الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

المورد الثاني : قد صرح الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) بأنه يقتصر في جواز المسابقة على النصل والخف والحافر وقوفا على مورد الشرع ، وأنه يدخل تحت النصل السهم والنشاب والحراب والسيف ، وأن الخف يتناول الإبل والفيلة اعتبارا باللفظ وأنه لا تجوز المسابقة بالطيور ولا على القدم ، ولا بالسفن ولا المصارعة.

أقول : وتحقيق الكلام فيما ذكروه يقع في مقامات أحدها ـ أن ظاهر قولهم أنه يقتصر على هذه الثلاثة وقوفا على مورد الشرع هو أن هذه المعاملة على خلاف الأصل ، بمعنى القواعد الشرعية ، لاشتمالها على اللهو واللعب والقمار في بعض الوجوه ، وهذه الأشياء مما نهت منها الشريعة المحمدية ، فالأصل أن لا يصح منها إلا ما ورد الشرع بالاذن فيه ، وهو كلام حق ، إلا أنك قد عرفت أن ما قدمناه من الأخبار قد اشتمل على زيادة الريش والمراد به الحمام ، فيجوز المسابقة بها أيضا ، وعليه يدل الخبر الخامس والسادس والسابع (١) ، فهذه الأخبار الثلاثة كلها دالة على جواز المسابقة بالحمام ، والثلاثة التي خصوا الجواز بها لم ترد إلا في الخبر الحادي عشر (٢) خاصة ، والعجب هنا من قول شيخنا الشهيد الثاني في المسالك بعد قول المصنف أنه لا يجوز المسابقة بالطيور الى آخر ما قدمنا ذكره ، وجه المنع من هذه الأمور الحصر المستفاد من الخبر السابق المقتضي لنفي مشروعية ما عدا الثلاثة ، والنهي عنه الشامل لهذه الأمور وغيرها ، انتهى.

وعلى هذا النهج كلام غيره وظاهرهم الاتفاق على الحصر في الثلاثة المذكورة ، وأن غيرها غير منصوص في الأخبار ، وحملهم على عدم الوقوف على شي‌ء من هذه الأخبار ـ من الصدر السابق منهم كالشيخ الذي هو أول من صرح بهذا الحكم الى أن وصلت النوبة إلى هؤلاء المتأخرين ـ لا يخلو من بعد ، وأبعد منه أنهم يقفون عليها ولا يقولون بها ، ولا يتعرضون للجواب عنها بوجه من الوجوه.

__________________

(١) ص ٣٥٥.

(٢) ص ٣٥٦.

٣٦١

وأما ما استدل به من الحصر في الخبر المذكور فيمكن الجمع بينه وبين هذه الأخبار الدالة على جواز المسابقة بها على الحمل على الفرد الضروري منه الذي يعتد به من حيث يحتاج اليه الجهاد ، ونحوه ، أو يراد باعتبار الغالب ، فان الغالب من أفراد المسابقة هو هذه الثلاثة ، للعلة المذكورة ، وان جاز السبق في غيرها والأخبار المذكورة لا يمكن حملها على التقية ، ليتم ما ذكروه ، فان ظاهر قوله في الحديث السابع قال عمر : هو الشيطان بعد قوله عليه‌السلام لا بأس باللعب بالحمام الظاهر في إرادة المسابقة بها ، يشعر بأن العامة تنكر جواز اللعب والمسابقة بها ولهذا استدل عليه‌السلام على رد كلامهم بالخبر الذي نقله عن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الصريح في جواز المسابقة بها ، ولم أقف لأحد من أصحابنا حتى من متأخري متأخريهم على الجواب عن هذه الأخبار التي ذكرناها ، ولا على قول أحد منهم بها.

وبالجملة فالظاهر هو القول بما دلت عليه الأخبار المذكورة ويؤيده ما اشتملت عليه من عدم منافاة ذلك للعدالة وعدم كونه مستوجبا للفسق ، فان المراد باللعب بالحمام فيها إما المسابقة ، كما هو ظاهر الخبر السابع ، أو الأعم ، وإذا ثبت أن ذلك لا ينافي العدالة وجب الحكم بجوازه ، وأنه لا يكون من قبيل اللعب واللهو المنهي عنه المخل بالعدالة ، والموجب للفسق اتفاقا ، وهذا بحمد الله سبحانه ظاهر لا سترة عليه ، ولا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ، ومما يدل على ما قلنا ما رواه زيد النرسي (١) في كتابه «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول إياكم والرهان ، إلا رهان الخف والحافر والريش فإنه يحضره الملائكة».

وثانيها ـ أن ما ذكر من أنه يدخل تحت النصل الأربعة المعدودة ، ففيه أن ظاهر الصحاح هو اتحاد السهام والنشاب ، حيث قال : النشاب السهام ، وحينئذ فالعطف هنا يصير من قبيل عطف المرادف.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٦ الباب ٣ ح ١.

٣٦٢

وظاهر كلام الشيخ أن هذه التسمية بهذين الاسمين مع كون المسمى واحدا إنما هو باعتبار اللغات ، فيقال : للنصل نشابة عند العجم ، وسهم عند العرب ، وحينئذ فيكون العقد دائما هو بهذا الاعتبار ، وزاد الشيخ المرازيق قال وهي الرد بنيات والرماح والسيوف.

قال في المسالك : اعلم أن حصر النصل فيما ذكر هو المعروف لغة وعرفا ، فلا يدخل فيه مطلق المحدد كالدبوس وعصى المدافق ، إذا جعل في رأسها حديدة ونحو ذلك عملا بالأصل السابق ، قال في الصحاح : النصل نصل السهم والسيف والسكين والرمح ، ويحتمل الجواز بالمحدد المذكور ، اما بادعاء دخولها في النصل أو لإفادتها فائدة النصل في الحرب ، وقد كان بعض مشايخنا المعتمدين يجعل وضع الحديدة في عصى المدافق حيلة على جواز الفعل ، نظرا الى دخوله بذلك في النصل ، انتهى.

