الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

مسلم ، قال : ان الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة ، فيحيف في وصيته فيختم له بعمل أهل الجنة ، ثم قرأ ومن يتعد حدود الله وقال : تلك حدود الله». ان حمل على ظاهره من التحريم فالواجب تخصيصه بما زاد على الثلث ، فإنه لا يجوز له شرعا ، وهذا هو أوفق بظاهر الآيتين المذكورتين ، وان حمل على الكراهة المؤكدة فإنهم (صلوات الله عليهم) كثيرا ما يبالغون في النهي عن المكروهات بما يدخلها في حيز المحرمات ، وفي المستحبات بما يكاد يلحقها بالواجبات ، فيجب حمله على من بر وارثا على آخر ، وأن الأفضل المساواة بينهم ، وسيأتي تمام الكلام في هذا المقام ان شاء الله تعالى.

الخامس ـ ما تضمنته جملة من الأخبار المذكورة من أن من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروته وعقله.

الظاهر حمله على ما هو أعم من الوصية بالإقرار بالشهادتين ، وجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كما دل عليه خبر سليمان بن جعفر المتقدم والإيصاء بماله وعليه ، مما كان يتعلق به حال حياته ، ويذبه بنفسه من أطفال صغار أو أمور يريد إنفاذها بعد موته ، فإن الوصية لغة العهد ، يقال : أوصاه ووصاه عهد اليه ، فيعد الى من يعمد عليه من أخوانه المؤمنين أن يتصرف في أمواله بعد موته بما يقضى عنه ما وجب في ذمته مما قدمنا ذكره ، وان كان له أولاد صغار قائما مقامه في الولاية عليهم ، ويستحب له كما عرفت أن يوصى لبعض أرحامه وأقرباؤه وأن يشهد على ذلك جماعة من إخوانه كما تقدم في خبر سليمان المشار اليه على ايمانه وعقائده ، ويعهد إليهم أن يشهدوا له به يوم القيامة ، ويشهدهم على ما أوصى به من تلك الأمور الدنيوية مضافة إلى الأمور الأخروية.

والى بعض ما ذكرنا يشير ما رواه في الكافي عن مسعدة بن صدقة (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان أجلت في عمرك يومين فاجعل أحدهما لأدبك لتستعين به

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٧ ح ٣ ، روضة الكافي ص ١٣١ ح ١٣٢.

٣٨١

على يوم موتك ، قيل ، وما تلك الاستعانة قال تحسن تدبير ما تخلف ، وتحكمه».

ولا ريب أن ترك هذه الأمور المشار إليها وعدم الوصية بها موجب لما ذكروه عليهم‌السلام من نقصان المروة والعقل.

السادس ـ قال ابن إدريس في كتاب السرائر بعد نقل الخبر المشتمل على قوله «ما أبالي أضررت بورثتي أو سرفتهم ذلك المال» ما ملخصه : سرفهم بالسين غير المعجمة والراء غير المعجمة المكسورة والفاء ، ومعناه أخطأتهم وأغفلتهم ، لأن السرف الإغفال والخطأ ، وقد سرفت الشي‌ء بالكسر إذا غفلته وجهلته ، وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه وأعده أصحاب له في المسجد مكانا فأخلفهم فقيل له في ذلك فقال : مررت بكم فسرفتكم أي أخطأتكم وأغفلتكم الى أن قال : هكذا نص عليه جماعة أهل اللغة ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، وأبو عبيدة الهروي ، وأما من قال في الحديث سرقتهم ذلك المال بالقاف فقد صحف ، لأن سرق لا يتعدى الى مفعولين إلا بحرف الجر ، يقال سرقت منهم مالا ، وسرفت بالفاء يتعدى الى مفعولين بغير حرف الجر ، فملخصه ذلك ، انتهى.

أقول : فيه أن مرجع استدلاله لهم الى أن سرف يتعدى الى مفعولين بنفسه ، وسرق لا يتعدى الى مفعولين إلا بحرف الجر ، وهو في الحديث قد عدي الى مفعولين ، فيجب حمله على سرف بالفاء ، والا فمجرد ورود سرف بمعنى أخطائه وجهله لا يدل على ما ادعاه فإنه مسلم ، ولكن لا يلزم حمل الحديث عليه.

وأنت خبير بأن ما استند اليه مما ذكره مردود ، بأن الظاهر من كلام أهل اللغة أن سرف بالفاء انما يتعدى الى مفعول واحد أيضا ، وهو ظاهر صدر كلامه ، وان ادعى في آخره خلافه ، فإن الحكاية التي نقلها عن الأصمعي إنما تضمنت تعديه الى مفعول واحد كما هو في اللفظ الذي جعل بمعناه من قولهم أخطأتكم وأغفلتكم فان الجميع انما عدي فيه الى مفعول واحد ، وكذلك قوله وقد سرفت الشي‌ء بالكسر إذا أغفلته وجهلته ، فإنه انما حكاه متعديا الى مفعول واحد ، كاللفظين اللذين جعل بمعناهما.

٣٨٢

قال في القاموس : سرفه كفرح أغفله وجهله ، وهو ظاهر أيضا فيما قلناه ، على أن ما ادعاه من أن سرق بالقاف لا يتعدى الى مفعولين بنفسه مردود بما ذكره في كتاب المصباح المنير ، حيث قال : وسرق منه ما لا يتعدى الى الأول بنفسه ، وبالحرف الجر على الزيادة ، وظاهره كما ترى أنه يقال سرقته مالا ، وسرقت منه مالا ، فيتعدى الى المفعول الأول تارة بنفسه ، وتارة بالحرف على الزيادة.

وبذلك يظهر لك ضعف ما تكلفه (قدس‌سره) على أنه لا يخفى ما في الحمل على الفعل الذي ذهب اليه من الركاكة ، وذلك فان الغرض من هذا الكلام وسياقه في المقام هو المبالغة في المنع والزجر عن الحيف في الوصية ، والإضرار بالولد أو الوارث ، والمناسب لذلك انما هو لفظ سرق بالقاف ، فان محصل الكلام أن الإضرار بهم في الوصية بمنزلة سرقة ذلك من أموالهم المترتب عليه الإثم شرعا ، واشتغال الذمة بالمسروق حتى يرده الى صاحبه ، وحينئذ فلا يجوز ، وأما أخطأتهم وجهلتهم ، فان مناسبته فيه للمبالغة في الإضرار.

