الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

شهود ، فأجازوا ذلك له ، قال : جائز قال ابن رباط وهذا عندي على أنهم رضوا بذلك في حياته وأقروا به».

وما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن محمد بن مسلم (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى بوصية وورثته شهود ، فأجازوا ذلك ، فلما مات الرجل نقضوا الوصية ، هل لهم أن يردوا ما أقروا به؟ قال : ليس لهم ذلك ، الوصية جائزة عليهم إذا أقروا بها في حياته».

وما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله تعالى مضاجعهم) في الصحيح عن منصور بن حازم (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله.

وما رواه المشايخ المذكورون عن أحمد بن عيسى (٣) قال : «كتب أحمد بن إسحاق الى ابى الحسن عليه‌السلام ان درة بنت مقاتل توفيت وتركت ضيعة أشقاصا في موضع وأوصت لسيدها في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثلث ، ونحن أوصيائها وأحببنا أن ننهى ذلك إلى سيدنا ، فإن أمر بإمضاء الوصية على وجهها أمضيناها وان أمر بغير ذلك انتهينا إلى أمره في جميع ما يأمر به ان شاء الله تعالى ، فكتب عليه‌السلام بخطه : ليس يجب لها من تركتها إلا الثلث فان تفضلتم وكنتم الورثة كان جائزا لكم ان شاء الله تعالى».

وما نقل عن الشيخ علي بن الحسين بن بابويه ، فإن العلامة في المختلف قد نقل عنه أنه احتج على ذلك برواية عمار الساباطي (٤) «عن الصادق عليه‌السلام قال : الرجل أحق بماله ما دام فيه الروح ، ان أوصى به كله فهو جائز له».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ١٩٣ ح ٧٧٥ و ٧٧٦، الفقيه ج ٤ ص ١٤٧ ح ٥١٢ وص ١٤٨ ح ٥١٣، الكافي ج ٧ ص ١٢ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٩٢ ح ٧٧٢ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٧ ح ٤٨٠ ، الكافي ج ٧ ص ١٠ ح ٢. الوسائل ج ١٣ ص ٣٦٤ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٩ ص ١٨٦ ح ١. الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٠ ح ١٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧١ ح ١ وص ٣٦٤ ح ١ وص ٣٧٠ ح ١٩.

٤٢١

ثم قال في المختلف : والرواية ضعيفة ، والمطلوب مستبعد ، والأحاديث الصحيحة معارضة لهذه الرواية ، مع أن الشيخ تأولها على من لا وارث له ، أو على ما إذا أجاز الورثة ، ومع ذلك فهي قاصرة عن افادة المطلوب ، فانا نقول بموجبها فان المريض أحق بماله ما دام فيه الروح يفعل به ما يشاء في حياته ، وإذا أوصى به كله جاز ، فإن أجاز الورثة بعد ما أوصى به ، وإلا فسخت الوصية في الثلثين ، وقد روى ابنه في المقنع (١) «أن الصادق عليه‌السلام سئل عن رجل أوصى بماله في سبيل الله عزوجل ، فقال : أطلقه الى من أوصى له به ، وان كان يهوديا أو نصرانيا فان الله عزوجل (٢) يقول «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ، إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». ثم قال عقيب هذه الرواية ، ماله هو الثلث ، لأنه لا مال للميت أكثر من الثلث» ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من وقف على ما قدمناه في كتب العبادات في مواضع عديدة من أن الشيخ علي بن بابويه (قدس‌سره) أكثر ما نذكره سيما من الفتوى الغريبة انما هو مأخوذ من كتاب الفقه الرضوي ، وان كان على خلاف ما تكاثرت به الأخبار ، وهذا الموضع من جملة ذلك ، فان عبارته المذكورة عين عبارة الكتاب حيث قال عليه‌السلام في الكتاب المذكور (٣) «فإن أوصى رجل بربع ماله فهو أحب الي من ان اوصى بالثلث ،

فإن أوصى بالثلث فهو الغاية في الوصية ، فإن أوصى بماله كله فهو أعلم بما فعله ويلزم الوصي إنفاذ وصيته على ما اوصى به» ، انتهى.

وأنت خبير ـ بأن اعتماد هذا الشيخ الجليل على الفتوى بعبائر الكتاب مع مخالفتها للأخبار الكثيرة كما هنا ، وقد تقدم أمثاله أيضا في غير موضع ـ أدل دليل على اعتماده على الكتاب المذكور ، وجزمه بأنه كلامه عليه‌السلام ، ولكن متأخري

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥٢٤ الباب ٣١ ح ٣.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ١٨١.

(٣) المستدرك ج ٢ نقل صدره في ص ٥١٩ في باب ٨ ح ٢ وذيله في ص ٥٢٠ في باب ٩ ح ٦.

٤٢٢

أصحابنا (رضوان الله عليهم) حيث لم يصل الكتاب إليهم تكلفوا للاستدلال له ببعض الأخبار ، واعترضوا عليها كما هنا بعدم الدلالة أو بنحو ذلك ، وهو غفلة عما ذكرناه مما وفقنا الله اليه ، ويسر لنا الوقوف عليه.

تنبيهات :

الأول : قالوا لو كانت الورثة جماعة فأجاز بعضهم نفذت الإجازة في نصيبه من الزائد ، قيل : والوجه فيه أن الوصية لما كانت وما تقبل التبعض ، لكونها تبرعا محضا وكان الزائد عن الثلث منها موقوفا على اجازة الوارث جاز له اجازة البعض كما تجوز له اجازة الجميع ، لأن ذلك حقه ، فله التبرع بجملته وبعضه ، وكما يجوز ذلك لبعض الورثة دون بعض ويلزم كل واحد جملة ، كذلك يجوز اجازة البعض منهم جميعا ، كالنصف والثلث ، ويتقدر بالقدر المجاز ، دون ما عداه.

