الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

الموصي هو القدر النافذ فيه وصيته شرعا الى قوله فيكون بمنزلة ما لو أوصى بعين لواحد ، ثم أوصى به لآخر ، وما ذكره ابن إدريس في تعليل ما ادعاه من نسخ الأولى ـ من أن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا الثلث ـ لا ينافي تجويز الوصية بأزيد من الثلث ، لإمكان الإجازة ونفوذها بذلك والإجازة على الأقوى عندهم ليست عطية ابتدائية وانما هي تنفيذ الوصية ، فيجوز أن يوصى معتمدا على اجازة الورثة فيكون الوصية صحيحة ، ولا يزول هذا الحكم عنها إلا بلفظ يدل على الرجوع عما سبق وحكم بصحته ، وهو في هذا المثال ونحوه منتف ، فيحكم بصحة الجميع ، ويعمل في الزائد عن الثلث بمقتضى القاعدة المقررة من البدأة بالأول فالأول ، وهذا بخلاف قوله ثلثي بإضافته إلى نفسه ونحوه ، فان الرجوع هنا معلوم بالقرينة القوية ، لما تقدم في كلامه بقوله لأن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله ، وإذا أوصى به لإنسان إلى آخره.

وكيف كان فالمسئلة لخلوها عن النص لا يخلو بعض شقوقها من الاشكال ، سيما في هذا الفرع ، ولهذا قد اختلف كلامهم واضطربت إفهامهم في هذه المسئلة.

قال في المسالك بعد البحث في المسئلة بنحو ما ذكرناه ، واختيار ما حررناه من الفرق بين المسئلتين المتقدمتين في كلام المحقق ما صورته : واعلم أن كلام الأصحاب قد اختلف فيها اختلافا كثيرا ، وكذلك الفتوى ، حتى من الرجل الواحد في الكتب المتعددة ، بل في الكتاب الواحد ، والعلامة في القواعد وافق المصنف على ما ذكره ـ في المسئلتين ، لكنه استشكل بعد ذلك في المسئلة الثانية ، وفي التحرير نسب الحكم في الثانية كذلك إلى علمائنا ، وجعل فيه نظرا ، ووجه الاشكال والنظر مما ذكرناه ، ومن أن كل واحدة منها وصية يجب تنفيذها بحسب الإمكان ، ولا يجوز تبديلها مع عدم الزيادة ، ومجرد اضافة الثلث اليه ، لا يقتضي الرجوع ، لان جميع ماله ما دام حيا له ، فتصح إضافته اليه ، وانما يخرج عن ملكه بالموت ، ونحن نقول بموجبه ، إلا أنا ندعي وجود القرينة في هذه الإضافة

٤٤١

على الرجوع ، ومن ثم لما أبدلها بالإضافة إلى ماله فضلا عن جعل الثلث مطلقا شككنا في إرادة الرجوع ، فلم نحكم به ، وقدمنا الأول.

والمختلف اعتمد على اعتبار القرينة وعدمها ، كما حققناه ، وجزم بعدم وجودها في ثلث مالي ، ولم يتعرض للثلث المضاف الى الموصي ، بل اعتمد على القرينة ، ومع الشك فيها على عدم الحكم بالرجوع ، وهذا هو الحق في المسئلة

والمحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) في شرحه اعتمد في المسئلة على أصل آخر غير ما ذكرناه ، ورتب عليه الحكم ، وهو أن الأصل في الوصية ، أن تكون نافذة ، فيجب حملها على ما يقتضي النفوذ بحسب الإمكان ، وانما تكون الثانية نافذة ، فإذا كان متعلقها هو الثلث الذي يجوز للمريض الوصية به ، فيجب حملها عليه ، كما يجب حمل إطلاق بيع الشريك النصف على استحقاقه ، حملا للبيع على معناه الحقيقي ، وحينئذ فيتحقق التضاد في مثل ما لو قال : أوصيت بثلث لزيد ، وبثلث لعمرو ، فيكون الثاني ناسخا للأول ، فيقدم ، وأولى منه ما لو قال بثلث مالي ، ثم فرع عليه أنه لو أوصى لزيد بثلث ، ولعمرو بربع ، ولخالد بسدس ، وانتفت القرائن أن تكون الوصية الأخيرة رافعة للأولى ، مع اعترافه بأنه مخالف لما صرح به جميع الأصحاب ، والحامل له على ذلك ما فهمه من أن إطلاق الوصية محمول على النافذة ، وأنت قد عرفت مما حققناه سابقا أن الإطلاق في الوصية وغيرها من العقود انما يحمل على الصحيح ، أما النافذ بحيث لا يترتب عليه فسخ بوجه ، فلا اعتبار به قطعا ، ألا ترى أن الوصية بجميع المال توصف بالصحة ، ووقوف ما زاد على الثلث على الإجازة ، ولا يقول أحد أنها ليست بصحيحة ، ولذلك لو باع بخيار حكم بصحة البيع ، وان لم يكن نافذا ، بمعنى أنه لا يستحق أحد فسخه ، وما مثل به من بيع الشريك النصف ، فإنه محمول على استحقاقه ، لا يؤثر هنا للفرق بينه وبين المتنازع فيه ، لأن جميع التركة مستحقة للموصي حال حياته إجماعا ، فقد أوصى بما يستحقه ، ومن ثم حكموا بصحة وصيته بما زاد على الثلث ،

٤٤٢

وصحة هبته له ، وان توقف على اجازة الورثة ، لأن ذلك لهم كالخيار للبائع بالنسبة إلى ملك المشترى ، بل أضعف ، للخلاف في أن الملك هل ينتقل إليه في زمن الخيار أم لا؟ والاتفاق على أن التركة مملوكة للموصي ما دام حيا ، ومن ثم لزمت الهبة لو برء من مرضه ، وكانت الإجازة تنفيذ الوصية ، لا عطية متجددة ، على مختار أصحابنا ، وقد ادعى الشيخ في المبسوط عليه الإجماع ، وانما الخلاف في التنفيذ ، والعطية للعامة ، وأصحابنا يجعلون العطية احتمالا مرجوحا ، لا قولا.