وبالجملة فإن كلامه (قدس‌سره) في نظري بمحل من القصور ، كما لا يخفى على من لاحظ ما ذكرناه في هذه السطور ، والله العالم.

والكلام في هذا الكتاب يقع في مقاصد :

المقصد الأول في الوصية :

وفيه مسائل الاولى : قالوا : الوصية تمليك عين أو منفعة ، أو تسليط على التصرف بعد الوفاة ، والمراد بالتسليط المذكور هو أن يوصى اليه بإنفاذ وصاياه ، والقيام بأطفاله ومجانينه وهي الوصايا ، وربما اقتصر بعضهم على تمليك العين أو المنفعة ولم يذكر التسليط على التصرف ، ومنشأ ذلك أن بعضهم أدرج الوصاية التي هي عبارة عن التسليط المذكور في الوصية ، فذكرها في تعريف الوصية ، وبعضهم جعلها قسما آخر برأسها ، وقسيما للوصية ، كالشهيد في الدروس ، فإنه جعل لكل

٣٨٣

من الوصية والوصاية كتابا على حدة ، وفي اللمعة قال بالأول ، فعرفهما بما ذكرناه والمفهوم من كلام أكثر الأصحاب أن الوصية عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول من الموصى اليه ، ان كان معينا ، وأما غيره كالفقراء مثلا فيقبل الحاكم الشرعي أو من ينصبه ، والظاهر في الثاني كما استظهره جمع من المتأخرين منهم شيخنا الشهيد الثاني في المسالك عدم التوقف على القبول ، وقد تقدم مثله في الوقف ، ثم انه على تقدير وجوب القبول في الأول فهل يكفى القبول الفعلي؟ الظاهر كما اختاره جمع من الأصحاب من الاكتفاء بذلك ، كالأخذ والتصرف فيه لنفسه ، وقد تقدم مثله في جملة من العقود المتقدمة.

وبذلك يظهر أن عده عقدا كما ذكروه لا يخلو من النظر ، إذ مقتضى ذلك وجوب الإيجاب والقبول اللفظين ، كما صرحوا به في العقود ، إلا أن يكون عقدا جائزا كما هو الظاهر ، ويؤيده ما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ من جواز رجوع الموصي ما دام حيا ، والموصى له كذلك ما لم يقبل بعد الوفاة ، وما ذكرنا من اشتراط الإيجاب والقبول اللفظين إنما هو في العقود اللازمة.

وكيف كان فظاهرهم ايضا أنه لا تشترط مقارنة القبول للإيجاب. قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، وهو مما يؤيد كونه جائزا لا لازما ، والإيجاب لا ينحصر في لفظ ، بل كل لفظ يدل على مقصوده ، كقوله أوصيت لفلان بكذا ، أو أعطوا فلانا بعد وفاتي كذا ، أو لفلان بعد وفاتي كذا ، وانما جعل قيدا بعد وفاتي في المثالين الأخيرين دون الأول ، لأن قوله في الأول أوصيت صريح في أن العطية انما هي بعد الوفاة ، فلهذا لم يحتج الى قيد ، بخلاف أعطوا فلانا أو لفلان فإنه يكون في الأول مشتركا بين الوصية وبين الأمر بالإعطاء في حياته ، وفي الثاني مشترك بينهما وبين الإقرار له بذلك ، فلا بد من قيد يصرف الكلام إلى الوصية ، فزيد فيه قوله بعد وفاتي.

إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنى لم أقف في الأخبار على ما يدل على وجوب

٣٨٤

القبول ، وان كانت الوصية لمعين ، بل ربما ظهر من إطلاقها العدم ، وأنه لا يتوقف على أزيد من الإيجاب بالألفاظ المذكورة ، إلا أنه خلاف ما يفهم من عامة كلامهم.

ومن الأخبار في ذلك صحيحة زرارة (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام في رجل أوصى بثلث ماله في أعماله وأخواله ، فقال : لأعمامه الثلثان ولأخواله الثلث».

وروى في التهذيب عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة قالت لأمها : إن كنت بعدي فجاريتي لك ، فقضى أن ذلك جائز وان كانت الابنة بعدها فهي جاريتها».

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الآتي ـ ان شاء الله تعالى ـ جملة منها ، فإنها غير مشتملة إلا على الإيجاب خاصة ، كما سيظهر ان شاء الله تعالى.

المسئلة الثانية : قال الشيخ في الخلاف : إذا أوصى له بشي‌ء فإنه ينتقل الى ملك الموصى له ، بوفاة الموصى ، وقال في المبسوط : إذا أوصى لرجل بشي‌ء فإن ملكه لا يزول عن ذلك الشي‌ء قبل وفاته بلا خلاف ، وإذا مات الموصى متى ينتقل الملك الى الموصى له؟ قيل : فيه قولان : أحدهما ـ ينتقل بشرطين ، وفاة الموصي وقبول الموصى له ، وإذا وجد الشرطان انتقل الملك عقيب القبول.

والقول الثاني ـ أنه يراعى ان قبل الوصية تبين انه انتقل اليه الملك بوفاته ، وان لم يقبل تبين أن الملك انتقل إلى الورثة بوفاته.

وقيل : فيه قول ثالث ـ وهو أن الملك ينتقل الى الموصى له بوفاة الموصي مثل الميراث ، ويدخل في ملك الورثة بوفاته ، فان قبل ذلك استقر ملكه عليه ، وان رد انتقل عنه الى ورثته ، قال : وهذا قول ضعيف ، لا يفرع عليه ، بل على الأول ثم قال بعد ذلك : الأقوى أن يقال. ان الشي‌ء الموصى به ينتقل الى ملك

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٥ ح ٣ ، التهذيب ج ٩ ص ٢١٤ ح ٨٤٥.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٠٠ ح ٧٩٧.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٤٥٤ الباب ٦٢ وص ٣٧٥ ح ١١

٣٨٥

الموصى له بوفاة الموصى ، وقد قيل : انه بشرطين بالموت وقبول الموصى له ، وقيل أيضا انه يراعى ، فان قبل علم أنه انتقل بالموت اليه ، وان رد على أنه بالموت انتقل إلى الورثة ، قال : وعلى ما قلناه لو أهل شوال ثم ذكر بعض الفروع الآتية ان شاء الله تعالى في المسئلة ، ونقل عن ابن الجنيد ما يدل على علل موافقته للشيخ في الخلاف.

