الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

وما رواه في التهذيب عن ابن سنان (١) والظاهر أنه عبد الله في الصحيح قال : «للرجل عند موته ثلث ماله ، وان لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه».

وعن علي بن يقطين في الصحيح (٢) «قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام ما للرجل من ماله عند موته؟ قال : الثلث ، والثلث كثير».

وما رواه الصدوق عن محمد بن عمير عن معاوية بن عمار (٣) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بمكة ، وأنه حضره الموت ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) والمسلمون يصلون الى بيت المقدس ، فأوصى البراء بن معرور إذا دفن أن يجعل وجهه تلقاء النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى القبلة ، وأوصى بثلث ماله ، فجرت به السنة».

وما رواه في الكافي عن أبى بصير (٤) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في الرجل له الولد يسعه أن يجعل ماله لقرابته؟ فقال : هو ماله يصنع به ما شاء الى أن يأتيه الموت ، الى أن قال : فإن أوصى به ليس له إلا الثلث».

وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (٥) «عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : لئن أوصى بخمس مالي أحب الي من أن أوصى بالربع ، ولئن أوصى بالربع أحب الى من أن أوصى بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك فقد بالغ». وزاد في الكافي والتهذيب

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٤٢ ح ٩٣٩ و ٩٤٠.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ١٣٧ ح ٤٧٩ وليس فيه «إذا دفن» ، التهذيب ج ٩ ص ١٩٢ ح ٧٧١ ، الكافي ج ٧ ص ١٠ ح ١.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٨ ح ٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٨ ح ٧٥٥.

(٥) الكافي ج ٧ ص ١١ ح ٤ ، التهذيب ج ٩ ص ١٩٢ ح ٧٧٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٦ ح ٤٧٦ بتفاوت يسير.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٣ ح ٧ و ٨ وص ٣٦١ ح ١ وص ٣٦٣ ح ٦ وص ٣٦٠ ح ١ وص ٣٥٨ ح ١.

٤٨١

«قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل توفي وأوصى بماله كله أو أكثره فقال : ان الوصية ترد الى المعروف غير المنكر فمن ظلم نفسه وأتى في وصيته المنكر والحيف ، فإنها ترد الى المعروف ، ويترك لأهل المعروف ميراثهم ، وقال : من أوصى بثلث ماله فلم يترك وقد بلغ المدى ، ثم قال لئن أوصى بخمس مالي أحب الى من أن أوصى بالربع».

وما رواه في الكافي والفقيه عن حماد بن عثمان (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من أوصى بالثلث فقد أضر بالورثة ، والوصية بالخمس والربع أفضل من الوصية بالثلث ، ومن أوصى بالثلث فلم يترك».

وعن السكوني (٢) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الوصية بالخمس ، لأن الله تعالى رضى لنفسه بالخمس ، وقال الخمس اقتصاد ، والربع جهد ، والثلث حيف».

وما رواه في التهذيب عن يونس بن يعقوب (٣) قال : «ان أبا عبد الله عليه‌السلام لما أوصى قال له بعض أهله : انك قد أوصيت بأكثر من الثلث ، قال : ما فعلت ولكن قد بقي من ثلثي كذا وكذا وهو لمحمد بن إسماعيل».

وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (٤) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عما يقول الناس في الوصية بالثلث والربع عند موته أشي‌ء صحيح معروف؟ أم كيف صنع أبوك؟ فقال : الثلث ذلك الأمر الذي صنع أبي (رحمه‌الله).

أقول : لا ريب في دلالة جملة من هذه الأخبار على الرخصة في الثلث من

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١١ ح ٥ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٦ ح ٤٧٥.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ١٣٦ ح ٤٧٢.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٩٤ ح ٧٧٩.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٥٥ ح ١١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٢ ح ٦٠٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٠ ح ٢ وص ٣٦١ ح ٣ وص ٣٦٣ ح ١٠ وص ٣٦٢ ح ٣.

٤٨٢

غير كراهة ، ولا سيما أخبار فعل الأئمة عليهم‌السلام وذلك لا يبعد حمل ما دل على الكراهة وأن الأفضل الخمس أو الربع على مراتب حال الورثة في الغنى والفقر ، كما تقدم نقله عن أبي حمزة ، ولعل فعل الأئمة عليهم‌السلام ذلك ، محمول على ذلك.

ونقل عن التذكرة التفصيل أيضا في ذلك ، فقال : لا يبعد عندي التقدير بأنه متى كان المتروك لا يفضل عن غنى الورثة لا تستحب الوصية ، لأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) علل المنع من الوصية بقوله (١) «إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ» لأن ترك ذريتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة ، ولأن إعطاء القريب المحتاج خير من إعطاء الأجنبي ، فمتى لم يبلغ الميراث غناهم ، كان تركه لهم كعطيتهم فيكون ذلك أفضل من الوصية لغيرهم ، وحينئذ يختلف الحال باختلاف الورثة ، وكثرتهم وقلتهم وغناهم وحاجتهم ولا يتقدر بقدر من المال ، انتهى وهو جيد.

