الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

والتخيلات الموجبة لارتكاب جادة الاعتساب.

وأما العاشر فان فيه أن ما دل عليه ظاهر هذه الأخبار من تحريم الرجوع في الهبة وأنه كالرجوع في القي‌ء الذي لا خلاف في تحريمه لا قائل به على إطلاقه مع دلالة الأخبار الصحاح الصراح المتقدم ذكرها على جواز الرجوع في الهبة بعد القبض ، ما لم يعرض لها ما يوجب لزومها في تلك الصور المتقدمة.

وحينئذ فالواجب إما حمل هذه الأخبار على الكراهة المؤكدة كما ذكره الأصحاب ، أو العمل بظاهرها وتخصيصها بالصورة التي تلزم فيها الهبة ، ويحرم الرجوع بها ، وأما العمل بظاهرها فهو غير مستقيم كما هو ظاهر لذوي الفهم القويم.

حجة القول بالتفصيل : ـ بأنه ان كان التصرف موجبا لخروجها عن ملكه ، أو مغيرا للصورة كقصارة الثوب وطحن الحنطة ونجر الخشب وكذا الوطي فهي لازمة ، وان لم يكن كذلك كركوب الدابة ولبس الثوب وسكنى الدار فهي جائزة يجوز الرجوع فيها ـ الخبر الأول (١) الدال على أنه إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها ، وإلا فليس له الرجوع ، والتقريب فيه أنه مع تغير العين بطحن الحنطة وتقطيع الثوب ونجر الخشب ونحو ذلك ، لا يصدق بقاء العين لأن المتبادر منه بقاؤها على حالها وأوصافها التي قبضها المتهب عليها ، لا أصل الذات ومع خروجها عن ملكه لا يصدق بقاؤها عرفا ، لأن ذلك منزل منزلة التلف ، فضلا عن أصل الخروج عن الوصف ، وعلى هذا فتكون هذه الرواية مخصصة أو مقيدة لتلك الأخبار الصحاح المقدم ذكرها ، كما قيدوها بتلك الصور المتقدمة واعترض على ذلك في المسالك بأن الخبر المذكور لا يخلو من الإشكال في السند والدلالة ، أما السند فلعدم كونها من الصحيح ممن يعتبر عدالة الراوي بالمعنى المشهور ، يشكل عليه العمل بها.

وأما الدلالة فتظهر في صورة نقلها عن الملك مع قيام عينها بحالها ، فان اقامة

__________________

(١) ص ٣٠٠.

٣٤١

النقل مقام تغير العين أو زوالها لا يخلو من تحكم أو تكلف ، بل قد يدعى قيام العين ببقاء الذات مع تغير كثير من الأوصاف ، فضلا عن تغيير يسير ، قال : وأيضا فأصحاب هذا القول ألحقوا الوطي مطلقا بالتغيير ، مع صدق بقاء العين بحالها ، اللهم الا أن يدعى في الوطي عدم بقاء عينه عرفا وليس بواضح ، أو يخص بما لو صارت أم ولد ، فإنها ينزل منزلة التالفة من حيث امتناع نقلها عن ملك الواطئ وعلى كل حال فتقييد تلك الأخبار الكثيرة الصحيحة الواضحة الدلالة بمثل هذا الخبر الواحد البعيد الدلالة في كثير من مدعيات تفصيله لا يخلو من اشكال ، الا أنه أقرب من القول المشهور باللزوم مطلقا ، انتهى.

أقول ـ وبالله التوفيق الى سواء الطريق ـ : انه لا يخفى أن الطعن في الخبر المذكور بالسند غير مرضي ولا معتمد ، ولو على تقدير هذا الاصطلاح المحدث ، فإن جملة منهم قد عدوه في الصحيح ، حيث ان حسنه انما هو بإبراهيم بن هاشم الذي قد تلقوا أحاديثه بالقبول ، وان عدوه في الحسن ، فالمناقشة في السند ضعيفة واهية.

وأما في المتن فالتحقيق أن يقال : ان الخبر المذكور وان لم ينهض بالدلالة على ما ذكره القائل بالتفصيل في جميع ما أورده ، وادعى اللزوم بسببه ، الا انه ظاهر في البعض ، لانه من جملة ما عده من التصرف الموجب للزوم تقطيع الثوب ، ونجر الخشب ، وطحن الحنطة ، ومن الظاهر أن التصرف بهذه الأنحاء ونحوها لا يصدق معها قيام الهبة بعينها ، لما عرفت آنفا ، ففي هذه الحال لا يبعد القول باللزوم ، وإلحاق ذلك بالتلف ، وأما بالنسبة إلى نقلها عن الملك ، فالظاهر صدق قيامها بعينها ، كما اختاره شيخنا المتقدم ذكره ، فله حينئذ الرجوع فيها ، وظاهره في الدروس الحاقه بالتلف في اللزوم ، ومثل ذلك الوطي أيضا ان أرادوا به مطلق الوطي ، وان خصوه بالاستيلاد فإشكال ، لصدق بقاء العين الموجب للرجوع ، وحصول الاستيلاد المانع من النقل من ملك الواطئ.

٣٤٢

وبالجملة فالذي يظهر لي من الخبر المذكور هو إلحاق التصرف الموجب لزوال الصورة على النحو المتقدم بالتلف ، وأما ما عداه فلا ، إلا في الاستيلاد ، فإنه محل توقف ، وعلى تقدير القول باللزوم بالتصرف الناقل للملك ، ففي تنزيل موت المتهب وانتقال الهبة إلى الورثة منزلة التصرف الناقل قولان : أحدهما ـ العدم ، فيجوز الرجوع ، لأن هذا الانتقال لم يحصل بتصرفه ونقله ، والتصرف الذي هو الموجب للزوم عندهم غير حاصل ، فيبقى كغيره على الجواز الموجب لجواز الرجوع ، لدخوله تحت الأدلة المجوزة للرجوع.

