيكون مرادا للآية والرواية.

قال في المسالك : ولا يخفى ما فيه ، وقد قطع الأصحاب بالمنع من غير نقل خلاف في المسئلة ولا تردد ، ووافقهم المصنف في المختصر ، على القطع ، وأبدل هذا التردد بالتردد في ثبوت الوصية بالمال بشاهد ويمين ، وكلاهما كالمستغني

٥٠٣

عنه ، للاتفاق على الحكم ، والقاعدة المفيدة للحكم فيهما ، انتهى وهو جيد.

الثالث : قالوا : لو أشهد إنسان عبدين له على حمل أمته وأنه منه ، ثم مات وأعتق المملوكان ثم شهدا بذلك ، فإنه تقبل شهادتهما ، وهل يسترقهما المولود حينئذ؟ قيل : بالمنع ، وقيل : بالجواز على كراهة.

أقول الأصل في هذه المسئلة ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل مات وترك جارية ومملوكين ، فورثه أخ له فأعتق العبدين ، وولدت الجارية غلاما فشهدا بعد العتق أن مولاهما كان أشهدهما أنه كان يقع على الجارية وأن الحمل منه ، قال : تجوز شهادتهما ، ويردان عبدين كما كانا».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن داود بن فرقد في الموثق (٢) «قال سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل كان في سفر ومعه جارية له وغلامان مملوكان فقال لهما : أنتما حران لوجه الله ، وأشهد أن ما في بطن جاريتي هذه مني فولدت غلاما ، فلما قدموا على الورثة أنكروا ذلك واسترقوهما ، ثم ان الغلامين عتقا بعد ذلك ، فشهدا بعد ما أعتقا أن مولاهما أشهدهما أن ما في بطن جاريته منه ، قال تجوز شهادتهما للغلام ، ولا يسترقهما الغلام الذي شهدا له ، لأنهما أثبتا نسبه».

قيل : والاستدلال بالخبرين مبني إما على قبول شهادة المملوك مطلقا أو على مولاه ، لأنهما بشهادتهما للولد والحكم بها صارا رقا له ، لتبين أن معتقهما لم يكن وارثا ، أو على أن المعتبر حريتهما حال الشهادة ، وان ظهر خلافها بعد ذلك ، أو على أن الشهادة للمولى لا عليه ، فتقبل.

وأورد على الأخير بأن الحكم بكون الولد مولى موقوف على شهادتهما

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٥٠ ح ٦٤٢.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٢٢ ح ٨٧٠ ، الكافي ج ٧ ص ٢٠ ح ١٦ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٧ ح ٥٤٤.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٠ ح ١ وص ٤٦١ ح ٢.

٥٠٤

على كونه مولى ، ليكون الشهادة له دارا.

أقول : الوجه عندي هو الأول ، فإن الروايات وان اختلفت في قبول شهادة المملوك إلا أن ما دل على المنع محمول على التقية ، والأظهر هو الجواز ، فلا ضرورة إلا ارتكاب ما ذكر من التعليلات في الوجوه الباقية.

ونقل عن الشيخ أنه خص الحكم بالوصية ، فإن أمرها أخف من غيرها من الحقوق ، كما قبلت فيها شهادة أهل الكتاب ، وفيه أنه لا ضرورة إلى التخصيص ، فإن إطلاق الخبرين المذكورين مع صحة الأول بالاصطلاح المحدث» وعد الثاني في الموثق إنما هو بواسطة الحسن بن فضال الذي لا يقصر حديثه عندهم عن الصحيح ، مضافا الى اتفاق الأصحاب على الحكم المذكور ـ مع عدم معارض ولا مخالف ـ أقوى دليل على العموم.

بقي الكلام في استرقاقهما للولد الذي شهدا له ، وبذلك صرحت صحيحة الحلبي ، وبالعدم صرحت موثقة ، حيث نهى عن استرقاقهما ، وطريق الجمع حمل النهي على الكراهة ، كما يؤذن به التعليل المذكور ، وملخصه أنه يكره له استرقاقهما ، لأنهما كانا سببا في حريته بعد الرقية ، فلا يكون سببا في رقيتهما بعد الحرية.

والمحقق في الشرائع قد فرض المسئلة كما دلت عليه صحيحة الحلبي ، والعلامة في القواعد قد فرضها بما دلت عليه موثقة داود ، وكيف كان فشهادتهما بعتق المولى لهما في رواية داود شهادة لأنفسهما ، فلا تسمع كما هو مقتضى القاعدة.

وأنت خبير بأن هذه المسئلة لا مناسبة لذكرها في هذا المقام إلا من حيث أن الشيخ قد خصها بالوصية ، كما قدمنا نقله عنه ، والظاهر ان الأصحاب انما ذكروها هنا تبعا له في ذلك ، وان خالفوه في العمل بإطلاق الخبر من المذكورين كما ذكرنا ، والله العالم.