المقصد الرابع في أحكام الوصية :

وفيه مسائل الاولى : من المقرر في كلامهم أنه لا يشترط في الموصى به كونه موجودا بالفعل وقت الوصية ، بل لو أوصى بما تحمله الدابة أو الشجرة في هذه السنة أو السنة المستقبلة ، فإنه يصح ، إلا أنه لو أشار الى معين وأوصى بجملة الموجود ـ أو أوصى بالجمل الموجود لأمته أو بحملها مطلقا في مقام تدل القرينة على ارادة الموجود ـ وبالجملة فإن الوصية تعلقت بما هو موجود ، فإنه يشترط أن يكون موجودا حال الوصية ، ولو بمقتضى الظاهر شرعا فلو كان الحمل لأمة ولدته لأقل من ستة أشهر وهي أقل الحمل من حين الوصية ، علم كونه موجودا البتة ، ولو ولدته لأكثر من أقصى الحمل من حين الوصية تبين بطلانها ، لتبين عدم كونه موجودا حين الوصية ، لأنه إذا كان المدة من حين الوصية قد انقضت ، ومضت من حين الوطي المتولد منه الحمل قبل الوصية.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ١٨٠.

٤٨٣

ولو ولدته فيما بين أقصى مدة الحمل وأقله ، احتمل وجوده حال الوصية وعدمه ، قالوا : وينبغي أن ينظر حينئذ ، فإن كانت الأمة فراشا بحيث يمكن تجددة بعد الوصية لم يحكم بصحتها ، لأن الأصل عدم تقدم حال الوصية ، وان لم يكن فراشا بأن فارقها الواطئ المباح وطؤه لها من حين الوصية حكم بوجوده ، عملا بالظاهر ، وأصالة عدم وطئ غيره فيحكم به للموصى له.

هذا مقتضى كلامهم كما صرح به في المسالك وغيره ، وربما قيل : بأن الظاهر الغالب انما هو الولادة لتسعة أشهر تقريبا ، فما تولد قبلها يظهر كونه موجودا ، وان كان لها فراش ، وان الخلية يمكن وطئها محللا بالشبهة ، ومحرما لو كانت كافرة ، إذ ليس فيها محذور بعد الصيانة ، بخلاف المسلمة ، ودفعه في المسالك بأن الحكم السابق مرتب على الأصل المقدم على الظاهر عند التعارض ، إلا فيما شذ.

وبالجملة فالمسئلة حينئذ من باب تعارض الأصل والظاهر ، فلو رجح مرجح الظاهر عليه في بعض مواردها كما يتفق في بعض نظائره لم يكن بعيدا ، ان لم ينعقد الإجماع على خلافه ، وكيف كان فلا خروج عما عليه الجماعة ، انتهى.

أقول : أنت خبير بأن المسئلة خالية من النصوص ، والدليل الشرعي بالعموم والخصوص ، فالحكم في هذه الصورة الثالثة محل الاشكال ، ثم انه ينبغي أن يعلم أن فرض المسئلة المذكورة في ولد الأمة مبنى على كون الحمل مملوكا ، وهو إما بكون الزوج مملوكا قد شرط مولى الجارية على مولاه رق الولد ، أو يكون الزوج مملوكا للموضي ، وقد شرط على مولى الجارية رق الولد ، أو كون الزوج حرا على القول بجواز شرط رقية الولد.

ولو كان الحمل لغير الأمة من البهائم قال في المسالك : صح أيضا واشترط وجوده حال الوصية كحمل الأمة ، إلا أن العلم به لا يتقيد بولادته قبل ستة أشهر ، ولا انتفاء وجوده حالتها يعلم بتجاوز العشرة ، لاختلاف الحيوان في ذلك اختلافا

٤٨٤

كثيرا ، والمرجع فيها إلى العادة الغالبة لعدم ضبط الشارع حملها ، كالآدمي ويختلف العادة باختلاف أجناسه ، فان للغنم مقدارا معلوما عادة ، وللبقر مقدارا زائدا عنه ، وكذا الخيل وغيرها من الحيوان ، فيرجع فيه الى العادة ، لأنها المحكمة عند انتفاء الشرع ، وحيث يقع الشك في الموجود حالة الوصية لا يحكم بصحتها ، ويشكل مع هذا حمل الآدمي على المتيقن ، والحيوان على الغالب ، لاشتراكهما في المقتضي على التقديرين ، انتهى.

تنبيه :

قد عرفت أنه لا يشترط في الموصى به كونه موجودا حال الوصية ، فتجوز الوصية بالجدد مما تحمله المملوكة أو الشجرة ، أعم من أن يكون مضبوطا بمدة كالمتجدد في هذه السنة ، أو خمس سنين أو مضبوطا بعدد كأربعة ، أو يكون مطلقا ، وعاما يتناول لجميع ما يتجدد من الأمة أو الشجرة مدة وجودهما ، كقوله كل حمل متجدد وكل ثمرة يتجدد دائما ونحو ذلك ، وكذا لا فرق في المضبوط بين أن يتصل بالموت أو يتأخر عنه ، كالسنة الفلانية مما يتجدد من السنين بعد الموت.

المسئلة الثانية : إذا أوصى له بالمنافع كخدمة عبده ، أو غلة بستانه ، أو سكنى داره ، أو ثمرة شجرته ، على التأبيد أو مدة معينة قيل : قومت المنفعة ، فإن خرجت من الثلث ، وإلا كان للموصى له ما يحتمله الثلث.

أقول : أما ما يدل على جواز الوصية بالمنافع مضافا الى الاتفاق على ذلك فمنه رواية جعفر بن حيان (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوقف غلة له على قرابة من أبيه وقرابة من أمه وأوصى لرجل ولعقبه من تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة ، بثلاثمائة درهم كل سنة ، ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أمه ، قال : جائز للذي أوصى له بذلك ، قلت : أرأيت ان لم

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٥ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٦ ح ٨.

