الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان الصدقة محدثة ، انما كان الناس على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينحلون ويهبون ولا ينبغي لمن أعطى لله عزوجل شيئا أن يرجع فيه ، قال : وما لم يعط لله وفي الله ، فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته ، ولا المرأة فيما تهب لزوجها ، حيز أو لم يحز أليس الله تعالى يقول «وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» وقال «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ‌ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» وهذا يدخل في الصداق والهبة».

ورواه العياشي في تفسيره عن زرارة (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : لا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه» الحديث الى قوله : هنيئا مريئا. ولم يذكر قوله ، وهذا يدخل فيه الصداق والهبة.

الخامس ـ ما روياه عن محمد بن مسلم (٢) في الصحيح «عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : الهبة والنحلة يرجع فيها صاحبها ان شاء حيزت أو لم تحز إلا الذي رحم فإنه لا يرجع فيه».

السادس ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن القاسم بن سليمان (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يهب الجارية على أن يثاب فلا يثاب إله أن يرجع فيها؟ قال : نعم ان كان شرط له عليه ، قلت : أرأيت ان وهبها له ولم يثبه أيطأها أم لا؟ قال : نعم إذا كان لم يشترط عليه حين وهبها».

السابع ـ ما رواه أيضا عن عبد الرحمن بن أبى عبد الله وعبد الله بن سليمان (٤) في الصحيح «قالا : سألنا أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يهب الهبة أيرجع فيها ان شاء أم لا؟ فقال : تجوز الهبة لذوي القرابة ، والذي يثاب من هبته ويرجع في غير ذلك ان شاء».

ورواه بسند آخر عن عبد الله بن سنان (٥) مثله ، الا انه قال والذي يثاب في هبته.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٥ الباب ٥ ح ٢ ، العياشي ج ١ ص ١١٧ ح ٣٦٦.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣١ ح ٧ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥٦ ح ٦٤٣. الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٨ ح ٢.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٥٤ ح ٦٣٣.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٩ ص ١٥٥ ح ٦٣٦ وص ١٥٨ ح ٦٥٠ ولا فرق بين الروايتين وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٨ ح ٢ وص ٣٤١ ح ٢ وص ٣٣٨ ح ١ وص ٣٤٢ ح ٣.

٣٠١

الثامن ـ ما رواه في الصحيح عن أبان عمن أخبره (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : النحل والهبة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها؟ قال : هي بمنزلة الميراث وان كان الصبي في حجره فهو جائز ،. قال : وسألته هل لأحد أن يرجع في صدقته وهبته؟ قال : إذا تصدق لله فلا ، وأما النحل والهبة فيرجع فيها حازها أو لم يحزها وان كانت لذي قرابة». ورواه بطريق آخر في الموثق عن داود بن الحصين (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «الهبة والنحلة ما لم تقبض حتى يموت صاحبها؟ قال : هي ميراث فان كانت لصبي في حجره فأشهد عليه فهو جائز».

التاسع ـ ما رواه عن المعلى بن خنيس (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام هل لأحد أن يرجع في صدقته أو هبته قال : أما ما تصدق به لله فلا» ، الحديث.

العاشر ـ ما رواه عن معاوية بن عمار (٤) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل كانت عليه دراهم لإنسان فوهبها له ثم رجع فيها ثم وهبها له ثم رجع فيها ثم وهبها له ، ثم هلك قال : هي للذي وهب له».

الحادي عشر ـ ما رواه عن جميل بن دراج (٥) في الموثق «عن أبى عبد الله عليه‌السلام عن رجل وهب لابنه شيئا هل يصلح أن يرجع فيه؟ قال : نعم الا أن يكون صغيرا».

الثاني عشر ـ ما رواه عن صفوان (٦) في الصحيح «قال سألت الرضا عليه‌السلام عن رجل كان له على رجل مال فوهبه لولده فذكر له الرجل المال الذي له عليه فقال له : ليس عليك فيه شي‌ء في الدنيا والآخرة يطيب ذلك له ، وقد كان وهبه لولد له؟ قال : نعم يكون وهبه له ، ثم نزعه فجعله هبة لهذا».

__________________

(١ و ٢) التهذيب ج ٩ ص ١٥٥ ح ٦٣٧ وص ١٥٧ ح ٦٤٨.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٤ الباب ٤ ح ١ وص ٣٣٧ ح ٢.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٩ ص ١٥٨ ح ٦٥١ وص ١٥٥ ح ٦٣٨.

(٥ و ٦) التهذيب ج ٩ ص ١٥٧ ح ٦٤٦ و ٦٤٩ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٩ ح ٤ وص ٣٣٣ ح ٢ وص ٣٣٧ ح ١ وص ٣٣٣ الباب ٢.

٣٠٢

الثالث عشر ـ ما رواه في الكافي عن محمد بن عيسى العبيدي (١) قال : «كتبت الى علي بن محمد عليهما‌السلام رجلا جعل لك جعلني الله فداك شيئا من ماله ثم احتاج اليه أيأخذه لنفسه أو يبعث به إليك؟ قال : هو بالخيار في ذلك ما لم يخرجه عن يده ، ولو وصل إلينا لرأينا أن نواسيه به وقد احتاج اليه».