الرابع : قالوا : لا تقبل شهادة الوصي فيما هو وصي فيه ، ولا ما يجر فيه

٥٠٥

نفعا أو يستفيد به ولاية ، قالوا : والضابط أنه متى كان لنفسه حظ في الشهادة لم تقبل.

وعدوا من ذلك أمورا : منها ـ أن يشهد بما هو وصي فيه بأن يجعله الموصي وصيا على مال معين ، فينازعه فيه منازع فيشهد به للموصي.

ومنها أن يجر به نفعا بأن جعله وصيا في تفرقة ثلثه ، فشهد بمال للمورث ، فإنه يجر به نفعا باعتبار زيادة الثلث.

ومنها أن يجعله وصيا على ولده الصغير ، فيشهد للولد بمال ، فإنه يستفيد بها ولاية على المال.

وأنت خبير بما في ذلك من تطرق المناقشة ، لعدم ورود نص بشي‌ء مما ذكروه ، والى ما ذكرناه يميل كلام ابن الجنيد حيث نقل عنه أنه قال : «شهادة الوصي جائزة لليتيم في حجره وان كان هو المخاصم للطفل ، ولم يكن بينه وبين الشهود عليه ما يرد شهادته عليه» ومال اليه المقداد في شرحه.

قال في المسالك بعد نقله ذلك : ولا بأس بهذا القول ، لبعد هذه التهمة من العدل ، حيث انه ليس بمالك ، وربما لم تكن له أجرة على عمله في كثير من الموارد ، إلا أن العمل بالمشهور متعين ، انتهى.

أقول : ان كان تعين العمل بالمشهور من حيث الشهرة فهي ليست بدليل شرعي ، بل الإجماع لو ادعي كما اعترف به في غير موضع من شرحه هذا ، وتقدم نقله عنه ، وسيأتي ان شاء الله في بعض مسائل هذا الكتاب ، وان كان لدليل آخر ، فليس في الباب ما يدل على ذلك ، وإلا لذكره واستند اليه ، هذا مع أن الأحكام منوطة بالنصوص ، ومقيدة بها على العموم أو الخصوص ، ولا نص في المقام سوى هذه التعليلات العليلة ، وقد عرفت ما فيها ، وبالجملة فكلامه (قدس‌سره) لا يخلو من المجازفة.

ثم ان مما فرعوا على ذلك أيضا أنه لو كان وصيا في إخراج مال معين ،

٥٠٦

فشهد للميت بما يخرج به ذلك المال من الثلث لم تقبل ، كما لو أوصى بإخراج ألف درهم والتركة ظاهرا ألفان ، فشهد الوصي أن للميت على أحد ألفا مثلا ، فان قبول هذه الشهادة يستلزم إخراج الألف المجعول وصيا فيها من الثلث ، ونفوذ الوصية ، فلا تقبل ، وأنت خبير بما فيه بعد الإحاطة بما ذكرناه.

نعم ربما يقال : انه قد وردت هنا أخبار فيمن ترد شهادتهم ، وعد منها المتهم ، فمن ذلك رواية عبد الله بن سنان (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما يرد من الشهود؟ قال : فقال : الظنين والمتهم».

وفي رواية أبي بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الذي يرد من الشهود؟ قال : الظنين والمتهم والخصم».

ومثلها غيرهما ، والوصي في هذه الصور المفروضة يدخل في المتهم بالتقريب الذي ذكروه.

وفيه أنه لا يخفى أن التهمة عرفا إنما تتحقق بما يوجب جر النفع الى نفسه ، لا الى غيره ، كما هو المفروض في هذه الفروض ، ومجرد صرفه الوصايا عن الميت والقيام بأطفاله ونحو ذلك لا يتحقق له به نفع دنيوي ، بل ربما أوجب الضرر الدنيوي له بما يوجبه من اشتغاله بذلك ، عن قضاء حوائجه ، والسعى في مطالبه وأموره ، وكلما كثرت الوصايا واتسعت الدائرة فيها ـ وفي أموال الأطفال ـ كان الضرر أعظم ، والمنع له عن السعي في أموره أتم ، ولهذا ان الشارع جوز له الأكل بالمعروف من أموالهم في مقابلة القيام بأحوالهم.

قال في كتاب المصباح المنير : والتهمة ـ بسكون الهاء وفتحها ـ : الشك والريبة ، واتهمته : ظننت به سوء ، ولا يخفى أن هذا كله انما يترتب على ما يحصل به جر النفع الى نفسه ، وايثارها ، وإلا فأي سوء وأي ريبة في قيامه بوصايا

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٣٩٥ ح ١ و ٣، التهذيب ج ٦ ص ٢٤٢ ح ٦٠١ و ٥٩٨ ، الوسائل ج ١٨ ص ٢٧٤ ح ١ وص ٢٧٥ ح ٣.

٥٠٧

الغير ، وصرفة لها في مصارفها ما لم يتعد فيها الحدود الشرعية ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لكل ناظر ، ومن وراء جميع ذلك اتصافه بالعدالة المانعة من تطرق ما ينافيها.