٤٨٥

يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة درهم ، فقال : أليس في وصيته أن يعطى الذي أوصى له من الغلة ثلاثمائة درهم ويقسم الباقي على قرابته من أبيه وقرابته من أمه ، قلت : نعم ، قال : ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلة شيئا حتى يوفي الموصى له ثلاثمائة درهم ، ثم لهم ما بقي بعد ذلك» الحديث.

وقال في كتاب الفقه الرضوي (١) : «وإذا أوصى لرجل بسكنى دار فلازم للورثة أن تمضى وصيته ، وإذا مات الموصى له رجعت الدار ميراثا لورثة الميت».

وروى في الكافي والتهذيب في الصحيح عن سعد بن الأحوص (٢) «قال سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى الى رجل أن يعطى قرابته من ضيعته كذا وكذا جريبا من طعام ، فمرت عليه سنون لم يكن في ضيعته فضل بل احتاج الى السلف والعينة أيجري على من أوصى له من السلف والعينة أم لا؟ فإن أصابهم بعد ذلك يجرى عليهم لما فاتهم من السنين الماضية أم لا؟ فقال : كأني لا أبالي أن أعطاهم أو أخر ، ثم يقضي» الحديث.

ولفظ «كأني» ليست في رواية الكافي ، وأما ما ذكره من تقديم المنفعة إلى آخر ما تقدم ذكره فالغرض منه بيان كيفية احتساب المنفعة ، وإخراجها من الثلث ، وهذا في المنفعة الموصى بها إذا لم تكن مؤبدا ظاهر ، لا خلاف فيه ، لأن العين تبقى لها قيمة معتبرة بعد إخراج تلك المنفعة ، فتقوم المنفعة على الموصى له ، والأصل بما بقي فيه من المنافع على الورثة ، فإذا أوصى بمنفعة العبد مثلا خمس سنين ، قوم العبد بجميع منافعه ، وإذا قيل : قيمته مائة دينار ، قوم مرة أخرى مسلوب المنفعة تلك المدة ، وإذا قيل : قيمته خمسون ، فالتفاوت خمسون حينئذ ، وهي التي تخرج من الثلث ، وتجعل ثلثا بالنسبة الى ما في يدي الورثة ، فلا بد أن يكون بيد الورثة حينئذ مائة منها ، رقبة العبد التي

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٥ الباب ٣ من كتاب السكنى.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٦٤ ح ٢٤ مع اختلاف يسير ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٧ ح ٩٢٢ الوسائل ج ١٣ ص ٤٨١ ح ١.

٤٨٦

قيمتها خمسون في المثال المذكور ، وانما الخلاف في المنفعة المؤبدة ، وقد اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة ، والسبب في هذا الاختلاف ـ مع عدم النص ـ خلو العين من المنافع عند بعض ، فالوصية بمنافعها في قوة الوصية بها ، وثبوتها عند بعض كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى بيانه ، وقد نقل هذه الأقوال الثلاثة الشيخ في المبسوط ومن تأخر عنه ، والظاهر أنها كلها للعامة.

أحدها ـ أن تقوم العين بمنافعها ويخرج مجموع القيمة من الثلث ، فان خرجت من الثلث لزمت الوصية في منفعتها ، وان لم تخرج من الثلث وضاق الثلث عنها لزمت الوصية في القدر الذي يخرج منه ، فيكون للموصى له من العبد بقدر ما يخرج من الثلث ، والباقي للورثة.

احتج من قال بهذا القول : بأن استحقاق المنفعة على التأبيد بمنزلة إتلاف الرقبة ، لأن الغرض من الأعيان انما هو المنافع ، فيجب أن تقوم الرقبة ، ولأن تقويم المنفعة متعذر لأنها غير معلومة ، ولا محدودة لأن مدة العمر غير معلومة فلا يمكن تقويمها إلا بتقويم العين ، وبالجملة فإنها لسلب جميع منافعها قد خرجت عن التقويم ، فقد فات على الورثة جميع القيمة ، فكانت العين هي الغاية.

وثانيها ـ تقويم المنفعة من الثلث على الموصى له ، والرقبة على الورثة ، وان كانت مسلوبة المنافع ، ومرجعه الى أن المعتبر ما بين قيمتها بمنافعها أو قيمتها مسلوبة المنافع ، وعلى هذا تحسب قيمة الرقبة عن التركة.

احتج القائل بهذا القول بأن الرقبة تنتقل إلى الورثة كما تنتقل المنفعة الى الموصى له ، فوجب أن يقوم على من انتقلت اليه ، وبأن الوارث يقدر على الانتفاع بها بالعتق لو كان مملوكا ، وبيعها عن الموصى له أو مطلقا ، وهبتها ، والوصية بها ، فلا وجه لاحتسابها على الموصى له كما ادعاه القائل الأول ، ويمكن الانتفاع من البستان بما ينكسر من جزوعه وييبس ، ومن الدار بآلاتها إذا خربت وخرجت عن صلاحية السكنى ، ولم يعمرها الموصى له بمنفعتها ، فحينئذ

٤٨٧

تقوم العين بما لها من المنافع مع صلاحيتها لما ذكرناه من المنافع المعدودة في كل بنسبته ، فإذا قيمتها على الأول مائة درهم ، وعلى الثاني عشرة دراهم ، علم أن قيمة المنفعة الموصى بها تسعون ، فيجب أن يكون مع الورثة ضعفها ، ومن جملته الرقبة بعشرة ، قال في المسالك ، وهذا هو الأصح.