الرابع عشر ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن أبى بصير (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال الهبة لا تكون أبدا هبة حتى يقبضها ، والصدقة جائزة عليه».

الخامس عشر ـ ما رواه عن إبراهيم بن عبد الحميد (٣) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : أنت بالخيار في الهبة ما دامت في يدك ، فإذا خرجت الى صاحبها فليس لك أن ترجع فيها ، وقال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : من رجع في هبته فهو كالراجع في قيئه».

السادس عشر ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (٤) في الموثق قال : «سألته عن رجل أعطى أمه عطية فماتت وكانت قد قبضت الذي أعطاها وثابت به ، قال : هو والورثة فيها سواء».

السابع عشر ـ ما رواه في التهذيب في الصحيح عن أبى بصير (٥) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض قسمت أو لم تقسم ، والنحل لا يجوز حتى يقبض ، وانما أراد الناس ذلك فأخطئوا».

ورواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار (٦) في الصحيح الى أبى بصير وهو

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٧٣ ح ٦٠٦. الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٦ ح ٨.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٩ ص ١٥٩ ح ٦٥٤ وص ١٥٨ ح ٦٥٣.

(٤) التهذيب ج ٩ ص ١٥٤ ح ٦٣١ ، الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٦. الوسائل ج ١٣ ص ٣١٧ ح ٣.

(٥) التهذيب ج ٩ ص ١٥٦ ح ٦٤١. الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٥ ح ٤.

(٦) معاني الأخبار ص ٣٩٢ ح ٣٨ ط تهران سنة ١٣٧٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٦ ح ٨ و ٧ وص ٣٤٣ ح ٤ وص ٣١٧ ح ٣ وص ٣٣٥ ح ٤.

٣٠٣

مشترك وان كان الأظهر عده في الصحيح قال : بعد قوله أو لم تقسم وانما أراد الناس النحل فأخطئوا ، والنحل لا تجوز حتى تقبض».

الثامن عشر ـ ما رواه في الفقيه مرسلا (١) قال : «وفي رواية السكوني أن عليا عليه‌السلام كان يرد النحلة في الوصية وما أقر عند موته بلا ثبت ولا بينة رده».

التاسع عشر ـ ما رواه في التهذيب عن أبى بصير (٢) قال : «سألته عن الرجل يشترى المبيع فيوهب له الشي‌ء وكان الذي اشترى لؤلؤا فوهبت له لؤلؤة فرأى المشتري في لؤلؤة أن يرد أيرد ما وهب له؟ قال : الهبة ليس فيها رجعة وقد قبضها؟ انما سبيله على البيع ، فان رد المبتاع المبيع لم يرد معه الهبة».

العشرون ـ ما رواه عن سماعة (٣) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن عطية الوالد لولده فقال : اما إذا كان صحيحا فهو ماله يصنع به ما شاء ، واما في مرضه فلا يصلح».

الحادي والعشرون ـ ما رواه عن أبى بصير (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يخص بعض ولده بالعطية؟ قال : ان كان مؤسرا فنعم ، وان كان معسرا فلا».

الثاني والعشرون ـ ما رواه عن سماعة (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون لامرأته عليه صداق أو بعضه فتبرئه منه في مرضها قال : «لا ، ولكن ان وهبت له جاز ما وهبت له من ثلثها».

الثالث والعشرون ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن سماعة (٦) في الموثق

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٨٤ ح ٦٤٦.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٢٣١ ح ١٠٠٨. الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٥ ح ٤.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٩ ص ١٥٦ ح ٦٤٢ و ٦٤٤.

(٥) التهذيب ج ٩ ص ١٥٨ ح ٦٥٢. الوسائل ج ١٣ ص ٣٨٤ ح ١٢.

(٦) الكافي ج ٧ ص ٣٤٦ ح ١٤ ، التهذيب ج ١٠ ص ٢٨٨ ح ١١١٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١١٠ ح ٣٧١ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٥ ح ٤ وص ٣٨٠ ح ١٢ وص ٣٨٤ ح ١١ و ١٢ و ١٦.

٣٠٤

قال : سألته عن رجل ضرب ابنته وهي حبلى فأسقطت سقطا ميتا فاستعدى زوج المرأة عليه ، فقالت المرأة لزوجها : ان كان لهذا السقط دية ولي فيه ميراث ، فإن ميراثي منه لأبي ، قال : يجوز لأبيها ما وهبت له». ورواه في الفقيه عن سماعة مثله ورواه في التهذيب بسند آخر صحيح عن سليمان بن خالد (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام مثله وقال يؤدى أبوها إلى زوجها ثلثي دية السقط».

الرابع والعشرون ـ في التهذيب عن عبد الله بن سنان (٢) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ليس للمرأة مع زوجها أمر في عتق ولا صدقة ولا تدبير ولا هبة ولا نذر في مالها إلا بإذن زوجها أو زكاة أو بر والديها أو صلة قرابتها».

