الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

يقال : انه عقد واحد لا يتعبض ، فان قبلا وقبضا صح ، والا فلا ، لأنا نقول : وان كان بصورة عقد واحد الا أنه بتعدد الموهوب في قوة عقدين ، ونظيره ما لو اشتريا دفعة واحدة ، فإن لكل واحد منهما حكم نفسه في الخيار ونحوه ، كما تقدم في في كتاب البيع ، والله العالم.

الموضع الثالث : لا خلاف ولا إشكال في جواز تفضيل بعض الولد وان كان على كراهة عند الأصحاب ، إلا ما نقل عن ظاهر ابن الجنيد من التحريم إلا مع المزية.

قال في المسالك : أما جواز التفضل في الجملة فهو المشهور بين الأصحاب وغيرهم ، ويشهد له (١) «ان الناس مسلطون على أموالهم». ويظهر من ابن الجنيد التحريم إلا مع المزية ، والتعدية إلى باقي الأقارب مع التساوي في القرب ، والوجه الكراهة المؤكدة لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٢) سووا بين أولادكم في العطية ، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت البنات ، وان التفضيل يورث العداوة والشحناء بين الأولاد كما هو الواقع شاهدا وغابرا. ولدلالة ذلك على رغبة الأب في المفضل المثير للحسد المفضل إلى قطيعة الرحم ، وقد روى أن النعمان بن بشير (٣) أتى أبوه إلى النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال : انى نحلت ابني هذا غلاما فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : أكل ولدك نحلت مثل هذا فقال لا : فقال : أردده ،. وفي رواية أخرى (٤) «ان النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال له : أتحب أن يكونوا لك في البر سواء؟ فقال : نعم فارجعه ، قال وفي حديث آخر (٥) عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) انه قال لمن أعطى بعض أولاده شيئا أكل ولدك أعطيته مثله قال : لا ، قال : فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم فرجع في تلك العطية» وفي رواية أخرى «لا تشهدنى على جور».

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧ الطبع الحديث.

(٢) المسند لأحمد بن حنبل ج ٤ ص ٣٧٥.

(٣ و ٤ و ٥) البخاري كتاب الهبة الباب ١٢.

٣٢١

وهذه الروايات تصلح حجة لابن الجنيد والأصحاب حملوها على تقدير سلامة السند على الكراهة جمعا وقد روى أبو بصير في الصحيح (١) ثم نقل الخبر الحادي والعشرين ثم قال : ولا قائل بمضمونه تفصيلا غير أن تجويزه العطية مع اليسار مطلقا حجة المشهور ، ومنعه عنه مع الإعسار مناسب للكراهة ، والحق الفصل حيث يكون عليه دين ونحوه ، وإطلاق النصوص السابقة يقتضي عدم الفرق بين الصحة والمرض ، وحالتي اليسر والعسر ، إلا الحديث الأخير ، فخص النهى بحالة العسر ، وفي رواية سماعة ثم ذكر الخبر العشرين ، ثم قال : وعمل بمضمونها العلامة في المختلف ، وخص الكراهة بالمرض أو الإعسار وفي بعض نسخة بهما معا ، والظاهر أن دلالة الخبرين على الأول أوضح ، والأقوى عموم الكراهة بجميع الأحوال ، وتأكدها مع المرض والإعسار أعمالا بجميع الأدلة ، لعدم المنافاة انتهى.

وعلى هذا النهج كلام غيره من الأصحاب وأنت خبير بأن ما قدمه من الأخبار عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الظاهر أنه من أخبار العامة ورواياتهم ، كما يشهد به سياقها ، لعدم وجود شي‌ء منها في كتب أخبارنا ، وإنما الموجود فيها ما يخالف هذه الأخبار ، ويناقضها من جواز التفصيل ، وهي متكاثرة بذلك.

فمنها ما رواه في الكافي والفقيه عن محمد بن قيس (٢) في الحسن قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض؟ قال : نعم ونسائه».

وما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن حريز عن محمد بن مسلم (٣) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون له الولد من غير أم أيفضل بعضهم على بعض؟ فقال : لا بأس ، قال : حريز وحدثني معاوية وأبو كهمس انهما سمعا

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٥٦ ح ٦٤٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٤ ح ١٢.

(٢) الكافي ج ٧ ص ١٠ ح ٦ ، الفقيه ج ٤ ص ١١٤ ح ٤٩٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٣ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٩٩ ح ٧٩٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٤ ح ٢ و ٣.

٣٢٢

أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : صنع ذلك علي عليه‌السلام بابنه الحسن وفعل ذلك الحسين بابنه علي وفعل ذلك أبي بي ، وفعلته أنا».

وعن إسماعيل بن عبد الخالق (١) في الصحيح قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : في الرجل يخص ولده ببعض ماله فقال : لا بأس بذلك».

وما رواه في الكافي في الصحيح عن سعد بن سعد الأشعري (٢) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يكون بعض ولده أحب إليه من بعض ويقدم بعض ولده على بعض؟ فقال : نعم قد فعل ذلك أبو عبد الله عليه‌السلام نحل محمدا وفعل ذلك أبو الحسن عليه‌السلام نحل أحمد شيئا فقمت أنا به حتى حزته له ، فقلت : جعلت فداك الرجل يكون بناته أحب إليه من بنيه؟ فقال : البنات والبنون في ذلك سواء ، انما هو بقدر ما ينزلهم الله عزوجل منه».

قوله عليه‌السلام «فقمت أنا به» أي توليته له ، وكان أحمد كان صغيرا ، وقوله «انما هو بقدر ما ينزلهم الله» أي المحبة التي يقع في قلبه انما هي من الله تعالى فبقدر ما يجعل الله لهم في قلبه يجعل المحبة ذكورا أم اناثا.

وما رواه في الفقيه عن رفاعة (٣) عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يكون لهم بنون وأمهم لست بواحدة أيفضل أحدهم على الآخر؟ قال : لا بأس به ، وقد كان يفضلني على عبد الله».