وثالثها ـ تقويم المنفعة على الموصى له فتحتسب من الثلث ، وأما الرقبة فلا تقوم على الموصى له ، ولا على الورثة ، أما الموصى له فظاهر ، لأنها ليست له وأما الوارث فللحيلولة بينه وبينها ، وسلب قيمتها بسلب منافعها فكأنها تالفة.

ومنه يعلم وجه الاحتياج على القول المذكور ، ومرجعه الى أن الرقبة لا قيمة لها من حيث سلب منافعها ، فتكون من قبيل الحشرات ونحوها مما لا قيمة فيه ، وما لا قيمة له لا معنى لاحتسابه على أحد ، وفيه ما عرفت في توجيه القول الثاني.

تذنيب :

يشتمل على مسئلتين : الاولى : قالوا : إذ أوصى بخدمة عبد بعد مدة معينة ، فنفقته على الورثة ، لأنها تابعة للملك. ولا إشكال في الحكم المذكور لو كانت المنفعة الموصى بها معينة بوقت ، ولا ريب ولا خلاف في بقاء العين على ملك الورثة ، والنفقة تابعة للملك.

وانما الكلام فيما إذا كانت المنفعة الموصى بها مؤبدة ، فمن الذي تلزمه نفقة العبد ، قيل : فيه وجوه.

أحدها ـ وهو اختياره في المسالك أنه الوارث ، لما ذكر من أنها تابعة للملك ، والوارث هو المالك للرقبة ، وهذا القول يتفرع على القول الثاني من الأقوال الثلاثة المتقدمة ، ولهذا انه في المسالك اختار هنا كونها على الوارث الذي هو المالك ، لاختياره في ذلك القول بتقويم العين على الورثة ، وأنها تكون ملكا لهم.

٤٨٨

الثاني ـ أنه الموصى له ، لكونه مالكا للمنفعة مؤبدا ، وهذا الوجه مما يتفرع على القول الأول من الأقوال المتقدمة ، فينبغي أن يعلل وجوب النفقة على الموصى له بما علل به تقويم العين عليه ، وعلل هنا زيادة على ذلك بأنه لما كان مالكا للمنفعة مؤبدا كان كالزوج ، ولأن نفعه له ، فكان ضرره عليه ، كالمالك لهما جميعا ، ولأن إثبات المنفعة للموصى له ، والنفقة على الوارث إضرار به منفي ، ورد هذا التعليل المذكور هنا بأن ملك المنفعة لا يستتبع النفقة شرعا كالمستأجر ، والقياس على الزوج باطل مع وجود الفارق ، فإن الزوجة غير مملوكة ، والنفقة في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، لا في مقابلة المنافع ، وثنوت الضرر بإيجابها على الوارث ممنوع ، لانتفائه مع اليسار ، وانتفائها مع عدمه.

الثالث ـ انه من بيت المال.

أقول : وهذا مما يتفرع على القول الثالث ، حيث انه تضمن أن الرقبة لا تقوم على الموصى له ، ولا على الورثة بالتقريب المتقدم ، ولهذا قالوا هنا ان الوجه في هذا الاحتمال هو أن الوارث لا نفع له ، والموصى له غير مالك ، وبيت المال معد للمصالح ، وهذا منها.

وأورد عليه بأن النفقة من بيت المال مشروطة بعدم المالك المتمكن ، وهو هنا موجود ، ومجرد كونه لا نفع له لا يدفع الملك ، ولا يرفعه والنفقة تابعة للملك كما عرفت.

ومنه تظهر قوة الوجه الأول وان كان أصل المسئلة لخلوها من النص لا يخلو من الاشكال.

قال في المسالك : واعلم أنه لا فرق بين العبد وغيره من الحيوانات المملوكة.

وأما عمارة الدار الموصى بمنافعها وسقي البستان وعمارته من حرث وغيره إذا أوصى بثماره ، فان تراضيا عليه أو تطوع أحدهما به فذلك ، وليس للآخر منعه ، وان تنازعا لم يجبر أحد منهما ، بخلاف نفقة الحيوان ، لحرمة الروح ،

٤٨٩

ويحتمل طرو الخلاف في العمارة ، وسائر المؤن ، بناء على وجوب ذلك على المالك حفظا للمال ، والفرق واضح.

نعم لو كانت المنفعة موقتة اتجه وجوبها على المالك ، وإجباره عليها حفظا لماله عن الضياع ، لأن منفعته به مترقبة ان أوجبنا إصلاح المال.

الثانية : قالوا : وللموصى له التصرف في المنفعة ، وللورثة التصرف في الرقبة ، ببيع وعتق وغيره ، ولا يبطل حق الموصى له بذلك.

أقول : فيه إشارة الى ما تقدم في القول الثاني من أن الوصية بجميع المنافع لا تستلزم عدم نفع بالكلية ، بل هنا منافع تابعة للملك ـ مثل العتق والهبة والبيع ونحوها ـ باقية ، والوصية بمنافع العبد من خدمته وغلة البستان وسكنى الدار ، ونحو ذلك لا ينافي بقاء هذه المنافع للمالك ، وأنه يتصرف في العين بذلك.

وبالجملة فإنه لما كانت الرقبة ملكه ، فإنه يجوز له عتقها لو كان عبدا إذ لا مانع منه بوجه ، ولا يستلزم بطلان حق الموصى له من تلك المنافع ، لأن حق المالك هو الرقبة ، ولا يملك إسقاط حق الموصى له من تلك المنافع ، وليس للعتيق الرجوع على الورثة بشي‌ء في مقابلة تفويت منافعه عليه ، لأن تفويت المنافع ليس من قبل الورثة ، وانما هو من قبل الموصي ، وهو متقدم على العتق ، وأما بيعه فان كانت المنفعة الموصى بها محدودة بوقت ، فجوازه واضح ، لعدم المانع كما يجوز بيع العبد الموجر ، وان كان المشتري إنما له التصرف بعد انقضاء مدة الإجارة.