قالوا : فلو فرض كون الوارث ابنا وبنتا ، وأوصى بنصف ماله فإن أجازا معا فالمسئلة من ستة ، لأن لهما نصف التركة أثلاثا بينهما ، وللموصى له نصفها ، وان رد الوصية معا فالمسئلة من تسعة ، لأن لهما ثلثي التركة أثلاثا بينهما ، وهي ستة من تسعة ، ثلاثة للموصى له ، لأنها ثلث التركة ، وان أجاز أحدهما فالمسئلة من ثمانية عشر ، فللموصى له من حيث الوصية وعدم الإجازة ، الثلث ستة ، ولهما ميراثا من ذلك اثنى عشر أثلاثا بينهما ، فمن أجاز منهما دفع من نصيبه ما وصل اليه من السدس الزائد ، فلو أجازه الابن خاصة ، كان له ستة من الثمانية عشر لأنه قد سقط منه اثنان بالإجازة ، وقد كانت حصته ثمانية ، فيدفع منها الى الموصى إليه سهمان ، وتبقى له ستة ، ولو أجازت البنت خاصة كان لها ثلاث من ثمانية عشر ، لأن الذي لها قبل الإجازة أربعة ، فتدفع منها الواحد بالإجازة منهما للموصى اليه ، ومنه يعلم انه لو أجازا معا فللموصى إليه زيادة على الستة التي تثبت بالوصية ثلاثة ، سهمان من الولد وسهم من البنت فيكون للموصى له تسعة ، وهي نصف الفريضة ، وللولد ستة ، وللبنت ثلاثة ، وعلى هذا فقس.

٤٢٣

الثاني : المشهور بين الأصحاب (رحمهم‌الله) أن اجازة الوارث لازمة له سواء كانت في حال حياة الموصي أم بعد موته ، ونقل عن الشيخ المفيد وسلار وابن إدريس اختصاص اللزوم بما بعد الوفاة ، فلو أجاز في حال الحياة جاز له الرجوع عنها بعد الوفاة ، ويدل على القول المشهور ما تقدم من صحيحة محمد بن مسلم (١) ، وبطريق آخر منصور بن حازم ، وهي صحيحة صريحة في أنهم لو أجازوا في حال الحياة لزمهم ذلك ، وليس لهم أن ينقضوا ذلك بعد الوفاة.

واستدل عليه في المختلف أيضا بجملة من الأدلة الاعتبارية ، وبعضها يصلح وجها للنص المذكور ، وبيان العلة فيه ، وبعضها يصلح للتأكيد.

ونقل المختلف عن ابن إدريس بأنه احتج بأنه أجازه فيما لا يستحقونه بعد فلا يلزمهم ذلك بحال ، ورد بأن المال الموصى به لا يخرج عن ملك الموصى أو الورثة ، لأنه إن برأ من مرضه فالمال له ، وان مات كان للورثة ، فإن كان للموصي فإنه قد أوصى ، وان كان للورثة فإنهم قد أجازوا ، ولأن المنع من نفوذ الزائد عن الثلث انما هو لحق الورثة ، فهو متحقق في حال الحياة ، فإذا أجازوا فقد أسقطوا حقهم.

وبالجملة فإنه مع قطع النظر عما ذكرناه من الجواب ، لا وجه لهذا الاحتجاج في مقابلة النص الصحيح الصريح ، وهل هو إلا الاجتهاد المحض في مقابلة النصوص وجرأة على أهل الخصوص.

قال في المسالك : ولا فرق على ذلك بين كون الوصية والإجازة حال صحة الموصي ومرضه المتصل بالموت وغيره ، لاشتراك الجميع في المقتضي ، والفرق بين اجازة الوارث حال الحياة ورده حيث لم يؤثر الثاني دون الأول ، أن الوصية مستمرة ببقاء الموصى عليها ، فيكون استدامتها كابتدائها بعد الرد ، فلا يؤثر ، بخلاف الرد بعد الموت ، لانقطاعه حينئذ ، وبخلاف الإجازة حال الحياة ، لأنها حق للوارث

__________________

(١) ص ٤٢١.

٤٢٤

وقد أسقطه فلا جهة لاستمراره ، ودوام الوصية يؤكدها ، انتهى.

أقول : قوله «والفرق بين اجازه الوارث الى آخره» كأنه جواب سؤال مقدر من جانب ابن إدريس ، وما استدل به ، وتقريره أنه في تلك الحال التي أوصى الموصى وهي حال حياته كما أنه لا يصح فيها رد الورثة للوصية ، فكذا لا تصح فيها إجازتهم ، فأجاب بالفرق المذكور بين الرد في تلك الحال والإجازة ، فإن الوصية مستمرة ببقاء الموصى عليها ، والاستمرار يجرى مجرى تعددها حالا فحالا فلو فرض الرد في أثناء هذه ، فان ما بعده في حكم تجدد عقد آخر من حيث اقتضاء الاستمرار ذلك ، فلا تأثير للرد حينئذ في تلك الحال ، بخلاف الرد بعد الموت ، لانقطاع الاستمرار بالموت فيؤثر ، وبخلاف الإجازة حال الحياة ، لأن الإجازة حق له ، وقد أسقطه فلا وجه لاستمراره ، وأنت خبير بأن الأصل في ذلك النص ، وهذه تصلح وجوها له كما تقدم ، والله العالم.

الثالث : المفهوم من كلام الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) من غير خلاف يعرف أن اجازة الوارث للوصية بما زاد عن الثلث بعد الموت تنفيذ ، لما أوصى به الموصي ، لا بابتداء عطية من الوارث ، باعتبار انتقال الحق إليه بالموت ، أما قبل الموت فلا إشكال في ذلك ، لأن الوارث لا يملك ، فلا يمكن احتمال العطية منه ، وانما محل الكلام بعد الموت ، لما عرفت من انتقال الحق إلى الوارث بالموت ، والأصحاب كما ذكرنا ، على أنه تنفيذ لا عطية ، قال في المسالك وهو مذهب الأصحاب ، لا يتحقق فيه خلاف بينهم ، وانما يذكر الآخر وجها أو احتمالا ، وانما هو قول العامة والمرجح عندهم ما اخترناه أيضا ، انتهى.