الخامس والعشرون ما رواه عن محمد بن إسماعيل بن بزيع (٣) قال : سألت الرضا عليه‌السلام يأخذ من أم ولده شيئا وهبه لها من غير طيب نفسها من خدم أو متاع أيجوز ذلك له؟ قال : نعم إذا كانت أم ولده.

السادس والعشرون ـ ما رواه في التهذيب عن إسحاق بن عمار (٤) في الموثق «قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ما تقول في رجل يهب لعبده ألف درهم أو أقل أو أكثر فيقول : حللني من ضربي إياك ومن كل ما كان مني إليك وما أخفتك وأرهبتك فيحلله ويجعله في حل رغبة فيما أعطاه ، ثم ان المولى بعد ، أصاب الدراهم التي أعطاه في موضع قد وضعها فيه العبد ، فأخذها المولى إحلال هي له؟ قال : فقال : لا تحل له ، لأنه افتدى بها نفسه من العبد مخافة العقوبة والقصاص يوم القيامة ، قال : فقلت له : فعلى العبد أن يزكيها ، إذا حال عليها الحول؟ قال : لا ، إلا أن يعمل له بها ولا يعطى العبد من الزكاة شيئا».

__________________

(١) التهذيب ج ١٠ ص ٢٨٨ ح ١١١٨.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٦٢ ح ١٨٥١ ، الكافي ج ٥ ص ٥١٤ ح ٤.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٢٠٦ ح ٧٢٩.

(٤) التهذيب ج ٨ ص ٢٢٥ ح ٨٠٨.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٣ ح ١ وج ١٦ ص ١٢٣ ح ٢ وج ١٣ ص ٣٥ ح ٣.

٣٠٥

أقول : وقد تقدم في المقصد الثاني موثق عبيد بن زرارة (١) وفيه «ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ، ولا ينبغي لمن اعطى لله عزوجل أن يرجع فيه».

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مواضع الأول ـ لو أراد هبة ما في الذمة فلا يخلو اما أن يكون لغير من عليه الحق ، أو لمن عليه الحق ، فهنا مقامان أحدهما في هبة غير من عليه الحق ، وقد اختلف الأصحاب (رحمهم‌الله) في صحة ذلك وبطلانه ، والمشهور البطلان لما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ تحقيقه من أن القبض شرط في صحة الهبة وما في الذمة يمتنع قبضه ، قالوا : لأنه ماهية كلية لا وجود لها في الخارج ، والجزئيات التي في ضمنها ليس هي الماهية ، بل بعض أفرادها غيرها.

أقول : ويؤيده ما صرح به الشيخ في المبسوط حيث منع من وقف الدين ، قال : لأن من شروطه القبض ، والدين لا يمكن تسليمه ، ولا يمكن فيه القبض ، وذهب الشيخ وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى الصحة ، واحتج عليه في المختلف بأنه يصح بيعه ، والمعاوضة عليه ، فتصح هبته لغير من هو عليه ، واشتراط الهبة بالقبض لا ينافيه ، لتحققه بأن يقبضه المالك ، ثم يقبضه الموهوب ، أو يوكله المالك في القبض عنه ، ثم يقبض من نفسه.

أقول : ويدل على القول بالصحة ظاهر الخبر الثاني عشر ، والتقريب فيه التقرير على صحة الهبة لولده وان جاز له نزعه منه ، كما صرح به عليه‌السلام والنزع منه مستلزم لحصول الانتقال إليه بالهبة.

بقي الكلام فيه من حيث جواز الرجوع فيما يهبه لولده ، وهي مسئلة أخرى يأتي الكلام فيها ان شاء الله تعالى ، وظاهر الخبر هو صحة الهبة وان لم يحصل قبض ، ويمكن حمله على أن القبض شرط في اللزوم لا الصحة ، والهبة

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٠ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٢ ح ١.

٣٠٦

صحيحة وان لم تكن لازمة ، وسيجي‌ء تحقيق الكلام في ذلك أيضا ان شاء الله تعالى.

وأما ما قيل : من أن الدين ماهية كلية لا وجود لها في الخارج الى آخر ما تقدم ، فجوابه أنه لو تم ذلك لما صح بيعه والمعاوضة عليه ، لأن البيع مشروط بالقدرة على التسليم إجماعا في غير الآبق ، بل يشترط وجوده مطلقا ، والماهية لا وجود لها على ما ذكروه ، وبه يظهر أن الماهية وان كانت من حيث هي لا وجود لها إلا أنها موجودة بوجود بعض أفرادها ، والا لما صح البيع ونحوه كما عرفت ، مع أنه لا خلاف في الصحة.