وان كانت الإجارة مؤبدة ، ففي جوازه عندهم مطلقا أو على الموصى له خاصة أو المنع مطلقا أوجه قال في المسالك : أجودها الجواز ، حيث تبقى له منفعة كالمملوك لا مكان عتقه وتحصيل الثواب به أعظم المنافع ، ولأنه يتوقع استحقاق الأرش بالجناية عليه ، أو الحصة منه وقد تقدم في بيع المعمر ما يحقق موضع النزاع ويرجح الجواز له ولو لم تبق له منفعة كبعض البهائم ، فالمنع أجود ، لانتفاء المالية عنه بسلب

٤٩٠

المنافع كالحشرات ، نعم لو أوصى بنتاج الماشية مؤيدا صح بيعها ، لبقاء بعض المنافع والفوائد كالصوف واللبن والظهر ، وانما الكلام فيما استغرقت الوصية قيمته ، انتهى.

أقول : قد قدمنا في مسئلة بيع المعمر عنه (قدس‌سره) ما يؤذن بالتوقف ، حيث ان جملة من الأصحاب صرحوا بالمنع ، ومنهم من استشكل ، وقد أوضحنا قوة القول بالجواز بالنص الصريح في ذلك ، ومنه تظهر قوة القول بالجواز هنا أيضا ، والله العالم.

المسئلة الثالثة : قال الشيخ في المبسوط : إذا قال أعطوه قوسا من قسي ، وله قوس نشاب ، وهو قوس العجم ، وقوس نبل ، وهو قوس العرب ، ويكون له قوس حسبان ، وهو الذي يدفع النشاب في مجرى ، وهو الوتر مع المجرى ، ويكون له قوس جلاهق ، وهو قوس البندق ، ويكون له قوس الندف ، فان هذا الإطلاق يحمل على قوس النشاب والنبل والحسبان ، فان كان له شي‌ء منها ، فالورثة بالخيار يعطون أي قوس من هذه الثلاثة شاؤا ، وان لم يكن له إلا الجلاهق وقوس الندف فالورثة بالخيار ، يعطون أي القوسين شاؤا ، وتبعه ابن حمزة.

وقال ابن إدريس : الذي أرى أن الورثة بالخيار في إعطائهم أي قوس شاؤا من الخمسة ، وتخصيص كلام الموصي العام يحتاج الى دليل.

قال في المختلف بعد نقل ذلك عن الشيخ وابن إدريس : أقول : ولعل الشيخ (رحمة الله عليه) نقل عرفا لغويا أو عاميا في أن القوس انما يطلق حقيقة على الثلاثة السابقة ، انتهى.

أقول : ما ذكره الشيخ هو الذي عليه المتأخرون ، قال المحقق في الشرائع : ولو أوصى له بقوس انصرف الى قوس النشاب والنبل والحسبان إلا مع القرينة تدل على غيرها.

وقال شيخنا في المسالك بعد نقل قولي الشيخ وابن إدريس ، ونعم ما قال :

٤٩١

وفي كل واحد من القولين نظر ، لأن الذاهب الى التخيير بين الثلاثة يعترف بإطلاق اسم القوس على الخمسة ، ولكن يدعى غلبته في الثلاثة عرفا ، وبذلك يقتضي اتباع العرف في ذلك ، وهو يختلف باختلاف الأوقات والأصقاع ، ولا ريب أن المتبادر في زماننا هو القوس العربية خاصة ، وقوس الحسبان لا يكاد يعرفه أكثر الناس ، ولا ينصرف اليه فهم أحد من أهل العرف ، فمساواته للأولين بعيد ، ونظر ابن إدريس إلى الإطلاق اللغوي جيد ، ولكن العرف مقدم عليه.

والأقوى أنه ان وجدت قرينة تخصص أحدها حمل عليه ، مثل أن يقول : أعطوه قوسا يندف به ، أو يعيش به وشبهه ، فينصرف الى قوس الندف ، أو قوس يغزا به ، فيخرج قوس الندف والبندق ان لم يكن معتادا في الغزو ، وان انتفت القرائن اتبع عرف بلد الموصي ، فإن تعدد تخير الوارث ، ولو قال : أعطوه ما يسمى قوسا ففي تخيره بين الخمسة ، أو بقاء الاشكال كالأول وجهان : أجودهما الأول ، انتهى.

أقول : ومما يؤيد الاشتراك بين المعاني الخمسة لغة ما ذكره في كتاب المصباح المنير حيث قال : وتضاف القوس الى ما يخصصها ، فيقال : قول ندف ، وقوس جلاهق ، وقوس نبل وهي العربية ، وقوس النشاب وهي الفارسية ، وقوس الحسبان.

بقي الكلام في أنه هل يدخل الوتر في إطلاقه ، فلو قال أعطوه قوسا فهل يصدق مع عدم الوتر أم لا؟ اشكال ، قيل : بالدخول. فإنه لا يصدق إلا به ، لأن المقصود منه لا يتم إلا به ، فهو كالفص بالنسبة إلى الخاتم ، والغلاف بالنسبة الى السيف ، بل أولى ، لأنه بدونه بمنزلة العصا ، وقيل : بالعدم نظرا الى أن الظاهر الصدق بدونه عرفا ، وعلى هذا فالأجود الرجوع الى العرف أو القرينة ، وإلا فلا يدخل.