وبالجملة فإن الأقرب عندي هو ما نقل عن ابن الجنيد ومن تبعه ، ولا اشكال عندهم في القبول لو كان المشهود عليه خارجا عما هو وصي فيه ، كما لو جعله وصيا على غلة أطفاله ، فيشهد لهم بدين أو جعله وصيا على تفريق مال معين ، فيشهد للورثة بحق آخر لمورثهم ، ونحو ذلك ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : في الوصية بالعتق ، ولذلك صور عديدة. منها ـ من أوصى بعتق عبيده وليس له سواهم ، فان رتبهم في الوصية أعتق الأول فالأول حتى يتم الثلث ، ولو بجزء عبد فيعمل فيه ما يأتي ذكره ، وتبطل الوصية فيمن بقي وإلا أعتق ثلثهم بالقرعة ، بأن يجعلهم أثلاثا ولو بتعديلهم بالقيمة ، ثم يقرع بين تلك السهام الثلاثة ، ويعتق الثلث الذي أخرجته القرعة.

وروي (١) «أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعل ذلك في ستة عبيد أعتقهم مولاهم عند موته ، ولم يكن له غيرهم ، فجزاهم أثلاثا ثم أقرع بينهم» ، نقل ذلك الأصحاب في كتب الفروع ، والظاهر أن الرواية عامية ، فإنها غير موجودة في كتب أخبارنا ، إلا أن الظاهر أن الحكم لا اشكال فيه ، لأن القرعة لكل أمر مشكل ، وهذا من جملتها ، ولو توقف التعديل على إدخال جزء من أحدهم ، فإن خرجت القرعة على الثلث الذي فيه ذلك الجزء أعتق من العبد بحسابه ، وسرى العتق في الباقي ، وسعى في باقي قيمته ، كما في كل مبعض.

قالوا : وانما لم يحكم بعتق ثلث كل واحد مع ان كل واحد منهم بمنزلة الموصى له ، وقد قرروا أن الوصايا إذا وقعت دفعة قسط عليها الثلث بالنسبة للحديث النبوي المتقدم ذكره ، فإنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انما جزى العبيد أثلاثا ، وأعتق

__________________

(١) سنن البيهقي ج ٦ ص ٢٧٢.

٥٠٨

الثلث الذي خرجت فيه القرعة ، ولم يحكم في ثلث كل واحد واحد ، وأيضا فإن العتق على هذا الوجه موجب للإضرار بالورثة ، لانعتاق الجميع حينئذ ، فإنه متى انعتق ثلث كل واحد ووجب السعي في قيمته صار حرا فيصير الجميع أحرارا.

أقول : ومن هنا يعلم أن المسئلة غير خالية من شوب الإشكال ، لأن الخبر غير ثابت كما عرفت ، والإضرار بالورثة غير مسموع إذا اقتضته القواعد الشرعية ان ثبت ما ذكروه من تلك القاعدة المذكورة ، والظاهر ثبوتها كما سيأتي ان شاء الله تعالى في محله ، هذا كله إذا لم يجز الورثة ، وإلا فلا اشكال.

ومنها ـ ما لو أوصى بعتق عدد مخصوص من عبيده ، وفيه قولان : فقيل : انه يستخرج ذلك العدد بالقرعة ، وقيل : انه يتخير الوارث في ذلك المقدار ، فيعينه فيمن أراد ، وجه الأول أن العتق للمعتق ، ولا ترجيح فيه لبعضهم على بعض ، فوجب التوصل إليه بالقرعة.

ووجه الثاني أن متعلق الوصية متواطئ ، فيتخير الوارث في تعيينه كغيره ولأن المتبادر من اللفظ الاكتفاء بأي عدد كان من الجميع وهو اختيار المحقق في الشرائع : والشارح في المسالك قال : وهذا أقوى ، وان كانت القرعة أعدل.

ومنها ـ ما لو أعتق مملوكه عند الوفاة منجزا وليس له غيره ، قيل : عتق كله ، وقيل ينعتق ثلثه ، ويسعى للورثة في باقي قيمته ، ولو أعتق ثلثه سعى في باقيه ان لم يكن للمعتق مال غيره ، فاضل من مستثنيات الدين ، وإلا سرى العتق عليه في ثلث المال الفاضل.

أقول : أما المسئلة الأولى فهي أحد جزئيات مسئلة منجزات المريض ، والخلاف فيها بين كون ذلك من الأصل أو الثلث مشهور ، وسيأتي تحقيق الحال فيها ان شاء الله تعالى في المسائل الآتية.

وأما المسئلة الثانية فالوجه في سعي العبد في باقي قيمته بالشرط المذكور ،

٥٠٩

ان ذلك قاعدة كلية في كل موضع يصير بعضه حرا ، فإنه يجب عليه السعي في فك رقبته من جميع ما يكتسبه فاضلا عن مؤنته ، لا أنه يختص بنصيب الحر خاصة ، كما صرحوا به.