وقال ابن إدريس : الأقوى في نفسي أنه لا ينتقل بالموت ، بل بانضمام القبول من الموصى له لا بمجرد الموت ، وقال في المختلف بعد نقل الأقوال المذكورة : والمعتمد أن نقول الوصية ان كانت لغير معين ، كالفقراء والمساكين ، ومن لا يمكن حصرهم كبني هاشم ، أو على مصلحة كمسجد أو قنطرة أو حج أو مدرسة أو غير ذلك لم يفتقر الى قبول ، ولزمت بمجرد الموت لتعذر اعتبار القبول من جميعهم ، فسقط اعتباره كالوقف عليهم ، وان كانت لمعين افتقرت الى القبول ، ولا يحصل الملك قبله ، لأن القبول معتبر فتحصيل الملك له قبل قبول لا وجه له مع اعتباره ، ولأنه تمليك عين لمعين ، فلم يسبق الملك القبول كسائر العقود ، ولأن الموصى له لو رد الوصية بطلت ، ولو كان قد ملك بمجرد الإيصاء لم يزل الملك بالرد كما بعد القبول ، ولأن الملك في الماضي لا يجوز تعليقه بشرط مستقبل ، لامتناع تقدم المشروط على شرطه ، انتهى.

وقال في المسالك : لا خلاف في توقف ملك الوصية على الإيجاب من الموصى لأنه أحد أركان العقد الناقل للملك ، أو تمام الركن ، حيث لا يعتبر القبول على بعض الوجوه ، وفي توقفه على موته ، لأن متعلقها هو الملك ، وما في معناه بعد الموت فقبله لا ملك ، وانما الخلاف في أن قبول الموصى له هل هو معتبر في انتقال الملك اليه بالموت؟ بمعنى كونه شرطا في الملك أو تمام السبب المعتبر بدونه أصلا ، ويعتبر في الجملة أعم مما ذكر أو لا يعتبر أصلا ، بل ينتقل اليه الملك على وجه القهر ، كالإرث لا بمعنى استقراره له كذلك ، بل بمعنى حصوله متزلزلا ، فيستقر

٣٨٦

بالقبول ، ويبطل استمراره بالرد ، وينتقل عنه إلى ورثة الموصي ، فهذه أقوال ثلاثة ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من راجع كلامهم في المقام ، وما وقع لهم من النقض والإبرام أن هذا البحث والاختلاف انما هو بالنسبة إلى الوصية لمعين ، من حيث اشتراط القبول فيها عندهم ، وأما فيما لم يشترط فيه القبول ، فإنه لا خلاف في الانتقال بمجرد الموت.

قال في المسالك : واعلم أن موضع الخلاف الوصية المفتقرة إلى القبول ، فلو كانت لجهة عامة كالفقراء والمساجد ، انتقلت إلى الجهة المعينة بالوفاة بغير خلاف حيث تكون الوصية نافذة ، انتهى.

وأنت خبير بأن المسئلة غير منصوصة ، ولهذا صارت محل الاشكال ومطرحا للقيل والقال ومنشأ هذا الاشكال والبحث في هذا المجال من حيث اشتراط القبول في الوصية لمعين ، وأنه لا يصح الوصية بدونه ، مع أنهم لم يوردوا له دليلا شرعيا ، ولا نصا مرعيا ، وانما عللوه بعلل اعتبارية ، وقد تتبعت ما حضرني من النصوص فلم أقف فيها على ما يدل على هذا الشرط ، وأنه لا تصح الوصية إلا به ، وربما ظهر من إطلاق كثير منها عدمه ومن ذلك صحيحة زرارة ورواية عبد الرحمن بن أبى عبد الله المتقدمتين.

وما رواه في الكافي والفقيه في الصحيح عن محمد بن قيس (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : رجل أوصى لرجل بوصية من ماله ثلث أو ربع فيقتل الرجل خطأ يعنى الموصي ، فقال : تجاز لهذه الوصية من (ماله) ومن ديته».

وبهذا المضمون أخبار أخر ، دالة على إخراج الوصية من الدية ، كما يخرج من الميراث.

وفي الصحيح عن محمد بن قيس (٢) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال ، قضى

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٦٨ ح ٥٨٨ ، الكافي ج ٧ ص ٦٣ ح ٢١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٠٧ ح ٨٢٢ (من ميراثه ومن ديته).

(٢) الكافي ج ٧ ص ٢٨ ح ١.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٢ ح ١ وص ٤٦٧ الباب ٨٠.

٣٨٧

أمير المؤمنين عليه‌السلام في مكاتب كان تحته امرأة حرة فأوصت له عند موتها بوصية ، فقال : أهل الميراث لا نجيز وصيتها له ، انه مكاتب لم يعتق ولا يرث ، فقضى بأنه يرث بحساب ما أعتق منه ، ويجوز له من الوصية بحساب ما أعتق منه ، وقضى في مكاتب أوصى له بوصية ، وقد قضى نصف ما عليه فأجاز له نصف الوصية ، وقضى في مكاتب قضى ربع ما عليه فأوصى له بوصية فأجاز ربع الوصية».

وبهذا المضمون أيضا أخبار عديدة وظاهر هذه الأخبار كما ترى أنه ينتقل الموصى به الى الموصى له ، وان لم يحصل القبول ، إذ لا إشارة في شي‌ء منها الى اشتراط القبول من الموصى له كما ادعوه ، وإطلاقها كما ترى شامل لما لو كان ثمة قبول أو لم يكن ، وعدم الاستفصال دليل العموم في المقال ، كما صرح به جملة علمائنا الأبدال ، ويؤيد ما ذكرنا ظاهر الآية ، أعني قوله سبحانه (١) «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ» وجواب العلامة ـ بحمل الآية على معنى وصية مقبولة والوصية بدون القبول ليست كذلك ، ـ لا يخرج عن المصادرة ، مضافا الى أن ما ذكره خلاف الظاهر ، وارتكاب التقدير والتأويل ، فرع وجود الدليل على القبول وبهذا يظهر أن ما ادعوه أيضا من كون الوصية من جملة العقود محل توقف واشكال لعدم الدليل عليه ، مع ظهور هذه النصوص ونحوها في عدم وجود القبول فيها ، ولو كان عقدا لوجب القبول ، ودل عليه دليل منها ، والأمر كما ترى بخلافه.