وبالجملة فإن ما في الذمة ان كان موجودا متحققا يمكن قبضه وتسليمه ، فبيعه وهبته صحيحان ، لحصول الشرط والقدرة على القبض ، ونحن لا نحكم بصحة الهبة إلا بعد القبض ، كما لا نحكم بصحتها لو تعلقت بعين إلا بعد قبضها ، والقبض لما كان ممكنا بقبض بعض أفراد الماهية كما قدمنا ذكره صحت الهبة ، وتوقفت على حصول القبض على ذلك الوجه ، ولا ريب في أن الدين مملوك للواهب قبل قبضه ، وقبضه ممكن على الوجه المذكور ، فصحت هبته ، وتوقفت على قبضه كما توقفت لو كانت عينا ، وبه يظهر أنه لا يمتنع نقله الى ملك المتهب حال كونه دينا كما ذكروه ، لأنه مملوك له ، وإلا لما صح بيعه أيضا.

وثانيهما ـ في هبة من عليه الحق ، والظاهر أنه لا خلاف في صحة ذلك في الجملة ، إنما الخلاف في اشتراط ذلك بالقربة ، كما سيأتي بيانه ان شاء الله تعالى لكن الهبة هنا عند الأصحاب بمعنى الإبراء من الدين ، فلا يشترط فيها القبض ولا يجرى فيها الاشكال المتقدم ذكره ، ويدل على ذلك الخبر الثالث والعاشر ، وما اشتمل عليه الخبر العاشر من الرجوع بعد الهبة ، فإنما وقع في حكاية كلام السائل ، فلا ينافي ما دل عليه الخبر الآخر من أنه بعد الهبة ليس له الرجوع ، وبذلك استدل الأصحاب على كون الهبة هنا بمعنى الإبراء ، حيث ان الهبة بمجردها لا يلزم إلا في مواضع مخصوصة يأتي ذكرها ، وليس هذا منها ، فامتناع الرجوع

٣٠٧

إنما كان من حيث انه إبراء ، والإبراء لازم لا رجوع فيه اتفاقا ، وظاهر الأصحاب أنه لا ينحصر في لفظ ، بل كلما أدى هذا المعنى من لفظ الإبراء أو العفو أو الهبة أو الإسقاط أو نحو ذلك ، فإنه تحصل به البراءة وفراغ الذمة وقد أطلق عليه لفظ العفو في قوله عزوجل (١) «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» وحيث ان الأصحاب قد اختلفوا في أن الإبراء هل يتوقف صحته على القبول أم لا؟ والهبة هنا في معنى الإبراء كما عرفت ، اختلفوا في اشتراط القبول فيها ، فكل من أوجبه ثمة أوجبه هنا ومن لا فلا ، والمشهور بين الأصحاب العدم ، ونقل في المختلف القول بالاشتراط عن الشيخ في المبسوط وابن زهرة وابن إدريس ، قال : قال الشيخ في المبسوط : قال قوم من شرط صحته قبوله ، وما لم يقبل فالحق ثابت بحاله ، وهو الذي يقوي في نفسي ، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ذكر أن كلام الشيخ في المبسوط هنا مختلف ، ففي أول المسئلة قواه ، وفي آخره قوى القول الآخر قال : فإطلاق جماعة نسبة القول باشتراطه اليه ليس بجيد.

احتج القائلون بعدم الاشتراط بالأصل ، وبأنه إسقاط لا نقل شي‌ء إلى الملك فهو بمنزلة تحرير العبد.

أقول : ويدل عليه ظاهر قوله عزوجل «إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» حيث اكتفى في سقوط الحق بمجرد العفو ، والقبول غير داخل في مسماه قطعا ، واستدل أيضا على ذلك بقوله عزوجل (٣) «فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ» حيث اعتبر مجرد الصدقة ولم يعتبر القول وقوله تعالى (٤) : «وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلّا أَنْ يَصَّدَّقُوا» فأسقط الدية بمجرد الصدقة ولم يعتبر القبول ، والمراد بالصدقة في الآيتين الإبراء.

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٣٧.

(٣) سورة البقرة ـ الاية ٢٨٠.

(٤) سورة النساء ـ الاية ٩٢.

٣٠٨

واعترض في المسالك على الاستدلال في الآيتين المذكورتين بأن الصدقة كما تقدم من العقود المفتقرة إلى القبول إجماعا ، فدلالتهما على اعتباره أولى من عدمه.

أقول : الظاهر من كلام المفسرين وهو ظاهر الآيتين المذكورتين إنما هو الإبراء ، والعفو عما يستحقونه ، احتج القائلون بالاشتراط باشتمال الإبراء على الهبة ، فلا يجبر على تحملها ، وقبولها كهبة العين ، ولو لم يعتبر القبول فتحملها جبرا.

وأجيب عنه بالفرق بين هبة العين وهبة الدين ، فإن الأول تمليك ، والثاني إسقاط ، فاعتبر القبول في الأول دون الثاني ، وتوضيحه أن الهبة لما كانت هنا بمعنى الإبراء كما عرفت ، ومن الظاهر أن الإبراء لا يتعلق بالأعيان ، فإنه لو أبرأ مالك الوديعة الودعي منها لم يملكها ولو قبل ، وكذا لو أسقط حقه من عين مملوكة لم تخرج بذلك عن ملكه ، بخلاف الدين ، فإنه قابل لذلك ، فإنه ليس شيئا موجودا ، فكان أشبه بالعتق.