وإذا تقرر أن الإطلاق محمول على الوصية الصحيحة ـ فكل وصية من المذكورات صحيحة ، سواء كانت نافذة أم لا ـ لم تدل الوصية المتأخرة عن الوصية بالثلث على أنها ناسخة للسابقة ، ورجوع عنها ، بل على ارادة الموصى إعطاء كل واحد ما أوصى له به ، وان توقف ذلك على اجازة الورثة ، فإن ذلك أمر آخر غير الوصية المعتبرة شرعا ، وقد ظهر بذلك أنه لا تضاد بين قوله أوصيت لزيد بثلث ، ولعمرو بربع ، بطريق أولى ، وانما يقع التضاد صريحا إذا قال بعد الوصية لزيد بثلث ، أوصيت لعمرو بالثلث الذي أوصيت به لزيد ، أو بثلثي أو بالثلث الذي جعله الله تعالى غير متوقف على اجازة ، ونحو ذلك ، وفي مثل قوله بثلثي لزيد ، ثم بثلثي لعمرو بالقرينة ، لا بالتصريح كما حققنا ، ثم نقل عن الشيخ (رحمة الله) عليه أنه اتفق له في هذه المسئلة غرائب ، وشرح ذلك بما لا مزيد فائدة في ذكره ، وانما نقلنا كلامه (قدس‌سره) بطوله لجودة محصوله في تحقيق المسئلة ، زيادة على ما قدمناه ، والاطلاع على ما وقع لهم من الاختلاف في المسئلة ، زيادة على ما ذكرناه ، إلا أن الخلاف الذي ذكرناه أولا بالنسبة إلى المسئلة الأولى من المسئلتين المفروضتين في كلام المحقق ، والذي ذكره (قدس‌سره) بالنسبة إلى الثانية منهما ، والله العالم.

٤٤٣

تذنيبان :

الأول ـ لو اشتبه السابق في صورة الوصية بالثلث لاثنين ، أحدهما بعد الآخر فإنه يستخرج بالقرعة ، كما حكم به الأصحاب ، لأنها لكل أمر مشتبه ، فان قلنا بأن الوصية للأول ، وأنه يلاحظ في الصحة الأول فالأول ، فإنه يحكم بها للسابق وان قلنا بأن ذلك عدول وفسخ ، فإنه يحكم بها للثاني ، وحينئذ فلا فرق في كتابة الرقاع بين أن يجعل باسم السابق أو المتأخر ، وصفتها أن تكتب في رقعة اسم أحدهما وأنه السابق ، وتكتب في رقعة اسم الآخر وأنه السابق ، ويجمعان في موضع ويخفيان ، ثم يخرج إحداهما فمن خرج اسمه كان هو السابق ، وترتب عليه الحكم من استحقاق أو حرمان ، ولك أن تكتب عوض السابق المتأخر في كل من الرقعتين ، والمرجع إلى أمر واحد.

الثاني : لو أوصى بشي‌ء واحد لاثنين كان يقول أعطوا زيدا وعمرا مائة درهم ، أو الدار الفلانية ، وكان ذلك أزيد من الثلث ، فان الشقص يدخل عليهما بالنسبة ، ولو جعل لكل واحد منهما شيئا بأن يقول : أعطوا زيدا خمسين درهما ، وأعطوا عمرا خمسين درهما ، أو أعطوا زيدا نصف الدار ، وعمرا نصفها ، وأنفق الزيادة على الثلث ، فإنه يبدأ بالعطية الأولى ، ويدخل النقص على الثانية.

المسئلة السادسة : قال الشيخ في النهاية : إذا أوصى بعتق جميع مماليكه ، وله مماليك بخصوصه ، ومماليك بينه وبين غيره ، أعتق من كان في ملكه ، وقوم من كان في الشركة ، وأعطى حقه ان كان ثلثه يحتمل ، فان لم يحتمل أعتق منه بقدر ما يحتمله ، وبه قال ابن البراج والعلامة في المختلف.

ويدل عليه ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مراقدهم) بأسانيدهم وفيها الصحيح عن أحمد بن زياد (١) وهو واقفي «عن ابى الحسن عليه‌السلام «قال :

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٢٠ ح ١٧ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢٢ ح ٨٧٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٦٣ ح ٢.

٤٤٤

سألته عن الرجل تحضره الوفاة وله مماليك لخاصة نفسه ، وله مماليك في شركة رجل آخر ، فيوصي في وصيته مماليكي أحرار ، ما حال مماليكه الذين في الشركة فقال : يقومون عليه ان كان ماله يحتمل ثم هم أحرار».

وقال ابن إدريس : الذي يقوى عندي أنه لا يقوم من في الشركة ، بل يعتق منهم بقدر ما يملكه ، ولا يعطى شريكه ثمن حصته ، وان احتمل ثلثه ذلك ، لأنه بعد موته لا يملك الثلث ، إذا لم يوص به ، لأن الموت يزول به ملكه إلا ما استثنى من ثلثه ، وهذا ما استثنى شيئا ، والى هذا القول مال المتأخرين وهو قول الشيخ في المبسوط أيضا ، حيث قال : إذا أوصى بعتق شقص له من عبد ، ثم مات أعتق عنه ذلك الشقص ، ولم يقوم عليه نصيب شريكه ، وان كان غنيا ، لأن ملكه زال عن ماله بالموت إلا القدر الذي استثناه.

والعلامة في المختلف حيث اختار مذهب الشيخ في النهاية استدل عليه بأن الموصي أوجد سبب السراية في العتق ، فيوجد مسببه ، أما المقدمة الأولى فلأن العتق في الحقيقة مستند اليه ، ولهذا كان ولائه له ، وأما الثانية فظاهرة ، ثم أورد الرواية المذكورة.