فإن قيل : انه لا تصريح في أكثرها بالموت أيضا ، بل ظاهرها حصول الانتقال بمجرد الوصية ، مع أنكم لا تقولون به ، قلنا : قد قام الدليل على أن للموصى الرجوع في الوصية ما دام حيا ، وهو مؤذن بعدم الانتقال عنه في حياته ، فوجب تخصيص إطلاق هذه الأخبار بذلك ، وأما القبول فلم يقم عليه دليل ، ليمكن تخصيصها به أيضا ، فيبقى الإطلاق بالنسبة إليه سالما من المعارض ، وحينئذ فإذا لم يقم دليل على اعتباره فإنه يرجع الحكم فيه الى حكم الوصية لغير معين.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ١١.

٣٨٨

نعم حيث ان ظاهرهم الاتفاق على أن للموصى له الرد ، وعدم القبول فينبغي أن تفرق بين الأمرين ، بأن الانتقال في غير المعين انتقال تام لازم ، وفي المعين انتقال متزلزل ، فبالقبول يستقر ويستمر ، وبعدم القبول تبطل ، ويعود إلى ورثة الموصي ، على أن للمناقشة أيضا طريق فيما ذكر ، وهو ان لموصى له الرد ، فانا لم نقف له على دليل ، وما المانع من كون ذلك كالميراث ، ليس له رده شرعا ، فان ظاهر الأخبار التي قدمناها ذلك ، إلا أن الخروج عما ظاهرهم الاتفاق عليه مشكل ، وكيف كان فالمسئلة غير خالية من الاشكال ، والاحتياط فيها مطلوب على كل حال.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد فرعوا على هذا الخلاف المتقدم فروعا عديدة :

أحدها ـ كسب العبد وثمر الشجرة ، وسائر زوائد الموصى به المتجدد بين الموت والقبول ، فان قلنا أنه يحصل الانتقال بالموت خاصة ، كما هو مذهب الشيخ في الخلاف ومن تبعه ، فهي للموصى له قبل الوصية أوردها ، لأن العين قد انتقلت اليه ، ونماءها تابع لها ، ولو ردها احتمل رد نماءها أيضا على الورثة تبعا لها ، واحتمل العدم ، لأن النماء ليس من الموصى به الذي يتخير بين رده وقبوله ، وهو قد ملكه بملك العين بعد الموت ، فلا يزول ملكه عنه ، ورد العين من حيث كونها موصى بها ، وهو لم يقبل الوصية لا يستلزم رد النماء ، لأنه ليس من الموصى به ، كما ذكرنا ، بل ملكه من جهة أخرى ، وسبب آخر.

وان قلنا انه لا يحصل الانتقال إلا بالقبول ، كما هو مذهب العلامة في المختلف ، فإن الزوائد والنماء في تلك المدة لا تكون للموصى له قبل الوصية بعد ذلك أو ردها ، لأنها تجددت قبل أن تدخل العين في ملكه ، وقبوله بعد ذلك لو قبل انما يوجب انتقال العين خاصة ، وهي الموصى بها.

بقي الكلام فيما إذا لم ينتقل للموصى له ، ففي مستحقها من الموصي ـ من

٣٨٩

حيث انها من جملة التركة فيقضى منها ديونه ، وينفذ منها وصاياه كالأصل ـ أو الورثة لحدوثها بعد زوال ملكه بالموت : وجهان أقربهما للاعتبار الثاني ، وان قلنا بالمراعاة والوقف ، صارت هذه الزوائد أيضا موقوفة ، فإن قبل فهي له وإلا فلا.

وثانيها ـ فطرة العبد الموصى به إذا حل وقت وجوبها بين الموت والقبول ، فعلى القول الأول تكون على الموصى اليه ، وملكها بالموت ، وعلى الثاني فليس على الموصى له شي‌ء ، لعدم الانتقال اليه ، وقبوله بعد ذلك لو قبل لا يستلزم الوجوب ، وقد فات وقته ، وعلى الثالث أيضا لا يلزم ، وعلي هذين القولين ، تسقط الفطرة هنا ، قالوا : وفي معنى الفطرة هنا المؤن المحتاج إليها بين القبول والموت.

وثالثها ـ أنه إذا زوج أمته حرا وأوصى له بها ، فعلى تقدير القول الأول وهو الانتقال بعد الموت فإنه ينفسخ النكاح من يوم الموت ، لدخولها في ملكه في ذلك الوقت ، فيبطل العقد السابق ، وعلى القولين الآخرين فان رد الوصية استمر النكاح ، لعدم ما يوجب بطلانه ، وان قبلها انفسخ النكاح على كل من القولين ، لكن يكون الانفساخ من يوم القبول على القول الثاني ، لأن دخولها في ملكه بعد القبول ومن يوم الموت على الثالث ، وهو المراعاة والتوقف ، لانكشاف ذلك بالقبول وتبينه به ، الى غير ذلك من الفروع المذكورة في كلامهم ، من أحب الوقوف عليها فليرجع الى مطولات الأصحاب.

المسئلة الثالثة : المشهور في كلام الأصحاب بناء على وجوب القبول في الوصية كما هو المتفق عليه ظاهرا في كلامهم ، أنه لا فرق بين وقوع القبول قبل وفاة الموصي أو بعدها ، أما قبل وفاة الموصي فلأنه قبل ما نقل اليه من الملك على الوجه الذي نقل اليه ، وان لم يكن في وقته ، والإيجاب هنا انما أفاد التمليك قبل وقت الانتقال ، إذ الانتقال إنما يحصل بالموت ، والقبول هنا وقع طبق هذا الإيجاب ، وأما بعد وفاة الموصى فلا اشكال ولا خلاف في اعتبار القبول لمطابقته

٣٩٠

للإيجاب الصادر من الموصي ، لأنه أوقع تمليكا مقرونا بالوفاة وقد حصلت الوفاة ، فقبل الموصى له ذلك.