وثالثها ـ أنه لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) فيما ذكر من دخول الإبل والفيلة تحت الخف ، والفرس والبغل والحمار تحت الحافر ، وانما نقل الخلاف عن بعض العامة في الفيل؟ قال : لأنه لم يحصل به الكر والفر فلا معنى للمسابقة عليها ، ورد بعموم الخبر ، وكذا نقل الخلاف عن بعضهم في جواز المسابقة على البغل والحمار ، قال : لأنهما لا تقاتل عليهما غالبا ، ولا يصلحان للكر والفر ، ورد أيضا بما رد به سابقة.

أقول : لا يخفى أنه بالنظر الى ما قدمنا نقله عنهم ، من أن فائدة هذا العقد وتعلم السبق والرماية هو الممارسة لذلك ، لأجل جهاد أعداء الدين ، فان قول هذين القائلين من العامة هنا لا يخلو من قرب ، فان الجهاد لا يقع على هذه المذكورات لا سابقا ولا لا حقا ، ويؤيده أن الإطلاق في الأخبار انما يحمل على الأفراد الشائعة المتكثرة الوقوع ، دون الشاذة النادرة الوقوع ، فضلا عن غير الواقعة بالكلية ، ولهذا ان أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يركب في الحرب بغلة رسول الله

٣٦٣

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فعوتب على ذلك ، فقال : اني لا أوفر عن من أقبل ، ولا أتبع من أدبر ، والبغلة يكفني ، وهو ظاهر فيما قلناه من أنها لا تصلح للجهاد عليها ، ويؤكده أن الأخبار المتقدمة وهي أخبار المسئلة كملا لا يشمل على غير الخيل ، والنوق من ذوات الحافر والخف ، وليس فيها تعرض ولا اشارة لمثل الفيل والبغال والحمير بالكلية.

وبالجملة فإنه لولا الاتفاق على الحكم المذكور لكان القول بما ذكره هؤلاء قويا ، فإن الأخبار إذا ضم مطلقها الى مقيدها علم منه حمل الحافر على الخيل خاصة ، والخف على البعير خاصة ، وهكذا القول في البغل أيضا ، فإن ما ذكروه من تعدية الحكم الى ما يصدق عليه النصل من تلك المعاني ، مع كون الوارد في الأخبار المتقدمة انما هو السهام والنشاب التي ترمى عن القوس بعيد غاية البعد ، ويؤيد ما قلناه تفسيره في الخبر الحادي عشر الذي هو مستندهم في الحصر في الثلاثة النصل بالنضال وهي المراماة بالسهام كما تقدم ذكره ، وحينئذ فلو قيل بالتخصيص بذلك لكان في غاية الجودة.

ورابعها ـ ما ذكر من أنه لا يجوز المسابقة بغير ما تقدم من الطيور الى آخره.

أقول : أما الكلام في الطيور موضع وفاق عندنا ، وفيه تأييد لما قدمنا ذكره من عدم المسابقة على الفيلة والبغال والحمير ، لأنها ليست مما يقع الحرب عليها ، كما قدمنا ذكره.

وأما السبق على القدم فقد روى العامة عن عائشة أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سابقها بالقدم مرتين ، سبق في إحديهما وسبق في الأخرى ، ورواه ابن الجنيد في كتابه الأحمدي واستدل به على جوازها بغير عوض ، حيث لم يذكر العوض ، ورووا عنه (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أنه صارع ثلاث مرات في كل مرة على

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٧ الباب ٤ ح ٢ بتفاوت.

٣٦٤

شاة ، فصرع خصمه في الثلاث وأخذ ثلاث شياه ، ولم يثبت شي‌ء من ذلك في أخبارنا ولم يقل به إلا ابن الجنيد من أصحابنا قالوا والخبر السابق المتفق عليه يدفعه ، وأشاروا به الى الخبر الحادي عشر (١) وهو خبر الحصر في الثلاثة ، ثم انهم اختلفوا في جواز هذه الأمور لو خلت من العوض ، فقيل بجوازها لأصالة الجواز ، وأنها قد يراد بها غرض صحيح ، وقيل : بالعدم لعموم النفي السابق الشامل للعوض وعدمه.

والذي وقفت عليه في هذا المقام من الأخبار ما رواه الصدوق في الأمالي عن ابن المتوكل عن السعدآبادي عن البرقي عن أبيه عن فضالة عن زيد الشحام (٢) «عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال : دخل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذات ليلة بيت فاطمة عليها‌السلام ومعه الحسن والحسين عليهما‌السلام فقال له النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قوما فاصطرعا فقاما ليصطرعا وقد خرجت فاطمة عليها‌السلام في بعض حاجاتها فدخلت فسمعت النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وهو يقول : أبه يا حسن شد على الحسين ، فأصرعه ، فقالت يا أبه وا عجباه أتشجع الكبير على الصغير؟ فقال : يا بنية أما ترضين أن أقول أنا يا حسن شد على الحسين ، فأصرعه وهذا حبيبي جبرئيل عليه‌السلام يقول : يا حسين شد على الحسن فأصرعه».

وما رواه علي بن جعفر (٣) في كتاب المسائل عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن المحرم هل يصلح أن يصارع؟ قال : لا يصلح مخافة أن يصيبه جرح أو يقع بعض شعره.

وما رواه في كتاب بشارة المصطفى لشيعة المرتضى للشيخ الفقيه محمد بن أبى القاسم علي الطبري بسنده فيه عن أبي رافع (٤) قال : كنت ألاعب الحسن

__________________

(١) ص ٣٥٦.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥١٧ الباب ٤ ح ١.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٣٦٧ ح ١٠ ، الوسائل ج ٩ ص ١٨٠ الباب ٩٤ ح ٢.