واعترضه في المسالك فيما أورده من التعليل العقلي بأنه ان أراد مطلق السبب أعم من التام لم يفده المطلوب ، وان أراد به التام منعناه هنا ، لأن السبب التام للسراية العتق مع اليسار ، واليسار هنا منتف ، لأنه لا يملك بعد الموت ، أو تقول ان سبب السراية انما هو العتق لا الوصية به ، والعتق انما وقع بعد الوفاة ، فمسببه يجب أن يقع بعده كذلك مع اجتماع شرائطه الذي من جملته اليسار ، وهو منتف هنا بعد الوفاة ، لما ذكرناه ، ثم قال : فان قيل : كما أن العتق سبب قريب في السراية ، كذلك الوصية سبب فيها ، لأنها سبب العتق ، وقد حصلت حالة اليسار. لأنه المفروض والعتق سبب في السراية ، قلنا : مجرد وجود السبب لا يقتضي وجود المسبب ، إلا إذا اجتمعت شرائطه ، وإلا فيمكن تخلف المسبب عن

٤٤٥

سببه ، لفقد شرط ، وهو هنا كذلك ، لأن شرط العتق وفاة الموصي ، لأنه جعله وصية ، والوصية انما تقع بعد الوفاة ، فإذا تخلف المسبب وهو العتق عن سببه الى ما بعد الوفاة ، لزم معه تخلف مسببه ، وهو السراية كذلك وتم المطلوب ، حيث لم يصادف المال ، ثم رد الرواية بأنها لا تصلح لتأسيس الحكم بذاتها لضعف سندها بأحمد بن زياد المذكور ، فإنه واقفي غير ثقة ، انتهى.

أقول : يمكن أن يقال ان محل البحث وموضوع المسئلة من أوصى بعتق مماليكه بمعنى أنهم يعتقون بعد موته ، أو ينعتقون ، وفهم هذا المعنى من لفظ الرواية غير ظاهر ، فان ظاهرها أنه كتب في وصيته أو قال : بلسانه في ذلك مماليكي أحرار ، وظاهر هذه العبارة محتمل للإنشاء ، فيكون ذلك عتقا لهم في ذلك الوقت ، ومحتمل للأخبار عن عتق سابق ، وعلى كل من الأمرين ، فالعتق قد وقع حال الحياة ، فيترتب عليه ما ذكره في الرواية من السراية ان كان في ثلثه ما بقي بذلك ، وأما أن المراد بها الوصية بأن يعتق مماليكه بعد موته ، فهو في غاية البعد عن حاق لفظها ، فان قيل : ان ذلك مفهوم من قوله فيوصي في وصيته ، والوصية بالعتق يقتضي الانعتاق بعد الموت لا قبله ، قلنا يمكن ارتكاب التجوز في هذا اللفظ ، بمعنى أنه يقول : ويذكر هذا القول في تلك الحال ، وباب التجوز في الكلام واسع ، وارتكاب ما قلناه أولى وأقرب مما ذهب إليه القائلون بالقول الأول من التقديم على الموصي ، مع أنه لا مال له بعد الموت ، كما أورده عليه ، وأولى منه ما ذهب اليه من رد الخبر وإطراحه بالكلية ، مع عدم وجود ما يضاده من الأخبار ، والعمل بالخبر مهما أمكن أولى من طرحه ، وعلى ما ذكرناه فالخبر لا يكون من محل الاستدلال في شي‌ء ، فيبقى القول الأول خاليا من الدليل ، ويكون العمل على القول الثاني ، بناء على القاعدة المذكورة ، وهي أنه لا يقوم عليه إلا مع وجود المال له ، ولا مال في تلك الحال.

وبالجملة فإن الظاهر بهذا الفهم القاصر ، والذهن الخاسر ، ان حمل الخبر

٤٤٦

على ما ذكرناه ممكن بما عرفت من التقريب ، فلا يلزم مخالفته للقواعد بناء على القول الأول ، ولا رده بناء على القول الثاني ، والله العالم.

إلحاق يشتمل على جملة من الفروع :

الأول : قالوا : لو أوصى بنصف ماله مثلا ، وأجاز الورثة ، ثم قالوا : ظننا أنه قليل ، كما لو قالوا بعد إجازتهم الوصية بالنصف ، ظننا أنه ألف درهم ، فظهر ألف ألف دينار ، فإنه يقبل قولهم في دعوى ظن قلة المال مع يمينهم ، ويقضى عليهم بما ادعوا ظنه ، فإذا حلفوا قضى عليهم بصحة الإجازة في خمسمائة درهم ، وعلل قبول قولهم باستناده إلى أصالة عدم العلم بالزائد ، مضافا الى أن المال مما يخفى غالبا ، وأن دعواهم يمكن أن تكون صادقة ، ولا يمكن الاطلاع على صدق ظنهم إلا من قبلهم ، لأن الظن من الأمور النفسانية ، فلو لم يكتف فيه باليمين لزم الضرر ، لتعذر إقامة البينة على دعواهم.

وترد المحقق في ذلك ، ومنشأه مما ذكرنا ، ومن تناول لفظ الموصى للقليل والكثير ، وقدومه على ذلك مع كون المال مما يخفى كما ذكر ، فالرجوع الى قولهم رجوع عن اللفظ المتيقن الدلالة على معنى يعم الجميع الى دعوى ظن يجوز كذبه.

قال في المسالك بعد ذكر ذلك : والأقوى القبول ، وحينئذ فيدفع الى الموصى له نصف ما ظنوه ، وثلث باقي التركة ، انتهى.

أقول : لا ريب في قوة ما قواه بالنظر الى هذه التعليلات المذكورة من الطرفين ، إلا أن الاعتماد عليها في تأسيس الأحكام الشرعية كما عرفت في غير مقام مما تقدم ، لا يخلو عن الاشكال ، والمسئلة عارية من النصوص على الخصوص والصلح طريق الاحتياط ، والله العالم.

الثاني : قالوا : لو أوصى بعبد أو بدار ، فأجاز الورثة الوصية ، ثم ادعوا أنهم

٤٤٧

ظنوا أن ذلك الثلث أو أزيد بيسير ، مع ظهور كون ذلك أزيد بكثير ، لقلة المال لم يسمع دعواهم في هذه الصورة ، لأن الإجازة هنا قد تضمنت معلوما ، بخلاف ما تقدم في سابق هذا الموضع ، وحاصل الفرق بين المسئلتين أن الإجازة في هذه الصورة وقعت على معلوم للورثة ، وهي العين المخصوصة كيف كانت من التركة ، فكانت الإجازة ماضية عليهم ، بخلاف الصورة الأولى حيث أن الوصية فيها بجزء مشاع ، وهو النصف من التركة مثلا ، والعلم بمقداره قلة وكثرة موقوف على العلم بالتركة كملا ، والأصل عدمه ، فتسمع فيه دعوى الجهالة ، وأنت خبير بما في هذا الفرق من تطرق احتمال المناقشة ، ولهذا مال في الدروس إلى التسوية بين المسئلتين ، والقبول في الحالين ، وجعله العلامة في التحرير وجها ، وفي القواعد احتمالا.