أقول : وهذه الروايات مع كثرتها وصحتها قد اتفقت على جواز التفضل من غير إشارة في شي‌ء منها على الكراهة ، فضلا عن التصريح ، وقد فعلوه عليهم‌السلام بمن كان ممن يستحق التفضيل ومن لا يستحقه ، وبذلك يظهر لك أن جميع ما أطال به (قدس‌سره) من تلك الأخبار العامية والتعليلات العقلية كله تطويل بغير طائل.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ٢٠٠ ح ٧٩٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٤ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٦ ص ٥١ ح ١ ، التهذيب ج ٨ ص ١١٤ ح ٣٩٢ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٠٣ الباب ٩١ ح ١.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ٣١١ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٠٤ ح ٢.

٣٢٣

وليت شعري كيف غفلوا جميعا عن هذه الأخبار وهي في الكتب الأربعة التي يتداولونها حتى التجئوا الى هذه الأخبار العامية ، والعجب هنا من صاحب المفاتيح حيث تبع صاحب المسالك فيما نقلناه عنه ، وغفل أيضا عن هذه الأخبار كما لا يخفى على من راجعه.

نعم روى في الفقيه عن السكوني (١) قال : «وفي رواية السكوني قال : نظر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الى رجل له ابنان فقبل أحدهما وترك الآخر فقال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : فهلا واسيت بينهما». وربما يتوهم متوهم تخصيص الأخبار المتقدمة بهذا ، وهو باطل بل الأظهر حمله على التقية ، فإن رواية عامي مع أنه لم يسنده الى الامام عليه‌السلام وقد عرفت دلالة روايات العامة على ما دل عليه.

وأما ما رواه العياشي في تفسيره عن مسعدة بن صدقة (٢) قال : «قال جعفر بن محمد عليه‌السلام قال والدي : والله اني لا صانع بعض ولدي وأجلسه على فخذي وأكثر له المحبة ، وأكثر له الشكر ، وان الحق لغيره من ولدي ، ولكن محافظة عليه منه ومن غيره ، لئلا يصنعوا به ما فعل بيوسف واخوته وما أنزل الله سورة يوسف إلا أمثالا لكيلا يحسد بعضنا بعضا كما حسد بيوسف اخوته ، وبغوا عليه فجعلها رحمة على من تولانا ، ودان بحبنا ، وجحد أعدائنا ، على من نصب لنا الحرب والعداوة». فغاية ما يدل عليه أنه عليه‌السلام كان يظهر التفضيل لبعض ولده ، فضايقه لدفع شره عن الإمام القائم بعده ، وهذا بما يدعيه أنسب ، والى ما اخترناه أقرب ، ومرجعه الى أن التفضيل قد يكون على جهة الاستحقاق ، أو المضايقة ، فلا منافاة فيه لما ذكرناه.

بقي الكلام في الخبرين المتقدمين الدال أحدهما على التفصيل بين الصحة والمرض ، وأنه يعطى في حال الصحة دون المرض ، والخبر الدال على التفضيل بين اليسر

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٣١١ ح ١٨ ، الوسائل ج ١٥ ص ٢٠٤ ح ٣.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٦٢٦ الباب ٦٧ ح ٣ ، العياشي ج ٢ ص ١٦٦ ح ٢.

٣٢٤

والعسر : فيخص بعض ولده مع اليسر دون العسر ، مع أن إطلاق الأخبار المتقدمة يقتضي عدم الفرق ، وأنت خبير بأنهما لا يبلغان قوة المعارضة لما قدمناه من الأخبار الصحيحة الصريحة في الجواز مطلقا.

وأما وصفه في المسالك لرواية أبي بصير (١) بالصحة فهو خلاف المعهود منه ومن غيره من أرباب هذا الاصطلاح حيث ان أبا بصير مشترك ، ولا قرينة تدل على الثقة منهما ، والآخر الضرير انما يعدون خبره في الضعيف ، على أن الظاهر أن رواية سماعة لا منافاة فيها ، وذلك فان ظاهرهما انما هو السؤال من عطية الوالد لولده ، وان كان واحدا وليس فيها تعرض للتفضيل الذي هو البحث بوجه ، فأجاب عليه‌السلام بأنه في حال الصحة جائز ، لأنه ماله يصنع فيه ما أراد ، وأما في حال المرض فلا ، والمنع من ذلك في حال المرض مطلقا لا قائل به ، ولا يوافق مقتضى القواعد الشرعية ، فلا بد على أن يكون المنع باعتبار كونه من الأصل ، فالنهي إنما يتوجه الى كونه من الأصل.

وحاصل معنى الخبر أنه في حال الصحة مخرج العطية من الأصل ، وفي حال المرض من الثلث ، لا من الأصل ، كما في حال الصحة وهذه مسئلة أخرى لا تعلق لها بما نحن فيه.

نعم خبر أبي بصير ظاهر في التفضيل لقوله «يخص بعض ولده» ، والظاهر حمله على ما ذكروه من كراهية التخصيص مع الإعسار ، لأنه متى خصه وهو معسر فقد حرم الباقين من الميراث ، إذ لا شي‌ء يرثونه.

أما مع يسره وحصول قسط لكل من الباقين من الميراث ، فإنه لا يحصل عليهم بتلك الهبة نقص زائد كما في صورة العسر الذي لا شي‌ء بالكلية ، وعلى هذا فيخص الأخبار المتقدمة بهذا الخبر : بمعنى أن التفضيل جائز مطلقا من غير كراهية ، إلا في صورة إعسار الواهب الموجب لحرمان باقي الأولاد من الميراث ، وهو جمع حسن بين الأخبار والله العالم.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٥٦ ح ٦٤٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٤ ح ١٢.

٣٢٥

الموضع الرابع : المفهوم من كلام جملة من الأصحاب بل ربما ادعى الإجماع عليه كما تقدم الإشارة إليه بأنه يجوز الرجوع بعد القبض إلا في مواضع مخصوصة ، قد وقع الاتفاق على بعضها والخلاف في بعض ، كما سيأتي تفصيله ، ان شاء الله تعالى.