وقيل : إنه منزل منزلته ، لأن انتقاله عنه بالموت بفعل الله تعالى أقوى من نقله بفعل المتهب ، وهو خيرة الشهيد في الدروس ، وشرح الإرشاد ، وقواه في الروضة.

وأنت خبير بأن مستند هذا القول أعنى بالتفصيل انما هو الخبر المتقدم كما عرفت ، وهو قد تضمن جواز الرجوع إذا كانت الهبة قائمة بعينها ، وإلا فلا ، وهو أعم من أن يكون عدم قيامها بعينها الموجب لعدم الرجوع مستندا الى فعل الله سبحانه ، أو فعل المتهب.

لكن يبقى الإشكال في أنه هل يصدق عدم قيامها بعينها على صورة الانتقال ، أم لا؟ وقد عرفت مما قدمنا نقله عن المسالك منع ذلك ، حيث نسبه الى التحكم وهو القول بغير دليل ، أو التكلف ، فيجوز الرجوع لصدق قيامها بعينها ، وكلامه في الروضة ظاهر في موافقته للشهيد ، فما اختاره مؤذن بصدق ذلك ، وأنه مع الانتقال يصدق عدم قيامها بعينها ، وهو خلاف ما ذكره في المسالك ، كما لا يخفى اللهم إلا ان يكون كلامه في الروضة مبنيا على المماشاة والتنزيل ، بناء على القول بذلك ، بمعنى أنا لو قلنا : بأن نقل المتهب الهبة إلى غيره موجب للزوم ، فهل يكون موت المتهب الموجب لنقل (الله سبحانه) لها كذلك أم لا؟ وحينئذ فيندفع عنه الإيراد ، والله العالم.

٣٤٣

المقام الثاني في جملة من أحكامها زيادة على ما سبق :

وفيه مسائل الأولى : إذا وهب وأقبض ثم باع الهبة من آخر فان كانت لازمة كما في الصورة المتقدمة ، فإن المبيع غير منعقد ولا صحيح ، لكونه تصرفا في ملك الغير بغير إذنه ، إلا أن يكون من باب البيع الفضولي على القول به ، فيتوقف على اجازة المتهب ان قلنا بصحته ، وإلا فلا ، وان كانت الهبة جائزة يجوز الرجوع فيها ، فهل يصح ويقوم مقام الرجوع فيها ، فيكون بيعا ورجوعا أم لا؟ بل لا بد من الرجوع أولا ثم البيع ، قولان. نقل ثانيهما عن الشيخ (رحمة الله عليه) في المبسوط ، وهو اختيار المحقق في الشرائع ، وبالأول صرح العلامة في الإرشاد والقواعد.

احتج القائل بالعدم بأن الهبة قد انتقلت الى ملك المتهب بالعقد ، وان كان انتقالا متزلزلا قابلا للزوال بالفسخ ، فبيعه قبل الفسخ وقع في ملك الغير ، لأنه باع ما لا يملكه.

احتج القائل بالصحة بأن الأصل صحة البيع ، وهو متضمن للرجوع ، والمسئلة خالية من النص ، إلا أن الأقرب بالنسبة إلى تعليلاتهم هو القول بالصحة وقول ذلك القائل أنه لا بد من الفسخ أولا وإلا لكان بيعا لما لا يملكه مردود ، بأنه لا ريب أن ارادة البيع وقصده قبل وقوع العقد ظاهر في إرادة الفسخ ويكون وقوع العقد كاشفا عن ذلك القصد ، فهو بيع بالنظر الى كشفه عن القصد والإرادة المتقدمين على العقد ، فيكون بيعا متضمنا للفسخ ، وأي مانع من ذلك ، والى هذا القول مال في المسالك ، وهو من حيث الاعتبار قوي ، وان كان من حيث عدم وجود النص في المسئلة لا يخلو من توقف ، ولو كانت الهبة فاسدة صح البيع إجماعا ، كما ادعاه في القواعد ، وهو مما لا اشكال فيه مع علمه بالفساد.

أما مع جهله وكون العقد عنده على الظاهر الصحة وان كان في نفس

٣٤٤

الأمر فاسدا فإشكال ، ووجه الصحة في الجميع على ما قالوا هو كونه عقدا من مالك جائز التصرف ، فيكون صحيحا.

ووجه العدم على تقدير جهله بالفساد أنه لم يقصد نقله عن ملكه لبنائه من حيث جهله بالفساد على أنه ملك لغيره فيكون إنما باع ملك غيره ، والعقود تابعة للقصود ، فلا يكون العقد معلوم الصحة ، وأجيب عنه بأن إيقاع العقد باللفظ الصريح كاف في الدلالة على القصد اليه شرعا ، كما في نظائره من العقود ، إذ لا يشترط في صحته العلم بكونه قاصدا الى ذلك اللفظ ، حيث يكون شرعيا بل يحمل إطلاق لفظه ـ حيث يتجرد عن قرائن عدم القصد ـ على كونه قاصدا.

أقول : والظاهر عندي أنه لا ضرورة الى هذه التكلفات المذكورة ، والتعليلات المسطورة ، بل الأقرب أن يجعل الكلام هنا على تقدير الجهل بفساد الهبة ، وانها بحسب الظاهر صحيحة كالكلام في سائر هذه المسئلة وهو صحة الهبة ، ولا فرق بينهما إلا بأن الهبة في الأولى صحيحة ظاهرا وواقعا ، وفي الثانية صحيحة ظاهرا لا واقعا ، وحينئذ فإذا كان الكلام هنا كالكلام ثمة ، وقد عرفت ثمة أن الأقرب هو الحكم بصحة البيع ، وكونه بيعا صحيحا ، فأولى بالصحة هنا ، حيث انه لا إشكال في صحة البيع مع العلم بالفساد ومع الجهل بالفساد ، حتى حكمنا بصحة البيع بناء على صحة الهبة ظاهرا ، وان كانت فاسدة واقعا تتأكد الصحة بظهور الفساد ، لما عرفت من أنه لا إشكال في الصحة مع العلم به فالبيع صحيح على التقديرين.