ووجه المناقشة التي أشرنا إليها ، وما ذكره في المسالك من أن الإجازة وان وقعت على معلوم للورثة كما يدعونه ، إلا أن كونه مقدار الثلث أو ما قاربه مما سامحوا فيه انما يعلم بعد العلم بمقدار التركة ، والأصل عدم علمهم بمقدارها ، وبنائهم على الظن ، فكما احتمل ظنهم قلة النصف في نفسه ، يحتمل ظنهم قلة العين بالإضافة إلى مجموع التركة ، وان لم يكن قليلا في نفسه ، قال : ومخالفة الأصل هنا بظنهم كثرة المال مع أن الأصل عدمه ، لا يؤثر في رفع الظن عنه واعتقاد كثرته ، بل يمكن عدم ظهور خلاف ما اعتقدوه من الكثرة ، ولكن ظهر عليه دين قدم على الوصية ، فقل المال الفاضل عنهما ، وهذا موافق للأصل كالأول ، ثم قال : وأيضا فمن جملة المقتضى للقبول في الأول ، إمكان صدقهم في الدعوى ، وتعذر إقامة البينة بما يعتقدونه ، وهو متحقق هنا ، لأن الأصل عدم العلم بمقدار التركة ، وذلك يقتضي جهالة قدر المعين من التركة كالمشاع ، ولعل القبول أوجه ، انتهى.

والغرض من التطويل بنقل كلامهم مع ما عرفت من عدم الاعتماد عليه ،

٤٤٨

مع خلوه من الدليل الواضح ، هو وقوف الناظر في الكتاب على ما في هذه المسائل من كلام الأصحاب (رحمهم‌الله) فلعله يتشوق نفسه الى الوقوف على كلامهم ، ونقضهم فيها وإبرامهم ، وقد أشرنا في غير موضع مما تقدم أن الغرض من الكتاب هو أن لا يحتاج الناظر فيه الى مراجعة شي‌ء من كتب الأخبار ، لاحاطتهم فيه بجميع أخبار كل مسئلة مسئلة ، وكذلك لا يحتاج إلى مراجعة كتب الأصحاب للاطلاع على ما ذكروه في كل مسئلة مسئلة حسب الإمكان ، وإلا فاستقصاء كلامهم في كل مسئلة مسئلة مما يتعذر غالبا ، فيكون كتابنا هذا مغنيا عن مراجعة غيره من كتب الأخبار ، وكتب الفروع في الجملة ان شاء الله تعالى.

الثالث : الظاهر أنه لا إشكال في أنه لو أوصى له بثلث ماله مشاعا فان الموصى له من كل شي‌ء من التركة ثلثه حاضرا كان أو غائبا عينا كان أو دينا فهو شريك للورثة في كل جزء جزء من التركة.

أما لو أوصى له بثلث التركة معينا في عين مخصوصة ، كدار مخصوصة ، أو عبد مخصوص ، فان الموصى له يملكه بالقبول ، وموت الموصي ، ولا اعتراض ، للورثة من حيث اختصاصه بالعين عنهم ، ولهم منها الثلثان ، لأنه لا خلاف في أن للموصى ثلث ماله ، يتصرف فيه كيف شاء ، وأنه لا يتوقف على اذن الورثة ، غاية الأمر أنه بعد أن خصه بهذه العين من حيث كونها ثلث التركة ، وهو لا يملك من هذه العين إلا ثلثها ، جعل ما بأيديهم من ضعف الوصية من جملة التركة كالقيمة الشرعية عما يستحقونه من ثلثي هذه العين ، هذا إذا كان ضعف الموصى به بأيديهم ، كما هو المفروض.

أما لو لم يكن بأيديهم بأن كان له مال غائب ، أو بيد متغلب ، فان لم يكن بأيديهم من التركة شي‌ء أصلا ، فللموصى له ثلث تلك العين خاصة ، وكان انتقال ثلثيها موقوفا على تمكين الوارث من ضعفها من التركة ، وان كان بيدهم شي‌ء لا يقوم بالنصف فله من العين ما يحتمله الثلث منها ومما بأيديهم من التركة ،

٤٤٩

والباقي يصير موقوفا لا نحكم به لأحد منهما حتى يتضح الحال ، فيجعل أمانة بيد الحاكم أو أمينه أو من يتفقان عليه الى أن يتبين الأمر ، لحصول الغائب وعدمه.

ثم ان هذا القدر المتخرج من الثلث المنحصر في بعض هذه العين منجز هل يتسلط الموصى له عليه أم لا؟ بل يمنع من التصرف فيه وان كان ملكا له ، وجهان : اختار أولها في المسالك ، قال : لوجود المقتضى وهو ملكه له بالوصية المحكوم بصحتها بالنسبة إلى الثلث على كل حال ، لأن غاية ما هناك تلف الغائب بأجمعه فيكون الحاضر هو مجموع التركة فيملك ثلثه بغير مانع ، ثم ذكر وجه المنع ورده بما هو مذكور ثمة.

الرابع : قالوا : لو أوصى بثلث عبده فتبين أنه ليس له من العبد إلا ثلثه ، وأن ثلثيه ، مستحق للغير ، فإن الوصية تصح في ذلك الثلث ، ثم ان كان الموصي لا يملك غير ذلك العبد لم تنفذ وصيته المذكورة ، إلا في ثلث الثلث الذي يستحقه ، ووقف في ثلثيه على الإجازة ، وان ملك غيره اعتبر خروج ثلث العبد من ثلث التركة.