وعلل القول المشهور بأن الملك باق على المريض لم يخرج عنه بمرضه ، فيصح تصرفه فيه لمصادفته الملك ، وحق الوارث إنما يثبت في ثاني الحال فأشبه بيع شقص الشفيع وارث الخيار ، حيث تترتب عليه اجازة المبيع ، فإنه لا يكون ابتداء بيع ، بل تنفيذ لما فعل سابقا ، وأيضا فإن الوارث ليس بمالك ، وثبوت حق

٤٢٥

الإجازة له لا يقتضي الملك ، لأن الحق أعم منه ، فتصرف الموصي في حكمه ، واجازة الوارث في معنى إسقاط حقه ، ولأنه لو برأ من مرضه نفذت تصرفاته المنجزة مع كونها كانت متوقفة على اجازة الوارث كالوصية ، ولم يفتقر الى الاستيناف فدل على اعتبار ما وقع من الموصي لا على فساده ، وبهذا ترجح كونها تنفيذا ، ومما علل به الاحتمال الآخر ، انتقال الحق إلى الوارث بالموت ، وزوال ملك الموصي ، وأن تصرف الموصي في الزائد عن الثلث منهي عنه ، والنهي يقتضي الفساد ، لأن الزيادة حق الورثة فيلغو تصرف الموصي فيها ، وتكون العطية من الوارث.

وأجاب عن ذلك في المسالك بالمنع من كون التلفظ بالوصية منهيا عنه ، وكون النهي في ذلك يقتضي الفساد ، ولو سلم فإنما يقتضيه لو لم يخسر الوارث ونمنع من كون الزيادة حقا للورثة ، بل هي ملك الموصي ، غايته أن حقهم قد تعلق بها ، ومع الإجازة تسقط كإجازة المرتهن تصرف الراهن ، انتهى.

أقول : لا يخفى عليك ما في هذه التعليلات العليلة من الطرفين ، من عدم الصلوح لتأسيس الأحكام الشرعية في البين ، إلا أن ما علل به الاحتمال المذكور وان كان خلاف ما عليه الجمهور هو الأقرب الى الأخبار ، والأنسب بالاعتبار.

ومما يدل على ما ادعاه من زوال ملك الموصي عن الزائد ، وأن تصرفه منهي عنه ، قوله عليه‌السلام في رواية حمران المتقدمة» لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك» ومما يؤيد ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في مكاتبة أحمد بن إسحاق المتضمنة للإجازة بعد الموت «فان تفضلتم وكنتم الورثة كان جائزا لكم» والمراد الإجازة لما زاد على الثلث ، فان فيه نوع إشارة الى أن ذلك عطية منهم للموصى له ، وتفضل منهم عليه ، ويحتمل أن يكون ذلك بالنسبة الى الموصي بإجازة وصيته ، فيكون التفضل عليه.

وبالجملة فإن الأقرب الى الاعتبار والأنسب بالأخبار ، هو ما علل به الاحتمال المذكور ، وجميع ما أجيب به عنه وما علل به القول المشهور لا يخلو من القصور ،

٤٢٦

إلا أنه لا ثمرة مهمة في التشاغل برده وبيان ما فيه ، وقد ذكروا أيضا جملة من الفروع المترتبة على القولين ، أكثرها لا يخلو من مناقشة في المبنى ، طويناها على عزها ، وأعرضنا عن ذكرها ، ونشرها ، من أرادها فليرجع الى مطولاتهم (رضوان الله عليهم).

الرابع : قد صرحوا بأن المعتبر من الثلث وقت الوفاة ، لا وقت الوصية ، فلو كان موسرا حال الوصية ثم افتقر وقت الموت ، أو بالعكس ، كان الاعتبار بحال الموت في كل من الصورتين ، قالوا : ولا إشكال في ذلك فيما لو كان الموصى به قدرا معينا كعين معينة ، أو مائة درهم مثلا أو جزءا من التركة مع كونه حال الموت ، أقل منه حال الوصية ، وانما الإشكال فيما لو أوصى بجزء من التركة كالربع أو الخمس أو الثلث ، وكان في وقت الوصية فقيرا ثم أيسر وقت الموت ، فصار ذلك الجزء الموصى به مالا كثيرا ، ربما دلت القرائن على عدم إرادته ، حيث لا تكون الزيادة متوقعة غالبا.

أقول : والظاهر عندي ضعف هذا الاشكال ، وأنه بمحل من الاضمحلال ، فان مقتضى إطلاق الوصية دخول هذا الفرد ، وهذه الكثرة التي ربما يتوهم عدم انصراف الإطلاق إليها معلومة للموصي وقت الوفاة والاعتبار كما عرفت ، إنما هو بوقت الوفاة ، فعدم العدول عن الوصية السابقة على ذلك مع علمه ومعرفته بهذه الكثرة ، يقتضي العمل بإطلاق الوصية ، ودخول هذا الفرد فيها ، والله العالم.

الخامس : الظاهر أنه لا خلاف في دخول الدية وأرش الجناية في الوصية لو أوصى ثم قتله قاتل أو جرحه ، فان وصيته ماضية من ثلث التركة ، وثلث الدية ، وأرش الجناية ، وتدل على ذلك جملة من الأخبار.

منها ما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن قيس (١) في الصحيح «عن

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦٣ ح ٢١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٧ ح ٨٢٢ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٨ ح ٥٨٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٢ ح ١.

٤٢٧

أبى جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصية من ماله ثلث أو ربع ، فقتل الرجل خطأ يعنى الموصي فقال : تجاز لهذا الوصية من ميراثه ومن ديته». وفي الفقيه وفي خبر آخر «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوصى بثلث ماله ، ثم قتل خطأ فقال : ثلث ديته داخل في وصيته».

وما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لرجل بوصية مقطوعة غير مسماة من ماله ثلثا أو ربعا أو أقل من ذلك أو أكثر ، ثم قتل الموصى بعد ذلك فودى فقضى في وصيته : أنها تنفذ من ماله ومن ديته كما أوصى».

وما رواه في الكافي والتهذيب عن السكوني (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام من أوصى بثلثه ثم قتل خطأ ، فثلث ديته داخل في وصيته».