وأما الوجه في فك العتق له كان له مال فاضلا عما ذكرناه ، فلان سبب السراية هو العتق الذي وقع المال ، وقد وقع في حال المرض كما هو المفروض ، واعتبر من الثلث ، فيكون مسببه وهو السراية كذلك ، يكون من الثلث ، هذا خلاصة ما ذكروه في المقام.

ومنها ـ ما لو أوصى بعتق رقبة مؤمنة وجب ، فان لم يجد أعتق من لا يعرف بنصب ، والمراد بالمؤمنة هو الايمان الخاص ، وهو القول بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام وأنه مع تعذر ذلك يعتق من لا ينصب ، والمراد بهم المستضعفون ، والجاهلون بأمر الإمامة ، وهم أكثر الناس في زمان الأئمة عليهم‌السلام كما استفاضت به الأخبار من تقسيم الناس يومئذ إلى الأصناف الثلاثة ، مؤمن ، وضال ، وهو من لا يعرف ولا ينكر ، وكافر ، وهو من أنكر الولاية ، وقد تقدم تحقيق ذلك في مواضع ، ولا سيما في كتاب الطهارة ، وهذا القسم أعنى أهل الضلال مما صرحت الأخبار بأنهم من المسلمين ، وليسوا بالمؤمنين ، ولا الكافرين ، وأنهم في الدنيا يعاملون بمعاملة المسلمين ، وتجري عليهم أحكام الإسلام ، وفي الآخرة من المرجئين لأمر الله ، إما يعذبهم ، وإما يتوب عليهم ، بل ربما دلت بعض الأخبار على دخولهم الجنة بسعة الرحمة الإلهية ، وأما المنكرون للإمامة وهم المشار إليهم في الأخبار بالنصاب ، فهم من الكفار الحقيقيين ، خلافا للمشهور بين علمائنا المتأخرين ، ولتحقيق المقام محل آخر.

وكيف كان فمما يدل على الحكم المذكور ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن علي بن أبي حمزة (١) قال : «سألت عبدا صالحا عن رجل هلك فأوصى بعتق

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٨ ح ١٠ بزيادة كلمة مسلمة ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٢ ح ٢.

٥١٠

نسمة بثلاثين دينارا فلم يوجد له بالذي سمى؟ قال : ما أرى لهم أن يزيدوا على الذي سمى ، قلت : فان لم يجدوا؟ قال : يشترون من عرض الناس ما لم يكن ناصبا».

وما رواه الصدوق في الفقيه عن على بن أبي حمزة (١) عنه عليه‌السلام أنه قال «فليشتروا من عرض الناس ما لم يكن ناصبيا».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن الى على بن أبي حمزة (٢) «قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى بثلاثين دينارا يعتق بها رجل من أصحابنا فلم يوجد بذلك قال : يشترى من الناس فيعتق».

وشيخنا في المسالك لم يورد دليلا على القول المذكور إلا الرواية الأخيرة ، ثم اعترضها بضعف السند بعلي بن أبي حمزة ، قال فالحكم بها مع مخالفة مقتضى الوصية ضعيف ، ثم قال : ومع ذلك فليس في الرواية تقييد بعدم النصب ، لكن اعتبره الجماعة نظرا الى أن الناصبي كافر ، وعتق الكافر غير صحيح ، فالقيد من خارج ، الى أن قال : والأقوى أنه لا يجزى غير المؤمنة مطلقا ، فيتوقع المكنة ، انتهى.

أقول : أما الرد بضعف السند فليس بمسموع عندنا ، ولا عند المتقدمين ، ولا معتمد مع أن أصحاب هذا الاصطلاح متى اتفق الأصحاب على العمل بالخبر تلقوه بالقبول ، والأمر كذلك إذ لا مخالف في الحكم فيما أعلم ، على أنه قد تقدم منه قريبا في مسئلة عدم قبول شهادة الوصي مع التهمة ، ما يدل على تمسكه بالشهرة وان كانت خالية من الدليل بالكلية ، فإنه بعد أن استحسن مذهب ابن الجنيد عدل عنه الى المشهور من حيث الشهرة لا غير ، كما تقدم إيضاحه.

وأما طعنه في الرواية بأنها خالية من التقييد بعدم النصب ، ففيه أن الروايتين

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٥٩ ح ٥٥٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٨ ح ٩ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢٠ ح ٨٦٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٩ ح ٣٥٥ ، وهما في الوسائل ١٣ ص ٤٦٢ ح ٢ و ١.

٥١١

الأخيرتين قد صرحتا بما ذكره الأصحاب من الشرط المذكور.

فان قيل : ان الروايتين لا دلالة لهما على كون الرقبة الموصى بها مؤمنة كما هو المدعى ، ولعله لهذه الجهة لم يورد شيخنا المذكور هذين الخبرين.