وأما ما ذكروه من اشتمال الإبراء على الهبة ، ففيه أنه لا يخفى أن إسقاط الإنسان حق نفسه باختيار ، من غير طلب من عليه الحق واستدعائه ذلك لا يظهر فيه منة ، بثقل تحملها على من عليه الحق ، بخلاف هبة الأعيان المتوقفة على القبول والقبض ونحو ذلك مما يشترط في صحة العقود ، مما هو ظاهر في الحرص على التملك الموجب للمنة غالبا ، والله العالم.

الثاني : لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط القبض في الهبة في الجملة ، وإنما الخلاف في كونه شرطا في الصحة أو اللزوم؟ فالمشهور بين المتأخرين الأول ، ونقله في المختلف عن أبى الصلاح ونقله ابن إدريس عن أكثر علمائنا ، وذهب الشيخان وابن البراج وابن حمزة وابن إدريس والعلامة في المختلف إلى الثاني.

ويظهر الخلاف في مواضع ، منها النماء المتخلل بين العقد والقبض ، فإنه يكون للواهب على الأول ، وللمتهب على الثاني.

٣٠٩

ومنها ما لو مات الواهب قبل الإقباض ، فإنها تبطل على الأول ، ويتخير الوارث بين الإقباض وعدمه على الثاني.

ومنها فطرة المملوك الموهوب قبل الهلال ولم يقبضه الا بعده ، فإنها على الواهب على الأول ، وعلى الموهوب له على الثاني.

ومنها نفقة الحيوان في المدة المتخللة ، وأنت خبير بأن الأخبار في هذا المقام لا تخلو من اختلاف ، فمما يدل على القول الأول الخبر الثامن ، حيث صرح فيه بأنها بعد الموت وقبل القبض ترجع ميراثا ، وهو ظاهر في بطلانها قبل القبض ، ولو كانت صحيحة كما هو القول الآخر لكان الحكم تخير الوارث بين الإقباض فتلزم وعدمه ، والخبر الرابع عشر لدلالته على أن الهبة لا تكون هبة أبدا الا بالقبض ، ومفهومه أنها بدونه لا تكون هبة وهو أظهر ظاهر في البطلان بدون القبض.

واستدل القائلون بهذا القول زيادة على الخبرين المذكورين بأن الأصل بقاء الملك على مالكه ، وعدم تأثير العقد في مقتضاه ، خرج منه ما بعد القبض بالإجماع ، فيبقى الباقي.

وأجاب عنه الآخرون بارتفاع الأصل بطرو السبب الناقل ، وعموم الأمر (١) «بالوفاء بالعقد» يمنع تأثيره بقبضه مطلقا ، وأجابوا عن الرواية الأولى بضعف السند ، وعن الثانية بأنه لا يجوز حملها على ظاهرها ، والا لزم التناقض ، بل المراد أن الهبة لا تكون هبة لازمة أبدا حتى يقبض ، وهو أولى من إضمار الصحة ، فإن ما ليس بصحيح كالمعدوم ، ومما يدل على القول الثاني الخبر السابع عشر ، وهو مع صحته ظاهر بل صريح في صحة الهبة قبل القبض ، لأن المراد بالجواز في هذا الباب وما تقدمه اللزوم في أكثر الأخبار ، ولكن وجه الجمع بين هذا الخبر وغيره يقتضي الحمل على الصحة ، واحتجوا على ذلك زيادة على الرواية بأنه عقد يقتضي التمليك ، فلا يشترط في صحته القبض ، كغيره من العقود ، ولعموم

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.

٣١٠

الأمر بالوفاء بها المقتضى له ، ولأنه تبرع كالوصية ، فلا يعتبر فيها أيضا.

واعترضه في المسالك فقال : ويمكن أن يقال : ان العقود منها ما يقتضي الملك ، ومنها ما لا يقتضيه بدون القبض ، وقد تقدم منه الوقف ، فيكون أعم ، والمراد بالوفاء بها العمل بمقتضاها من لزوم وجواز وغيرهما ، فلا يدل على المطلوب ، وكذلك مطلق التبرع أعم مما لا يعتبر فيه القبض ، والحاقه بالوصية قياس ، وأجاب عن الرواية بأن إطلاق الهبة على غير المقبوضة أعم من الحقيقة ، وجاز أن يكون مجازا تسمية للشي‌ء باسم ما يؤل إليه على تقدير لحوقه ، أو إطلاقا لاسم المجموع على بعض الأجزاء ، فان الإيجاب والقبول أعظم أجزاء السبب التام في تحققها ، ومطلق جوازها لا نزاع فيه ، انتهى وهو مؤذن باختياره القول الأول.

أقول : ما أجاب به عن تلك الوجوه غير بعيد ، وان أمكن المناقشة في بعضه ، وأما ما أجاب به عن الرواية فهو في غاية البعد ، ولو قامت أمثال هذه الاحتمالات لانسدت أبواب الاستدلالات ، على أنه أولا لا معنى للحكم بالجواز عليها الذي هو بمعنى الصحة أو اللزوم كما عرفت ، والحال أنها ليست بهبة حقيقة ، وإنما أطلق عليها مجازا ، والا للزم الحكم بالصحة في كل ما أعطى وان لم يكن هبة بمجرد ارتكاب التجوز فيه ، وهو لا يقول به.