(٤) المستدرك ج ٢ ص ٥١٧ الباب ٤ ح ٣.

٣٦٥

بن علي (صلوات الله عليهما) وهو صبي بالمداحي (١) فإذا أصابت مدحاتي مدحاته قلت : احملني فيقول : ويحك أتركب ظهرا حمله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأتركه فإذا أصاب مدحاته مدحاتي ، قلت له : لا أحملك كما لم تحملني فقال : أما ترضى أن تحمل بدنا حمله رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فأحمله».

وهذه الأخبار كما ترى ظاهرة في الجواز فيما اختلفوا فيه ، ولم أقف فيما حضرني من كتب اللغة على المعنى المراد من المدحاة هنا ، وبعض الأصحاب قد فرع الكلام على لفظ السبق في الخبر الحادي عشر ، فان قرئ بفتح الباء وهو المشهور في الرواية على ما نقله في المسالك فإنه يفيد عدم مشروعية العوض إلا في الثلاثة المذكورة ، ولا تعرض في الخبر حينئذ لما عدا صورة الخطر والعوض ، فيبقى على أصالة الجواز ، وان قرئ بالسكون على أن يكون مصدرا فإنه يفيد نفي المصدر مطلقا ، فيدل على المنع عدا المستثنى مطلقا.

وأنت خبير ، بأنه باعتبار تعارض الاحتمالين المذكورين لا يمكن الاستدلال بالخبر على المنع ، فتبقى أصالة الجواز خالية من المعارض ، وتخرج الأخبار المذكورة شاهدا على ذلك ، مضافا الى ما ذكر من الفوائد المترتبة عليها.

المورد الثالث : في أسماء خيل الحلبة وأسماء السهام وما يتبع ذلك ويلحق به ، والكلام هنا يقع في مواضع أيضا :

الأول ـ ينبغي أن يعلم ان الحلبة وزان سجدة هي الخيل تجمع للسباق وقد جرت عادتهم بتسمية غيره من خيل الحلبة ، وليس لما بعد العاشر منها اسم ، إلا أن الذي يجي‌ء في آخر الخيل كلها يسمى الفسكل.

فأول العشرة ، المجلى بالجيم وهو السابق أولا قيل سمى بذلك لأنه جلي عن

__________________

(١) النهاية الأثيرية ج ٢ ص ١٠٦ ومنه حديث أبى رافع «كنت الاعب الحسن والحسين (عليهما‌السلام) بالمداحي وهي أحجار أمثال القرصة ، كانوا يحفرون حفيرة ويدحون فيها بتلك الأحجار ، فإن وقع الحجر فيها قد غلب صاحبها ، وان لم يقع غلب ، والدحو : رمى اللاعب بالحجر والجوز وغيره.

٣٦٦

نفسه أي أظهره أو جلي همه حيث سبق ، والمشهور أن السبق يحصل بالتقدم بعنق دابته ، وكتدها يفتح التاء المثناة من فوق وكسرها ، وهي العالي بين أصل العنق والظهر ، ويعبر عنه بالكاهل ، وقال في الروضة : والكتد بفتح الفوقانية أشهر من كسرها مجمع الكتفين بين أصل العنق والظهر ، نقل عن ابن الجنيد أنه يكتفى في التقدم بالاذن

لقوله (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «بعثت والساعة كفرسي رهان».

كاد أحدهما أن يسبق الآخر بأذنه ، وأجيب مع تسليم ثبوت الخبر بالحمل على المبالغة ، وأن ذلك خرج مخرج ضرب المثل على حد

قوله من بنى مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة ، (٢).

مع امتناع مسجد كذلك.

ثم المصلي ، وسمى بذلك لأنه يحاذي برأسه صلوي المسابق ، والصلوان عبارة عن العظمين النابتين عن يمين الذنب وشماله.

ثم الثالث ، ووجه التسمية فيه ظاهر ، ثم البارع لأنه برع المتأخر عنه ، أي فاقة ، ثم المرتاح ، وهو الخامس قيل : سمي به لأن الاتاح النشاط ، فكأنه نشط فلحق بالسوابق ، ثم الخطى وهو السادس لانه خطى عند صاحبه حتى لحق السوابق أي صار ذا خطوة عنده الى نصيب أو في مال الرهان ، ثم العاطف وهو السابع ، لأنه عطف الى السوابق أي مال إليها ، وكر عليها ليلحقها ، ثم المؤمل وهو الثامن لأنه يؤمل اللحوق بالسوابق ، ثم اللطيم وهو التاسع ، وزان فعيل بمعنى مفعول ، لأنه يلطم إذا أراد الدخول إلى الحجرة الجامعة للسوابق ، ثم السكيت مصغرا مخففا ، ويجوز تشديده ، وهو العاشر سمى به لسكوت صاحبه إذا قيل لمن هذا أو لانقطاع العدد ، وقيل : ان السكيت هو الفسكل وهو آخر فرس يجي‌ء في الرهان.

قالوا : والمحلل وهو الذي يدخل بين المتراهنين ، ولا يبذل معهما عوضا بل

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل ج ٥ ص ٣٣١ وفيه مثلي ومثل الساعة كمثل فرسي رهان وفي الجامع الصغير ج ١ ص ١٢٦ «بعثت أنا والساعة كهاتين» وما عثرنا على نص الرواية المنقولة في المتن.

(٢) الوسائل ج ٢ ص ٤٨٦ ح ٢.

٣٦٧

يجرى فرسه بينهما أو على أحد الجانبين على وجه يتناوله العقد ، وحكمه أنه ان سبق أخذ العوض المبذول للسابق ، وان سبق لم يغرم شيئا ، وسمى محللا لأن العقد لا يحل بدونه عند ابن الجنيد والشافعي ، أو يحل به إجماعا بخلاف ما إذا خلى عنه ، فان فيه خلافا ، وسيأتي الكلام فيه ، ان شاء الله تعالى.