والأخبار في أصل المسئلة لا تخلو من اختلاف فمما يدل على جواز الرجوع الخبر الأول ، وهو صحيح صريح في ذلك ، ومفهوم الخبر الثاني ، وهو صحيح أيضا ، والمفهوم مفهوم شرط لا إشكال في حجيته عند محققي الأصوليين وعندنا ، للأخبار الكثيرة الدالة على حجيته ، كما تقدمت في مقدمات الكتاب في الجلد الأول من كتاب الطهارة (١) ويدل على ذلك أيضا الخبر الخامس (٢) وهو صحيح ، صريح في ذلك ، والخبر السابع (٣) وهو صحيح صريح في غير المواضع المستثناة فيه ، والخبر الثامن ، ومفهوم الخبر التاسع ، ويدل على ذلك أيضا قوله عليه‌السلام في موثقة عبيد بن زرارة (٤) «ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز». وقوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة (٥) المتقدمة في مقصد الصدقة ، «ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة ، حيزت أو لم تحز ، ولا يرجع الرجل فيما وهب لامرأته» الحديث. ويدل على العدم الخبر الثالث عشر ، والخبر الخامس عشر ، والخبر التاسع عشر.

ورواية جراح المدائني (٦) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام «قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : من رجع في هبته فهو كالراجع في قيئه».

وأنت خبير بأن هذه الروايات الأخيرة تقصر عن معارضة الأخبار الأولة

__________________

(١) ج ١ ص ٥٨.

(٢) ص ٣٠١.

(٣) ص ٣٠١.

(٤ و ٥ و ٦) التهذيب ج ٩ ص ١٥٣ ح ٦٢٥ وص ١٥٢ ح ٦٢٤ ، الاستبصار ج ٤ ص ١٠٩ ح ٤١٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٢ ح ١ وص ٣٣٩ ح ١ وص ٣٤٣ ح ٣.

٣٢٦

سندا وعددا ودلالة ، وحملها على الكراهة المؤكدة ، كما ذكره جمع من الأصحاب طريق الجمع بين الجميع ، وأما الصور المستثناة من جواز الرجوع فنحن نذكرها مفصلة واحدة واحدة ، وما يتعلق بكل منهما من الأخبار ، وكلام الأصحاب على وجه يزول به غشاوة الشك ـ ان شاء الله تعالى فيها ـ والارتياب ، فنقول الأولى ـ فيما لو كانت الهبة لذي الرحم ، وقد ادعى المحقق الإجماع على أنه متى كانت الهبة من الابن للأبوين فلا يجوز الرجوع ، وهو مؤذن بالخلاف فيما عداه ، حتى في هبة الأبوين للابن ، مع أن العلامة في المختلف عكس ذلك ، فادعى الإجماع على لزوم هبة الأب لولده ، ولم يذكر الأم ، قال : إذا وهب الأب ولده الصغير أو الكبير وأقبضه لم يكن للأب الرجوع في الهبة إجماعا ، ولو كانت لغير الولد من ذوي الأرحام للشيخ قولان إلى آخره ، وهو مؤذن بالخلاف فيما ادعى عليه المحقق الإجماع ، الا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك قال : والظاهر أن الاتفاق حاصل على الأمرين الا من المرتضى في الانتصار ، فإنه جعلها جائزة مطلقا ما لم يعوض عنها ، قال : وكأنهم لم يعتدوا بخلافه لشذوذه.

والعجب أنه ادعى إجماع الإمامية عليه مع ظهور الإجماع على خلافه ، وعلى ما ذكره شيخنا المذكور ينحصر الخلاف فيما عدا الصورتين المذكورتين ، والأشهر الأظهر اللزوم وعدم جواز الرجوع ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، والشيخ المفيد وسلار وابن البراج ، وقيل : بأن له الرجوع وهو قول الشيخ في المبسوط والتهذيب والسيد المرتضى وابن الجنيد وابن إدريس.

والذي وقفت عليه من الأخبار في هذا المقام مما يدل على القول الأول الخبر الخامس ، وهو صحيح صريح في عدم جواز الرجوع في هبة ذي الرحم ، وهو دال على عدم جواز الرجوع في الصورتين الأوليين من حيث العموم ، وعلى الثالثة بالخصوص ، والخبر السابع وهو أيضا صحيح السند دال على عدم جواز الرجوع في هبة ذي القربى ، لأن المراد بالجواز هنا اللزوم كما تقدمت الإشارة اليه ، وينادى

٣٢٧

بذلك قوله ويرجع في غير ذلك ان شاء ، وحاصل الخبر أنه لا يرجع في الهبة إذا كانت لذي قرابة أو معوضا عنها ، ويرجع فيما عدا ذلك ، والخبر السادس عشر وهو موثق سماعة ، إلا أنه مختص بهبة الولد لأمه ، وقد حكم عليه‌السلام بأنه ميراث بعد موتها ، وليس للولد الرجوع فيه للزوم الهبة.

ومما يدل على قول الآخر الخبر الثامن حيث صرح فيه «بأن النحل والهبة يرجع فيها حازها أو لم يحزها وان كانت لذي قرابة» والخبر الحادي عشر الا أنه غير صريح ، بل ولا ظاهر في ذلك ، لأن ظاهر تجويزه الرجوع فيما يهب لابنه ، ـ الا أن يكون صغيرا ـ أن الرجوع إنما هو من حيث عدم القبض بأن يكون الموهوب بالغا ولم يقبض ، ولهذا حكم بلزوم الهبة للصغير من حيث ان الأب قابض له ، والخبر الثاني عشر إلا أنه لا يخلو من الإجمال وتعدد الاحتمال ، وأنه يحتمل أن يكون الرجوع إنما هو من حيث كون الهبة غير لازمة ، لأن من شرطها القبض ولم يحصل ، فهي وان انتقلت إليه بالعقد ، الا أنه انتقال متزلزل مراعى في لزومه بالقبض ، وحينئذ فلم يبق مما يمكن أن يستدل به لهذا القول إلا الخبر الثامن ، وهو يضعف عن معارضة الأخبار الأولة سندا وعددا ودلالة ، ومن المحتمل قريبا أن يكون قوله وان كانت لذي قرابة قيدا في قوله «أو لم يحزها» بمعنى أنه إذا لم يحزها فله الرجوع وان كانت لذي قرابة ، وهو معنى صحيح ، وبه يسقط الاستدلال بالخبر المذكور على ما ذكروه ، وبما أوضحناه لك في المقام يظهر ضعف ما ذهب إليه في الكفاية من موافقة المرتضى (رضي‌الله‌عنه) في عدم لزوم الهبة على ذي الرحم ، والآباء والأبناء.