وربما أشكل الحكم المتقدم بأن المعتبر من الثلث ما كان وقت الوفاة بما ذكر هنا من دخول ثلث الدية في الوصية ، مع أن استحقاق الدية إنما يثبت بالموت ، فهي متأخرة عن الموت ، ويمكن الجواب عن ذلك بأن الحكم المذكور أولا انما هو من كلام الأصحاب ، ومرادهم انما هو المنع من الاعتبار بحال الوصية ، بل العبرة بالموت ، يعنى حصول الثلث حال الموت ، والدية وان كانت لا تستقر إلا بعد الوفاة فهي في الحقيقة متأخرة عنها ، إلا أنها مقارنة للموت ، فلا ينافي ما اعتبروه من وقت الوفاة ، لصدق الإطلاق عرفا على هذا الوقت أنه وقت الموت ، وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه النصوص المذكورة.

بقي الكلام في أن مورد هذه الروايات الدية في قتل الخطأ ، فإنه هو موجب للدية خاصة ، مع تصريح الأخبار به ، فدية الخطأ هي التي تدخل في

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٠٧ ح ٨٢٣. الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٣ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١١ ح ٧ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٧ ح ٨٢١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٩ ح ٥٨٩. الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٢ ح ٢.

٤٢٨

الوصية ، ويؤخذ منها الثلث ، وأما الدية المأخوذة في العمد فهل تدخل في ذلك أم لا؟ اشكال ، سواء قلنا بأن العمد موجب لأحد الأمرين ، القصاص أو الدية ، أو أن الدية انما تثبت صلحا ، والصلح لا يتقيد بالدية ، بل يصلح بزيادة منها ونقصان ، فيكون القول بذلك أبعد ، وظاهر الأصحاب القول بدخولها ، قال في القواعد : ولو قتل خطأ أو استحق أرشا خرجت الوصية من ثلث تركته وثلث ديته وأرشه ، وكذا العمد إذا تراضوا بالدية.

وقال في المسالك ـ بعد قول المصنف «ان وصيته ماضية من ثلث تركته وديته وأرش جراحته» ما صورته : ويظهر من قوله عليه‌السلام «وديته» أن الحكم مخصوص بقتل الخطإ ، لأنه هو الموجب للدية على الإطلاق ، وأما العمد فان قيل :

انه يوجب أحد الأمرين القصاص أو الدية دخل في العبارة ، لأن الدية أحد الأمرين المترتبين على الوفاة المستندة إلى القتل ، فكانت الدية مقارنة للوفاة كالخطإ وان كان لها بدل ، وأما على قول المشهور ، من أن موجب العمد هو القصاص ، وانما تثبت الدية صلحا ، والصلح لا يتقيد بالدية ، بل يصلح بزيادة عنها ونقصان ففي دخوله في العبارة تكلف ، وقد يندفع بأنه حينئذ عوض القصاص الذي هو موروث عن المجني عليه ، وعوض الموروث موروث ، وربما أشكل من وجه آخر وهو أن الموروث انما هو القصاص وليس بمال ، فلا يتعلق به الحق المالي المترتب على مال الميت ، ويندفع بأنه بقبوله المعاوضة بالصلح على مال في قوة الحق المالي وزيادة ، انتهى.

أقول : الواجب هو تحقيق الحكم الشرعي في ذلك ، وأنه هل تدخل دية العمد في هذا الحكم أم لا؟ سواء دخلت في عبارة المصنف أم لا ، وتطويل هذا الكلام في تكلف دخولها تحت عبارة المصنف لا يجدى نفعا ، إلا مع قيام دليل على هذه القاعدة التي بنوا عليها ، وهو أن المعتبر من الثلث ما كان مالا للميت حال الوفاة ، دون ما تقدم عليها وما تأخر عنها ، مع انهم لم يستندوا فيه الى دليل ،

٤٢٩

والروايات الواردة في المسئلة كما عرفت موردها انما هو دية الخطأ لتصريحها بذلك ، ودية العمد سيما على القول المشهور من أنه لا ينتقل إلى الدية إلا بطريق الصلح الذي هو عبارة عن التراضي بمال زاد ، عن الدية أو نقص عنها مما هو خارج عن مقتضى قاعدتهم المذكورة ، إذ الظاهر أن هذا الصلح وما يترتب عليه متأخر عن وقت الوفاة البتة ، فلا يصدق عليه أنه مال الميت ، وقت الوفاة ، وقد صرح في الدروس بعدم اعتبار ما يتجدد بعد الوفاة ، وهذا الصلح وما يترتب عليه انما تجدد بعد الوفاة ، وإدخالها بهذه التكلفات التي ارتكبها وذكرها (قدس‌سره) ظاهر الضعف ، بل البطلان ، سيما مع ما عرفت من أن إثبات الأحكام الشرعية بهذه التخريجات الوهمية مما لا ينبغي النظر اليه ، ولا العروج عليه ، هذا بناء على قاعدتهم ، وأما بالنظر الى الأخبار فقد عرفت اختصاص موردها بدية الخطأ ، ونحوها الأرش ، إلا أنه قد ورد في جملة من الأخبار ما يدل على أنه يجب وفاء الدين من الدية ، وان أخذت صلحا ، كما

في رواية عبد الحميدين سعيد (١) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا وأخذ أهله الدية من ماله ، أعليهم أن يقضوا الدين؟ قال : نعم ، قلت : وهو لم يترك شيئا ، قال : إنما إذا أخذوا الدية ، فعليهم أن يقضوا الدين».

ورواية يحيى الأزرق (٢) «عن أبى الحسن عليه‌السلام في رجل قتل وعليه دين ولم يترك مالا فيأخذ أهله الدية من قاتله ، عليهم أن يقضوا دينه؟ قال : نعم ، قلت : وهو لم يترك شيئا؟ قال : إنما أخذوا الدية فعليهم أن يقضوا دينه».

وفي رواية أبي بصير (٣) «عن أبى الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام قلت : فان

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ١٩٢ ح ٤١٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ١١١ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٦٧ ح ٥٨٤. الوسائل ج ١٣ ص ١١١ ح ١.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ٨٣ ح ٢٦٤ عن على بن أبي حمزة. الوسائل ج ١٣ ص ١١٢ ح ٢.