قالوا : والغاية مدى السباق ، ولا ريب أن غاية الشي‌ء منتهاه ، ومد السباق وان كان المتبادر منه مسافة السباق التي تجري فيها الخيل إلا أن المراد به لغة وعرفا انما هو بمعنى الغاية كما ذكروه ، فالمراد من مد السباق منتهاه وغايته ، لا مسافته ، فان في القاموس المدى كالفتى الغاية ، وقال في كتاب المصباح المنير : والمدى بفتحتين الغاية ، وبلغ مدى البصر : أي منتهاه وغايته.

ثم اعلم أنه قد عنون أكثرهم هذا الكتاب بكتاب السبق والرماية ، ومنهم المحقق في الشرائع ، وهو ظاهر في اختصاص السبق بالخيل والإبل ، والرماية بالسهام ، مع أنه قال بعد ذلك والمناضلة المسابقة ، والمراماة والمناضلة لغة انما هي الرمي ، قال الجوهري : ناضله أي راماه ، ويقال : ناضلت فلانا فنضلته ، إذا غلبته ، وانتضل القوم وتناضلوا أي رموا للسبق.

وقال في كتاب المصباح المنير : «ناضلته مناضلة ونضالا راميته ، فنضلته نضلا من باب قتل غلبته في الرمي» ، وهو ظاهر في تخصيص المناضلة بالرمي ، ولهذا قال في المسالك : وأما إطلاق المناضلة على ما يشمل المسابقة فليس بمعروف لغة ولا عرفا ، ولعل المصنف ومن تبعه في ذلك تجوزوا في الإطلاق ، وبعض الفقهاء عنون الكتاب بالمسابقة والمناضلة ، وهو الموافق لما نقلناه عن أهل اللغة ، ويشير الى ذلك كلامه في التذكرة حيث قال : والسباق اسم يشمل المسابقة بالخيل حقيقة وعلى المسابقة بالرمي مجازا ، ولكل واحد منهما اسم خاص ، فيختص الخيل بالرهان ويختص الرمي بالنضال ، وهو ظاهر في أن المناضلة حقيقة انما هي بمعنى الرمي.

الثاني ـ اعلم أن الفقهاء من الخاصة والعامة ذكروا في هذا الكتاب جملة

٣٦٨

من الاصطلاحات في أسماء السهام ، وما يتعلق بالرمي وهو مؤيد لما قدمناه من أن المراد بالنصل في الخبر المتقدم إنما هو هذا الفرد ، لا ما يطلق عليه لغة كما ذكروه.

قالوا : والرشق بفتح الراء الرمي ، وهو مصدر رشقه يرشقه رشقا ، إذا رماه بالسهام ، وبالكسر عدد ما يرمى به من السهام ، يقال : رمى رشقا بكسر الراء أي رمى بسهامه التي يريد رميها كلها.

قال في المصباح المنير : رشقته بالسهم رشقا من باب قتل ، وأرشقته بالألف لغة رميته به ، والرشق بالكسر الوجه من الرمي إذا رمى القوم بأجمعهم جميع السهام وحينئذ يقال : رمى القوم رشقا ، قال ابن دريد : الرشق السهام نفسها التي ترمي والجمع ارشاق مثل حمل وأحمال ، انتهى.

ولو حصل الاتفاق على رمي خمسة خمسة فكل خمسة يقال لها رشق ، ونقل عن بعض أهل اللغة أنه خصه ما بين العشرين والثلاثين ، ويقال رشق وجه ويد بكسر الراء ، ويراد به الرمي ولاء حتى يفرغ الرشق ، قال في المسالك : بمعنى أنه مشترك بين العدد الذي يتفقان عليه ، وبين الوجه من الرمي لذلك العدد ، فكما يقال : رموا رشقا أو عددا اتفقوا عليه ، كذلك يقال : رموا رشقا إذا رموا بأجمعهم في جهة واحدة.

قال الجوهري : الرشق الاسم ، وهو الوجه من الرمي ، فإذا رمى القوم بأجمعهم في جهة واحدة قالوا : رمينا رشقا ، والمراد برشق اليد هذا المعنى أيضا ، وإضافته إلى اليد ، كاضافته الى الوجه ، فيقال : رشق يد ورشق وجه إذا كانت جهة الرمي واحدة ، ويمكن مع ذلك إضافته إليهما كما يظهر من كلامهم.

الثالث ـ قد ذكر الفقهاء للسهم عند الإصابة للغرض أو صافا فنقل عن التذكرة أنه ذكر فيها أحد عشر اسما : وفي التحرير ستة عشر اسما ، ونقل في المسالك عن كتاب فقه اللغة تسعة عشر اسما ، وذكر المحقق في الشرائع منها ستة ، لكن ذكر الخمسة الأول جازما بالتسمية ، وأما السادس فنسبه إلى القول بذلك

٣٦٩

فقال : ويقال المزدلف ، وفي المسالك أنه ذكر ستة أوصاف وأردفها بسابع ، والمذكور انما هو خمسة ، كما سنذكره ان شاء الله تعالى واحدا واحدا وأردفها بسادس.

قال في المسالك : والغرض من ذلك اعتبار صفة في عقد الرماية ، فلا يستحق العوض المشروط أن يصيبه بما هو أبلغ منه.

أقول : ومما ذكره المحقق المشار اليه من الأسماء أحدها – الحابي بالياء أخيرا ، قال في كتاب المصباح : حبا الصبي يحبو حبوا إذا أدرج على بطنه وحبا الشي‌ء دنا ، ومنه حبا السهم الى الغرض وهو الذي يزحف الأرض ثم يصيب الهدف فهو حاب وسهام حواب ، انتهى.