الثانية ـ فيما لو تلف بعد القبض سواء كان التلف من جهة الله سبحانه ، أو المتهب ، أو غيرهما ، فإنه لا يرجع ، ونقل عن التذكرة دعوى الإجماع على ذلك ، وكأنه لا يعتد بخلاف المرتضى ودعواه على جواز الرجوع إلا مع التعويض.

ومما يدل على اللزوم وعدم جواز الرجوع في الصورة المذكورة الخبر

٣٢٨

الأول وهو صحيح صريح في المدعى ، قال : في المسالك وفي حكم تلفها تلف بعضها وان قل ، لدلالة الرواية عليه ، فان العين مع تلف جزء منها لا تعد قائمة ، انتهى.

وفيه إشكال فإن الظاهر أن المراد بقيامها بعينها كما تضمنه الخبر انما هو بمعنى وجودها وعدم تلفها ، فلا يؤثر تلف بعضها خصوصا مع قلته كاصبع العبد لو قطعت ، فإنه لا ينافي قيام العين ووجودها عرفا ، وبالجملة فإن ما ذكره لا يخلو عندي من شوب الإشكال.

الثالثة ـ فيما لو عوض عنها وان كان العوض قليلا إذا حصل التراضي ، واللزوم في هذه الصورة إجماعي حتى من المرتضى ، ويدل على ذلك الخبر الثاني وهو صحيح صريح في عدم جواز الرجوع إذا عوض ، والخبر السابع حيث حكم عليه‌السلام بجواز الهبة الذي هو كما عرفت آنفا عبارة عن لزومها في صورة ذي القرابة ، والذي يثاب أي يعوض.

قال في المسالك : ولا فرق في العوض بين كونه من بعض الموهوب وغيره ، عملا بالإطلاق ، ولأنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب ، فيصح بذله عوضا عن الجملة ، انتهى.

أقول : يمكن أن يقال : ان المتبادر من المعاوضة هو كون أحد العوضين غير الآخر ، ولو تم ما ذكره للزم أنه لو دفعه المتهب بجميعه الى الواهب بعد القبض لصدق المعاوضة ، مع أنه لا يسمى ذلك معاوضة ، فإنما يسمى ردا ، ولا فرق بين دفع البعض ودفع الكل ، قوله «لأنه بالقبض بعد العقد مملوك للمتهب» مسلم ، لكنه ملك متزلزل لا يلزم إلا بإعطاء العوض ونحوه ، من الأمور الموجبة للزوم

وبالجملة فإنه بإعطاء بعض الموهوب أو جميعه انما يقال : رده أورد بعضه ولا يقال. أعطى عوضه بهذا هو الظاهر من العرف والاستعمال ، وبه يظهر أن ما ذكره لا يخلو من شوب الاشكال.

ثم ان الظاهر من إطلاق الخبرين المذكورين أنه لا فرق في لزوم الهبة

٣٢٩

بالتعويض بين أن يكون قد شرط التعويض في العقد ، أو وقع بعده بأن وقع العقد مطلقا ، الا أنه بذل له العوض بعد ذلك وأعطاه إياه ، لكنهم صرحوا بأنه لا يحصل التعويض بمجرد البذل ، بل لا بد من قبول الواهب له ، وكون البذل عوضا عن الموهوب قالوا : لأنه بمنزلة هبة جديدة ، ولا يجب عليه قبولها.

بقي الكلام هنا في أنه لو وهب وأطلق هل يقتضي التعويض أم لا؟ المشهور الثاني ، وقال الشيخ في الخلاف والمبسوط : الهبة على ثلاثة أقسام ، هبة لمن فوقه ، وهبة لمن دونه ، وهبة لمن هو مثله ، وكلها يقتضي الثواب عندنا ، ومقتضاه أنه بالهبة يجب على المتهب بذل العوض ، ويلزم وان لم يطلبه الواهب ، ولا قائل به سواه ، الا أن أبا الصلاح وافقه في هبة الأدنى للأعلى ، فقال : انها يقتضي الثواب فيعوض عنها بمثلها ، ولا يجوز التصرف في الهبة ما لم يعوض عنها ، لاقتضاء العرف ذلك.

ورد كل من القولين المذكورين بأن الأصل والعمومات يقتضي خلافه ، وربما حمل كلام الشيخ على جواز الرجوع في الهبة ما لم يثب ، كما لو شرط فيها فيكون المراد أن لزومها انما يتحقق به ، والى هذا يميل كلام العلامة في المختلف في مقام الرد على ابن إدريس انتصارا للشيخ والحق بعده.

وبالجملة فإن الحكم مع الإطلاق كما هو المشهور هو أن الهبة جائزة من جهة الواهب إلا أن يحصل التعويض بما يتفقان عليه ، ومع الاختلاف يرجع الى مثل الموهوب أو قيمته ، ولا خلاف في أنه لو شرط الثواب صح ، أطلق أو عين ، وله الرجوع ما لم يدفع اليه ما شرط ، ويدل عليه الخبر السادس (١) فإنه دال على حكم المشروطة بالثواب مطلقا ، أو معينا ، وأن للواهب الرجوع إذا لم يف المتهب بالشرط ، وأنه ليس للمتهب مع الشرط التصرف في الجارية حتى يفي بشرطه ، وفيه دلالة على تخير المتهب بين الوفاء بالشرط ، لتلزم الهبة ، ويجوز له التصرف ، وبين رد الهبة كما هو أحد القولين ، وهو منقول عن الشهيد في الدروس

__________________

(١) ص ٣٠١.