ونقل عن جمع من الأصحاب منهم العلامة (قدس‌سره) اختصاص اعتبار القبول بهذه دون الأولى ، محتجين على عدم اعتباره في الصورة الأولى ، بأنه أوجب له بعد موته ، فقبل الموت ليس محلا للقبول ، فأشبه القبول قبل الوصية ، وكذا لو باعه ما يملكه بعد ، وبعدم المطابقة بين الإيجاب والقبول.

ورد ذلك بما أشير إليه في بيان الوجه في الصورة المذكورة ، وتوضيحه أن القبول لا يلزم أن يحصل به الملك ، وانما يحصل به تمام سببه ، وهو لا يوجب وجود مسببه ، لجواز تخلفه لفقد شرطه ، وهو هنا كذلك ، لأن الموت شرط في انتقال الملك والإيجاب كما وقع قبل زمان الملك ناقلا له في وقت متأخر ، فكذلك القبول ، والمطابقة حاصلة ، والفرق بينه وبين بيع ما يملكه واضح ، فان ذلك ممتنع شرعا إيجابا وقبولا وهنا لا مانع منه إلا بواسطة التخيل المذكور ، وهو غير مانع.

أقول : لا يخفى انه لو كان اعتبار القبول مستندا الى النصوص ، لكان الواجب النظر في ذلك النص ، وما يستفاد منه ، من عموم وخصوص ، إلا أنه ليس في المقام نص كما عرفت ، ولا دليل ، وليس إلا ظاهر كلامهم واتفاقهم على الحكم المذكور ، وحينئذ فليس هنا مسرح للنظر في تصحيح شي‌ء من القولين المذكورين إلا بهذه التعليلات الاعتبارية ، وقد عرفت ما في الاعتماد عليها من الاشكال ، فتبقى المسئلة في طامورة التردد والاحتمال ، وان كان ما علل به المشهور أقرب الى الاعتبار.

المسئلة الرابعة : قالوا : لو رد الوصية في حال حياة الموصي جاز أن يقبل بعد وفاته ، إذ لا حكم لذلك الرد ، وان رد بعد الموت وقبل القبول بطلت ، وكذا لو رد بعد القبض وقبل القبول ، ولو رد بعد الموت والقبول وقبل القبض قيل : تبطل ، وقيل : لا تبطل.

٣٩١

أقول : ينبغي أن يعلم أولا أنه لا خلاف كما عرفت آنفا في أن الملك في الوصية متوقف على الإيجاب والقبول وموت الموصي ، فبدون الثلاثة المذكورة لا يحصل الملك قطعا ، وانما اختلفوا في أن القبض مع ذلك هل هو شرط في تحقق الملك أم ليس بشرط.

فقيل : بالأول كالهبة والوقف ، لاشتراكهما في العلة المقتضية له ، وهو العطية المتبرع بها مع أولوية الحكم في الوصية ، من حيث ان العطية في الهبة وما في معناها منجزة ، وفي الوصية مؤخرة ، والملك في المنجز أقوى منه في المؤخر ، بقرينة نفوذ المنجز الواقع من الأصل على خلاف ، بخلاف المؤخر.

وقيل : بالثاني لأصالة العدم ، وعموم «الأمر بالوفاء بالعقود» الشامل لموضع النزاع ، وبطلان القياس ، من حيث خروج الهبة ونظائرها بدليل خاص وقد تقدم ، وهو لا يتناول الوصية ، والأولوية المذكورة لا تفيد الحكم المتنازع وأصل الخلاف واقع في المؤخر أيضا ، كما سيأتي ان شاء الله تعالى.

أقول : ويدل على ذلك ما رواه العباس بن عامر في الصحيح (١) قال : «سألته عن رجل أوصى له بوصية فمات قبل أن يقبضها ، ولم يترك عقبا؟ قال : أطلب له وارثا أو مولى فادفعها اليه ، قلت : فان لم أعلم له وليا ، قال : اجهد على أن تقدر له على ولي فان لم تجده وعلم الله منك الجد فتصدق بها» ، وهو صريح في المدعى كما ترى ، وهو أيضا طاهر فيما قدمنا ذكره من صحة الوصية أعم من أن يكون قبل أو لم يقبل ، وبذلك تظهر لك قوة القول الثاني ، وهو كون القبض ليس بشرط في ملك الوصية.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن من فروع الملك وعدمه عندهم رد الموصى له الوصية ، فإن وقع الرد بعد تحقق الملك لم يؤثر رده في إبطال الملك ، لأن الملك لا يزول باعراض صاحبه عنه.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٣ ح ٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٠٩ ح ٢.

٣٩٢

نعم ربما أفاد الإباحة في بعض الموارد إلا أن اباحة التصرف لا تقتضي زوال الملك ، وعلى هذا فإذا وقع الرد بعد الموت ، والقبول والقبض لا يؤثر شيئا ، لأن الملك هنا قد استقر ، وثبت إجماعا فلا حكم للرد اتفاقا ، وان وقع الرد بعد الموت والقبول وقبل القبض بنى الكلام على الخلاف المتقدم ، فان قلنا ان القبض شرط في الملك صح الرد قبله ، وبطلت الوصية ، وإلا فلا ، كما لو وقع بعده ، فإنه لا أثر له في البطلان ، وان وقع الرد بعد الموت وقبل القبول ، قبض أو لم يقبض ، بطلت الوصية ، لأن الملك لم يتحقق حينئذ ، فكانت الوصية من قبيل العقد الجائز إذا أبطله أحد المتعاقدين ، أو اللازم إذا رده أحدهما بعد الإيجاب وقبل القبول.