قلنا : هذا غلط محض ، فإن المسئول عنه وان كان مجملا ، لكن الحمل على المؤمنة معلوم من جوابه عليه‌السلام ، وهو قرينة على أن المسئول عنه يومئذ إنما هو الرقبة المؤمنة ، وذلك فإن الأمر بالشراء بعد تعذر المأمور به بتلك القيمة لمن كان من عرض الناس ، إلا أن يكون ناصبيا ، ظاهر في كون المأمور به رقبة مؤمنة ، والتفصيل فيه جار على ما قدمناه من تقسيم الناس الى تلك الأقسام الثلاثة في وقتهم عليهم‌السلام ، وان المراد بهذا الذي هو من عرض الناس هم الضلال الذين لا يعرفون ولا ينكرون ، فانا قد أشرنا سابقا الى أن المفهوم من الأخبار أن جل الناس في وقتهم كانوا من هذا الصنف.

وبالجملة فإن الحكم بما هو مشهور صحيح ، ولا يعتريه فتور ولا قصور ومما يدل على جواز عتق المستضعفين المشار إليهم في هذه الأخبار بعرض الناس اختيارا لأنهم من المسلمين ، فتجري عليهم أحكام الإسلام التي من جملتها العتق.

صحيحة الحلبي (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : الرقبة تعتق من المستضعفين؟ قال : نعم». إلا أن الظاهر تقييده بما إذا لم تكن الرقبة مشروطا فيها أن تكون مؤمنة.

ومنها أنه لو أوصى بعتق رقبة بثمن معين فلم يجدها بذلك الثمن ، بل وجدها بأكثر منها لم يجب شراؤها ، ولم تجب عليه الزيادة ، ويدل عليه ما تقدم في رواية علي بن أبي حمزة ، حيث قال السائل «فلم توجد بالذي سمى ، فقال عليه‌السلام : ما أرى لهم أن يزيدوا على الذي سمي». وحينئذ فيجب عليه الصبر ، وتوقع

__________________

(١) الكافي ج ٦ ص ١٨٢ ح ٣ ، الوسائل ج ١٦ ص ٢٣ ح ١.

٥١٢

وجودها بما عين له ، فإن يئس من ذلك ففي بطلان الوصية أو صرفه في البر أو شراء شقص به ، فان تعذر فأحد الأمرين أوجه ، استجود في المسالك شراء الشقص قال : لأنه أقرب الى مراد الموصي من عدمه ، ولعموم «فأتوا منه ما استطعتم».

أقول : لا يخفى أن الأظهر بناء على ما تقدم في نظائر هذه المسئلة هو الصرف في وجوه البر ، إلا أن يجعل ما ذكره من شراء الشقص داخلا في وجوه البر ، وتكون هذه الوجوه التي ذكرها مؤيدة.

وكيف كان فالظاهر هو الصرف في وجوه البر كيف كان ، ونقل عن التذكرة الميل الى القول بالبطلان ، حيث نفى عنه البأس ، وفيه ما عرفت في أصل المسئلة المتقدمة من صون هذا القول ، لأن هذه الصورة أحد جزئيات تلك المسئلة ، ولو وجدت بأقل اشتراها وأعتقها ، ورفع إليها ما بقي من الموصى به.

ويدل على الحكم المذكور ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح إلى سماعة ، فيكون الموثق (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى أن يعتق عنه نسمة بخمسمائة درهم من ثلثه ، فاشترى الوصي نسمة بأقل من خمسمائة درهم ، وفضلت فضلة ، فما ترى؟ قال : تدفع الفضلة إلى النسمة من قبل أن تعتق ، ثم تعتق عن الميت».

قال في المسالك : والرواية مع ضعف سندها بسماعة دلت على اجزاء الناقصة وان أمكنت المطابقة ، لأنه لم يستفصل فيها ، هل كانت المطابقة ممكنة أم لا؟ وترك الاستفصال من وجوه العموم ، إلا أن الأصحاب نزلوها على تعذر الشراء بالقدر ، ولا بأس بذلك مع اليأس من العمل بمقتضى الوصية ، لوجوب تنفيذها بحسب الإمكان ، وإعطاء النسمة الزائد صرف له في وجوه البر ، وهو في محله حينئذ ، وتبقى الرواية شاهدا ان لم تكن حجة ، لأن سماعة وان كان واقفيا

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٩ ح ١٣ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢١ ح ٨٦٨ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٩ ح ٥٥٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٥ الباب ٧٧.

٥١٣

لكنه ثقة ، فتبني حجيتها على قبول الموثق ، أو على جبر الضعف بالشهرة ، وعلى ما بيناه لا ضرورة الى ذلك ، لموافقة مضمونها للقواعد إذا قيدت باليأس من تحصيل النسمة بالشرط ، انتهى.

أقول : الظاهر ـ والله سبحانه وأولياؤه أعلم ـ أن الموصي أوصى بشراء نسمة تكون مما يساوى هذا الثمن عرفا ، واتفق حصول بعض أفراد هذا النوع بأقل من هذا الثمن ، فان الحكم فيه ما ذكر من صحة الشراء وإعطاء الزائد النسمة.