٤٣٠

هو قتل عمدا وصالح أولياؤه قاتله على الدية ، فعلى من الدين؟ على أوليائه من الدية أو على امام المسلمين؟ فقال : بل يؤدوا دينه من ديته التي صالحوا عليها أولياؤه ، فإنه أحق بديته من غيره».

والأولان دلالتهما على المدعى من حيث الإطلاق ، والثالث صريح في ذلك ، ووجوب قضاء الدين منها انما هو من حيث كونها من جملة أمواله وان تأخر استحقاقها عن موته ، فكما يقضى منها ديونه ، تنفذ منها وصاياه ، ومن هنا صرح الأصحاب بأن الدية في حكم مال الميت ، سواء وجبت أصالة أو صلحا.

قال في المسالك : إذا قتل الشخص عمدا وعليه دين ، فإن أخذ الورثة الدية صرفت في ديون المقتول ووصاياه كغيرها من أمواله ، لما تقدم غير مرة من أن الدية في حكم مال الميت ، سواء وجبت أصالة أو صلحا الى آخر كلامه (زيد في إكرامه) ذكر ذلك في كتاب الديات ، وحينئذ يزول الإشكال بالنسبة إلى دخول دية العمد في الحكم المذكور.

وانما يبقى الاشكال فيما اعتبروه من اعتبار الثلث بوقت الوفاة ، مع أنه في صورة الصلح على القصاص بأخذ المال انما يكون متأخرا عن الوقت المذكور ، إلا أن ما ذكروه من الحكم المذكور انما هو من مجرد اصطلاحهم واتفاقهم ، وكيف كان فالعمل على ما دلت عليه الأخبار ، وافق كلامهم أم لا ، والله العالم.

المسئلة الثالثة : قد صرح الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بأنه لو أوصى بالمضاربة بتركته أجمع أو بعضها على أن نصف الربح للوارث ، ونصفا للعامل صح ، وظاهر هذا الكلام إنما صحة الوصية بالمضاربة على الوجه المذكور ، أعم من أن يكون الورثة كلهم من البالغين المكلفين ، أو الأطفال أو المجانين ، أو من القسمين معا.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بذلك ما رواه في الكافي عن محمد

٤٣١

بن مسلم (١) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه سئل عن رجل أوصى الى رجل بولده وبمال لهم ، وأذن له عند الوصية أن يعمل بالمال وأن يكون بينه وبينهم ، فقال : لا بأس به من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي».

ورواه الشيخان الآخران أيضا عن خالد بن بكير الطويل (٢) قال : «دعاني أبي حين حضرته الوفاة فقال يا بني : اقبض مال إخوتك الصغار واعمل به ، وخذ نصف الربح وأعطهم النصف ، وليس عليك ضمان ، فقدمتنى أم ولد أبي الى ابن أبي ليلى ، أن هذا يأكل أموال ولدي قال : فاقتصصت عليه ما أمرني به أبي فقال : ابن أبى ليلى ان كان أبوك أمرك بالباطل لم أجزه ، ثم أشهد علي ابن أبى ليلى إن أنا حركته فانا له ضامن ، فدخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فقصصت عليه قصتي ، ثم قلت له : ما ترى؟ فقال : اما قول ابن أبى ليلى فلا أستطيع رده ، وأما فيما بينك وبين الله عزوجل ، فليس عليك ضمان».

رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن الى خالد بن بكير المذكور وهو مجهول ، وصريح الرواية الثانية ، وظاهر الرواية الأولى كون المال المذكور للأطفال ، لأن ظاهر قوله في الأولى «أوصى الى رجل بولده وبمالهم» أي جعله قيما عليهم ووليا يقوم بتدبيرهم ، وهو ظاهر في كونهم صغارا كما لا يخفى ، ولأن الوصية بالبالغ غير صحيحة ، وإطلاق الوصية يحمل على الصحيحة ، وبذلك يظهر أن ما أطلقه الأصحاب لا يخلو من الإشكال ، الا أن يقال : ان يكون من قبيل العقد الفضولي ، فإن شاء الوارث البالغ أجازه ، وكان عليه الوفاء بمقتضاه من دفع الحصة إلى العامل ، ومع ذلك فهو عقد جائز له فسخه متى شاء ، لما تقدم من أن المضاربة من العقود الجائزة ، دون اللازمة ، وأما ان كان لمولى عليه ، فإنه

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٦٢ ح ١٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٩ ح ٥٩٠. الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٨ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٣٦ ح ٩١٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٩ ح ٥٩١ ، الكافي ج ٧ ص ٦١ ح ١٦. الوسائل ج ١٣ ص ٤٧٨ ح ١.

٤٣٢

لا إشكال في صحة المضاربة ، كما ينادى به قوله في موثقة محمد بن مسلم «لا بأس به ، من أجل أن أباه قد أذن له في ذلك وهو حي» ومرجعه الى أن الأب ولي جبرى فتمضى تصرفاته إذا لم تخرج عن الوجه الشرعي ، ويستمر الحكم بالصحة إلى بلوغ المولى عليه ، فإذا كمل كان له فسخ المضاربة ، لأنها عقد مبني على الجواز وتحديد الموصى لها بمدة لا ترفع حكمها الثابت لها بأصل الشرع وانما تظهر الفائدة في التحديد بمدة ، هو المنع من التصرف بعد تمام المدة ، لا التزام بها في تلك المدة مع كونها جائزة شرعا ، ولا يكون الفسخ بعد البلوغ تبديلا للوصية وتغييرا لها ، وهو منهي عنه ، لأن التبديل انما هو في العمل بخلاف مقتضاها ، وهنا ليس كذلك ، لأنه لما أوصى بعقد جائز فقد عرض العامل للفسخ في كل وقت ممكن ، عملا بمقتضاه ، فالفسخ لا يكون تبديلا للوصية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن ما ذكرناه من الوصية بالمال كلا أو بعضا هو المشهور.

وقال ابن إدريس في كتابه : وقد روي أنه إذا أمر الموصي الوصي أن يتصرف في تركته لورثته ويتجر لهم بها ، ويأخذ نصف الربح ، كان ذلك جائزا وحلالا له نصف الربح ، أورد ذلك شيخنا في نهايته ، إلا أن الوصية لا تنفذ إلا في ثلث ما كان يملكه الميت قبل موته ، والربح تجدد بعد موته ، فكيف تنفذ وصيته ، وقوله فيه وفي الرواية نظر ، انتهى.