٣٣٠

وجماعة ، وقيل : بلزوم العقد من طرف المتهب ، وانه يجبر على الوفاء بالشرط مطلقا كان أو معينا ، هذا القول جار على ما قدمنا نقله عن الشيخ في الخلاف والمبسوط ، فلعل ما هنا تفريع عليه.

وكيف كان فالظاهر ضعفه ، فان المفهوم من الخبر المشار اليه خلافه ، فإنه لو كان العقد لازما من جهته لجاز له وطئ الجارية مع الشرط قبل الوفاء به ، حيث انه قد ملكها بالهبة ملكا لازما ، ويجب عليه الوفاء بالشرط كما هو المفروض ، ومفهوم الخبر بخلافه.

ثم انه على تقدير الشرط ان كان ما شرطه معينا فالحكم واضح ، وان كان مطلقا فان اتفقا على شي‌ء قليلا أو كثيرا فلا إشكال أيضا ، والأوجب إثابة مقدار الهبة مثلا أو قيمة ، ولا يجب الأزيد وان طلبه الواهب ، كما لا يجبر الواهب على قبول الأقل الا أنه يجب أن يعلم أن ذلك ليس على جهة اللزوم والحتم ، بل يتخير الواهب في كلتا الصورتين بين الرجوع وقبول العوض ، لأن العقد من جهته غير لازم قبل التعويض ، ويتخير المتهب بين الرد والإثابة ، إلا على قول الشيخ المتقدم وأبى الصلاح في خصوص ما ذكره ، حيث حكما باللزوم من جهة المتهب ، وأوجبا عليه الإثابة ، وان اختلفا في العموم والخصوص ، وقد عرفت ضعفه.

ثم انه على تقدير الاشتراط لو تلفت العين في يد المتهب قبل التعويض أو عابت سواء كان ذلك بفعله كلبس الثوب أم لا ، فهل يضمن المتهب الأرش أو الأصل أم لا ضمان؟ قولان : صرح في المختلف بالأول ، ونقل عن ابن الجنيد من المتقدمين.

قال في المختلف : وان شرط الثواب فإن أطلق كان إطلاقه منصرفا إلى العادة ، وان شرط معينا فإن أثابه إياه لزمت الهبة ، وإلا كان للمالك العود في هبته ، فان كانت ناقصة فعليه الأرش ، وان كانت تالفة فعليه المثل أو القيمة ، لأنه ملكه بشرط العوض ، ولم يسلم له فكان له الرجوع في عينه ، انتهى.

وجزم في التذكرة ـ ومثله ولده في الشرح ـ بالثاني ، واختاره المحقق

٣٣١

على تردد ، واحتجوا عليه بأن ذلك النقص حدث في ملك المتهب ، فلا يلزمه ضمانه ، ولأن المتهب لا يجب عليه دفع العوض كما مر ، بل للواهب الرجوع في العين والتفريط منه من حيث تركها في يد من سلطه على التصرف فيها مجانا.

احتج القائلون بالأول بما عرفت من كلامه في المختلف وهو انما ملكه بشرط العوض لا مجانا ، فإنه إنما قبضها ليؤدي عوضها فلم يفعل ، ومن ذلك يظهر أن الواجب عليه أحد الأمرين ردها ، أو دفع العوض ، فان تعذر الأول وجب الثاني.

ومنه يعلم الجواب عن دليل المخالف ، وقوله «انه سلطه على التصرف فيه مجانا» فإنه إنما سلطه بشرط العوض ، وهذا هو معنى الضمان ، وقولهم انه لا يجب عليه دفع العوض ، ان أريد به عدم وجوبه عينا لم يلزم منه نفي الوجوب عن المبدل الذي هو المدعى ، وحينئذ فإذا تعذر أحد الأمرين المخير بينهما تعين الآخر ، وان أريد به عدم الوجوب بالكلية فهو ممنوع ، والى هذا القول مال في المسالك ، وقوته بما ذكرنا ظاهرة.

ثم انه على تقدير القول بالضمان مع التلف فهل الواجب مثل الموهوب أو قيمته؟ أو أن الواجب انما هو أقل الأمرين من ذلك ومن العوض ، وجهان : اختار ثانيهما في المسالك ، قال : لما عرفت من أن المتهب مخير بين الأمرين ، والمحقق لزومه هو الأقل ، لأنه ان كان العوض الأقل فقد رضي به الواهب في مقابلة العين ، وان كان الموهوب هو الأقل فالمتهب لا يتعين عليه العوض ، بل هو مخير بينه وبين بذل العين ، فلا يجب مع تلفها أكثر من قيمتها ، انتهى وهو جيد.

الرابعة ـ فيما لو كانت لأحد الزوجين ، والمشهور بين الأصحاب كراهة الرجوع فيما يهبه أحدهما للآخر من غير أن تكون الهبة لازمة يحرم الرجوع فيما ، وذهب جمع منهم الى عدم جواز الرجوع كالصور المتقدمة ، والأول قول الشيخ في كتبه واتباعه ، والثاني نقله الشيخ في الخلاف عن بعض الأصحاب ، وبه

٣٣٢

أفتى العلامة في التذكرة ، ونقله في التحرير عن الشيخ ، وهو مختار جملة من متأخري المتأخرين ، منهم المحدث الكاشاني في المفاتيح ، والفاضل الخراساني في الكفاية وهو ظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، ونقله عن جماعة من الأصحاب (رحمهم‌الله) وظاهر شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد الميل اليه من غير جزم ، حيث نفى عنه البعد ، وهذا هو الأظهر عملا بالخبر الرابع (١) وهو صحيح صريح في ذلك ، وبه يخص عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع بعد القبض مطلقا ، كما خص بغيره من الأخبار المتقدمة في الصور السابقة ، وعلى هذا فتكون الزوجية من أسباب اللزوم المستثناة من تلك الأخبار ، كغيرها مما قدمنا ذكره.