٤٩٢

تنبيهات :

الأول : كل لفظ وقع على أشياء وقوعا متساويا سواء كان بطريق الاشتراك ، أو التواطؤ ، فإن للورثة الخيار في تعيين ما شاؤا من الأفراد ، وهي قاعدة كلية في هذا المقام وغيره مما تقدم ، لان الموصى به لفظ يقع على أشياء وقوعا متساويا ، إما لكونه متواطئا ، بأن تكون الوصية بلفظ له معنى ، وذلك المعنى يقع على أشياء متعددة كالعبد مثلا ، أو لكون ذلك اللفظ مشتركا بين معان متعددة كالقوس ، فإن للورثة الخيار في تعيين ما شاؤا ، أما في التواطؤ فلأن الوصية به وصية بالماهية الكلية ، وخصوصيات الأفراد غير مقصودة أولا ، بل تبعا ، فيتخير الوارث في تعيين أي فرد شاء ، لوجود متعلق الوصية في جميع الأفراد ، وأما المشترك فلأن متعلق الوصية هو الاسم ، وهو صادق على المعاني المتعددة حقيقة ، فيتخير الوارث أيضا ، وربما قيل في المشترك بالقرعة ، وهو بعيد.

الثاني : لو قال : أعطوه قوسي بالإضافة إلى نفسه ، وليس له إلا قوس واحدة ، انصرفت الوصية إليها ، لأن ما تقدم من التخيير بين الأفراد الثلاثة أو الخمسة انما هو مع إطلاقه إعطاء القوس من غير أن يضيفه الى نفسه ، فإنه مشترك متعدد ، بخلاف ما لو قال : أعطوه قوسي بالإضافة ، وليس له إلا أحدها ، فإنه تنصرف الوصية إليه من أي نوع كان لتقييده بالإضافة.

بقي الكلام فيما لو قال : أعطوه قوسي وله قسي متعددة ، فإن علم اختصاصه بواحد منها من أي نوع كان انصرفت الوصية إله ، كالمصحف والخاتم في الحبوة ، وإلا فإشكال ، ويحتمل الرجوع الى ما تقدم من التخيير.

الثالث : لو أوصى برأس من مماليكه ، كان الخيار في التعيين إلى الورثة ، بأن يعطوا صغيرا أو كبيرا ذكرا أو أنثى صحيحا أو مريضا مسلما أو كافرا ، لأن اللفظ من الألفاظ المتواطئة بالنظر الى ما تحت معناه من الأفراد المعدودة ، فيتخير

٤٩٣

الوارث في إعطاء أيها شاء ، لوقوع الاسم على كل واحد منها ، وانما يتخير مع وجود المتعدد في التركة ، وإلا تعين الموجود ، ولو لم يوجد له مملوك بطلت الوصية.

وهل الاعتبار بالوجود عند الوصية أو الموت؟ وجهان : استجود ثانيهما في المسالك ، قال : لأنه وقت الحكم بالانتقال وعدمه ، كما اعتبر المال حينئذ ، ووجه الأول اضافة المماليك اليه المقتضية لوجود المضاف ، انتهى.

ولو ماتت مماليكه بعد وفاته إلا واحدا تعين للدفع في الوصية ، فإن ماتوا كملا بطلت الوصية أما لو قتلوا لم تبطل ، وكان للورثة أن يعينوا من شاؤا ، ووجه البطلان مع موت الجميع فوات متعلق الوصية ، بخلاف القتل ، لبقاء المالية بثبوت القيمة على القاتل ، وهي بدل عن العين ، فيكون للموصى له ، فكل فرد عينه الورثة يثبت له قيمته.

المسئلة الرابعة : لا خلاف ولا إشكال في ثبوت الوصية بشهادة العدلين من المسلمين ، لان ذلك مما يثبت به جميع الحقوق عدا ما استثنى مما يتوقف على أربعة ، بل دائرة حكم الوصية أوسع ، ومن ثم تثبت بشهادة المرأة الواحدة على بعض الوجوه ، وشهادة عدول أهل الذمة كما دلت عليه الآية ، واستفاضت به الرواية ، إلا أن ظاهر الآية اشتراط قبولها بالسفر ، وتحليفها مع الريبة في شهادتهما بعد الصلاة ، قائلين ما دلت عليه الآية (١) «لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» وأنه متى عثر على بطلان شهادتهما فليس له نقضها حتى يأتي بشاهدين يقومان مقام الشاهدين الأولين (٢) «فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ».

والأصل فيما ذكرناه من هذه القيود ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن علي بن إبراهيم (٣) عن رجاله رفعه قال : «خرج تميم الداري وابن بيدي وابن

__________________

(١ و ٢) سورة المائدة ـ الاية ١٠٥ و ١٠٦.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٥ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٤ الباب ٢١.