أقول : صحة الحكم هنا مبنية على تسليم شرطية القبول كما هو مسلم بينهم ، وأما على ما يظهر من الأخبار كما عرفت وستعرف ان شاء الله تعالى ، من أنه لا دليل عليه ، بل الدليل ظاهر في خلافه ، فإنه يحكم بالصحة وان وقع الرد قبل الوفاة ، سواء كان قبل القبول أم لا ، فالرد هنا عندهم لا حكم له ، فله أن يجدد القبول بعد ذلك ، لأن الرد في حكم العدم ، حيث لم يصادف محلا إذ التمليك لا يحصل إلا بعد الوفاة ، فرده هنا انما هو في معنى رد ملك غيره ، وهو غير معقول ، فيقع لاغيا ، لأنه وان قبله فالشرط لملكه موت الموصي إجماعا ، والفرق ـ بين الرد في هذه الصورة وبين الرد بعد الموت وقبل القبول ، في أن الأول لا حكم له ، بل له أن يجدد القبول ، وفي الثاني تبطل الوصية كما تقدم ، مع اشتراكهما في عدم حصول الملك فيهما ـ أن الملك بعد الموت وقبل القبول وان لم يحصل على وجه اللزوم الذي لا يؤثر الرجوع في زواله ، إلا أنه حاصل في الجملة ، باعتبار أن القبول كما تقدم كاشف عن الملك السابق ، أو جزء السبب ، فالملك حاصل في الجملة ، إلا أنه بقي موقوفا على القبول لا غير ، فالرد حينئذ واقع في محله ، وملخصه أن التمليك من الموصي قد حصل ، وبقي موقوفا على رضاه بذلك وقبوله ، فإذا رده تبين عدم الرضا والقبول ، فتبطل الوصية كما لو أوجب البائع البيع فرده المشترى ولم يقبل ، وهذا بخلاف

٣٩٣

الرد الواقع حال الحياة فإن الملك لم يحصل بالكلية وان قبل في تلك الحال.

هذا كله فيما لو تعلق الرد بالجميع ، أما لو رد بعضا وقبل بعضا فإنه يصح فيما قبله ، ويبقى الكلام في البعض الذي رده ، فبنى على الفروض المتقدمة من الرد في حال الحياة أو بعد الوفاة ، قبل القبول أو بعده ، مع القبض أو عدمه.

وبالجملة فإن الوصية لما كانت تبرعا محضا لم ترتبط أجزائها بعضها ببعض ، فكما يصح قبولها جميعا يصح قبول بعضها ، ويلزمه حكمه خاصة ، ويلزم الآخر أيضا حكمة المتقدم ، وهذا بخلاف البيع ونحوه من عقود المعاوضات ، فإن البائع لو باعه جملة فقبل المشتري بعضها ، وقع قبوله لاغيا ، لأن الغرض فيه مقابلة أجزاء العوض بأجزاء المعوض ، والبعض الذي اختص بالقبول غير مقصود للبائع إلا مقيدا بالجملة ، بخلاف التبرع المحض ، فان القصد إلى الجملة يتضمن القصد الى كل واحد من أجزائها منضمة ومنفردة ، ومن ثم لو أوصى بما زاد على الثلث ولم يجز الوارث بطل في الزائد ، وصح في قدر الثلث وان قبل الموصى له لعدم الارتباط الذي بيناه ، هكذا قيل.

وفيه نظر ، فان ما ادعى من أنه لو قبل المشترى بعض الجملة المباعة دون بعض وقع لاغيا ، لا دليل عليه شرعا ، وما علل به من هذا الوجه الاعتباري لا يصلح لتأسيس حكم شرعي ، ولو تم ما ادعوه من الارتباط بين أجزاء المبيع فلا يصح في بعض دون بعض ، للزم البطلان فيما لو باع ماله ومال غيره صفقة ، فيبطل البيع في الجميع ، مع أنه ليس كذلك ، بل يصح البيع في ماله ، ويختص البطلان بمال الغير ، ويوزع الثمن بالنسبة كما تقدم ذكره في محله.

وبه يظهر ما في قوله ومن ثم لو أوصى بما زاد على الثلث الى آخره حيث جعل مناط الصحة في الثلث خاصة ، والبطلان فيما زاد هو عدم الارتباط ، مع أن مثله كما عرفت وارد في المبيع ، وحينئذ فلا يتم ما ادعوه كليا.

وبالجملة فإن المدار في الأحكام الشرعية كيف كانت ، انما هو على النصوص الشرعية ، دون هذه التعليلات العقلية ، والله العالم.

٣٩٤

المسئلة الخامسة : الأشهر أنه لو مات الموصى له قبل القبول سواء مات في حياة الموصي أم بعد وفاته ، فان وارثه يقوم مقامه في قبول الوصية ، وتكون الوصية له كما كانت لمورثه ، إلا أن يرجع الموصي في الوصية.

ويدل على هذا القول ما رواه المشايخ الثلاثة (نور الله تعالى مراقدهم) في الصحيح عن محمد بن قيس (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لآخر والموصى له غائب ، فتوفي الذي أوصى له قبل الموصي ، قال : الوصية لوارث الذي أوصى له ، قال ومن أوصى لأحد شاهدا كان أو غائبا ، فتوفي الموصى له قبل الموصي ، فالوصية لوارث الذي أوصى له إلا أن يرجع في وصيته قبل موته». ومورد هذه الرواية انما هو موت الموصى له في حياة الموصي ، فلا يمكن الاستدلال بها على ما قدمنا من المدعى ، وحينئذ فينبغي أن يجعل المدعى انه لو مات الموصى له في حياة الموصي قبل القبول ، فهل تصح الوصية أم لا؟ فتكون الرواية المذكورة مستندا للقول بالصحة ، إلا أن ظاهرهم أن محل الخلاف هو الأعم كما حررناه ، وربما كان المستند في تعميم الحكم ما لو مات بعد موت الموصى ، هو الأولوية ، وفيه ما فيه.

وطعن في هذه الرواية في المسالك وقبله العلامة في المختلف ، بأن محمد بن قيس مشترك بين جماعة فيهم الضعيف والثقة ، قال في المسالك بعد نقل الرواية وهذه الرواية نص في الباب لو تم سندها ، إذ لا يخفى أن محمد بن قيس الذي يروي عن الباقر عليه‌السلام مشترك بين الثقة والضعيف وغيرهما ، فكيف تجعل روايته مستند الحكم ، إلا أن يدعوا جبرها بالشهرة على ما هو المشهور بينهم في ذلك ، وفيه ما فيه.

أقول : الذي صرح به جملة من محققي متأخري المتأخرين منهم سبطه

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ١٣ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٠ ح ٩٠٣ ، الفقيه ج ٤ ص ١٥٦ ح ٥٤١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٠٩ ح ١.