تتميم :

حيث انهم قد صرحوا بصحة البيع فيما لو كانت الهبة فاسدة في الواقع ، ونفس الأمر ، وان كانت صحيحة في الظاهر على ما تقدم من الإشكال في بعض الصور ، لما ذكروه من التعليلات التي أشرنا إلى بعضها ، صرحوا بأن من قبيل ذلك ما لو باع مال مورثه ، وهو يعتقد بقاءه بمعنى أنه يحكم بصحة البيع على تقدير ظهور

٣٤٥

موت المورث حالة البيع ، فإن البائع باع ما هو ملكه لحصول الشرط المعتبر في اللزوم ، وصدور البيع من مالك أمره ، ووجه البطلان في الموضعين اتحاد المسئلتين ، في أنه باع مال غيره بحسب الظاهر ، فيصير باطلا ، والقائل بالصحة هنا نظر الى وقوع البيع على ملكه واقعا ، حيث انه وقت البيع قد انتقل إليه بالإرث ، وان كان بحسب الظاهر أنه مال غيره ، لعدم علمه بالوفاة والانتقال اليه ،

واعترض ذلك في المسالك بناء على ما اعترض به في تلك المسئلة مما قدمنا الإشارة إليه ، فقال هنا أيضا : ويشكل بما مر من عدم قصده الى البيع اللازم ، بل انما قصد بيع غيره ، وأقدم على عقد الفضولي ، فينبغي أن يعتبر رضاه به مع ظهور الحال خصوصا مع ادعاء عدم القصد الى البيع على تقدير كونه ملكه ، ولعل هذا أقوى لدلالة القرائن عليه ، فلا أقل من جعله احتمالا مساويا للقصد الى البيع مطلقا ، فلا يبقى وثوق بالقصد المعتبر في لزوم البيع ، إلا أن يقال : ان المعتبر هو القصد الى بيع لازم وتوقفه على اجازة المالك أمر آخر ، والى مثل هذا نظر المصنف وجزم بصحة البيع ، ومثله ما لو باع مال غيره فظهر شراء وكيله له ، انتهى.

أقول : لا يخفى أن من باع مال غيره بغير اذنه ومنه بيع هذا الوارث مال مورثه بناء على حياته فإنه لا يخلو من أن يكون غاصبا أو فضوليا ، وعلى تقدير القول بصحة بيع الفضولي ، فإنه عندهم موقوف في لزومه على اجازة المالك ، وان عدمها يبطل ، والإجازة هنا غير ممكنة لظهور موته وقت البيع كما هو المفروض ، فيؤل الأمر إلى البطلان على كل من التقديرين ، هذا مع تسليم صحة البيع الفضولي وإلا فقد عرفت أن الحق فيه أنه باطل كما مضى تحقيقه في كتاب البيع بما لا مزيد عليه (١) وحينئذ فيبني الأمر في ذلك على أن التصرف الذي يكون بحسب الواقع شرعيا وان لم يكن بحسب الظاهر كذلك ، هل يترتب عليه ما يترتب على الشرعي ظاهرا وواقعا أم لا؟ وبعبارة أخرى موافقة الواقع وان لم يتعلق به

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٧٦.

٣٤٦

قصد ولا ارادة ، بل ربما تعلق القصد والإرادة بغيره ، هل يكون كافيا في الصحة أم لا؟ الظاهر من تتبع النصوص ذلك ، سواء كان في العبادات أو المعاملات ، ومنه ما ذكره من مثال من باع مال غيره فظهر شراء وكيله له ، بمعنى أنه ظهر أن بيعه قد صادف الصحة بحسب الواقع ، وان كان بحسب الظاهر غير صحيح ، فإنه لا إشكال في صحته ، ولهذا الباب في العبادات ـ التي لا ريب في أن الأمر فيها من المعاملات أشكل وأصعب ـ أمثلة كثيرة ، وناقش بعض فضلاء متأخري المتأخرين في الاكتفاء بموافقة الواقع اتفاقا إذا لم يكن مقصودا ، وقد تقدم الكلام معه في كتاب الصلاة في مسئلة من صلى في غير الوقت جاهلا (١) ولو تم ما توهمه من أن الاتفاق الخارج لا مدخل له في الأحكام الشرعية على الإطلاق كما زعمه ، لما أجزى الصوم آخر يوم من شعبان عن شهر رمضان متى ظهر كونه منه بعد ذلك ، ويسقط القضاء عمق أفطر يوما من شهر رمضان لعدم الرؤية في البلاد المتقاربة أو مطلقا على الخلاف في ذلك ، ويوجب الحد على من زنى بامرأة ثم ظهر كونها زوجته ، ويصح شراء من اشترى شيئا من يد أحد المسلمين ثم ظهر كونه غصبا ، ويوجب القضاء والكفارة على من أفطر يوما من شهر رمضان في الظاهر ثم ظهر كونه من شوال ، ويوجب القود أو الدية على من قتل شخصا عدوانا بحسب الظاهر ، ثم ظهر كونه ممن له قتله قودا ، ويوجب العوض علي من غصب مالا وتصرف فيه ثم ظهر كونه له ، الى غير ذلك من المواضع التي يقف عليها المتتبع ، واللازم أن يكون كلها باطلة اتفاقا ، وليس ذلك إلا من حيث الاكتفاء بمطابقة الواقع وان لم يكن مقصودا ، وما نحن فيه من قبيل ذلك ، وبذلك يظهر لك أن ما أطال به الكلام شيخنا المتقدم ذكره في المسالك بالنسبة إلى القصد في البيع وعدمه ، كله تطويل بغير طائل ، والحق في المقام هو ما حققناه.