وظاهره تخصيص الوصية بالتصرف بالثلث فما دونه ، دون ما زاد على ذلك وأنت خبير بأنه على ما قلناه من اختصاص الروايتين بما إذا كان المال لمولى عليه كالأولاد الصغار ، فإنه ليس في العمل بالخبرين كثير مخالفة لمقتضى الأصول الذي طعن به ابن إدريس ومن تبعه ، فإن ولاية الأب على أطفاله والوصية بهم وبما ينبغي في أموالهم مما لهم فيه المصلحة غير منكور ولا ممنوع شرعا ، وغاية ما ربما يقال : حصول التعريض في مالهم للتلف وهو غير قادح ، لأن الواجب على العامل مراعاة الحفظ ، وما فيه مصلحة العمل بالمال حسب الإمكان.

٤٣٣

ويؤيده ما ورد من جواز الاتجار به لليتيم من الولي رواية أبي الربيع (١) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون في يده مال لأخ له يتيم وهو وصيه أيصلح له أن يعمل به؟ قال : نعم كما يعمل بمال غيره ، والربح بينهما ، قال : قلت : فهل عليه ضمان؟ قال : لا إذا كان ناظرا له».

وبالجملة فإن المدار في العمل على الأخبار ، ولا يلتفت الى هذه الاستبعادات في مقابلتها ، ومع تسليم ما يدعونه من خروجها عن القواعد والأصول المقررة في باب الوصية ، فإنه يجب تخصيص تلك القواعد بها ، كما تقدم نظيره في غير مقام ، على أنه لا يخفى أن مورد الأخبار الدالة على أنه ليس للموصى أن يوصي بأزيد من الثلث وأنه يستحب أن يوصى بالأقل منه ، انما هو فيما إذا أوصى لنفسه أو غيره بشي‌ء من التركة ، واختص به عن الورثة بحيث أنه قد فات على الورثة ونقص من التركة ، كما علل به من أنه ليس له من ماله بعد الموت ، إلا الثلث.

وما نحن فيه هنا ليس من هذا القبيل ، فإنه لم يختص بشي‌ء من التركة ، ولم يأخذ منها شيئا ، وانما هذه الوصية بمصلحة ترجع إلى الورثة ليس له منها قليل ولا كثير ، وهذا المال الذي أوصى به سواء كان جميع التركة أو بعضها انما هو مال الورثة ، لم يخرج عن ملكهم بالوصية كما في غيره من الوصايا التي قاسوا عليها وقيدوها بالثلث ، بل هو باق على ملكهم ، وانما تعلقت الوصية بالتصرف فيه لأجل تحصيل مصلحة لهم ، وهو الانتفاع بالربح.

وقد عرفت أنه متى كانوا أطفالا ، فهو الولي عليهم ، والناظر في مصالحهم حيا وميتا ، وله بعد الموت الوصية بذلك ، وان كانوا بالغين فهذه الوصية لا تمضى عليهم ، فان شاؤا رضوا وان شاؤا أبوا وامتنعوا ، وأي منافاة في ذلك للقواعد المقررة عندهم.

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ٥٨ ح ٦.

٤٣٤

المسئلة الرابعة الظاهر أنه لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في أن الواجب المالي أعم من أن يكون مشوبا بالبدن كالحج أم لا ، كالزكاة والكفارات والخمس ونذر المال ، يجب خروجه من الأصل ، أوصى به أو لم يوص ، لتعلقه بالمال حال الحياة.

أما الواجب البدني المحض كالصلاة والصوم فإنه إنما يخرج من الثلث إذا أوصى به ، فيكون حكمه عندهم حكم التبرعات الموقوف إخراجها على الوصية بها من الثلث ، وقيل بخروجه من الأصل كالواجب المالي من غير فرق ، والأخبار بوجوب إخراج الواجب المالي وان كان مشوبا بالبدن من الأصل متكاثرة ، قد تقدمت في كتاب الحج وكتاب الزكاة والخمس وكتاب الديون.

أما الواجب البدني فلم أقف فيه على نص بنفي ولا إثبات ، لكن الظاهر أن مبنى كلام الأصحاب في الفرق بين الأمرين ، هو أن الواجب المالي ـ وان كان مشوبا بالبدن في بعض الأفراد ـ ، لما كان متعلقا بالمال حال الحياة وجب إخراجه بعد الموت من المال ، وتخرج الأخبار المشار إليها شاهدا على ذلك.

وأما الواجب البدني فإنه لما كان متعلقة في حال الحياة إنما هو البدن ، وبعد الموت مع عدم الوصية به يتعلق الخطاب به بالولي ، فمع عدم الولي وعدم الوصية لا دليل على وجوب الإخراج ، كما ادعاه ذلك القائل المتقدم ، ولنا في هذا المقام تحقيقات حسنة ، قد تقدمت في كتاب الصلاة في المطلب الثاني في القضاء عن الأموات في الباب الرابع في اللواحق من الكتاب المذكور (١) وكذا في كتاب الحج في المسئلة الثانية من المقصد الثاني في حج النذر (٢) وقد تضمنت دفع شبهات الأقوال المخالفة لما عليه الأصحاب مع تحقيق حسن في الباب.

واختلف الأصحاب في وجوب الوصية بالواجب البدني لو لم يكن وصي

__________________

(١) ج ١١ ص ٥٧.

(٢) ج ١٤ ص ١٩٦.

٤٣٥

يقضيه عنه ، قال في المسالك : والأقوى وجوب الوصية به على المريض ، كغيره من الواجبات ان لم يكن له ولي يقضيه عنه ، وربما قيل : بعدم وجوب الوصية به لأن الواجب فعله بنفسه أو بوليه لانتفاء الدليل على ما سوى ذلك ، وفيه أن علمه بوجوبه واستحقاق العقاب على ترك الواجب اختيارا مع قدرته على براءة الذمة منه يوجب وجوب الوصية ، ليخرج من العقاب بتركه ، فان دفع الضرر عن النفس واجب.