أما صحة الشراء فلأن المفروض أنه من النوع الذي أمر به ، وان اتفق حصوله بأقل من الثمن المعين ، لأن الموصي إنما قصد بتعيين الثمن بيان النوع الذي يريده ، بمعنى أنه يكون من الأنواع التي تكون قيمتها بحسب العرف والعادة خمسمائة درهم ، فالغرض إنما هو بيان النوع ، والذي اشتراه الوصي من هذا النوع ، إلا أنه اتفق له بأقل من الثمن المحدود ، وحينئذ فزيادة الثمن ونقصانه غير ملحوظ في الأمر بالشراء ، وانما الملحوظ تعيين النوع ، وقد حصل ، فلا مخالفة في الرواية بوجه من الوجوه ، ولا يحتاج الى تنزيلها على تعذر الشراء بالقدر ، كما نقله عن الأصحاب ، ولا الى الحمل على اليأس من العمل بمقتضى الوصية كما ذكره ، لأن العمل بمقتضى الوصية قد حصل بشراء تلك النسمة ، حيث انها من النوع الذي أراده الموصي ، والثمن لا مدخل له في ذلك حيث انه انما ذكر لبيان ذلك النوع ومعرفته ، لا أنه ملحوظ له أولا وبالذات كما توهمه حتى أنه بالنقصان عنه قد خالف مقتض الوصية ، وما ذكرناه بحمد الله سبحانه صحيح ، لا قصور فيه ولا ريب يعتريه.

وأما صرف الزائد فهو يرجع الى صرفه في وجوه البر ، كما هو المقرر في مثله.

٥١٤

بقي الكلام في أن الرواية دلت على أن المعتق بعد إعطاء الزائد النسمة والمفهوم من كلام الأصحاب عدم التقييد بذلك ، وأنه لا فرق في دفع الزائد إلى النسمة بين كونه قبل العتق أو بعده ، والله العالم.

ومنها أنه لو أعتق رقبة بظن أنها مؤمنة ، ثم بانت بخلاف ذلك ، قالوا : أجزأت عن الموصى له ، وعلله في المسالك بأنه متعبد في ذلك بالظاهر ، لا بما في نفس الأمر ، إذ لا يطلع على السرائر إلا الله ، فقد امتثل الأمر ، وهو يقتضي الإجزاء ، انتهى وهو جيد.

أقول : ويدل عليه أيضا ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) عن عمار بن مروان (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال فيه «قلت : وأوصى بنسمة مؤمنة عارفة فلما أعتقناه بان لنا أنه لغير رشدة ، فقال : فقد أجزأت عنه».

وزاد في الكافي الفقيه «إنما ذلك مثل رجل اشترى أضحية على انها سمينة فوجدها مهزولة ، فقد أجزأت» ، والمراد بقوله «لغير رشدة» يعنى ولد الزنا وفي الخبر إشارة واضحة الى عدم ايمان ولد الزنا كما هو حق عندي في المسئلة ، وقد تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الطهارة.

المقصد الخامس في الموصى له :

وفيه مسائل الاولى : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أنه يشترط في الموصى إليه الوجود حال الوصية ، فلو أوصى لميت بطلت ، وكذا لو أوصى لمن يظن وجوده ، ثم تبين أنه قد مات حال الوصية ، قالوا ، والوجه في ذلك أن الوصية لما كانت عبارة عن تمليك عين أو منفعة كما تقدم من تعريفها بذلك ، فلا بد من أن يكون الموصى له قابلا للتمليك ، ليتحقق مقتضاها ، فلا تصح الوصية للميت ولا لما تحمله المرأة ، ولا لمن علم موته حين الوصية ، للعلة المذكورة.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦٢ ح ١٧ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٦ ح ٩٢٠ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٢ ح ٦٠٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٨١ ح ٢.

٥١٥

قال في المسالك : وأما الوصية لمن سيوجد ، فقد أطلق الأصحاب وغيرهم المنع منه ، ولو بالتبعية للموجود ، مع أنه قد تقدم جواز الوقف على المعدوم تبعا للموجود ، ودائرة الوقف أضيق من دائرة الوصية ، كما يعلم من أحكامها ، ويمكن الفرق بينهما لافتراقهما في هذا الحكم بأن الغرض من الملك في الوقف ملك العين على وجه الحبس ، وإطلاق الثمرة ، والموقوف حقيقة هو العين ، وملكها حاصل للموقوف عليه الموجود ، ثم ينتقل منه الى المعدوم ، وان كان يتلقى الملك من الواقف ، ففائدة الملك المقصودة منه متحققة فيهما ، بخلاف الوصية فإنه لو أوصى الى موجود ، ثم الى معدوم بذلك الموصى به أولا ، فإن مقتضى الوصية تمليك الموصى له ، فيكون الموصى به ملكا لذلك الموجود يتصرف فيه كيف يشاء ، ولو ببيعه وإخراجه عن ملكه ، وهذا مما ينافي الوصية للمعدوم بها ، لأن الوصية له يقتضي تمليكه أيضا ، والحال أن العين الموصى بها قد صارت ملكا للأول ، ويلزم أيضا أنه بالوصية إلى المعدوم من أول الأمر ينتقل العين الموصى بها اليه ، كما هو مقتضى الوصية ، مع أنه معدوم في ذلك الوقت ولا يصلح للتملك.