ثم ما ادعاه في القواعد من الإجماع على صحة البيع لو كانت الهبة فاسدة كما

__________________

(١) ج ٦ ص ٢٨٧.

٣٤٧

قدمنا نقله عنه قد اعترضه في المسالك ، فقال : واعلم أن العلامة في القواعد ادعى الإجماع على صحة البيع بتقدير ظهور فساد الهبة ، وعطف عليه حكم ما لو باع مال مورثه ، والإجماع ممنوع ، مع أنه في كتاب البيع من الكتاب المذكور نقل الخلاف فيمن باع مال مورثه فبان موته ، وان استوجه الصحة ، انتهى.

أقول : من الجائز الممكن حصول الإجماع في مسئلة بيع ما ظهر فساد هبته مع الخلاف في المسئلة المعطوفة عليها ، بأن يكون عطفه عليها بناء على ما يختاره فيها ، لا بمعنى أنها مجمع عليها مثل الأولى ، والمسئلة الأولى لم يظهر فيها منازع سواه (قدس‌سره) فيما أعلم ، وهو لا ينافي دعوى الإجماع قبله ، فإنه مع مناقشته بما قدمنا ذكره عنه لم يذكر مخالفا سواه ، ولم يشر الى خلاف في المسئلة بالكلية كما هي عادته غالبا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنهم قد ألحقوا بالمسئلة المتقدمة فرعا آخر أيضا ، وهو أنه لو أوصى برقبة معتقة وظهر فساد العتق ، فإن الوصية تكون صحيحة ، لمصادفتها للملك بحسب الواقع من حيث فساد العتق ، وان كانت باطلة بالنظر الى الظاهر من حيث العتق الموجب للخروج عن الملك ، فالوصية لم تصادف الملك بحسب الظاهر ، فتبطل ، إلا أنه لما كان المدار انما هو على مصادفة الواقع ، والحال أنه لا عتق في الواقع كانت صحيحة.

قال في المسالك بعد ذكر نحو ما ذكرناه من الحكم بالصحة وبيان الوجه في ذلك : ويشكل بما مر ، ويزيد هنا أنه على تقدير كونه معتقا ظاهرا ولم يتبين له حال الوصية فساد العتق أنه لا يكون قاصدا إلى الوصية الشرعية ، بل بمنزلة الهاذل والعابث بالنظر الى ظاهر حاله ، فلا ينفعه ظهور ملكه بعد ذلك في نفس الأمر ، بخلاف من باع غيره فإنه قاصد إلى بيع صحيح شرعي ، غايته أنه جائز من قبل المالك ، لكنه لازم من قبل المشتري فهو عقد شرعي مقصود اليه ، وان لم يقصد الى لزومه مطلقا ، بخلاف الوصية بالعتق ظاهرا ، فإنها بحسب الظاهر باطلة

٣٤٨

ولا يتوجه قصده الى وصية شرعية أصلا ، لعدم علمه بها ، فالقول هنا بتوقفها على تجديد لفظ يدل على إمضائها متعين ، وهو في الحقيقة في قوة وصية جديدة ، إذ لا تنحصر في لفظ مخصوص ، بل كل لفظ يدل عليها كما سيأتي كاف وهذا منه ، انتهى.

أقول : لا ريب انه بالنظر الى الظاهر فالأمر كما ذكره من أنه بحسب الظاهر حيث لم يتبين له فساد العتق ، ثم لو وصى والحال هذه ، فإنه في معنى الهاذل أو العابث ، ولكن بالنظر الى الواقع حيث ان العتق فاسد في نفس الأمر وانه مالك فإنه لا مانع من الصحة ، لما قدمنا ذكره من أن مطابقة الواقع وان لم يتعلق به قصد بل ربما تعلق القصد بغيره كما عرفت من الأمثلة المتقدمة كاف في الصحة.

وما ذكره في الفرق بين بيع المذكور في الصورة الأولى والوصية من أنه في البيع قاصد الى بيع صحيح الى آخره ، ففيه أن جميع ما وصفه به ونوه به ، كله مراعى بإجازة المالك ، وأنه مع عدمها يكون العقد باطلا بلا خلاف ، والعقد المزبور قد وقع بعد موت المالك واقعا كما تقدم ، فالإجازة فيه متعذرة ، فتحتم أن يكون باطلا ، نعم لما اتفق واقعا كونه ملكا للبائع صح العقد بالنظر الى ذلك.

وبالجملة فإن هذا العقد بالنظر الى ظاهر الأمر وتصرف الوارث في مال مورثة بالبيع بناء على حياته قد ظهر كونه باطلا بعدم لحوق الإجازة له ، لكن لما اتفق انتقال ذلك الى الوارث واقعا وصار ملكا له وان لم يعلم به فقد صادف العقد ما يوجب صحته ، وان كان غير مقصود بل المقصود غيره كما عرفت في الصور المتقدمة ، وبعين هذا يقال في الوصية : فإنه لما أوصى بشي‌ء لا يملكه ظاهرا ، فإنها بحسب الظاهر باطلة لكن لما صادف في الواقع ما يوجب الصحة ، وهو ملكه للعبد لبطلان العتق حكم بصحتها بالتقريب المتقدم في أمثالها.

وبالجملة فالظاهر هو القول المشهور ، ومناقشاته (قدس‌سره) في جميع هذه المواضع لا تخلو من القصور ، والله العالم.

٣٤٩

المسئلة الثانية : قد صرحوا بأنه إذا تراخى القبض عن العقد ثم أقبض حكم بانتقال الملك من حين القبض لا من حين العقد ، وليس كذلك الوصية ، فإنه يحكم بانتقالها بالموت مع القبول ، وان تأخر القبض.