٣٩٥

السيد السند في شرح النافع وغيره أن محمد بن قيس هنا هو الثقة البجليّ ، بقرينة عاصم بن حميد الراوي عنه ، كما صرح به الشيخ في الفهرست ، وحيثما يوجد هذا السند فإنهم ينظمونه في سلك الصحيح ، وهذه المناقشة قد تكررت من شيخنا المذكور في المسالك في غير موضع ، وهو غفلة محضة.

وبالجملة فالخبر صحيح صريح في المدعى ، ثم ان أصحاب هذا القول عللوه أيضا زيادة على الخبر المذكور بناء على قواعدهم من التعليل بالعلل العقلية بأن القبول كان حقا للمورث فيثبت لوارثه بعد موته ، كباقي الحقوق الموروثة من الخيار والشفعة وغيرهما ، واعترضه في المسالك قال : وأما الاستدلال بكون القبول حقا للمورث ، ففيه منع كلية الكبرى المدعية ، أن كل حق يورث ان سلم أن القبول حق ، فان حق القبول لا يورث في سائر العقود إجماعا ، كما لو باع أو وهب فمات المشتري أو الموهوب قبل القبول ، فقبل الوارث ، وان كان على الفور ، فإنه لا يعتد به قطعا ، فكذا هنا ، انتهى.

أقول قد عرفت مما قدمناه آنفا أنه لا دليل على اعتبار هذا القبول الذي يدعونه ، ولا على كون الوصية عقدا يتوقف على الإيجاب والقبول ، كما هو المشهور بينهم ، بل ربما دل ظاهر الصحيحة المذكورة هنا مضافا الى ما سلف من الأخبار على أنه بمجرد الوصية قد حصل الانتقال الى الموصى له ، وثبت له الحق ، وان كان متزلزلا مراعى بوفاة الموصي ، إذ لا وجه للانتقال الى الوارث قبل موت الموصي ، إلا بالتقريب الذي ذكرناه ، وحينئذ فالموروث انما هو الوصية ، لا القبول الذي ادعوه كما في عنوان المسئلة ، فجعلوا محل الخلاف في أنه هل يورث القبول لو مات الموصى له قبل القبول أم لا؟ وصحيحة محمد بن قيس المذكورة ظاهرة فيما قلناه ، حيث قال عليه‌السلام في الجواب «الوصية لوارث الذي اوصى له» أي أنه لما أوصى الى ذلك الرجل فمات الموصى له فهي لوارثه ، ان لم يرجع الموصي فيها ، فالموروث هو الوصية ، لا القبول إذ لا دليل ، بل لا إشعار في شي‌ء من الأخبار به بالكلية ، والحمل على تقدير مضاف

٣٩٦

في الكلام يعنى قبول الوصية لوارث الذي أوصى له خلاف الظاهر ، والأصل عدمه.

ونقل عن جماعة من الأصحاب منهم ابن الجنيد والعلامة في المختلف القول ببطلان الوصية في الصورة المذكورة ، مستندين الى أن الوصية عقد يفتقر إلى إيجاب وقبول من الموجب له ، فيبطل بموته.

واستندوا مع ذلك الى صحيحة أبي بصير ومحمد بن مسلم (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن رجل أوصى لرجل فمات الموصى له قبل الموصى؟ قال : ليس بشي‌ء».

وفي الموثق عن منصور بن حازم (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل أوصى لرجل بوصية أن حدث به حدث فمات الموصى له قبل الموصي؟ قال : ليس بشي‌ء».

أقول : أنت خبير بما في هذين الخبرين من الإجمال ، وتعدد الاحتمال المانع من الاعتماد عليهما في الاستدلال ، قال في المسالك : والحق أن هاتين الروايتين لا صراحة فيهما في المطلوب ، لأنهما كما يحتملان أن الوصية لا شي‌ء يعتد به ، بمعنى بطلانها ، يحتمل إرادة أن الموت ليس بشي‌ء ينقض الوصية ، بل ربما كان الثاني أنسب بأسلوب الكلام ، وتذكير الضمير المستتر في الفعل ، وبه يندفع التنافي بين الروايات ، فيكون أولى ، انتهى.

والشيخ في التهذيبين حملهما على ما إذا رجع الموصي بعد موت الموصى له عن وصيته ، فاما مع إقراره على الوصية ، فإنها تكون لورثته ، قال : وقد فصل ذلك في خبر محمد بن قيس السابق ، ولا يخفى ما فيه من البعد عن الانطباق على سياق الكلام ، واحتمل في الوافي حملهما على ما إذا كان هناك قرينة تدل على ارادة الموصى له بخصوصه ، دون ورثته.

أقول : ويحتمل ولعله الأقرب حملهما على التقية كما ذكر في الوسائل ،

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ٢٣١ ح ٩٠٦ و ٩٠٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤١٠ ح ٤ و ٥.

٣٩٧

قال : لانه مذهب أكثر العامة ، وكيف كان فان الخبرين المذكورين لما عرفت لا يبلغان قوة المعارضة للصحيحة السابقة ، ولعله لأجل ذلك جعلهما في المختلف مؤيدين ، بعد أن علل البطلان بأن الوصية عقد يفتقر إلى الإيجاب والقبول ، قال : وقد بينا أن القبول المعتد به هو الذي يقع بعد الوفاة فصار الموت حينئذ فلا عبرة به ، انتهى.

وفيه ما عرفت ، وقيل هنا : قول ثالث بالتفصيل كما نقله في المسالك عن بعض الأصحاب ، من أنه خص البطلان بما إذا مات الموصى له قبل الموصي عملا بمدلول هاتين الروايتين ، قال : فلو مات بعده لم تبطل ، للأصل وعدم المعارض.

أقول : لا يخفى أن هذه الروايات المذكورة انما تعارضت وتصادمت في موت الموصى له في حياة الموصي ، فالصحيحة المتقدمة صريحة في الصحة والانتقال الى الوارث ، والروايتان الأخريان على ما عرفت ، من الإجمال والاحتمال ، وان ادعى منهما الدلالة على البطلان.