٤٩٤

أبي مارية في سفر وكان تميم الداري مسلما ، وابن أبي مارية وابن بيدي نصرانيين وكان مع تميم الداري خرج له فيه متاع ، وآنية منقوشة بالذهب ، وقلادة أخرجها الى بعض أسواق العرب للبيع ، فاعتل تميم الداري علة شديدة ، فلما حضره الموت دفع ما كان معه الى ابن بيدي وابن أبي مارية وأمرهما أن يوصلاه الى ورثته ، فقدما المدينة وقد أخذا من المتاع الآنية والقلادة ، وأوصلا سائر ذلك الى ورثته ، فافتقد القوم الآنية والقلادة ، فقال أهل تميم لهما : هل مرض صاحبنا مرضا طويلا أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا : لا ، ما مرض إلا أياما قلائل ، قالوا : فهل سرق منه شي‌ء في سفره هذا؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتجر تجارة خسر فيها؟ قالا : لا ، قالوا : افتقدنا أفضل شي‌ء ، كان معه آنية منقوشة مكللة بالجواهر ، وقلادة ، فقالا : ما دفع إلينا فقد أدينا إليكم ، فقدموهما الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأوجب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليهما اليمين ، فحلفا فخلى عنهما ثم ظهرت تلك الآنية والقلادة عليهما فجاء أولياء تميم الى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقالوا : يا رسول الله قد ظهر على ابن بيدي وابن أبي مارية ما ادعيناه عليهما ، فانتظر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من الله تعالى الحكم في ذلك. فأنزل الله تبارك وتعالى (١) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ» ـ فأطلق الله تعالى شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط ، إذا كان في سفر ، ولم يجد المسلمين ـ «فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» فهذه الشهادة الأولى التي جعلها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً) أي أنهما حلفا على كذب (فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما) ، يعنى من أولياء المدعي (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١٠٥.

٤٩٥

عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ، فَيُقْسِمانِ بِاللهِ) ، يحلفان بالله أنهما أحق بهذه الدعوى منهما ، وأنهما قد كذبا فيما حلفا بالله (لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ) فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أولياء تميم الداري أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به ، فحلفوا فأخذ رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) القلادة والآنية من ابن بيدي وابن أبي مارية وردهما إلى أولياء تميم الداري : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ)».

ورواه المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في رسالة المحكم والمتشابه ، نقلا من تفسير النعماني (١) بإسناده عن علي عليه‌السلام نحوه إلا قال (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) يعني صلاة العصر ، ورواه علي بن إبراهيم (٢) في كتاب التفسير ، ونقل في المسالك عن أكثر الأصحاب ومنهم المصنف أنهم لم يعتبروا في قبول شهادة الذميين السفر ، بل جعلوه في الآية والأخبار انما خرج مخرج الغالب ، وكذا لم يعتبروا الحلف ، وتقل عن العلامة أنه أوجب الحلف بعد العصر بصورة الآية ، واستحسنه في المسالك.

أقول : لا يخفى الخبر المذكور على اشتراط السفر لقوله عليه‌السلام «فأطلق الله شهادة أهل الكتاب على الوصية فقط إذا كان في سفر ، ولم يجد المسلمين». وهو دال بمفهوم الشرط الذي هو حجة شرعية عندنا بالأخبار ، وعند محققي الأصوليين بالاعتبار على أنه لو لم يكن في سفر أو وجد أحدا من المسلمين لم تقبل شهادتهما.

ومن الأخبار الظاهرة بل الصريحة في ذلك ما رواه في الكافي والتهذيب عن حمزة بن حمران (٣) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله تعالى (٤) «ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ»؟ قال : فقال : اللذان منكم مسلمان ،

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٤ الباب ٢١.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٧٩ ح ٧١٨ ، الكافي ج ٧ ص ٣٩٩ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٢ ح ٧.

(٤) سورة المائدة ـ الاية ١٠٥.

٤٩٦

واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فقال : إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة ، فطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيته ، فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما».

وعن هشام بن الحكم في الصحيح (١) وبسند آخر في الموثق عن أبى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» قال : إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم ، جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية».

وما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) عن يحيى بن محمد (٢) «قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تعالى (٣) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» قال : اللذان منكم مسلمان ، واللذان من غيركم من أهل الكتاب ، فان لم تجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس ، لأن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سن في المجوس سنة أهل الكتاب في الجزية ، وذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب ، يجلسان بعد العصر «فيقسمان بالله تعالى (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) «قال : وذلك إذا ارتاب ولي الميت في شهادتهما ، فان عثر على أنهما شهدا بالباطل فليس له أن يبقض شهادتهما حتى يجي‌ء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأولين ، «فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ» فإذا فعل ذلك نقض شهادة الآخرين يقول الله تعالى (٤) (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ».

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٩٨ ح ٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٨٠ ح ٧٢٥. الوسائل ج ١٣ ص ٣٩١ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤ ح ٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٧٨ ح ٧١٥ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٢ ح ٤٨٧. الوسائل ج ١٣ ص ٣٩١ ح ٦.

(٣) سورة المائدة ـ الاية ١٠٥ و ١٠٨.

٤٩٧

وما رواه في كتاب بصائر الدرجات لسعد بن عبد الله بسنده فيه عن المفضل بن عمر (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في كتابه إليه ، قال : وأما ما ذكرت أنهم يستحلون الشهادات بعضهم لبعض على غيرهم ، فان ذلك لا يجوز ولا يحل ، وليس هو على ما تأولوا إلا لقوله عزوجل «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» وذلك إذا كان مسافرا فحضره الموت أشهد بالله اثنين ذوي عدل من أهل دينه ، فان لم يجد فآخران ممن يقرأ القرآن من غير أهل ولايته ، (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ، «فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ» فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) من أهل ولايته (فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ، وَمَا اعْتَدَيْنا إِنّا إِذاً لَمِنَ الظّالِمِينَ ، ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا)».

وهذه الأخبار كلها كما ترى ظاهرة بل صريحه في اعتبار السفر ، وأنه لا تقبل في السفر إلا مع فقد المسلمين ، وما ربما يوجد من الأخبار المطلقة يجب حمله على هذه الأخبار الصريحة في الاشتراط.