نعم لو كانت الوصية بثمرة بستان لزيد ، ولأولاده المتجددين من بعده وهذا موضع شبهة في المقام ، فإنه وان لم يأت فيه ما تقدم من المحذور الأول ، إلا أن الثاني آت فيه ، لأنه بالوصية الى زيد ولأولاده ينتقل الموصى به الى كل منهما ، وكل منهما يوصى له بطريق الاستقلال لأن الثمرة التي تملكها الأول بالوصية غير الثمرة التي تملكها الأخر في زمانه ، ومقتضى الوصية التمليك ، فيلزم بمجرد الوصية تملك المعدوم ، مع أنه غير قابل للتملك ، ولو بالتبعية ، بخلاف الوقف ، لأن الملك متحقق للموجود في الأصل ابتداء ، ومنه ينتقل الى المعدوم بعد وجوده ، ويزيد ذلك تأييدا أو تعليلا وتشييدا أن الوصية كما عرفت من المملكات موجبة لنقل الملك من الموصى الى الموصى له ، فلا بد من الدليل الشرعي على صحة تملك الوصية ، ليترتب عليها الأثر المذكور ، والذي علم من الأدلة والأخبار الواردة في

٥١٦

باب الوصية هو تخصيص ذلك بالوصية إلى الموجود ، والحكم بالصحة في المعدوم يتوقف على الدليل ، وليس فليس.

الثانية : الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في صحة الوصية للوارث والأجنبي وغير الوارث من الأقارب ، والخلاف هنا إنما هو من الجمهور ، فإن أكثرهم على عدم جوازها للوارث ، ورووا في ذلك عنه (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه قال : «لا وصية لوارث». ويدل على ما ذكره الأصحاب الآية ، وهي قوله عزوجل (٢) «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» ومن الظاهر أن الوالدين يكونان وارثين البتة ، فهي صريحة في جواز الوصية للوارث ، والأقارب قد يكونوا وارثين أيضا فتدل الآية أيضا على ذلك بإطلاقها ، فالمراد بقوله في الآية «كُتِبَ» ليس للوجوب ، بل المراد التأكيد والحث على ذلك.

وقد اضطرب كلام العامة في المقتضى عن الآية والجواب عنها ، فقيل : بأنها منسوخة بآية المواريث وقد رواه العياشي في تفسيره عن ابن مسكان (٣) عن أبى جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» قال : هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث. وجملة من أصحابنا حملوا هذه الرواية على التقية ، لما عرفت من أن المنع مذهب العامة.

ويحتمل قريبا حمل النسخ فيها على نسخ الوجوب ، فان ظاهر الآية الوجوب وأنه قد نسخ بآية المواريث ، فلا ينافي الجواز بل الاستحباب.

ومنهم من حمل الوالدين على الكافرين ، وباقي الأقارب على غير الوارث

__________________

(١) الجامع الصغير ج ٢ ص ٢٠٤ الطبعة الرابعة ـ دار الكتب العلمية.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ١٨٠.

(٣) تفسير العياشي ج ١ ص ٧٧ ح ١٦٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٦ الباب ١٥ ح ١٥.

٥١٧

منهم جمعا ، ومنهم من جعلها منسوخة فيما يتعلق بالوالدين خاصة.

قال في المسالك : ويبطل الأول بأن الشي‌ء إنما ينسخ غيره إذا لم يمكن الجمع بينهما ، وهو هنا ممكن بحمل الإرث على ما زاد عن الثلث ، كغيرها من الوصايا ، وبه يبطل الباقي ، قال : والخبر على تقدير تسليمه يمكن حمله على نفي وجوب الوصية الذي كان قبل نزول الفرائض ، أو على نفي الوصية مطلقا ، بمعنى إمضائها ، وان زادت عن الثلث ، كما يقتضيه إطلاق الآية ، والمراد نفي الوصية عما زاد عن الثلث.

ثم ان مما يدل على الوصية للوارث الأخبار المتكاثرة ، ومنها ما رواه في الكافي عن أبى بصير (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوصية للوارث ، فقال : تجوز.

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن أبي ولاد الحناط (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الميت يوصى للوارث بشي‌ء؟ قال : نعم ، أو قال جائز له».

وما رواه في الكافي عن محمد بن مسلم (٣) في الصحيح «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : الوصية للوارث لا بأس بها».

وعن محمد بن مسلم (٤) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوصية للوارث؟ قال : تجوز».

وما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن مسلم (٥) في الموثق عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «سألته عن الوصية للوارث؟ فقال : تجوز ، قال : ثم تلا هذه الآية «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ».