والمراد أنه يقع دون الهدف ثم يحبو الى الغرض فيصيبه ، وقوله زلج على على الأرض أي زلق قال في القاموس الزلج محركة الزلق ويسكن ، وفي الصحاح مكان زلج بسكون اللام وتحريكها أى زلق والزلج الزلق وسهم زالج أي يزلج عن القوس.

وثانيها – الخاصر بالخاء المعجمة ثم الصاد المهملة ، وهو الذي يصيب أحد جانبي الغرض ، مأخوذ من الخاصرة ، لأنها في أحد جانبي الإنسان ، فهو بإصابته أحد جانبي الغرض كأنه أصابه في الخاصرة ، ولم أقف فيما حضرني من كتب اللغة على هذه التسمية ، سيما القاموس المحيط بجميع المعاني ، وان كانت موجودة في كتب الفقهاء ، قيل ويسمى أيضا جابرا ، وقيل : الجابر ما سقط من وراء الهدف ، وقيل : ما وقع في الهدف من أحد جانبي الغرض ، فعلى هذا ان كانت الإصابة مشروطة في الغرض فالجابر مخطئ ، وان كانت مشروطة في الهدف فهو مصيب.

أقول : ولم أقف أيضا على هذا الاسم أي نحو كان من هذه المعاني في القاموس ولا غيره مما حضرني من كتب اللغة.

وثالثها – الخازق بالخاء والزاي المعجمتين ، قالوا : وهو ما يخدش الغرض ، وظاهره أنه يثقب فيه ، وبذلك صرح في القواعد فقال : الخازق ما خدشه ، ثم

٣٧٠

وقع بين يديه ، وفي التحرير أنه ما خدشه ولم يثقبه ، الا أن كلام أهل اللغة على خلاف ذلك فإنهم صرحوا بأنه الذي ينفذ في الغرض ، قال في كتاب المصباح المنير وخزق السهم القرطاس : نفذ منه فهو خازق ، وجمعه خوازق ، والمراد بالقرطاس هنا الغرض ، أعم من أن يكون قرطاسا أو غيره ، مما ستقف عليه ان شاء الله تعالى.

وفي النهاية الأثيرية خزق السهم ، وخسق : إذا أصاب الرمية ونفذ فيها ، وسهم خازق وخاسق.

وظاهر الصحاح والقاموس هو مجرد الإصابة ، وهو أعم الأقوال الثلاثة ، قال في الصحاح في باب السين يسمى الغرض قرطاسا ، يقال : رمى مقرطس إذا أصابه ، وفي القاموس خزقه يخزقه طعنه ، والخازق السنان ، ومن السهام المقرطس ، وقال في الصحاح أيضا الخازق من السهام المقرطس ، والخاسق لغة في الخازق ، وهو موافق لما تقدم نقله من النهاية من ترادف هذين اللفظين ، ونقل في المسالك عن الثعالبي في كتاب سر العربية إذا أصاب الهدف فهو مقرطس ، وخازق ، وخاسق وصائب وهذا أيضا أعم من أن يخدشه أم لا ، ويثبت فيه أم لا ، وهو موافق لما تقدم نقله عن الصحاح والقاموس.

ورابعها – الخارق بالخاء المعجمة والراء المهملة ، وهو الذي يخرج من الغرض نافذا وهذا المعنى موافق لما هو المفهوم من حاق هذا اللفظ عرفا ولغة ، لأن الخرق الثقوب والشق ، سواء نفذ فيه أو سقط منه ، الا أن هذا الاسم غير موجود في جملة الأسماء المعدودة للسهام في غير هذا الكلام ، كما اعترف به في المسالك حيث قال بعد ذكر المصنف له وكلام في البين : لكنه ليس من أسمائه لغة ولم يذكره أحد من أصحاب الكتب الأربعة اللغوية السابقة ، ولا غيرهم ممن وقفت على كلامه ، وفي بعض نسخ الكتاب المارق بالميم بدل الخارق ، وهو الصواب الموافق لكلام أهل اللغة لقبا وتعريفا وفي التحرير جعل الخارق بمعنى الخاسق ، وقد تقدم وجعل الخازق بالزاي المعجمة مغايرا له كما مر خلاف ما

٣٧١

ذكره أهل اللغة ، ولو حمل في كلامه الخارق بالراء المهملة على الخازق بالزاء المعجمة ليكون مرادفا للخاسق كان موافقا لكلام أهل اللغة ، لكن ذكره بعد ، ذلك الخازق وتعريفه بأنه ما خدشه ولم يثقبه ، يوجب تعيين كونه بالزاء المعجمة لا الراء إذ لم يحصل فيما ذكره خرق ، والذي يظهر أنه وقع في التحرير ضرب من التصحيف والسهو عن تحرير كلام أهل اللغة ، لأن جعله الخازق مرادفا للخاسق موافق لكلام أهل اللغة ، لكن بشرط كونه بالزاء المعجمة ، ثم لما ذكر الخازق بعد ذلك كان حقه أن يكون بالمهملة فعرفه بما ينافي ذلك ، ويوافق تعريف المصنف في الخازق بالمعجمة ، فوقع الاضطراب ، وفي التذكرة جعل الخارق ما أثر فيه ولم يثبت ، والخاسق ما ثقبه وثبت فيه ، كما ذكره المصنف هنا في الخازق بالمعجمة ، فجعلهما متغايرين ، ولم يتحقق منه ضبط الراء ، ولا ذكر الأمرين ، فالالتباس فيه أشد لأنه ان جعل بالراء وافق كلام التحرير وخالف مفهومه لغة ، وان جعل بالزاء وافق كلامه في القواعد ، وكلام المصنف هنا ، وخالف كلامه أهل اللغة ، انتهى كلامه (زيد مقامه).

وخامسها – الخارم بالخاء المعجمة وهو الذي يخرم حاشية الغرض بأن يصيب طرفه فلا يثقبه ولكن يخرمه.