والظاهر أن من قال بالأول نظر الى عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع بعد القبض ، فجوز الرجوع وجعل ذلك مكروها ، نظرا الى قوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في صحيحة الحلبي (٢) الذي يرجع في هبته كالذي يرجع في قيئه ونحوها غيرها ، بحمله على الكراهة المؤكدة جمعا بينه وبين تلك الأخبار الدالة على جواز الرجوع كما تقدم ذكره ، إلا أن فيه ما عرفت من ورود الخبر الصحيح الصريح باللزوم ، وربما طعن في الصحيحة المذكورة بقوله عليه‌السلام فيها «حيز أو لم يحز» حيث ان ظاهره لزوم الهبة ، وان لم يقبض وهم لا يقولون به ، فما يدل عليه الخبر لا يقولون به ، وما يقولون به لا يدل عليه ، وأجاب عن ذلك في المسالك بأنه لما قامت الأدلة على عدم لزومها قبل القبض ، وجب أن تحمل هذه الأخبار على قبض آخر جديد غير القبض الأول ، جمعا بين الأدلة.

أقول : ويمكن أن يقال بالخبر المذكور على ظاهره ، ويخص هذا الحكم بالزوجين ، ولا مانع منه ، إذا دل عليه الخبر ، فكما أنه دل على استثناء الزوجين

__________________

(١) ص ٣٠١.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٥٥ ح ٦٣٥ ولا يخفى ان المتن المذكور هو مضمون رواية إبراهيم بن عبد الحميد التهذيب ج ٩ ص ١٥٨ ح ٦٥٣ والا فالمذكور في رواية الحلبي هو الصدقة بدل الهبة ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٦ ح ٤ وص ٣٤٣ ح ٤.

٣٣٣

من عموم تلك الأخبار الدالة على جواز الرجوع بعد القبض ، كذلك على استثنائهما من عموم الأخبار الدالة على جواز الرجوع قبل القبض ، فيقال : تلزم هبة أحد الزوجين للآخر بمجرد العقد ، قبض أو لم يقبض ، وان كان الحكم في غيرهما جواز الرجوع قبل القبض مطلقا ، وبعده إلا في الصورة المتقدمة التي دلت النصوص على استثنائها ، وأي مانع من ذلك ، إذا اقتضاه الدليل ، سيما مع استدلاله عليه‌السلام بالآيات المذكورة ، وهي مطلقة شاملة لما قبض أو لم يقبض.

وكيف كان فالظاهر أنه لا فرق في الزوجين بين الدائم والمنقطع ولا بين المدخول بها وغيرها ، ولا بين المطلقة رجعيا وغيرها ، بإطلاق النص ، أما البائنة فإنها ليست زوجة ، والله العالم.

الخامسة ـ فيما لو ضم إليها قصد القربة «ولا ينبغي لمن أعطى الله شيئا ان يرجع فيه ، وما لم يعط لله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز» وفي موثق عبيد بن زرارة (١) «ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ولا ينبغي لمن أعطى لله عزوجل أن يرجع فيه». وفي الخبر التاسع «هل لأحد أن يرجع في صدقته أو هبته قال : أما ما تصدق به لله فلا». ويؤيدها جملة من الأخبار المتقدمة في الصدقة ، وأنه لا يجوز الرجوع فيما قصد به القربة ، وعلل بعض المحدثين بأنه بالقربة قد استحق الثواب ، وصار عوضا ، فيكون من قبيل الهبة المعوضة التي قد تقدم أنه لا يجوز الرجوع فيها وهو جيد ، والله العالم.

السادسة ـ التصرف ، وقد اختلف الأصحاب (رحمهم‌الله) في أن تصرف المتهب إذا لم يكن داخلا في أحد الصور المتقدم ذكرها هل يوجب لزوم الهبة ويمنع رجوع المالك فيها أم لا؟ على أقوال : أحدها ـ عدم تأثير التصرف مطلقا في لزومها ، سواء كان تصرفا ناقلا للملك مانعا من الرد كالاستيلاد ، أو مغيرا للعين

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٥٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٢ ح ١.

٣٣٤

كطحن الحنطة ونحوها ، بل للواهب فسخها كما لو كانت قبل التصرف ، وهو مذهب المحقق في كتابيه ، واليه ذهب سلار وأبو الصلاح وهو ظاهر ابن الجنيد.

وثانيها ـ أنها تلزم بالتصرف مطلقا ، واليه ذهب الشيخان ، وابن البراج ، وابن إدريس ، وأكثر المتأخرين كالعلامة والشهيد في اللمعة وغيرهما.

وثالثها ـ التفصيل في ذلك ، بأنه ان كان التصرف موجبا لخروجها عن ملكه أو مغيرا لصورتها كقصارة الثوب ونجارة الخشب أو كان التصرف بالوطء ، فإنها تكون لازمة ، وان كان التصرف بدون ذلك كركوب الدابة وسكنى الدار وحلب اللبن ونحوها ، فإنها غير لازمة ، وهذا القول مذهب ابن حمزة والشهيد في الدروس وجماعة من المتأخرين ، وزاد ابن حمزة فقال : لا يقدح الرهن والكتابة ، وهو يشمل بإطلاقه ما لو عاد الى ملك الواهب أو لم يعد.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن مما يدل على القول الأول ظاهر الخبر الأول (١) وهو صحيح ، والتقريب فيه أنه عليه‌السلام جوز الرجوع إذا كانت الهبة قائمة بعينها ، والا فليس له ، وقيام العين الذي هو عبارة عن بقائها شامل لحالتي التصرف وعدمه ، وكذا ظاهر الخبر السابع (٢) لقوله عليه‌السلام بعد ذكر ما يدل على عدم الرجوع بالنسبة إلى ذي القرابة والذي يثاب ، «ويرجع في غير ذلك ان شاء» ،

وأجاب في المختلف عن هذين الخبرين حيث احتج بهما لأصحاب القول الأول مقتصرا عليهما بالحمل على ما إذا لم يوجد التصرف ، وفيه أن الحمل على خلاف الظاهر ـ كتخصيص العام وتقييد المطلق ـ يتوقف على وجود المعارض ليجمع بينهما بذلك ، وهو لم يذكر هنا ما يوجب المعارضة على هذا الوجه الا بعض الوجود الضعيفة ، كما سيظهر لك ان شاء الله تعالى ، ثم ان مما يستدل به لهذا القول الأخبار المتقدمة ذكرها في صدر هذا الموضع ، فإنها متفقة على جواز

__________________

(١) ص ٣٠٠.