ونقل عن بعض العامة ، أنه حكم بنفوذ الوصية في المسئلة المذكورة في ثلث الثلث خاصة ، والذي عليه الأصحاب كما عرفت أن الوصية إنما تنصرف الى مستحقه خاصة ، وهو الثلث على التفصيل المتقدم ، وما ذهب اليه ذلك القائل كأنه منزل على الإشاعة ، وجواز الوصية بمال الغير ، بمعنى أنه لو أوصى بثلث شائع في العبد وهو ملك الجميع من الموصي وباقي الشركاء ، فلا تنفذ وصيته فيه ، بل انما تنفذ في ثلثه ، ويرجع الى كون موصى به ثلث الثلث ، ورده الأصحاب بأن الوصية لا تصح إلا بما يملكه الموصي ، فلو أوصى بمال الغير لغت ، فلا تنزل على الإشاعة المستلزمة للوصية بمال الغير.

الخامس : المشهور في كلام المتأخرين أنه لو أوصى بما يقع اسمه على المحلل والمحرم انصرف اللفظ الى المحلل ، صونا للمسلم عن المحرم كما إذا

٤٥٠

أوصى بعود من عيدانه وله عود لهو ، وعيدان قسي ، وعيدان عصي ، وعيدان المسقف والبنيان ، وأيده بعضهم بوجوب تنفيذ الوصية بحسب الإمكان لعموم «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ» وهو لا يتم إلا بذلك.

وقال الشيخ في المبسوط : إطلاق قوله عود من عيداني ينصرف الى العود الذي يضرب به للهو ، لأن ذلك يسمى بالإطلاق عودا في العادة ، ثم ينظر فان كان له منفعة غير الضرب صحت الوصية ، وان لم تكن له منفعة مباحة ولا يصلح إلا للعب بطلت الوصية.

أقول : لا ريب أن لفظ العود هنا من الألفاظ المشتركة ، ومن شأن اللفظ المشترك ان لا يحمل على أحد معانيه إلا بالقرينة ، وفي كون ما ذكروه من صون المسلم عن المحرم قرينة على المحلل على إطلاقه محل اشكال ، سيما مع شيوع استعمال المسلمين للهو واللعب بالعود وغيره ، فلو ثبت ذلك بحال الموصى وما هو عليه من التورع عن المحرمات ، أو عدم ذلك ، ولو في سائر الحالات لكان حسنا.

نعم لو لم يكن له عود لهو بالكلية ، انصرف الى المحلل بغير اشكال ، وان كان اللفظ أعم من المحرم ، ولو لم يكن له إلا العود المحرم قيل تبطل الوصية ، لانصرافه الى غير المشروع ، حيث لم يكن له غيره ، والحال أنه قد خصها بما هو له ، فلا ينتقل الى تحصيل غيره.

وظاهر كلام الشيخ المتقدم أنه ان كان له منفعة مباحة غير الضرب صحت الوصية ، وإلا فلا ، وقيل : تصح الوصية به ، ولكن تزال عنه الصفة المحرمة ، بأن يحول منها الى غيرها من الصفات المحللة إن أمكن ، وإلا بطلت الوصية ، وإطلاق العبارة يقتضي أن زوال الصفة المحرمة مع بقاء المنفعة لو تحقق بكسره والانتفاع بخشبه في بعض المنافع المحللة ، يكفي في الصحة على هذا القول.

واستشكل في المسالك في ذلك بأنه يخرج بالكسر عن كونه عودا لأن وصيته معتمدة على وصف العود فكسره خروج عن الاسم ، ثم قال : لا يقال : إذا

٤٥١

انتقل الى الموصى له فله أن يفعل به ما شاء ، ومن جملته كسره ، بل هو واجب حيث يتوقف زوال الصفة المحرمة عليه ، فلا يقدح ذلك في جواز الوصية ، لأنا نقول ان جواز تصرفه فيه بالكسر وغيره موقوف على صحة الوصية ، وصحتها موقوف على كسره فيدور ، ولو قيل : أنه يمكن كسره من غير الموصى له قبل دفعه اليه ليندفع الدور ، جاء فيه ما تقدم من زوال اسم العود الذي هو متعلق الوصية ، فلا يكون بعد كسره موصى به ، فلا يحصل بدفعه الى الموصى له الامتثال ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن مبنى كلامه (قدس‌سره) على أنه بالكسر يخرج عن كونه عودا ، فلو دفع بعد الكسر الى الموصى له لم يصدق الإتيان بالوصية والامتثال لها ، وفيه أن أحد أفراد العود عود الخشب ، وهذا بعد الكسر وان خرج عن عود اللهو ، إلا أنه لا يخرج عن عود الخشب ، قال في كتاب المصباح المنير : وعود اللهو وعود الخشب ، جمعه أعواد وعيدان ، ونحوه في القاموس ، وحينئذ فيرجع الكلام إلى ما ذكره ذلك القائل من صحة الوصية متى أزيلت عنه صفة المحرمة ، وحول الى غيرها من الصفات المحللة ، وأن هذا العود بكسره قد خرج عن عود اللهو ، وصار من قبيل عود الخشب ، الذي منافعه المترتبة عليه محللة.

ثم انه قال في المسالك على أثر الكلام المتقدم : والأقوى أنه إن أمكن إزالة الصفة المحرمة مع بقاء اسمه ، صحت الوصية ، وإلا بطلت لحصره فيما عنده ، وهو ينافي تحصيل عود من خارج ، ولم يوجد عنده ما يتناوله الاسم شرعا ، فيكون ذلك بمنزلة ما لو أوصى بالمحرم ، انتهى.

أقول : قد عرفت بما أوضحناه بقاء اسم العود على الباقي بعد الكسر ، فتصح الوصية ، ولا يحتاج الى تحصيل عود من خارج بأي معنى كان ، فان الموجود عنده بعد الكسر مما يتناوله اسم العود ، فلا موجب لبطلان الوصية ، والله العالم.