قال في المسالك أيضا : وهذا الاسم لم يذكره أيضا أهل اللغة ، وان كان مناسبا له ، وقد ذكروا للسهم أسماء أخر غير ما ذكر ، فتركنا ذكرها تبعا لاختصاره ، هذا ما ذكره المحقق في الشرائع.

ثم قال : ويقال المزدلف الذي يضرب الأرض ، ثم يثيب الى الغرض ، ونسبته الى القول المجهول ـ وعدم نظمه في سلك الخمسة المتقدمة ـ يؤذن بنوع توقف فيه ، وهذا هو السادس الذي أشرنا إليه آنفا ، وبذلك يظهر لك ما في كلام شيخنا في المسالك الذي قدمنا ذكره ، من أن المصنف ذكر هنا ستة ، وأردفها بسابع ، بل المذكور فيه انما هو خمسة ، مردفة بالسادس كما ذكرناه ، وأصل الازدلاف

٣٧٢

التقدم ، وخصه هنا بما يقع على الأرض ثم يتقدم الى الغرض ، وعلى هذا يكون مرادفا للحابى ، وبذلك صرح في القواعد أيضا ، فقال بعد تعريف الحابى : وهو المزدلف ، إلا أن المفهوم من كلام المحقق حيث ذكر الحابى أولا جازما به ، وذكر المزدلف أخيرا ناسبا له الى قيل : هو المغايرة ، ولعل ذلك بقوة الوقوع على الأرض في المزدلف أخيرا ناسبا له الى قيل : هو المغايرة ، ولعل ذلك بقوة الوقوع على الأرض في المزدلف للتعبير عنه بالضرب المقتضى لقوة اعتماده ، وضعفه في الحابي حيث اقتصر على مجرد زلفه على الأرض ، وبذلك يحصل التباين ، وهو الظاهر من التذكرة على ما نقل فيها حيث قال : فيها ان المزدلف أشد ، والحابى أضعف.

الرابع ـ قال : الغرض ما يقصد اصابته وهو الرقعة والهدف ما يجعل فيه الغرض من تراب وغيره ، وذلك فإنهم يرتبون ترابا أو حائطا ينصب فيه الغرض فيسمون ذلك التراب أو الحائط هدفا وما يصنعونه فيه من جلد أو قرطاس أو نحو ذلك لأجل الرمي يسمونه غرضا ، وبعضهم كما عرفت آنفا يسمى المنصوب في الهدف قرطاسا ، سواء كان كاغذا أو غيره ، وهو ظاهر في مرادفة الغرض والقرطاس ، وقد تقدم نقل ذلك عن المصباح المنير والصحاح.

وقد يجعل في الغرض نقش كالهلال يقال له الدائرة ، وفي وسطها شي‌ء آخر يقال له الخاتم ، والغرض من بيان الغرض والهدف والدائرة هو أن كلا من هذه الأشياء المذكورة محل للإصابة ، وربما كان شرط الإصابة وغرضها يتعلق بكل واحد من هذه المذكورات ، فان الإصابة في الهدف أو في الدائرة أضيق ، وفي الخاتم أدق ، وهذه المذكورات اصطلاح الرماة ، وعليها جرى الفقهاء في هذا الكتاب وأما المذكور في اللغة فإنه ظاهر في المرادفة بين الغرض والهدف ، قال في كتاب المصباح المنير : الغرض : الهدف الذي يرمي اليه ، والجمع أغراض وقال في القاموس : الغرض محركة الهدف يرمى فيه ، وفي الصحاح : الغرض : الهدف الذي يرمي فيه ، ثم انهم قالوا : المراماة قسمان مبادرة ومحاطة ، والمراد من المبادرة أن يتفقا على رمي عدد معين كعشرين سهما مثلا ، فمن بدر إلى إصابة عدد معين منها كخمسة ،

٣٧٣

فهو ناضل ، لمن لم يصيب أو أصاب ما دونه ، والمراد من المحاطة بتشديد الطاء أن يقابل أصابتهما من العدد المشترطة ويطرح المشترك من الإصابات : فمن زاد فيها بعدد معين كخمسة مثلا فناضل للآخر فيستحق المال المشروط في العقد.

أقول : والظاهر أن هذا أيضا من اصطلاح الرماة ، وعليه جرى الفقهاء ، فإنه لا وجود له في كلام أهل اللغة ، ولا في الأخبار التي قدمناها ، ولو بالإشارة ، وحيث أن جميع ما ذكر في هذا الكتاب زيادة على ما قدمناه كله من هذا القبيل ، فليس في ذكره إلا مجرد التطويل ، رأينا الاعراض عن التعرض له ، أوفق بالوقوف على الدليل ، والاشتغال بما هو أهم أولى وأتم ، سيما مع ندور وقوع المسابقة والمراماة في هذه الأوقات ، بل عدمها لعدم ما يترتب عليها من الفائدة في جملة الأزمان والإناث ونحن قد ذكرنا منها ما يتعلق بالأخبار التي قدمناها في المقام ، وما عداه مما لا نص عليه فهو عندنا في قالب الاعدام ، والله الهادي لمن يشاء.

٣٧٤

كتاب الوصايا

وهو جمع وصية واشتقاقها اما من وصى يصي أو أوصى يوصي أو وصى بالتشديد يوصى.

قال في كتاب المصباح المنير : وصيت الشي‌ء بالشي‌ء أصيه من باب وعد وصلته ، ووصيت الى فلان توصية وأوصيت إليه إيصاء وفي السبعة «فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ» بالتخفيف والتثقيل والاسم الوصاية بالكسر والفتح لغة ، انتهى.