نعم لو كان فوات الواجب لا بتفريط كالغفلة عن الصلاة مع عدم القدرة على القضاء حال الوصية ، احتمل عدم وجوب الوصية ، إذ لا عقاب على ذلك التفويت ، ولا دليل على وجوب الوصية بالقضاء انتهى ، وفي الكفاية قال : الأقرب العدم.

أقول : الظاهر قوة ما اختاره في المسالك ، لظاهر الأخبار المتقدمة الدالة على أن الوصية حق على كل مسلم ، فان ظاهر لفظ «على» الوجوب ، كما ذكرناه في الفائدة الأولى من الفوائد التي ذيلنا بها تلك الأخبار ، ويزيد ذلك تأييدا ما ذكره شيخنا المشار اليه من التعليل ، فإنه جيد وجيه كما لا يخفى على الفطن النبيه ، وما قربه في الكفاية من العدم ضعيف.

إذا عرفت ذلك فاعلم إذا اجتمعت في الوصية حقوق واجبة مالية وبدنية ، وتبرعات ، فان الواجب المالي كما عرفت يخرج من الأصل ، وما عداه يخرج من الثلث مقدما للواجب البدني على المتبرع به ، مرتبا في الواجب البدني لو تعدد ، الأول فالأول ، تم المتبرع به كذلك ان قام به الثلث ، أو أجاز الوارث ، وإلا سقط ، ومع اجازة الوارث الجميع ، فالحكم كما ذكر ، ومع أجازته البعض يكون مخرجه عن الأصل ، فيبدأ به كالواجب المالي ، لكن لو ضاق المال عنها أعنى عن الواجب وعن المجاز ، قدم الواجب ، لاشتغال الذمة به ، ولو لم يكن فيها واجب بل الجميع من الوصايا المتبرع بها قدم الأول فالأول حتى يتم الثلث ، سواء رتب بينهما بلفظ «ثم» أو «الفاء» ، أو اقتصر على مجرد الترتيب الذكرى ، وان عطف

٤٣٦

بالواو فإنه في حكم ذلك ، والوجه فيه أن الوصية الصادرة أولا نافذة ، لوقوعها من أهلها ، وهكذا ما بعدها الى أن يستوفي الثلث ، فتبطل في الزائد.

أما لو جمع بأن ذكر أشياء متعددة ، ثم أوصى بالمجموع من غير أن يرتب في الوصية ، أو قال : أعطوا فلانا وفلانا وفلانا مائة ، أو قال : بعد الترتيب لا تقدموا أحدا على أحد ، ثم نقص الثلث في هذه الصورة ، فإنه يوزع النقص على الجميع بالنسبة ، كما في مسئلة العول.

والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام رواية حمران (١) المتقدمة في المسئلة الأولى «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى عند موته ، وقال : أعتق فلانا وفلانا حتى ذكر خمسة ، فنظرت في ثلثه فلم يبلغ أثمان قيمة المماليك الخمسة التي أمر بعتقهم ، قال : ينظر الى الذين سماهم ويبدأ بعتقهم فيقومون ، وينظر الى ثلثه فيعتق منه أول من سمي ، ثم الثاني ثم الثالث ، ثم الرابع ثم الخامس فان عجز الثلث كان ذلك في الذي سمي أخيرا ، لأنه أعتق بعد مبلغ الثلث ما لا يملك ، فلا يجوز له ذلك». ومورد الرواية وان كان انما هو الوصية بالعتق دون الوصية بغيره ، إلا أن ظاهر الأصحاب حيث استدلوا بها هنا عدم الفرق بين الأمرين.

قال في المسالك : واعلم أنه لا فرق في هذا الحكم بين العتق وغيره من التبرعات ، خلافا للشيخ وابن الجنيد حيث قدما العتق وان تأخر ، ولا بين أن يقع الترتب متصلا في وقت واحد عرفي ، أو في زمانين متباعدين كغدودة وعشية ، خلافا لابن حمزة حيث فرق بينهما ، فحكم في الأول كما ذكره الجماعة ، وجعل الثاني رجوعا عن الأول ، إلا أن يسعهما الثلث ، فينفذان معا وهو شاذ ضعيف المأخذ ، انتهى.

أقول : يمكن أن يستدل لما ذكره الشيخ وابن الجنيد بتقديم العتق على

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٩ ح ١٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٩٧ ح ٧٧٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٥٧ ح ١.

٤٣٧

غيره من التبرعات ، وان وقع متأخرا بما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله أرواحهم) عن محمد بن مسلم (١) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل حضره الموت فأعتق غلامه ، وأوصى بوصية وكان أكثر من الثلث ، قال : يمضى عتق الغلام ، ويكون النقصان فيما بقي». وأجيب عن ذلك بأنه محمول على تقديم العتق هنا من المنجزات ، لأنه وقع حال الحياة ، والمنجزات مقدمة على الوصايا.

نعم الخلاف فيها مشهور بأن مخرجها من الأصل أو الثلث ، وظاهر هذا الخبر لا يخلو من اشتباه في ذلك ايضا ، والتحقيق هنا أن الأخبار في هذه المسئلة أعنى مسئلة المنجزات بالنسبة إلى العتق وأن مخرجه من الأصل أو الثلث لا يخلو من اشتباه وتعارض ، كما أشار إليه أيضا المحدث الكاشاني في الوافي ، وأما غير العتق من المنجزات فالحكم فيه كما اخترناه من الخروج من الأصل من غير اشكال.

المسئلة الخامسة : لو أوصى لزيد بثلث من التركة ، ولعمرو بربع منها ، ولثالث بخمس منها صحت الوصية في الأول خاصة ، لاستيعابها الثلث ، النافذ بدون الإجازة ، ورعاية لما تقدم من الأول مع تجاوز الثلث ، وبطلت فيما عداه ، وقيل : ان الوصية المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها ، قال : الشيخ في الخلاف إذا أوصى لإنسان بثلث ماله ، ثم أوصى بثلث ماله لغيره ولم تجز الورثة ، فإن الوصية الثانية رافعة للأولى وناسخة لها ، واستدل بإجماع الفرقة والأخبار.