السادس : قال المحقق في الشرائع : وتصح الوصية بالكلاب المملوكة ،

٤٥٢

ككلب الصيد ، والماشية ، والحائط ، والزرع ، قال الشارح في قوله المملوكة : تنبيه ، على أنا لو لم نقل بملكها لم تصح الوصية بها لعدم كونها مالا منتفعا به ومن ثم لم يصح بيعها عند القائل بعدم المالية ، والأقوى جواز الوصية بها وان لم نقل بملكها ولم نجوز بيعها ، لثبوت الاختصاص بها وانتقالها يدا الى يد بالإرث وغيره ، وهو أعم من الملك.

أقول : قد حققنا في كتاب البيع (١) أن المستفاد من الأخبار اختصاص الملك وجواز البيع ونحوه بكلب الصيد خاصة ، كما هو أحد الأقوال في المسئلة ، وأن ما عداه لا دليل على جواز تملكه ولا بيعه ، ولا غيرهما من الأحكام ، ومنها الوصية هنا ، وأما ما ذكره الشارح هنا من جواز الوصية بالكلاب وان لم نقل بملكها ولم نجوز بيعها ، فهو مشكل.

أما أولا فلما صرحوا به من أن من شروط صحة الوصية صحة الملك لكل من الموصى والموصى له ، كما تقدم في المسئلة الأولى من مسائل هذا المقصد ، وقد اعترف بذلك الشارح المذكور ، حيث قال بعد قول المصنف ويعتبر فيهما الملك؟ فلا يصح بالخمر والخنزير والكلب الهراش ما صورته : المراد هنا صلاحية الملك للموصى والموصى له ، كما ترشد إليه الأمثلة ، فإن المذكورات لا تقبل الملك بالنسبة إلى المسلم ، أو مطلقا بناء على اعتبار الواقع في نفس الأمر الى أن قال : واحترز بكلب الهراش عن الكلاب الأربعة والجر والقابل للتعليم ، فتصح الوصية بها ، لكونها مملوكة لها قيمة ومنفعة ، وهو كما ترى صريح فيما ذكرناه ، وعلى هذا المنوال كلمة غيره من الأصحاب في هذا المجال.

وأما ثانيا فلان الوصية حكم شرعي يترتب عليها جملة من الأحكام كما في جملة الوصايا المبحوث عنها في هذا المقام ، فلا بد في إثباته من الدليل الشرعي كما هو واضع لذوي الأفهام ، وغاية ما يدل عليه الدليل صحة الوصية بالمملوك ، فغيره

__________________

(١) ج ١٨ ص ٨٠.

٤٥٣

يتوقف على الدليل ، ومجرد هذه التعليلات العليلة لا يجوز أن ترتب عليها الأحكام الشرعية.

واما ثالثا فان ما ادعاه من انتقالها من يد الى يد بالإرث وغيره مجرد دعوى ، لا يخرج عن المصادرة ، فإن المانع للملك يمنع من حصول الإرث فيها ، لكونه فرع الملك بلا خلاف نصا وفتوى وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) هنا لا يخلو من تساهل ثم أنه قال في المسالك : إذا تقرر ذلك فإذا أوصى بكلب تجوز الوصية به ، فان وجد في التركة فذاك ، وإلا فإن جوزنا شراءه اشترى من التركة ودفع الموصى له ، وان لم نجوز شراءه احتمل بطلان الوصية حينئذ ، لعدم إمكان إنفاذها على الوجه المشروع ، ومراعاة تحصيله بغير البيع ، إذ لا يلزم من عدم جواز بيعه عدم إمكان تحصيله بغيره ، فيجب تحصيله على الوارث تفصيا من تبديل الوصية مع إمكان إنفاذها ، فإن أمكن تحصيله والا بطلت ويشكل بأنه لا يلزم ، من إمكان تحصيله للوارث وجوبه عليه إذ لا يجب عليه إنفاذ وصية مورثه إلا من مال المورث وهو منتف هنا ، والأقوى البطلان مطلقا ، لكن لو تبرع به متبرع من وارث وغيره صح ، وان لم يكن ذلك واجبا ، انتهى.

تتميم :

في ذكر جملة من الوصايا المبهمة فمنها الوصية بالجزء من ماله ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك باختلاف الأخبار فيما هنالك ، فذهب جمع منهم الشيخ في كتابي الأخبار والشيخ علي بن بابويه وابنه إلى أنه العشر ، واختاره العلامة في المختلف ، وهو ظاهر المحقق في الشرائع حيث نسبه الى أشهر الروايتين ، وذهب جمع منهم الشيخ المفيد والشيخ في النهاية وابن الجنيد وسلار وابن البراج إلى أنه السبع ، ونقله في المسالك عن أكثر المتأخرين.

والذي يدل من الأخبار على الأول ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن

٤٥٤

أو الصحيح في الأول ، والصحيح في الثاني عن عبد الرحمن بن سيابة (١) وهو مجهول قال : «ان امرأة أوصت الي وقالت ثلثي يقتضي به ديني ، وجزء منه لفلانة ، فسألت عن ذلك ابن أبى ليلى فقال ما أرى لها شيئا ، ما أدرى ما الجزء فسألت عنه أبا عبد الله عليه‌السلام بعد ذلك وخبرته كيف قالت المرأة وما قال ابن أبى ليلى فقال : كذب ابن أبى ليلى ، لها عشر الثلث ، ان الله تعالى أمر إبراهيم عليه‌السلام فقال (٢) : «اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال يومئذ عشرة ، والجزء هو العشر من الشي‌ء».

والعلامة في المختلف روى هذه الرواية عن عبد الله بن سنان ، وأنه هو الوصي والسائل عن هذه المسئلة ، وعد الخبر في الصحيح ، والذي في الكافي والتهذيب عن عبد الله بن سنان إنما هو راو عن عبد الرحمن بن سيابة ، وبه تكون الرواية على اصطلاحهم ضعيفة ، وكان لفظ عبد الرحمن بن سيابة سقط ، من نسخة الكتاب الذي عنده ، أو أنه غفل عنه ، إلا أن الشيخ في الاستبصار رواه كذلك فالظاهر أنه نقل الخبر عن الاستبصار ، ولم يراجع الكافي والتهذيب ، ومما يؤيد العمل على ما في التهذيب كما ذكره شيخنا في المسالك ، من أن من المستبعد جدا أن عبد الله بن سنان الفقيه الجليل الإمامي يسأل ابن أبى ليلى في ذلك ، بل الموجود في الأخبار أن ابن أبى ليلى كان يسأله ، ويسأل أصحابه مثل محمد بن مسلم وغيره عن كثير من المسائل ، والشهيد في الدروس قد تبع العلامة في هذا المقام وثوقا بكلامه في المختلف ، واعتمادا على ما في الاستبصار ، ولم يراجع الكتابين الآخرين.