أقول : قد تقدم ذكر الخلاف سابقا في أن القبض هل هو شرط في اللزوم أو الصحة ، وأن المشهور بين المتأخرين هو الثاني ، والظاهر أن هذا الكلام مبني على هذا القول ، فان مقتضاه أن الملك لا يحصل إلا بعد القبض ، لكون العقد قبل القبض غير صحيح ، فلا يوجب الملك وأما على مذهب من قال : انه شرط في اللزوم فان العقد قبل القبض عنده صحيح ناقل للملك ، إلا أنه لا يلزم إلا بالقبض ، إلا أن هذا القول كما تقدم ذكره ، لا يخلو من الاشكال لما عرفت ثمة.

وبالجملة على تقدير القول بشرطيته في الصحة ، إنما يحصل الانتقال الى ملك المتهب بالقبض ، فيكون القبض ناقلا الملك لا كاشفا عن انتقاله بالعقد ، كما هو مقتضى القول باللزوم ، وتظهر الفائدة في مواضع ، منها النماء المتخلل بين العقد والقبض ، وأما الوصية فإنها تنتقل الى الموصى إليه بالقبول ، وموت الموصي ولا يشترط فيها القبض كما سيأتي تحقيقه في محله ان شاء الله تعالى ، وهذا هو الموافق لقواعد العقود ، الا أن الهبة خرجت عندهم بدليل خاص كما تقدم.

هذا والمفهوم من كلام بعضهم هو جواز تراخى القبض عن العقد ، والوجه فيه أصالة عدم الفورية لعدم الدليل عليها ، وفي القواعد استشكل في صورة تراخيه.

قال في المسالك : والاشكال مبني على القول بأن القبض شرط لصحة الهبة ، لا للزومها ، فيكون جزء من السبب المصحح لها كالقبول ، واعتبرت فوريته كما اعتبرت فورية القبول ، وفيه أن الجزئية لا تقتضي الفورية أيضا ، إذ لا امتناع في تراخي بعض أجزاء السبب عن بعض ، واعتبار الفورية في القبول جاء من دليل من خارج عند من اعتبرها ، نظرا منه الى أن جواب الإيجاب يعتبر فيه ما يعد معه

٣٥٠

جوابا ، ومع ذلك ففيه ما فيه كما لا يخفى ، انتهى.

المسئلة الثالثة : لو أقر بالهبة وأنكر الإقباض كان القول قوله ، لأنه منكر والأصل عدم الإقباض ، فإن ادعى عليه من أقر له بالهبة الإقباض ، لزمته اليمين في إنكاره الإقباض ، وانما كانت اليمين لازمة له في هذه الصورة دون الأولى ، بل يقبل قوله هناك بغير يمين ، لأن اليمين انما تكون لإنكار ما يدعيه المدعي ، فإذا لم يدع عليه الإقباض لا وجه للزوم اليمين عليه ، وان صدق أنه منكر قبل الدعوى المذكورة ، إذ ليس كل منكر يلزمه اليمين على الإطلاق ، بل لا بد من انضمام دعوى ما أنكره المنكر ، وهو مما لا خلاف فيه ، ولا شبهة يعتريه ، ولو أقر بالهبة والتمليك فقال : وهبته وملكته ولكن أنكر القبض فالإشكال ، ينشأ من بناء الكلام هنا على ما تقدم من الخلاف في أن القبض هل شرط لصحة الهبة ، فلا يحصل الملك بدونه ، أم شرط للزومها فيحصل بدونه ، وان كان ملكا متزلزلا يجوز رفعه بالفسخ ، وبيان ذلك أن الهبة تحصل بمجرد الإيجاب والقبول. والقبض أمر خارج عن ماهيتها ، وانما اعتبر في صحتها أو لزومها ، فإقراره بالهبة وقوله وهبته لا يدل على أزيد من وقوع وقوع الهبة بالإيجاب والقبول ، وأما القبض فلا دلالة له عليه وقوله ثانيا وملكته فان قلنا بأن القبض شرط في الصحة فمقتضى هذا الإقرار أنه أقبضه ، لأن الملك على هذا القول لا يحصل إلا بالإقباض ، فيحكم عليه بالإقباض حيث يقول وملكته ، فلا معنى لإنكاره الإقباض حينئذ ، هذا ان كان المقر ممن يرى هذا القول اجتهادا أو تقليدا ، أو ان كان ممن يرى أن القبض شرط في اللزوم ، وأن الملك يحصل بغير القبض ، فيجوز أن يكون إقراره إخبارا عن رأيه ومعتقده ، فلا يدل على الإقباض ، وذيل الكلام في المقام واسع ، من أراد الوقوف عليه فليرجع الى مطولات الأصحاب (رضوان الله عليهم) إلا أنه لما كانت المسئلة خالية عن النصوص ، فتطويل الكلام فيها بنحو هذه التعليلات تطويل بغير طائل والله العالم.

٣٥١

المسئلة الرابعة قالوا : إذا رجع الواهب في الهبة حيث يجوز له الرجوع فان وجدها بحالها لم تتغير ، فلا اشكال ، وان وجدها متغيرة معيبة لم يرجع بالأرش لأنه حدث في عين مملوكة للمتهب وقد سلطه مالكها على إتلافها مجانا فلا يكون مضمونة عليه ، سواء كان العيب بفعله أم لا ، وان وجدها زائدة زيادة متصلة كالسمن والتعلم فهي للواهب ، لأنها تابعة للعين ، بل داخلة في مسماها أو جزء لها لغة وعرفا ، فالرجوع في العين يستتبعها ،

وان وجدها زائدة زيادة منفصلة حسا وشرعا كالولد الناتج واللبن المحلوب والثمرة المقطوعة والكسب فهي للمتهب ، لأنها نماء حدث في ملكه ، فيختص به وان كانت الزيادة منفصلة حسا كالحمل المتجدد بعد القبض ، واللبن كذلك قبل أن يحلب والثمرة قبل قطافها ، فكذلك على المشهور ، لعين ما تقدم.