وقال في المسالك بعد نقل القول الذي نقله عن الأكثر من عدم اشتراط السفر : ويمكن استنادهم في عدم اشتراط السفر إلى موثقة هشام بن الحكم (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» قال : إذا كان الرجل في بلد ليس فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصية ، قال : فإنها متناولة بإطلاقها للسفر والحضر ، وأنه حيث قد دلت الأخبار التي ذكرناها على

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٣٩٣ الباب ٢٠ ح ٨.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٩٨ ح ٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٩١ ح ٤.

٤٩٨

الاشتراط كما عرفت ، فوجه الجمع بين هذه الرواية وبين تلك الأخبار بحمل هذه الرواية على ما إذا سافر المسلم إلا بلد ليس فيها مسلم ، لأنه من سكانها وأهلها ، والقرينة فيما ذكرناه واضحة ، لأن سكنى المسلم وحده في بلد الكفر اختيارا نادر ، بل غير جائز شرعا إلا من ضرورة.

وتستفاد من هذه الأخبار عدة فوائد الأولى ـ ما ذكرناه وان كان خلاف ما صرح به الأكثرون اشتراط القبول بالسفر ، فلا تقبل في الحضر ، والوجه فيه ما عرفت من وجود المسلمين في الحضر ، حيث ان المسلم لا يسكن إلا في بلاد الإسلام.

الثانية ـ اشتراط الحلف وأن يكون بالكيفية التي دلت عليها الآية ، كما يدل عليه خبر يحيى بن محمد المذكور ، ومثله مرفوع علي بن إبراهيم ، وخبر المفضل ، وما تقدم نقله عن العلامة من أنه يحلف بعد العصر ، قد دل عليه مرفوع علي بن إبراهيم برواية النعماني عن علي عليه‌السلام كما تقدم ، ورواية يحيى بن محمد كما في بعض نسخ المشايخ المذكورين ، وفي بعض آخر بلفظ الصلاة بقول مطلق ، وينبغي حمل الإطلاق على العصر لما عرفت.

الثالثة ـ ان ظاهر أكثر الأخبار المذكورة هو قبول الشهادة على الوصية ، أعم من أن يكون بمال أو ولاية ، إلا أن مورد الآية والقضية التي نزلت فيها كما دل عليه مرفوع علي بن إبراهيم ، إنما هو المال ، وهو الظاهر أيضا من كلامه في المسالك ، حيث قال بعد أن صرح بثبوت الوصية بشهادة عدلين مسلمين : ولا فرق في قبولها بها بين كونها بمال أو ولاية ، ومع عدم وجود عدول المسلمين تقبل شهادة عدول أهل الذمة بالمال ، للآية والرواية ، ودعوى نسخها لم يثبت ، وهو ظاهر في أن الوصية تقبل بشهادة عدول المسلمين في المال والولاية ، وأما عدول أهل الذمة ففي المال خاصة ، وعلى هذا فينبغي حمل إطلاق تلك الأخبار على مورد القصة.

٤٩٩

الرابعة ـ لا خلاف بين الأصحاب (رحمهم‌الله) في اشتراط العدالة في الذميين بالمعنى المعروف عندهم ، واليه يشير قوله عليه‌السلام في رواية حمزة بن حمران مرضيين عند أصحابهما.

الخامسة ـ ما دل عليه خبر يحيى بن محمد من أنه مع عدم وجود أهل الكتاب فمن المجوس ، لم أقف عليه في غيره من الأخبار ، ولم يصرح به أحد من أصحابنا فيما حضرني من كلامهم ، والخبر متى دل على حكم ولا معارض له وجب القول به ، وان لم يقل به قائل كما هو مقتضى التحقيق في المسئلة.

السادسة ـ قال : في المسالك ولو وجد مسلمان فاسقان ، والذميان العدلان ، فالذميان العدلان أولى للآية ، أما المسلمان المجهولان فيبني على اعتبار ظهور العدالة ، كما هو المشهور أو الحكم بها ما لم يظهر خلافها ، كما ذهب إليه جماعة من الأصحاب ، فعلى الثاني لا ريب في تقديم المستور من المسلمين لأنه عدل ، وعلى الأول ففي تقديمه على عدل أهل الذمة وجهان : واختار العلامة تقديم المسلمين بل قدم الفاسقين إذا كان فسقهما بغير الكذب والخيانة ، وفيه نظر ، انتهى.

أقول : أما ما ذكره من الفرد الأول فلا إشكال في أن الحكم فيه كما ذكروا ، أما المسلمان المجهولان فالكلام فيهما مبني على أن العدالة هل هي أمر زائد على مجرد الإسلام ، كما هو المشهور ، والمؤيد المنصور ، أو أنها عبارة عن مجرد الإسلام كما هو اختياره في المسئلة؟ فعلى الثاني لا إشكال أيضا لحصول العدالة المشروطة في الآية ، وعلى الأول فالأشهر الأظهر عدم الثبوت إلا بعد الفحص وظهور العدالة ، وما نقل عن العلامة ضعيف لا يلتفت إليه ، لأن الآية والرواية مصرحان باشتراط العدالة ، ووجود المسلم بدونها في حكم العدم ، والله العالم.

وينبغي التنبيه على أمور :

الأول : لا ريب أنه كما تثبت الوصية بالشاهدين تثبت أيضا فيما إذا كانت مالا بشاهد ويمين ، أو شاهد وامرأتين ، وهو موضع وفاق في المال ، وصية كان

٥٠٠