(٢) ص ٣٠١.

٣٣٥

الرجوع بعد القبض مطلقا في بعض ، ومع استثناء بعض الصور المتقدمة في بعض ، ففي بعضها استثناء ما يعطى لله من نحلة أو هبة أو صدقة ، وبعضها استثناء ذي الرحم ، والتحقيق في هذا المقام انك إذا نظرت الى الروايات الدالة على جواز الرجوع بعد القبض مطلقا ، أو ضممت إليها ما دل من الأخبار على عدم جواز الرجوع في الصور التي قدمناها ، ظهر لك أن الواجب تقييد إطلاق تلك الأخبار بهذه الأخبار الواردة في هذه الصور ، وبقاء ما عدا هذه الصور على الدخول تحت الإطلاق ، فإن العام المخصص والمطلق المقيد حجة فيما بقي بعد التخصيص والتقييد ، ولا دليل في هذه الصورة المدعاة هنا حتى يمكن أن يخصص تلك الأخبار به ، كما خصصت بغيره من اخبار الصور المتقدمة ، وبه تظهر قوة القول المذكور.

حجة القول الثاني ـ وجوه ملتقطة من تضاعيف عبارات أصحاب هذا القول عموم قوله تعالى (١) «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ» وليس الرجوع تجارة ، ولا عن تراض ، وهذا مما استدل به في المختلف على ما اختاره من هذا القول.

الثاني ـ عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (٢) خرج منه ما دل الدليل على جوازه ، فيبقى الباقي على أصله.

الثالث ـ رواية إبراهيم بن عبد الحميد (٣) عن الصادق عليه‌السلام قال : «أنت بالخيار في الهبة ما دامت في يدك ، فإذا خرجت الى صاحبها فليس لك أن ترجع فيها» وقال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : «من رجع في هبته فهو كالراجع في قيئه». خرج من ذلك ما أخرجه الدليل ، وبقي الباقي على أصله ، وهذا الوجه مما استدل به في المختلف أيضا.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٢٩.

(٢) سورة المائدة ـ الاية ١.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٥٨ ح ٦٥٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٣ ح ٤.

٣٣٦

الرابع ـ جواز الرجوع يقتضي تسلط الواهب على ملك المتهب ، وهو خلاف الأصل لقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «الناس مسلطون على أموالهم». فيقتصر فيه على موضع الدليل.

الخامس ـ قال الشيخ وروى الأصحاب أن المتهب متى تصرف في الهبة فلا رجوع فيها ، وهو يدل على وجود روايات بذلك.

السادس ـ أن المتهب قد ملك بالعقد والإقباض ، فظهر أثر المتهب بالتصرف ، فقوى وجود السبب فكان تاما ، وإلا لم يتحقق أثره ، فلا يتحقق النقل إلا بسبب طار ، والرجوع ليس سببا هنا ، وإلا لكان سببا في غيره ، وهذا الوجه مما ذكره في المختلف ، وهو أول أدلته.

السابع ـ أن جواز الرجوع يقتضي الضرر والإضرار بالمتهب على تقدير بنائه وغرسه وطول مدته ، وهما منفيان شرعا.

الثامن ـ ان الموهوب قد صار ملكا للمتهب بعقد الهبة فلا يعود الى ملك الواهب إلا بعقد جديد أو ما هو في حكمه.

التاسع ـ أنه إجماع ، لأن المخالف معروف بالاسم والنسب فلا يقدح.

العاشر ـ اخبار القي‌ء ، وهي متعددة ، هذه جملة أدلتهم على القول الثاني ، وسنبين ان شاء الله تعالى ما فيها من القصور ، لكن قبل الشروع في ذلك لا بد من تمهيد كلام في المقام يكون كالوجه الجهلى لرد ما ذكروه هؤلاء الأعلام ، ثم نعطف الكلام على بيان ما في هذه الوجوه السقام ، فنقول قد عرفت مما ذكرناه في صدر هذا الموضع ان المشهور في كلامهم من غير خلاف يعرف ، بل ادعى عليه الإجماع ، أنه يجوز الرجوع بعد القبض إلا في مواضع مخصوصة ، وقد دلت جملة من الأخبار الصحاح الصراح على ذلك ، وأما ما عارضها من الأخبار الدالة على العدم فمع قصورها عن المعارضة لتلك الأخبار ، فإنه لا قائل بها من الأصحاب ،

__________________

(١) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ الطبع الحديث ح ٧.

٣٣٧

وحملوها على الكراهة المغلظة جمعا بين الأخبار وحينئذ فالواجب هو الوقوف على هذه الأخبار المذكورة الصحيحة الصريحة المعتضدة بعمل الأصحاب واتفاقهم على القول بها حتى يقوم دليل على ما يوجب الخروج عن إطلاقها وعمومها.

نعم قام الدليل بالنسبة إلى الصور التي قدمناها ، فذيلناه بالأخبار الدالة على ذلك فوجب استثنائها ، واما فيما نحن فيه فليس إلا هذه الوجوه التي لفقوها ، وهي أوهن من بيت العنكبوت ، وانها لأوهن البيوت.

أما الأول ففيه أن الرجوع ليس أكل مال بالباطل ، لأنا إنما جوزنا الرجوع بتلك الأخبار الصحيحة الصريحة في جواز الرجوع بعد القبض ، فإنها صحيحة صريحة في الرجوع.

نعم قام الدليل من خارج على عدم جواز الرجوع في بعض الموارد ، فخصصنا به تلك الأخبار ، فبقيت فيما عداه على إطلاقها ، بل أكل المال بالباطل إنما يلزم القائل باللزوم ، وعدم جواز الرجوع ، فإنه متى دلت الأخبار على جواز الرجوع ويرجع الواهب ، ولم يدفع إليه بناء على دعوى لزوم الهبة بالتصرف ، فان اللازم من ذلك أكل المتهب لها بالباطل ، لمخالفته مقتضى النصوص المذكورة الدالة على استحقاق الواهب لها بعد رجوعه منها.