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة في الموثق أو الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٩ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٨ ح ٨٢٤ ، الاستبصار ح ٤ ص ١٣١ ح ٤٩٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٢ ح ٢.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ٢٦٠.

٤٥٥

عن معاوية بن عمار (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله ، قال : جزء من عشرة ، قال الله تعالى (٢) «اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال عشرة».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن ابان بن تغلب (٣) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام الجزء واحد من عشرة ، لأن الجبال كانت عشرة ، والطير أربعة».

وما رواه في التهذيب عن أبى بصير (٤) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى بجزء من ماله : قال : جزء من عشرة ، وقال : كانت الجبال عشرة».

ورواه العياشي في تفسيره مثله (٥) ، وزاد : وكانت الطير الطاوس ، والحمامة ، والديك والهدهد ، فأمره أن يقطعهن. الى آخره.

وما رواه الصدوق (قدس‌سره) في كتاب معاني الأخبار عن ابان بن تغلب (٦) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في الرجل يوصى بجزء من ماله؟ قال : الجزء واحد من عشرة ، لأن الله تعالى يقول «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» وكانت الجبال عشرة ، والطير أربعة فجعل على كل جبل منهن جزءا». قال : وروى أن الجزء واحد من سبعة ، لقول الله عزوجل «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ».

ومنها ما رواه في الكتاب المذكور في الصحيح عن عبد الله بن سنان (٧) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة أوصت بثلثها يقضى به دين ابن أخيها وجزء

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٨ ح ٨٢٥ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٢ ح ٥٢٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٣ ح ٣.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ٢٦٠.

(٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٤٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٩ ح ٨٢٦ و ٨٢٧.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٤٠ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٩ ح ٨٢٧.

(٥) تفسير العياشي ج ١ ص ١٤٤ ح ٤٧٥.

(٦) معاني الأخبار ص ٢١٧ ح ١.

(٧) معاني الأخبار ص ٢١٧ ح ٢ ط إيران سنة ١٣٧٩. الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٤ ح ٦.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٢ ح ١ وص ٤٤٦ ح ١١ وص ٤٤٤ ح ٦.

٤٥٦

لفلان وفلانة فلم أعرف ذلك ، فقدمنا الى ابن أبى ليلى ، قال : فما قال لك؟ قلت : قال : ليس لهما شي‌ء فقال : كذب والله ، لهما العشر من الثلث».

وما رواه العياشي (١) في تفسيره عن عبد الصمد بن بشير في خبر يتضمن «أن أبا جعفر المنصور جمع القضاة فقال لهم : رجل أوصى بجزء من ماله فكم الجزء؟ فلم يعلموا واشتكوا اليه ، فأبرد بريدا الى صاحب المدينة أن يسأل جعفر بن محمد فسأله فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : هذا في كتاب الله بين ، ان الله يقول لما قال إبراهيم (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى). ، (٢) «ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» ، فكانت الطير أربعة والجبال عشرة ، يخرج الرجل من كل عشرة أجزاء جزءا واحدا» ، الحديث.

وما رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن إسماعيل عن عبد الله بن عبد الله (٣) قال : «جائني أبو جعفر بن سليمان الخراساني ، وقال : نزل بي رجل من أهل خراسان من الحجاج ، فتذاكرنا الحديث ، فقال : مات لنا أخ بمرو وأوصى الى بمائة ألف درهم وأمرني ان أعطي أبا حنيفة منها جزءا ، ولم أعرف الجزء كم هو مما ترك ، فلما قدمت الكوفة أتيت أبا حنيفة فسألته عن الجزء ، فقال لي الربع ، فأبى قلبي ذلك فقلت : لا أفعل حتى أحج وأستقصي المسئلة ، فلما رأيت أهل الكوفة قد اجتمعوا على الربع ، قلت لأبي حنيفة الى أن قال : وأنا أريد الحج فلما أتينا مكة وكنا في الطواف فإذا نحن برجل شيخ قاعد قد فرغ من طوافه ، وهو يدعو ويسبح إذ التفت أبو حنيفة فلما رآه قال : ان أردت أن تسأل غاية الناس فاسئل هذا ، فلا أحد بعده ، قلت : ومن هذا؟ قال : جعفر بن محمد ، فلما قعدت واستمكنت إذ استدار أبو حنيفة خلف ظهر جعفر بن محمد ، فقعد قريبا منى فسلم عليه وعظمه وجاء غير واحد مزدلفين مسلمين عليه ، وقعدوا فلما رأيت ذلك من تعظيمهم له اشتد ظهري ، فغمزني أبو حنيفة أن تكلم ، فقلت : جعلت فداك اني

__________________

(١ و ٣) تفسير العياشي ج ١ ص ١٤٣ ح ٤٧٣ وص ١٤٤ ح ٤٧٦، الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٤ ح ٨ وص ٤٤٥ ح ٩ الباب ٥٤.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ٢٦٠.

٤٥٧

رجل من خراسان وان رجلا مات وأوصى الى بمائة ألف درهم وأمرني أن اعطى منها جزءا ، وسمى لي الرجل ، فكم الجزء جعلت فداك؟ فقال جعفر بن محمد يا أبا حنيفة : قل فيها ، فقال : الربع ، فقال لابن أبى ليلى : قل فيها ، فقال : الربع ، فقال جعفر عليه‌السلام : ومن أين قلتم الربع؟ قالوا : لقول الله تعالى (١) «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً» ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام وأنا أسمع هذا قد علمت الطير أربعة ، فكم كانت الجبال ، إنما الأجزاء للجبال ، ليس للطير ، فقالوا : ظننا أنها أربعة فقال أبو عبد الله عليه‌السلام ولكن الجبال عشرة» ، وروى جزء من سبعة (٢) لقول الله عزوجل (٣) «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ». انتهى.