واختار ابن إدريس المعنى الأول فقال الوصية مشتقة من وصى يصي ، وهو الوصل قال الشاعر : «ذو الرمة تصى الليل بالأيام حتى صلاتنا مقاسمة لسبق اتصافها السفر» ثم قال : ويقال منه أوصى يوصي ، ووصى يوصي توصية ، ونقل عن المحقق الشيخ علي (رحمة الله عليه) اختيار الثاني ، وعلى هذا فتسمية هذا التصرف وصية لما فيه من وصله التصرف في حال الحياة به بعد الوفاة ، هذا على المعنى الأول ، وعلى الأخيرين فالوصية بمعنى العهد ، يعنى أنه عهد اليه بتلك الأمور الموصى بها ، فإن الوصية لغة بمعنى العهد ، والأصل فيها الكتاب كما دلت عليه جملة من آياته والسنة ، والإجماع من الأمة.

ولنقدم في صدر الكتاب كما هي عادتنا فيما تقدم من الكتب والأبواب جملة

٣٧٥

من الأخبار الواردة في الوصية ، وما اشتملت عليه من الحث عليها ، المؤذن بالوجوب أو الاستحباب المؤكد.

فروى المشايخ الثلاثة عن الكناني (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : الوصية حق على كل مسلم».

وروى في التهذيب عن الشحام (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الوصية ، فقال : هي حق على كل مسلم».

وروى في الفقيه والتهذيب عن محمد بن مسلم (٣) في الصحيح قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام الوصية حق ، وقد أوصى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فينبغي للمسلم أن يوصى».

وروى في الكافي والتهذيب عن حماد بن عثمان (٤) في الصحيح أو الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال له رجل : اني خرجت إلى مكة فصحبني رجل وكان زميلي ، فلما أن كان في بعض الطريق مرض وثقل ثقلا شديدا فكنت أقوم عليه ثم أفاق حتى لم يكن عندي به بأس ، فلما أن كان اليوم الذي مات فيه أفاق فمات في ذلك اليوم ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ما من ميت تحضره الوفاة إلا رد الله تعالى عليه من سمعه وبصره وعقله للوصية ، أخذ الوصية أو ترك ، وهي الراحة التي يقال لها راحة الموت ، فهي حق على مسلم».

وروى في الكافي عن وليد بن صبيح (٥) قال : «صحبني مولى لأبي عبد الله عليه‌السلام يقال له «أعين» ، فاشتكى أياما ثم برء ثم مات فأخذت متاعه ، وما كان له فأتيت به أبا عبد الله عليه‌السلام وأخبرته أنه اشتكى أياما ثم برء ثم مات ، قال : تلك راحة

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣ ح ٤ ، التهذيب ج ٩ ص ١٧٢ ح ٧٠٢ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٤ ح ٤٦٢.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٧٢ ح ٧٠٣.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ١٣٤ ح ٤٦٣ ، لم نعثر في التهذيب عن هذه الرواية.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٣ ح ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٧٢ ح ٧٠٤.

(٥) الكافي ج ٧ ص ٣ ح ٢.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٥١ ح ٢ وص ٣٥٢ ح ٤ وص ٣٥١ ح ١ وص ٣٥٥ ح ٢.

٣٧٦

الموت أما أنه ليس من أحد يموت حتى يرد الله تعالى من سمعه وبصره وعقله للوصية أخذ أو ترك».

وروى المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن سليمان بن جعفر (١) قال في الفقيه : «وليس الجعفري» «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : من لم يحسن وصيته عند الموت كان نقصا في مروته وعقله ، قيل : يا رسول الله وكيف يوصى الميت؟ قال : إذا حضرته الوفاة واجتمع الناس اليه ، قال : اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ، اللهم إني أعهد إليك في دار الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، وأن البعث حق ، والحساب حق ، والصراط حق ، والقبر حق ، والميزان حق ، وأن الدين كما وصفت ، وأن الإسلام كما شرعت ، وأن القول كما حدثت ، وأن القرآن كما أنزلت ، وأنك أنت الله الحق المبين ، جزى الله محمدا عنا خير الجزاء ، وحيا الله محمدا وآل محمد بالسلام ، اللهمّ يا عدتي عند كربتي ويا صاحبي عند شدتي ويا وليي في نعمتي ، الهي وإله آبائي لا تكلني الى نفسي طرفة عين أبدا فإنك إن تكلني الى نفسي طرفة عين أقرب من الشر وأبعد من الخير ، فآنس في القبر وحشتي ، واجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا ، ثم يوصي بحاجته وتصديق هذه الوصية في القرآن في السورة التي تذكر فيها مريم في قوله عزوجل (٢) «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» فهذا عهد الميت ، والوصية حق على كل مسلم ، وحق عليه أن يحفظ هذه الوصية ويعلمها ، وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام علمنيها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : علمنيها جبرئيل عليه‌السلام».

ورواه السيد الزاهد العابد رضى الدين ابن طاوس في كتاب فلاح السائل

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٣٨ ح ٤٨٢ ، الكافي ج ٧ ص ٢ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ١٧٤ ح ٧١١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٣ الباب ٣ ح ١.

(٢) سورة مريم ـ الاية ٨٧.

٣٧٧

كما نقله عنه في البحار ، وفيه بعد قوله «يوم ألقاك منشورا» فهذا عهد الميت يوم يوصي بحاجته ، والوصية حق على كل مسلم قال أبو عبد الله عليه‌السلام وتصديق هذه في سورة مريم عليه‌السلام قول الله تبارك وتعالى «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً» وهذا هو العهد ، وقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعلي عليه‌السلام تعلمها أنت وعلمها أهل بيتك وشيعتك قال : وقال (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وعلمنيها جبرئيل.

وروى في الفقيه عن العباس بن عامر عن أبان عن أبى بصير (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من لم يحسن عند الموت وصيته كان نقصا في مروته وعقله ، وقال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أوصى الى علي ، وأوصى علي عليه‌السلام الى الحسن ، وأوصى الحسن عليه‌السلام الى الحسين ، وأوصى الحسين عليه‌السلام الى علي بن الحسين ، وأوصى علي بن الحسين عليه‌السلام الى محمد بن علي الباقر عليه‌السلام».