وثانيا ان اللازم من كلامه استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وهم لا يقولون به ، لأن قوله عليه‌السلام الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض ، قد أطلق فيه الهبة على كل من المقبوضة ، وغير المقبوضة ، وهي عنده ليست بهبة حقيقة ، فقد استعمل عليه‌السلام لفظ الهبة في كل من حقيقته ومجازه.

وثالثا أن مقابلتها بالنحل وأنها لا يجوز حتى يقبض ، بمعنى أنه يشترط في صحتها أو لزومها القبض ، أظهر ظاهر في أن المراد بالهبة في صدر الخبر هو ما يسمى هبة حقيقة لا مجازا ، والا فإن هذا الفرد المجازي الذي ادعاه حكمه حكم النحل

٣١١

من أنه لا يجوز ولا يصح أو يلزم حتى يقبض ، فأي معنى لهذه المقابلة بينهما.

وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكره وجها وجيها ، ولعله لسوء فهمي القاصر ، وكيف كان فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، لظهور التعارض بين هذه الأخبار وتصادم التأويلات من الجانبين ، وان كان القول الثاني لا يخلو من قوة ، وقد تقدمت الإشارة إلى دلالة الخبر الثاني عشر في ذلك.

قال في الدروس بعد نقل القولين المتقدمين : والروايات متعارضة ، ثم قال ولعل الأصحاب أرادوا باللزوم الصحة ، فان في كلامهم اشعارا ما به ، فان الشيخ قال لا يحصل الملك الا بالقبض ، وليس كاشفا من حصوله بالعقد ، مع أنه قائل بأن الواهب لو مات لم تبطل الهبة ، فيرتفع الخلاف ، انتهى.

واعترضه في المسالك قال : وفيه نظر ، لمنع تعارض الروايات على ما قد سمعت ، فان الجمع بينهما ممكن ، وارادة جميع الأصحاب من اللزوم الصحة غير واضع فإن العلامة في المختلف نقل القولين واحتج لهما ، ثم اختار الثاني فكيف يحمل على الآخر ، نعم كلام الشيخ الذي نقله متناقض ، وليس حجة على النافين فان الخلاف متحقق.

أقول : ما ذكره من منع تعارض الروايات ان كان بالنظر الى تأويله الخبر الذي هو مستند القائلين بالقول الثاني فقد عرفت ما فيه ، فان تأويله في غاية البعد كما أوضحناه ، وان كان غير ذلك فليس في كلامه ما يدل عليه.

والتحقيق أن التعارض ثابت ، وأوضحناه في معاني الأخبار المذكورة ، واما باقي ما ذكره فهو جيد ، والعجب هنا من العلامة في التذكرة حيث قال : الهبة والهدية والصدقة لا يملكها المتهب والمهدى اليه والمتصدق عليه بنفس الإيجاب والقبول إذا كان عينا إلا بالقبض ، وبدونه لا يحصل الملك عند علمائنا اجمع ، انتهى.

وهو صريح في دعوى الإجماع على أن القبض شرط في الصحة ، وهو وان مؤذنا بصحة ما ادعاه في الدروس ، الا أن الخلاف مشهور كما عرفت ، والشيخان

٣١٢

ومن تبعهما ممن تقدم ذكر بعض منهم على القول بأنه شرط في اللزوم ، وقد فرع الشيخ على الخلاف المذكور فطرة العبد المشترى قبل الهلال مع عدم القبض إلا بعده ، فقال في المبسوط : من وهب لغيره عبدا قبل أن يهل شوال فقبل الموهوب له ولم يقبضه حتى هل شوال ثم عبضه ، فالفطرة على الموهوب له ، لأن الهبة تنعقد بالإيجاب والقبول ، وليس من شرط انعقادها القبض ، وفي أصحابنا من يقول القبض شرط في صحة الهبة ، فعلى هذا لا فطرة عليه ، وتلزم الفطرة الواهب ، انتهى ملخصا ، فانظر الى صراحته في الخلاف وصراحته في اختيار القول بحصول الملك بمجرد العقد من غير توقف على القبض ، وهو (قدس‌سره) في المختلف قد وافق الشيخ في هذه المقالة ، واحتج بما ذكره الشيخ ، وبذلك يظهر لك عدم الوثوق بهذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم ، والمتكاثرة الدوران على رؤوس أقلامهم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن في المقام اشكالا لم أقف على من تنبه له ، وهو أن مقتضى القول بكون القبض شرطا في اللزوم لا في الصحة ، هو أن الهبة بدون القبض تكون صحيحة غير لازمة ، وبالقبض تكون لازمة ، بمعنى أنه لا يجوز الرجوع فيها ، إذ المتبادر من اللزوم هو ذلك ، مع أنه كما سيأتي ان شاء الله تعالى ذكره ان الأمر ليس كذلك حيث انهم عدوا المواضع التي لا يجوز الرجوع فيها ، وحصروها في مواضع مخصوصة ، وان كان على خلاف في بعضها ، وليس هذا منها ، وصرحوا بأنه لا خلاف في جواز الرجوع فيما عداها ، وممن صرح بذلك المحدث الكاشاني في المفاتيح ، لما فهمه من كلامهم ، فقال بعد عده المواضع المشار إليها ما لفظه : وفي غير ما ذكر يجوز له الرجوع مطلقا بلا خلاف ، كما في الصحاح المستفيضة ، ثم نقل ما يخالفها ، وحمله على الكراهة ، والاشكال كما ترى ظاهر ، ولا مخرج من هذا الإشكال إلا بما ذكره في التذكرة ، وأشار إليه في الدروس مما يرجع إلى حمل اللزوم على الصحة ، إلا أنك قد عرفت ما فيه ، وبالجملة فإن كلامهم في هذا المقام لا يخلو من تشويش واضطراب كما لا يخفى على ذوي الأفهام والألباب ، والله العالم