وأما الثاني ففيه أن العقود منها الصحيح ، ومنها الفاسد ، ومنها الجائز ومنها اللازم ، وقد حققنا سابقا أنه لا يجوز العمل بالآية على ظاهرها لما عرفت ، بل الواجب حملها على العقود اللازمة ، وما نحن فيه ليس بلازم ، لدلالة النصوص الصحيحة واتفاقهم على جواز الرجوع بعد القبض أعم من أن يكون قد تصرف أو لم يتصرف ودعوى كون العقد لازما هنا بالتصرف مصادرة ، لانه عين المتنازع.

وأما الثالث فمع قطع النظر عن ضعف السند الذي يوجب طرحه باصطلاحهم فضلا عن أن يصلح للمعارضة ، فإنك قد عرفت أن هذا الخبر وما في معناه من الأخبار الدالة على عدم الرجوع بعد القبض قد حملها الأصحاب على الكراهة ،

٣٣٨

تفاديا من طرحها ، حيث انه لا قائل بها ، فكيف يستدلون بها هنا ، وهم انما يدعون اللزوم هنا من حيث التصرف ، والرواية وما في معناها إنما دلت على اللزوم وعدم جواز الرجوع بمجرد القبض ، وليس فيها تعرض للتصرف بوجه ، فما تدل عليه الرواية لا يقولون به ، وما يقولون لا تدل عليه فكيف يتم الاستدلال بها والحال كما ترى.

وأما الرابع ففيه أن جواز الرجوع مما اقتضته الصحاح المتقدم ذكرها والمتهب انما ملكه ملكا متزلزلا مراعى بعدم الفسخ من الواهب ، فان مجرد القبض لا يقتضي لزوم الهبة ، كما عرفت ، بل هي جائزة لا تلزم إلا بأحد الأسباب الموجبة للزومها ، وليس هذا منها ، ودعوى ان التصرف من جملتها مصادرة ، ومتى فسخ الواهب ورجع فإنما رجع في ماله ، وتسلط على ماله ، لا مال المتهب ، وحينئذ فالاستدلال بالخبر عليهم ، لا لهم.

واما الخامس ففيه أن الاستدلال بمجرد هذا الكلام مجازفة محضة سيما على مذاقهم واصطلاحهم ، ومناقشتهم في الأخبار المروية في الأصول ، فكيف يعتمدون هنا على مجرد هذا الكلام ، مع أن كتب الأخبار خالية من ذلك وأصحاب هذا القول بعد الفحص والمناقشة في تحصيل دليل لهم من الأخبار لم يعثروا ، إلا على رواية إبراهيم بن عبد الحميد المذكورة ، وأوردوا واستدلوا بها ، وقد عرفت ما فيها سندا ودلالة.

وأما السادس وهو أقوى أدلته في المختلف ، ولهذا قدمه وبالغ في الذب عنه ، ففيه ما ذكره في المسالك من أنه ان أراد بالملك بعد العقد والإقباض هو الملك على جهة اللزوم ، فهو عين النزاع ومحل البحث ، وهل هو إلا مصادرة ، وان أراد تحقق الملك المطلق أعم من اللازم والجائز وترتب أثر هذا المطلق فهو غير نافع لأن العقد الجائز لا يرفع جوازه التصرف فيه على هذا الوجه ، كما يظهر ذلك في تصرف أحد المتبايعين مع وجود الخيار للآخر ، وكما في التصرف غير المغير للعين

٣٣٩

ولا الناقل للملك في الهبة عند بعض الأصحاب ، وحينئذ فالظاهر من أثر الملك إنما هو أثر الملك اللازم الحاصل وهو الحائز رفعه على ما يدعيه الخصم ، ودلت عليه الأخبار الصحيحة ، وذلك لا يوجب قوة السبب ولا تماميته ، ولا ينافي كونه سببا ، ودعوى كون الرجوع ليس سببا هنا عين المتنازع ، فان الخصم يجعله سببا تاما في رفع ملك المتهب ، وإثبات ملك الواهب بواسطة جواز العقد الذي قد استفيد من النصوص ، انتهى ، وهو جيد رشيق.

وأما السابع فضعفه أظهر من أن يخفى ، إذ لا خلاف كما عرفت ولا إشكال في كون العقد بعد القبض جائزا متزلزلا ، للواهب فسخه والرجوع فيما وهبه متى أراد ، كما دلت عليه الأخبار الصحيحة المعتضدة بفتوى الأصحاب واتفاقهم ، وحينئذ فتصرف المتهب على هذا الوجه اقدام منه على الضرر ، ورضا به ، لتصرفه في ملك غير مستقر ولا لازم ، فادخاله الضرر على نفسه لا يكون حجة على غيره ، ولا يدخل تحت خبر الضرار ، كما هو ظاهر لذوي الأبصار والأفكار.

وأما الثامن فهو كسابقه في الضعف ، لما تقدم في جواب الوجه السادس ، وهو أنه ان أراد بالملك هو الملك اللازم فهو أول المسئلة ومحل البحث ، وان أراد الأعم لم ينفعه ، ولم يضر الخصم ، وأما قوله فلا يعود الى ملك الواهب إلا بعقد جديد وما في حكمه ، ففيه بعد الإغماض عن المناقشة فيه بأن ذلك إنما هو في الملك اللازم الذي ليس لصاحبه الرجوع فيه ، على أنا نقول ان الفسخ هنا في حكم العقد ، حيث انه ناقل للملك من المتهب الى الواهب ، كما هو ظاهر.

وأما التاسع فهو أشد ضعفا من هذه الوجوه المذكورة ، وكيف يدعى الإجماع في موضع هذا الخلاف المنتشر بين عظماء الطائفة ، والمعركة العظمى والمناقشات الزائدة كما عرفت ، وستعرف ، ونحن في شك واشكال من حجية الإجماع في موضع لم يظهر فيه الخلاف ، فكيف بهذا الموضع الذي قد عرفت اتساع دائرة الخلاف فيه ، وما هذه الدعوى عند ذوي الإنصاف إلا من قبيل الهذيانات

٣٤٠