قال ابن حمزة : له الرجوع في الأم والحمل المتجدد ، بناء على انه كالجزء من الأم ، ومثله الصوف والشعر المنجز ، ولو لم يبلغ أو ان جزه ، فان الأشهر تبعيته للعين ، هذا كله إذا كانت الزيادة قد حدثت بعد ملك المتهب للعين ، وذلك بعد العقد والقبض ، وأما لو حدثت قبله فهي كالموجودة قبل الهبة ، فيرجع فيها كما يرجع في العين.

أقول ، قد تقدم الكلام في هذه المسئلة.

٣٥٢

كتاب السبق والرماية

السبق بسكون الباء مصدر سبق ، وفي الصحاح مصدر سابق ، قال في المسالك : وكلاهما صحيح ، إلا أن الثاني أوفق بالمطلوب هنا ، لأن الواقع في معاملته بين كون العمل بين اثنين فصاعدا فباب المفاعلة به أولى ، والسبق بالتحريك ما يبذل للسابق عوض سبقه ، ويقال له الخطر بالخاء المعجمة والطاء المهملة المفتوحتين.

قال في كتاب المصباح المنير : «والسبق بفتحتين الخطر» ، وهو ما يتراهن عليه المتسابقان ، وسبقته بالتشديد ، أخذت منه السبق ، وسبقته أعطيته إياه ، قال الأزهري : وهذا من الأضداد ، انتهى.

قالوا : وفائدته بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال ، لكونه من أهم الفوائد الدينية في الجهاد للأعداء الذي هو معظم أركان الإسلام ، وبهذه الفائدة خرج عن اللهو واللعب المنهي عنهما ، وعن المعاملة عليهما ، وأنا أذكر أولا ما وقفت عليه من الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام في هذا المقام ثم اشفعه بما ذكره علمائنا الأعلام (رفع الله تعالى درجاتهم في دار المقام).

٣٥٣

الأول ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (١)» عن أبى عبد الله عليه‌السلام أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أجرى الخيل التي أضمرت من الحفياء الى مسجد بنى زريق وسبقها من ثلاث نخلات فأعطى السابق عذقا وأعطى المصلي عذقا وأعطى الثالث عذقا». قوله عليه‌السلام «التي أضمرت» إضمار الخيل بعلفها القوت بعد السمن يقال : ضمر البعير ضمورا ـ من باب قعد ـ : دق وقل لحمه ، قيل ـ والضمار بالكسر ـ : الموضع الذي تضمر فيه الخيل ، ويكون وقيا للأيام التي تضمر فيها ، وتضمر الخيل أن يظاهر عليها بالعلف حتى تسمن ، ثم لا تعلف إلا القوت لتخف ، وذلك في مدة أربعين يوما وهذه المدة تسمى الضمار ، والموضع الذي تضمر فيه الخيل أيضا يسمى مضمار وقيل : هي أن تشد عليها سروجها وتجلل بالأجلة حتى تعرق تحتها ، فيذهب زهلها ويشتد لحمها ، والحفيا بالحاء المهملة ثم الفاء يمد ويقصر ، موضع بالمدينة على أميال ، وبعضهم يقدم الياء على الفاء كذا في النهاية ، وبنوا زريق بتقديم الزاء حي من الأنصار ، قوله «وسبقها من ثلاث نخلات» هو ما تقدم بفتحتين ، وهو الخطر الذي يقع الراهن عليه ، والعذق بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة النخلة بحملها.

الثاني ـ ما رواه في الكافي أيضا عن غياث بن إبراهيم (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عن علي بن الحسين عليه‌السلام أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أجرى الخيل وجعل سبقها أواقي من فضة». والأواقى بتشديد الياء وتخفيفها جمع أوقية ، وهي أربعون درهما ، ويقال : أيضا لسبعة مثاقيل.

الثالث ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (٣) قال : «قد سابق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أسامة بن زيد وأجرى الخيل» فروي أن ناقة النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سبقت ، فقال عليه‌السلام : انها بغت وقالت : فوقي رسول الله (صلى الله عليه

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٨ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٠ ح ١.

(٢) الكافي ج ٥ ص ٤٩ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٠ ح ٢.

(٣) الفقيه ج ٤ ص ٤٢ ح ١٣٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٧ ح ٦.

٣٥٤

وآله وسلم) وحق على الله أن لا يبغى شي‌ء على شي‌ء إلا أذله الله ، ولو أن جبلا بغى على جبل لهد الله الباغي منهما».

الرابع ـ ما رواه في الكافي عن أبى بصير (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ليس شي‌ء تحضره الملائكة إلا الرهان وملاعبة الرجل بأهله».

قيل المراد بالشي‌ء الأمر المباح الذي فيه تفريح ولذة ، والرهان المسابقة على الخيل ، ونحوها كما يدل عليه الخبر الآتي.

الخامس ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (٢) قال : قال الصادق عليه‌السلام ان الملائكة لتنفر عن الرهان وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنه يحضره الملائكة وقد سابق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أسامة بن زيد وأجرى الخيل.

السادس ـ ما رواه في التهذيب عن العلاء بن سيابة (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن شهادة من لعب بالحمام؟ قال : لا بأس إذا لم يعرف بفسق ،. ثم قال : وبهذا الاسناد قال : سمعته يقول : لا بأس بشهادة الذي يلعب بالحمام ، ولا بأس بشهادة صاحب السباق المراهن عليه ، فان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قد أجرى الخيل وسابق ، وكان يقول : ان الملائكة تحضر الرهان في الخف والحافر والريش وما عدا ذلك قمار حرام».

السابع ـ ما رواه في الفقيه عن العلاء بن سيابة (٤) قال : «سألت أبى عبد الله عليه‌السلام عن شهادة من يلعب بالحمام؟ قال : لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق ، قلت : فان من قبلنا يقولون قال عمر : هو شيطان ، فقال : سبحان الله أما علمت أن رسول الله

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤٩ ح ١٠.

(٢) الفقيه ج ٤ ص ٤٢ ح ١٣٦.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٧ ح ٦ و ١.