وكيف كان فان حكم موت الموصى له بعد موت الموصي غير معلوم من هذه الأخبار ، وحينئذ فيمكن أن يقال : ان مع موت الموصى له في حياة الموصي فالحكم الصحة ، عملا بالصحيحة المذكورة ، وأما بعد وفاته فالوجه في الحكم بالصحة أيضا هو ما ذكره هذا القائل بالتفصيل من أن الأصل الصحة ، ولا معارض هنا لها ، ويؤيده أيضا ما قدمناه في صدر المسئلة الرابعة (١) من صحيحة العباس بن عامر الدالة على موت الموصى له قبل قبض الوصية فأمر عليه‌السلام الوصي أن يطلب له وارثا ليدفع إليه الوصية ، وظاهر سياقها أن موته بعد موت الموصي كما هو محل البحث.

ورواية محمد بن عمر الساباطي (٢) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام يعني الثاني عن رجل أوصى الي وأمرني أن أعطي عما له في كل سنة شيئا ، فمات العم؟ فكتب عليه‌السلام أعط ورثته».

__________________

(١) ص ٣٩٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤١٠ ح ٣.

٣٩٨

وهذه الرواية أيضا ظاهرة في أن موت العم بعد موت الموصي ، لأنه مع حياة الموصي لم يتحقق الملك للموصي له ليأمر بالدفع الى ورثته ، ويؤكده أيضا أن المعطى والسائل انما هو الوصي الموصى إليه بتنفيذ الوصايا ، وهو لا يكون إلا بعد موت الموصي كما هو ظاهر ، وأما احتمال إرجاع الضمير في ورثته الى الرجل الموصي المسؤل عنه في صدر الخبر ، فمن الاحتمالات السخيفة التي لا ينبغي النظر إليها.

وبالجملة فإن هذين الخبرين ظاهران في أن مع موت الموصى له بعد وفات الموصي : فإنه لا ريب في صحة الوصية ، وأنها تدفع للموصى له ، ولوارثه ، لأنه استحقها وملكها بالوصية وتحرر الملك ، ولزم بموت الموصي ، ومدلولهما غير ما دلت عليه الأخبار المتقدمة ، فلا تنافي بين الجميع ولا تعارض ، لان مدلول تلك كما عرفت موت الموصى له في حياة الموصي ، ومدلول هذه بعد موت الموصي ، وبما ذكرناه لك يظهر ضعف القول بالتفصيل المذكور ، لأنه مبني على دلالة الروايتين المتقدمتين على بطلان الوصية ، وقد عرفت ما فيه ، وأن الأصح هو الصحة للصحيحة المتقدمة وعدم صراحة هاتين الروايتين المذكورتين في المنافاة ، بل الظاهر من جميع هذه الروايات التي أوردناها في المقام هو الصحة ، سواء مات الموصى له في حال حياة الموصي أو بعد موته بالتقريب الذي شرحناه.

وبه يظهر أيضا ضعف القول بالبطلان كما ذهب إليه في المختلف ، لدلالة هذين الخبرين على الصحة في صورة موت الموصى له بعد موت الموصي ، ودلالة صحيحة محمد بن قيس على الصحة قبل موته ، وهو قد حكم بالبطلان في الموضعين ، والله العالم.

المسئلة السادسة : قال المحقق في الشرائع : فرع لو أوصى بجارية وحملها لزوجها وهي حامل منه ، فمات قبل القبول ، كان القبول للوارث ، وإذا قبل ملك الوارث الولد ، ان كان ممن يصح له تملكه ، ولا ينعتق على الموصى له ، لأنه لا يملك بعد الوفاة ، ولا يرث أباه ، لأنه رق ، إلا أن يكون ممن ينعتق على الوارث الى آخره.

٣٩٩

قال في المسالك بعد ذلك : هذا فرع على المسئلة السابقة المتضمنة لكون القبول موروثا ، فإذا فرض كون الموصى به جارية وحملها ، والحال أن الحمل ولد الموصى له بتزويج أو غيره ، ففرض المصنف كون الموصى له زوجا غير لازم ، ويفرض كون الحمل رقا لمولى الجارية بالاشتراط على القول بصحته ، وحينئذ فإذا مات الموصى له قبل القبول وقلنا بانتقال حقه الى وارثه ، فقبل الوصية بهما ، ملك الجارية والولد ، ولا ينعتق الولد لأن أباه لم يملكه ، وانما انتقل ملكه الى الوارث ابتداء كما أشرنا إليه سابقا ، نعم لو كان ممن ينعتق على الوارث كما لو كان الوارث ابنا والحمل أنثى ، انعتق عليه ، انتهى المقصود من كلامه.

أقول : قد عرفت مما قدمناه أن ما يدعونه من القبول في هذا المقام مما لم يقم عليه دليل ، ربما دلت ظواهر الأخبار على عدمه ، وحينئذ فجميع ما يفرع على ذلك لا يخلو من الاشكال ، ومنه ما ذكروه هنا من أنه كما أن للموصى إليه التخيير في القبول وعدمه ، كذلك يثبت للوارث التخيير في قبول الوصية وعدمه فلو مات الموصى إليه قبل القبول تخير الوارث بين القبول ، فيملك ما أوصى به وعدمه فلا يملكه ، والمفهوم من الروايات التي قدمناها في سابق هذه المسئلة هو أنه متى مات الموصى إليه في حياة الموصي أو بعد موت الموصي ، فإن الوصية تنتقل الى الوارث انتقالا موجبا للملك ، غير متوقف على شي‌ء إلا موت الموصي ان مات الموصى إليه في حال حياته ، فان ما اشتملت عليه صحيحة العباس بن عامر من أمره عليه‌السلام بطلب الوارث والدفع اليه ، ثم أمره بالصدقة عنه بعد تعذر الوقوف عليه أظهر ظاهر ، وأصرح صريح في الانتقال اليه من غير توقف على شي‌ء ، وإلا لكان الأنسب أنه حيث تعذر الوارث فإنه ترجع الوصية إلى ورثة الموصي ، لتعذر القبول الذي هو شرط عندهم بتعذر وجود الوارث ، مع أنه عليه‌السلام مع تعذر الوارث أمر بالصدقة عنه ، أو عن الموصى له ، أو عن وهو صريح في ملك الموصى له ووارثه من بعده ، بمجرد الوصية وموت الموصي ، وكذلك حكمه عليه‌السلام في رواية محمد بن عمر

٤٠٠