وروى في الفقيه والتهذيب عن أبي حمزة (٢) «عن أحدهما عليهما‌السلام قال : ان الله تعالى يقول : يا ابن آدم تطولت عليك بثلاثة : سترت عليك ما لو علم به أهلك ما واروك ، وأوسعت عليك ثم استقرضت منك فلم تقدم خيرا ، وجعلت لك نظرة عند موتك في ثلثك فلم تقدم خيرا».

وروى في الفقيه والتهذيب عن عبد الله بن المغيرة عن السكوني (٣) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام : ما أبالي أضررت «بولدي» أو سرقتهم ذلك المال» كذا في الفقيه وفي التهذيب قال «أضررت بورثتي» عوض ولدي.

وروى في التهذيب والفقيه عن السكوني (٤) «عن جعفر بن محمد عن

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٣٤ ح ٤٦٧. الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٧ ح ١.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ١٣٣ ح ٤٦١ وفيه «بثلاث» ، التهذيب ج ٩ ص ١٧٥ ح ٧١٢. الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٦ ح ٤.

(٣ و ٤) الفقيه ج ٤ ص ١٣٥ ح ٤٦٩ وص ١٣٤ ح ٤٦٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٧٤ ح ٧١٠ و ٧٠٨. وهذه الرواايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٦ ح ١ وص ٣٥٦ ح ٤ و ١ وص ٣٥٥ ح ٣.

٣٧٨

أبى جعفر عليهما‌السلام قال : من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرثه فقد ختم عمله بمعصيته».

وروى في المقنعة (١) مرسلا قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): الوصية حق على كل مسلم. قال : وقال عليه‌السلام ما ينبغي لامرء مسلم أن يبيت ليلة إلا ووصيته تحت رأسه» ، و «قال عليه‌السلام : من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية».

وروى الشيخ في كتاب المصباح (٢) قال : «وروى أنه لا ينبغي أن يبيت إلا ووصيته تحت رأسه».

وروى في الفقيه والتهذيب عن مسعدة بن صدقة (٣) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام الوصية تمام ما نقص من الزكاة».

وروى في الكافي عن محمد بن يحيى (٤) رفعه عنهم عليهما‌السلام قال : «من أوصى بالثلث احتسب له من زكاته».

وقال في كتاب الفقه الرضوي (٥) ، واعلم أن الوصية حق واجب على كل مسلم ، ويستحب أن يوصى الرجل لقرابته ممن لا يرث شيئا من ماله قل أو كثر وان لم يفعل فقد ختم عمله بمعصيته.

أقول : وفي هذه الأخبار الشريفة فوائد يحسن التنبيه عليها ، والتوجه إليها.

الأول ـ لا ريب في وجوب الوصية على من كان مشغول الذمة بواجب من دين أو حج أو زكاة أو خمس أو نحو ذلك من الحقوق الواجبة ، ويمكن أن تحمل الأخبار الدالة على أن الوصية حق على كل مسلم ، لا شعارها بالوجوب على ذلك ، فيجب تخصيصها بما ذكرناه من الأفراد ، ويمكن حملها على تأكد الاستحباب

__________________

(١ و ٢) الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٢ ح ٦ و ٥.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٧٣ ح ٧٠٦ ، الفقيه ج ٤ ص ١٣٤ ح ٤٦٤. الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٣ الباب ٢ ح ١.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٥٨ ح ٤. الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٣ الباب ٢ ح ٣.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٣ الباب ٢ ح ١ و ٣

(٥) المستدرك ج ٢ ص ٥٢٠ ح ٥.

٣٧٩

فتخص بغير ما ذكرناه من الأمور المستحبة.

الثاني ـ المستفاد من الخبرين الأخيرين من أنه ان كان في ذمته زكاة واجبة وأوصى بالثلث أو بعضه للفقراء أو في سائر أبواب البر فإنه يحسب له عما في ذمته من الزكاة الواجبة من حيث لا يشعر ، وهو من التفضل الإلهي ، وله نظائر كثيرة مر التنبيه عليها من أن الفعل إذا صادف الواقع في حد ذاته وان لم ينوه صاحبه فإنه يجزى عنه.

الثالث ـ ظاهر حديث السكوني المروي في الفقيه استحباب الوصية لذوي القرابة ممن ليس له حظ في ميراثه استحبابا مؤكدا ، وانما حملناه على الاستحباب وان كان ظاهره الوجوب ، لما رواه العياشي عن أبى بصير (١) في الصحيح عن أحدهما عليهما‌السلام في قوله تعالى (٢) «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ» قال : منسوخة ، نسختها آية الفرائض التي هي المواريث ، وبالاستحباب صرح في كتاب الفقه الرضوي ، مع تصريحه في آخر كلامه بأن ترك ذلك معصية ، وهو محمول على المبالغة ، وسيأتي ان شاء الله تعالى مزيد تحقيق في المقام.

الرابع ـ ما تضمنه حديث السكوني (٣) من قوله عليه‌السلام «ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتهم». ومثله ما رواه الراوندي في نوادره (٤) بإسناده «عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال علي عليه‌السلام : ما أبالي أضررت بوارثي أو سرقت ذلك المال فتصدقت به». وما رواه أيضا في الكتاب المذكور (٥) قال : «قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من مات على وصية حسنة مات شهيدا وقال : من لم يحسن الوصية عند موته كان ذلك نقصانا في عقله ومروته ، والوصية حق على كل

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٣٧٦ ح ١٥ ، العياشي ج ١ ص ٧٧ ح ١٦٧.

(٢) سورة البقرة ـ الاية ١٨٠.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٧٤ ح ٧١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٦ ح ١.

(٤ و ٥) المستدرك ج ٢ ص ٥١٩ الباب ٤ والباب ٥ ح ٢.

٣٨٠