(٣) التهذيب ج ٦ ص ٢٨٤ ح ٧٨٥.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٣٠ ح ٢٣.

وهما في الوسائل ج ١٨ ص ٣٠٥ ح ٢ و ٣.

٣٥٥

(صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : ان الملائكة لتنفر عند الرهان ، وتلعن صاحبه ما خلا الحافر والخف والريش والنصل فإنها تحضره ، وقد سابق رسول الله أسامة بن زيد وأجرى الخيل».

الثامن ـ ما رواه في التهذيب عن عبد الله بن عبد الرحمن (١) عن ابى الحسن عليه‌السلام قال : «قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : اركبوا وارموا وان ترموا أحب الي من أن تركبوا ثم قال : كل لهو المؤمن باطل ، إلا ثلاثة : في تأديبه الفرس ، ورميه عن قوسه ، وملاعبته امرأته ، فإنهن حق ، إلا ان الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد الثلاثة الجنة : عامل الخشبة ، والمقوي به في سبيل الله ، والرامي به في سبيل الله».

التاسع ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (٢) «عن أبي عبد الله عن آبائه عليهم‌السلام قال : الرمي سهم من سهام الإسلام».

العاشر ـ ما رواه فيه أيضا عن حفص بن البختري (٣) في الحسن «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه كان يحضر الرمي والرهانة».

الحادي عشر ـ ما رواه فيه أيضا بهذا الاسناد (٤) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : لا سبق إلا في الخف أو حافر أو نصل يعنى النضال». والمراد بالنضال بالضاد المعجمة المرماة ، والسبق يحتمل أن يكون بالتسكين مصدرا فيفيد الخبر المنع من الرهان في غير الثلاثة المذكورة ، ويحتمل أن يكون بالتحريك بمعنى الخطر فيفيد الخبر المنع من الأخذ والإعطاء في غيرها ، دون أصل المسابقة.

الثاني عشر ـ ما رواه في الكافي عن طلحة بن زيد (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «أغار المشركون على سرح المدينة فنادى فيها مناديا يا سوء صباحاه ،

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٥٠ ح ١٣ ، التهذيب ج ٦ ص ١٧٥ ح ٣٤٨. الوسائل ج ١٤ ص ٨٣ ح ٢.

(٢ و ٣) الكافي ج ٥ ص ٤٩ ح ١١ وص ٥٠ ح ١٥.

(٤ و ٥) الكافي ج ٥ ص ٥٠ ح ١٤ و ١٦.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٨٣ ح ٢ وج ١٣ ص ٣٤٨ الباب ٢ ح ٢ و ٤ وص ٣٤٨ ح ١ وص ٣٤٦ ح ٢.

٣٥٦

فسمعها رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الخيل فركب فرسه في طلب العدو وكان أول أصحابه لحقه أبو قتادة على فرس له ، وكان تحت رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سرج دفتاه ليف ، ليس فيه أشر ولا بطر ، فطلب العدو فلم يلق أحدا وتتابعت الخيل ، فقال : أبو قتادة يا رسول الله ان العدو قد انصرف ، فإن رأيت أن نستبق؟ فقال : نعم فاستبقوا فخرج رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سابقا ، ثم أقبل عليهم فقال : أنا ابن العواتك من قريش ، انه لهو الجواد البحر ، يعنى فرسه». والمراد بالسرح هو المال السائم ، قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «أنا ابن العواتك» هو جمع عاتكة وهي المرأة المجمرة بالطيب ، وكان هذا الاسم لثلاث نسوة من أمهاته (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إحداهن عاتكة بنت هلال أم عبد مناف بن قصي ، والثانية عاتكة بنت مرة بن هلال أم هاشم بن عبد مناف ، والثالثة عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب أبى آمنة أم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فالأولى من العواتك عمة الثانية ، والثانية عمة الثالثة ، قيل : وبنوا سليم كانوا يفتحزون بهذه الولادة ، وقيل العواتك في جدات النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) تسع ثلاث من بنى سليم ، وهن المذكورات ، والبواقي من غيرهم.

الثالث عشر ـ ما رواه الحميري في قرب الاسناد عن الحسين بن علوان (١) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سابق بين الخيل وأعطى السوابق من عنده».

الرابع عشر ـ ما رواه في الكتاب المذكور عن أبي البختري (٢) «عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عليهم‌السلام أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أجرى الخيل وجعل لها سبع أواقي من فضة ، وأن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أجرى الإبل مقبلة من تبوك فسبقت الغضباء وعليها أسامة ، فجعل الناس يقولون :

__________________

(١ و ٢) قرب الاسناد ص ٤٢ و ٦٣، الوسائل ج ١٣ ص ٣٥٠ ح ٣ وص ٣٥١ ح ٤.

٣٥٧

سبق رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، ورسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يقول : سبق أسامة». هذا ما حضرني من الأخبار.

والكلام فيما ذكره الأصحاب (رحمة الله عليهم) فهو يقع في موارد :

الأول : لا خلاف بين أصحابنا (رضوان الله عليهم) وغيرهم في ثبوت المسابقة والمراماة وشرعية الجعل عليها.

قال في التذكرة : جواز هذا العقد بالنص والإجماع ، ولا خلاف بين الأمة في جوازه ، وان اختلفوا في تفصيله ، وفي المسالك : لا خلاف بين جميع المسلمين في شرعية هذا العقد ، وفائدته من أهم الفوائد الدينية ، لما يحصل بها من غلبة العدو في جهاد أعداء الله تعالى الذي هو أعظم أركان الإسلام.

وانما الخلاف عندهم وعند غيرهم أيضا في لزوم هذا العقد وجوازه ، فذهب جماعة منهم ابن إدريس بل الظاهر أنه أولهم والمحقق إلى الأول ، وذهب الشيخ والعلامة في المختلف وغيرهما الى الثاني ، وأنه من العقود الجائزة كالجعالة ، لا اللازمة كالإجارة احتج الأولون بقوله (١) «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «المؤمنون عند شروطهم» (٢).