هذا جملة ما وقفت عليه من الأخبار الدالة على القول الأول.

وأما ما يدل على القول الثاني من الأخبار فمنه ما رواه الشيخ في الصحيح عن البزنطي (٤) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل أوصى بجزء من ماله فقال : واحد من سبعة ، ان الله تعالى يقول «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» قلت : رجل أوصى بسهم من ماله؟ فقال : السهم واحد من ثمانية ، ثم قرأ «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ» الى آخر الآية.

وعن إسماعيل بن همام الكندي (٥) «عن الرضا عليه‌السلام في الرجل يوصى بجزء من ماله ولم يعينه ، فاختلف الوارث بعده في ذلك فقضى عليهم بإخراج السبع من ماله وتلا قوله تعالى «لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» ، وقد تقدم في عبارة كتاب الفقه الرضوي وكذا في عبارة المقنع الإشارة الى هذه الرواية.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٦٠.

(٢) الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٤ ح ٦.

(٣) سورة الحجر ـ الاية ٤٤.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٩ ص ٢٠٩ ح ٨٢٨ و ٨٢٩، الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٧ ح ١٢ و ١٣.

٤٥٨

وروى العياشي في تفسيره عن البزنطي (١) «عن الرضا عليه‌السلام قال : سأله رجل عن الجزء وجزء الشي‌ء ، فقال : من سبعة ، ان الله يقول (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) ، ورووا أيضا عن إسماعيل بن همام الكوفي (٢) «عن الرضا عليه‌السلام في رجل أوصى بجزء من ماله؟ فقال : جزء من سبعة ، ان الله يقول في كتابه : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)».

وفي الفقيه (٣) روى البزنطي عن الحسين بن خالد «عن ابى الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أوصى بجزء من ماله قال : سبع ثلثه».

هذا ما وقفت عليه من الروايات الدالة على القول الثاني والشيخ قد جمع بين الأخبار بحمل الجزء على العشر ، فيجب أن ينفذ في واحد من عشرة ، وحمل أخبار السبع على أنه يستحب للورثة إنفاذه في واحد من سبعة ، لتتلائم الأخبار ، وهو ان كان لا يخلو من بعد لأن ظاهر أخبار السبعة هو أن الحكم الشرعي ذلك ، حيث فسروا عليهم‌السلام الجزء بأنه من سبعة ، بقول مطلق ، إلا أنه في مقام الجمع لا مندوحة عنه ، ولا صرح للحمل على التقية في أحد الطرفين ، لما عرفت من حديث الخراساني المتقدم ، إلا أن يقال : بأن التقية هنا انما هو بإيقاعهم عليهم‌السلام الاختلاف وان لم يكن ذلك قولا للعامة ، كما قدمناه في مقدمات الكتاب من جلد كتاب الطهارة (٤) ويمكن أن يؤيد القول الأول بفتوى الرضا عليه‌السلام في كتاب الفقه بذلك ، ونسبة الجزء من سبعة إلى الرواية.

وقال في المسالك بعد ذكر حمل الشيخ (رحمة الله عليه) : ولا بأس بهذا الحمل ، حذرا من اطراح الروايات المعتبرة ، وقال في المسالك أيضا بعد ذكر بعض ما ذكرناه من روايات الطرفين : وهذا القول ـ وأشار به الى القول الثاني ـ أصح

__________________

(١) تفسير العياشي ج ٢ ص ٢٤٣ ح ٢٠.

(٢) تفسير العياشي ج ٢ ص ٢٤٤ ح ٢١.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ١٥٢ ح ٥٢٩.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٧ ح ١٣ و ١٤.

(٤) ج ١ ص ٤.

٤٥٩

رواية والأول أكثر ، فلذلك قال المصنف : أشهرهما العشر ، وتلك أشهر ، وهذه أصح ، وينبغي ترجيح الصحيح.

نعم من حكم بصحة رواية عبد الله بن سنان ، وانضم إليها حسنة أبان ، والباقي من الموثق ، توجه ترجيحه لمضمونها ، وهو خيرة العلامة في المختلف محتجا بكثرتها ، وزيادتها على هذه ، وموافقتها للأصل وبعدها عن الإضراب ، إذ في رواية السبع أنه سبع ثلث وهي الرواية الثالثة التي أشار إليهما المصنف أخيرا ، ورواها الحسين بن خالد عن أبى الحسن (١) عليه‌السلام ثم ساق الرواية كما قدمناه ، ثم قال وهذه الرواية مع جهالة سندها بالحسين بن خالد ، شاذة لا عامل بمضمونها ، والفرق بينها وبين رواية عبد الله بن سنان المتضمنة لعشر الثلث ، أن الموصى صرح فيها بكون الجزء من الثلث ، وهنا جعله من ماله ، ولا إشكال في حمل الجزء على معناه من العشر أو السبع لأي شي‌ء نسب الى المال ، فهو عشره أو سبعة أو الى الثلث أو النصف أو غيرهما ، فهو العشر أو السبع من ذلك الجزء المنسوب إليه فالرواية الأولى لا تخالف سوى رواية السبع ، بخلاف هذه ، فإنها مخالفة للجميع انتهى.

أقول : أما ما رجح به القول الثاني من صحة روايته مشيرا بذلك إلى صحيحة البزنطي المتقدمة ، ففيه أن في روايات العشر أيضا ما هو صحيح ، وهي صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة المروية في كتاب معاني الأخبار ، ولكن العذر له ظاهر ، حيث أن نظرهم مقصور على روايات الكتب الأربعة.

وأما ما طعن به في روايات السبع من الاضطراب بدلالة رواية الحسين بن خالد على أن الجزء سبع ثلثه ، وأنه لا قائل بذلك ، ففيه أولا أن رد هذه الرواية لهذه العلة التي ذكرها ، لا يستلزم رد غيرها من تلك الأخبار الخالية من هذه العلة ، وثانيا أنه يمكن الجواب عما ذكره بحمل ماله في الخبر على ما يجوز له

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٥٢ ح ٥٢٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٤٧ ح ١٤.

٤٦٠