وفي هذا الخبر ما يؤذن بحمل خبر العياشي على المعنى الثاني ، وهو أن

__________________

(١ و ٢ و ٣ و ٤ و ٥) الكافي ج ٧ ص ٩ ح ١ و ٢ و ٣ وص ١٠ ح ٤ و ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٩٩ ح ٧٩١ و ٧٩٨ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٤ ح ٤٩٣. الوسائل ج.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٤ ح ٣ وص ٣٧٣ ح ١ وص ٣٧٤ ح ٤ و ٥ وص ٣٧٣ ح ٢

٥١٨

المراد نسخ الوجوب ، فإن الإمام عليه‌السلام قد استدل بها على جواز الوصية للوارث ، وما دان إلا باعتبار حمل قوله «كُتِبَ» على تأكيد الاستحباب.

وأما ما رواه الشيخ عن القاسم بن سليمان (١) «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل اعترف لوارث بدين في مرضه ، فقال : لا تجوز وصية لوارث ولا اعتراف». فقد أجاب عنه الشيخ في التهذيبين بالحمل على التقية ، قال لموافقته مذاهب العامة ومخالفته للقرآن ، وحمله في الفقيه على أكثر من الثلث.

الثالثة : اختلف الأصحاب في جواز الوصية للذمي على أقوال : فقيل : بالصحة مطلقا رحما كان أو غيره ، وهو قول ابن إدريس ومن تبعه ، ومنهم المحقق والعلامة.

وقيل : بالعدم مطلقا وهو القاضي ابن البراج ، وقيل : تصح إذا كان رحما ، ولا تصح ان كان أجنبيا ، نقله الشيخ في الخلاف عن بعض أصحابنا.

ويدل على الأول قوله عزوجل (٢) «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ. الى قوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ» والوصية بر.

ومن الأخبار ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن محمد بن مسلم (٣) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بماله في سبيل الله فقال : أعطه لمن أوصى به له ، وان كان يهوديا أو نصرانيا ، أن الله تبارك وتعالى يقول (٤) (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)».

وما رواه في الكافي والتهذيب بسند صحيح غير الأول عن محمد بن مسلم (٥)

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٠٠ ح ٧٩٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٥ ح ١٢.

(٢) سورة الممتحنة ـ الاية ٨.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ٢٠٣ ح ٨٠٨ ، الكافي ج ٧ ص ١٤ ح ١ ، الفقيه ج ٤ ص ٤٨ ح ٥١٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤١١ الباب ٣٢.

(٤) سورة البقرة ـ الاية ١٨١.

(٥) الكافي ج ٧ ص ١٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠١ ح ٨٠٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤١١ الباب ٣٢ ذيل الرواية الأولى.

٥١٩

عن أحدهما عليهما‌السلام مثله بأدنى تفاوت.

وما رواه المشايخ الثلاثة أيضا عن يونس بن يعقوب (١) «أن رجلا كان بهمدان ذكر أن أباه مات ، وكان لا يعرف هذا الأمر ، فأوصى بوصية عند الموت وأوصى أن يعطى شي‌ء في سبيل الله فسئل عنه أبو عبد الله عليه‌السلام كيف يفعل به؟ فأخبرناه أنه كان لا يعرف هذا الأمر ، فقال : لو أن رجلا أوصى الي أضع في يهودي أو نصراني لوضعته فيهما ، أن الله عزوجل يقول «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ» فانظروا الى من يخرج الى هذا الوجه يعنى «بعض الثغور» فابعثوا به اليه».

واستدل للثاني ـ بأن الوصية تستلزم المودة ، وهي محرمة بالنسبة إلى الكافر ، بقوله تعالى (٢) «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ» وهي متناولة للأرحام وغيرهم.

ورده في المسالك فقال : ويضعف بمعارضته بقوله تعالى (٣) «لا يَنْهاكُمُ اللهُ» الآية والذمي مطلقا داخل فيها ، وبما تقدم من الأخبار ، وبقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٤) «على كل كبد حرى أجرا» ، وينتقض بجواز هبته وإطعامه ويمنع كون مطلق الوصية له موادة ، لأن الظاهر أن المراد منها موادة المحاد لله من حيث هو محاد لله بقرينة ما ذكر من جواز صلته ، وهو عين المتنازع ، لأنا لا نسلم أنه لو أوصى للكافر من حيث انه كافر لا من حيث أنه عبد لله وذو روح من أولاد آدم المكرمين لكانت الوصية باطلة ثم انه اختار القول بالصحة مطلقا

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٤ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠١ ح ٨٠٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤١٤ ح ٤.

(٢) سورة المجادلة ـ الاية ٢٢.

(٣) سورة الممتحنة ـ الاية ٨.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٥٧ ح ٢ وفيه «أفضل الصدقة إبراد كبد حرى» وفي هامش الجامع الصغير ج ٢ ص ٦٨ عن صحيح الترمذي لك بكل ذات كبد حرى أجر الوسائل ج ٦ ص ٣٣٠ الباب ٤٩.

٥٢٠