٣١٣

تنبيهات :

الأول : لو مات المتهب بعد العقد وقبل القبض ، فالظاهر أنه كموت الواهب في التفريع على القولين المتقدمين ، فان قلنا ان القبض شرط في الصحة بطلت الهبة في الموضعين ، وصار الموهوب ميراثا لورثة الواهب ، وان قلنا بالقول الأخير تخير الواهب في الإقباض وعدمه في موت المتهب ، وتخير وارثه في ذلك في موت الواهب ، صرح بذلك في التذكرة وأكثر الأصحاب لم يذكروا إلا موت الواهب.

واستدل في المسالك على البطلان بموت الواهب ـ حيث انه المفروض في عبارة المصنف بمرسلة أبان ، ورواية داود بن الحصين المتقدمين ـ ثم طعن فيهما بضعف السند ، ومورد الخبرين كما ترى انما هو موت الواهب ، ثم نقل عن الشيخ في المبسوط الخلاف في ذلك ، حيث انه قال لا تبطل الهبة ، وتقوم الورثة مقامه كالبيع في مدة الخيار ، من حيث ان الهبة عقد يؤل الى اللزوم ، فلا ينفسخ بالموت ، وتبعه ابن البراج على ذلك ، مع أن الشيخ قال في هبة ذي الرحم : إذا مات قبل قبضها كان ميراثا ، وقال : ان الملك لا يحصل الا بالقبض ، وليس كاشفا عن حصوله بالعقد ، ثم أورد عليه التناقض بين كلاميه.

أقول : كلام الشيخ الأول مبني على مذهبه الذي قدمنا نقله عنه من أن القبض شرط في اللزوم لا في الصحة ، إلا أنه ناقضة بكلامه الأخير ، وهذا هو ما قدمت الإشارة إليه في تمسك صاحب الدروس به في رفع الخلاف من البين.

ثم انه قال في المسالك : ولا فرق مع موته قبل القبض بين اذنه فيه قبله وعدمه ، لبطلان الاذن بالموت ، وفي معناه ما لو أرسل هدية الى انسان فمات المهدى أو المهدي اليه قبل وصولها ، فليس للرسول دفعها حينئذ الى المهدي اليه ، ولا الى ورثته لبطلان الهدية بالموت قبل القبض كالهبة ، انتهى.

٣١٤

الثاني : قالوا : لو أقر الواهب بالهبة والإقباض حكم عليه بإقراره ، وان كانت الهبة في يد الواهب ، ولو أنكر بعد ذلك لم يقبل ، لعموم (١) «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز». وكونها في يده لا يستلزم عدم الإقباض بعد اعترافه ، لإمكان رجوعها اليه بعد ذلك ، الا أن يعلم كذبه في اخباره الأول ، كقطر الوقت الذي يسع القبض والرد ونحو ذلك.

الثالث : قد صرحوا بأنه لا بد من اذن الواهب في صحة القبض ، فلو قبض الموهوب الهبة بغير اذنه لم ينتقل اليه ، وفي المسالك أنه لا خلاف فيه عندنا.

أقول : والوجه فيه واضح ، وهو أن الإقباض غير واجب على الواهب ، لعدم الاستحقاق الشرعي حيث ان مجرد العقد غير موجب للنقل البتي فإنه من العقود ، ولزومه مراعى بالأسباب المخصوصة الآتي تفصيلها ان شاء الله تعالى وحينئذ فلو قبضه بغير اذن فهو محرم بلا ريب ، والظاهر كما هو المشهور أنه لا يعتبر في القبض كون الإذن بنية الهبة ، فلو أذن فيه مطلقا صح ، خلافا لبعضهم حيث اعتبر وقوعه للهبة أو الاذن فيه فان ذلك هو المقصود ، وحيث كان مطلق القبض صالحا لها ولغيرها فلا بد من مائز وهو القصد ، قال في المسالك بعد نقل ذلك : «وهو حسن» ، حيث يصرح بكون القبض لا لها ، لعدم تحقق القبض المعتبر فيها ، أما لو أطلق فالاكتفاء به أجود ، لصدق اسم القبض وصلاحيته للهبة ودلالة القرائن عليه بخلاف ما لو صرح بالمصارف ، انتهى وهو جيد.