وقال ابن إدريس : إذا أوصى بثلث ماله لشخص ، ثم أوصى بثلث ماله لغير ذلك الشخص ، كان الثلث للأخير ، وتكون الوصية الثانية ناسخة للأولى ، لأن الإنسان لا يستحق من ماله بعد وفاته إلا ثلث ماله ، فإذا أوصى به لإنسان ، ثم أوصى به بعد ذلك لآخر ، فقد نقل الثلث الذي يستحقه من الأموال الى الثاني ، لأنه يعلم أنه لا يستحق سوى الثلث ، فإذا أوصى به ثم وصى به ، فقد رجع عن الأول ،

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٧ ح ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٩٤ ح ٧٨٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٥٨ ح ١.

٤٣٨

فهذا يعنى قول أصحابنا : أنه إذا أوصى بوصية ، ثم أوصى بأخرى فإن أمكن العمل بهما جميعا وجب العمل بهما ، وان لم يمكن كان العمل على الأخير.

فأما إذا أوصى بشي‌ء آخر ولم يذكر الثلث ، فان مذهب أصحابنا أن يبدأ بالأول فالأول ويكون النقصان ان لم يف الثلث داخلا على الأخير ، لأنه لما أوصى للأول ما قال أوصيت له بثلثي ، وكذا الثاني والثالث ، فظن أن ثلثه يبلغ مقداره جميع ما ذكره ، ويفي بما ذكره ، لأنه يعلم أنه ليس بعد موته سوى الثلث فإذا استوفاه دخل النقص على الأخير ، فهذا فرق بين المسئلتين ، فلا يظن ظان اتحادهما ، ولا أن مذهب أصحابنا أن الثانية ناسخة للأولى في جميع المواضع ، ولا أن الواجب البدأة بالأول فالأول في الجميع ، انتهى.

أقول : ما ذكره من الفردين المذكورين الذي يكون الحكم في أحدهما الرجوع بالوصية الثانية عن الأولى ، وحكم الآخر صحة الأول فالأول لا شك فيه كما هو المفهوم من كلام غيره ، وانما الكلام فيما فرضه أولا من قوله إذا أوصى بثلث ماله لشخص ، ثم أوصى بثلث ماله لآخر ، فان ذلك رجوع عن الوصية الأولى حسب ما ذكره الشيخ في الخلاف ، فإنه خلاف ما صرحوا به ، وما هو الظاهر من كلام المتأخرين ، فإن ظاهر كلامهم أن هذا لا يقتضي الرجوع ، بل يكون من قبيل ما يحكم فيه بصحة الوصية أولا فأولا ، وانما الذي يقتضي الرجوع اضافة الثلث الى نفسه مثلا ، كأن يقول ثلثي أو الثلث الذي أستحقه ، وأما مجرد ذكر ثلث المال من غير أن يضيفه الى نفسه ، فلا.

قال المحقق في الشرائع : لو أوصى لشخص بثلث ، ولآخر بربع ، ولآخر بسدس ولم يجز الورثة أعطى الأول وبطلت الوصية لمن عداه ، قال الشارح : انما صحت الوصية للأول خاصة لاستيعابها الثلث النافذ بدون الإجازة ، مع رعاية ما تقدم من وجوب تقديم الأول فالأول مع تجاوز الثلث ، ولا يتوهم هنا أن الوصية المتأخرة تقتضي الرجوع عما قبلها ، لأن الرجوع لا يثبت بمجرد الاحتمال ، بل

٤٣٩

لا بد له من لفظ يدل عليه ، ومجرد الوصية بما زاد على الثلث ثانيا وثالثا أعم من الرجوع عن الأولى وعدمه ، فلا يدل عليه.

أقول : قوله «ولا يتوهم هنا. الى آخره» خرج مخرج الرد على ما ذكره ابن إدريس ، والشيخ في الخلاف فيما قدمنا نقله عنهما ، ثم انه قال المحقق أيضا : ولو أوصى بثلثه لواحد ، وبثلثه لآخر ، كان ذلك رجوعا عن الأول الى الثاني ، قال الشارح : الفرق بين هذه المسئلة والتي قبلها الموجب لاختلاف الحكم أن الثلث المضاف الى الموصى هو القدر النافذ ، والنافذ فيه وصيته شرعا ، فإذا أوصى به ثانيا فقد رجع عن الوصية الأولى ، لأن ليس له ثلثان مضافان اليه على هذا الوجه ، فيكون بمنزلة ما لو أوصى بعين لواحد ثم أوصى به لآخر ، بخلاف قوله لفلان ثلث من غير اضافة الى نفسه ، فإنه متعلق بجملة المال من غير أن ينسب الى ثلث النافذ فيه الوصية ، فإذا أوصى بعده بربع لا يتبادر الى الفهم منه أنه نقض ذلك الثلث السابق ، بل الربع الذي هو خارج عن الثلث المتعلق بأصل المال ، وكذلك السدس ، فيكون وصايا متعددة لا تضاد بينها ، فيبدأ بالأول منها فالأول حتى يستوفي الثلث عند عدم الإجازة ، انتهى.

وهو كما ترى صريح فيما قلناه ، واضح فيما ادعيناه ، وبالجملة فإن مقتضى أنه ان كان الموصى به أشياء بعينه ، متغايرة أو مطلقة ومعينة ، فإنه يبدأ فيها بالأول فالأول ، ولا يكون الثاني رجوعا عن الأول ، سواء زاد الأول عن الثلث أو نقص عنه ، وتكون الفائدة أنه لو أجاز الوارث الجميع نفذت الوصايا كلها ، ومنه ما لو أوصى بثلث المال لشخص ، ثم أوصى بالثلث أو الربع لآخر ، بتقريب ما تقدم نقلة عن المسالك من قوله ، بخلاف قوله لفلان ثلث ، من غير اضافة الى نفسه الى آخره. وان اتحد العين كان الثاني رجوعا عن الأول ، لامتناع اتحاد الملكين في عين واحدة ، ومن هذا ما أضاف الثلث الى نفسه ، فيكون الثانية ناسخة للأولى قطعا ، بتقريب ما تقدم نقله عن المسالك من قوله أن الثلث المضاف الى

٤٤٠