أجاب في المختلف عن الآية حيث اقتصر على الاستدلال لهم بها ، بأنا نقول بالموجب فان الوفاء بالعقد هو العمل بمقتضاه ، فان كان لازما كان الوفاء به العمل بمقتضاه على سبيل اللزوم ، وان كان جائزا كان الوفاء به العمل بمقتضاه على سبيل الجواز ، قال : أيضا ليس المراد مطلق العقود ، وإلا لوجب الوفاء بالوديعة والعارية وغيرهما من العقود الجائزة ، وهو باطل بالإجماع ، فلم يبق إلا العقود اللازمة ، والبحث وقع فيه ، انتهى.

وأما حديث المشروط فيمكن الجواب عنه بما تقدم في الجواب عن الآية ، من أنه أعم من اللزوم وعدمه ، بمعنى أنه مأمور بالوفاء بالشرط ، أعم من أن

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

٣٥٨

يكون أمرا إيجابيا أو استحبابيا.

نعم يكون لازما إذا وقع في عقد لازم ، وأورد على ما أجاب به في المختلف بأن الأمر بالعقود عام في جانب المأمور والمأمور به ، فيشمل بعمومه سائر العقود ثم تخصيصه ببعضها ، وإخراج العقود الجائزة ، يبقى العموم حجة في الباقي ، كما هو محقق في الأصول.

وأما قوله ان الوفاء بالعقد العمل بمقتضاه من لزوم وجواز ، فهو خلاف الظاهر منه ، فان مقتضى الوفاء بالشي‌ء التزامه والعمل بمقتضاه مطلقا ، انتهى وهو جيد.

وهكذا يقال : بالنسبة إلى حديث الشرط فإن الأمر بالوفاء بالشرط يقتضي وجوب الوفاء ، لأن الأصل في الأمر الوجوب ، واشتراكه من الوجوب والاستحباب لا يثمر نفعا ، فان العمل على ما يقتضيه الأصل حتى يقوم دليل على خلافه قال في المسالك ومنشأ هذا الخلاف انها عقد يتضمن عوضا على عمل ، وهو مشترك بين الإجارة والجعالة ثم انها مشتملة على اشتراط العمل في العوض ، وكونه معلوما وهو من خواص الإجارة وعلى جواز إبهام العامل في السبق ، وعلى ما لا يعلم حصوله من العامل ، وعلى جواز بذل الأجنبي ، وهو من خواص الجعالة فوقع الاختلاف بسبب ذلك ، فعلى القول بأنها جعالة يلحقها أحكامها من الاكتفاء بالإيجاب تكون جائزة ، وعلى القول بالإجارة يفتقر معه الى القبول وتكون لازمة ، ويمكن أن يجعل عقدا برأسه ، نظرا الى تخلف بعض خواصها عن كل من الأمرين على حديه ، كما عرفت ، ويقال حينئذ بلزومها لعموم الآية ، وهذا أجود ، اللهم إلا أن يناقش في أن الجعالة ليست عقدا فلا يتناول الآية لها ولنظائرها ، ويرجع الى أصالة عدم اللزوم حيث يقع الشك في كون المسابقة عقدا أم لا؟ انتهى.

أقول : لا يخفى على من راجع الأخبار التي قدمناها وهي أخبار المسئلة التي وردت فيها وليس غيرها في الباب ، أنه لا دلالة في شي‌ء منها على وقوع عقد

٣٥٩

ولا إيجاب ولا قبول بالكلية ، وغاية ما دلت جملة منها على أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أجرى الخيل وسابق وأعطى السابق كذا وكذا ، والمفهوم منه هو حل ما يؤخذ من المال على هذه المعاملة وأما كونه على جهة اللزوم والوجوب فلا ، إلا إن يقال : بوجوب الوفاء بالشرط ، وأن إعطاء المال لا يلزم أن يكون من المسبوق ، فان الظاهر أن إعطاءه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ذلك ليس من حيث كونه مسبوقا ، وانما هو متبرع منه ، لمن حصل له مزية السبق.

وظاهر الأخبار المذكورة بل صريحها أن هذه معاملة برأسها ، وهي من قبيل الرهان ، الا أنه غير محظور كسائر أفراد الرهان ، كما ينادى به الخبر الرابع والخامس والسادس والسابع والعاشر (١) حيث سمي هذه المعاملة فيها رهانا وأنه رهان حق جائز شرعا ، يحل ما أخذ عليه قال في القاموس : والمراهنة والرهان : المخاطرة والمسابقة على الخيل ، انتهى وهو ظاهر في المراد.

وحينئذ فقد اتفقت الأخبار وكلام أهل اللغة على هذه التسمية ، وتجعل معاملة برأسها كما في أفراد الرهان إلا أنها حق ، وما يؤخذ عليها حلال ، وما عداها باطل ، وما يؤخذ عليه حرام.

وأما الكلام في لزوم ما يجعل خطرا فالظاهر ذلك ، لما عرفت من وجوب الوفاء بالوعد والوفاء بالشروط ، هذا ما يفهم من الأخبار المذكورة ، وما أطالوا به في هذا المقام من الاختلاف في كونها اجارة فيتفرع عليها ما يتفرع على الإجارة أو جعالة فكذلك ، كله تطويل بغير طائل ، وتحصيل لغير حاصل ، كما لا يخفى على من لاحظ الأخبار المذكورة ، وانما كلامهم هنا جرى على مجرى بحث العامة في المسئلة ، وهذه التفريعات والاختلافات كلها تبعا لهم ، كما عرفته في غير مقام مما سبق ، ومن رجع الى الأخبار الواردة في المسئلة عرف صحة ما قلناه ، ووضوح ما فصلناه ، والله العالم.

__________________

(١) ص ٣٥٥ و ٣٥٦.

٣٦٠