الرابع : الأشهر الأظهر أنه لو وهبه في يد الموهوب ، فإنه لا يحتاج إلى اذن في القبض ، ولا مضى زمان يمكن القبض ، ولا فرق في ذلك بين كون ذلك بيده بوجه شرعي كالعارية والوديعة أو لا كالغصب.

أما الأول فلصدق القبض وحصوله في كل من الجانبين ، فإنه مستصحب ، وإيجاب العقد المقتضي لإقرار يده على العين رضا منه ، واذن بالقبض.

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ٤٨ ، الوسائل ج ١٦ ص ١٣٣ ح ٢.

٣١٥

وأما الثاني فإنه حيث لا يفتقر الى قبض ولا اذن جديد في القبض لا يفتقر الى مضي زمان يمكن فيه القبض ، لأن الافتقار الى الزمان تابع للقبض ، حيث انه من ضرورياته ولوازمه ، فيعتبر حيث يعتبر ، وقد عرفت أنه لا يفتقر الى قبض جديد وإذا لم يعتبر المتبوع سقط اعتبار التابع ، وبه يظهر ان ما صار اليه بعضهم من أنه يفتقر الى مضي زمان يمكن فيه القبض ـ كما نقل عن الشيخ في المبسوط أو الى إذن جديد ومضي زمان ـ فإنه لا وجه له ، وأصالة العدم أقوى دليل في المقام.

الخامس : لو وهب الأب أو الجد لولده الصغير ما هو بيدهما لم يفتقر الى قبض جديد لان قبض الولي قبض عنه ، ولا يفتقر أيضا الى مضي زمان يمكن فيه القبض لعين ما تقدم في سابق هذا الموضع ، وقد تقدم في أخبار الصدقة على الولد أن قبض الأب والجد عن الصغير كاف في صحة الصدقة ، ففي رواية السكوني (١) «وان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأن والده هو الذي يلي أمره».

وبالجملة فإن الحكم لا اشكال فيه ولا خلاف نصا وفتوى فيما أعلم ، فإن القبض السابق على الهبة كاف عن القبض الطاري بعدها ، وأيدوه بأن اليد المستدامة أقوى من اليد المبتدأة

بقي الكلام هنا في مواضع : أحدها ـ انا قد أشرنا سابقا الى أن محل البحث فيما لو وهب الأب أو الجد ما هو في يدهما ، واما لو لم يكن كذلك بأن يكون ملكهما ، ولكنه في يدهما ، فقد صرح الأصحاب بأنه يفتقر الى قبض جديد كغيره ، وفرضوا ذلك فيمن اشترى شيئا ولم يقبضه فان الملك يتم بالعقد وان لم يقبضه ، ويجوز نقله بالهبة ونحوها ، وان امتنع بيعه على بعض الوجوه كما تقدم في كتاب البيع في مسئلة بيع ما لم يقبض ، ويمكن أيضا فرض ذلك في مال ورثه الأب أو الجد ، وهو تحت يد الغير ، ولم يتمكن من قبضه ، وفيما غصب منه

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣١ ح ٧ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٥ ح ٥٦٩ وفيهما عن محمد بن مسلم ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٢ ح ٦٣٩ عن عبيد بن زرارة ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٧ ح ١ وص ٢٩٩ ح ٥.

٣١٦

وفيما آجره لغيره قبل الهبة.

أما الوديعة فإنهم صرحوا بأنه لا يخرج بها عن يد المالك ، لان يد المستودع كيده ، قالوا : وفي العارية وجهان : أجودهما ما خروجه بها عن يده ، فيفتقر الى قبض جديد من الولي أو من يوكله فيه ، ولو وكل المستعير كفى.

وثانيها أنه هل يعتبر قصد القبض عن الطفل بعد الهبة ليتمحض القبض لها ، الظاهر تفريع ذلك على ما تقدم في التنبيه الثالث ، فعلى ما ذكره العلامة (رحمه‌الله عليه) من أن مطلق القبض صالح للهبة وغيرها فلا بد من مائز ، وهو القصد للهبة يأتي أن هنا كذلك ، لأن المال المقبوض بيد الولي ، فلا ينصرف الى الطفل إلا بصارف وهو القصد ، وعلى ما ذكره في المسالك وهو الأظهر كما تقدمت الإشارة إليه من الاكتفاء بعدم قصد القبض لغيره يكفي هنا ، وينصرف الإطلاق إلى قبض الهبة وتلزم الهبة بذلك.

وثالثها ان المشهور في كلام الأصحاب اختصاص هذا الحكم بالولد الصغير ، وأما لو كان بالغا رشيدا ذكرا وأنثى فإنه لا بد من قبضه ، وعليه تدل الأخبار.

وقال ابن الجنيد في كتابه الأحمدي : وهبة الأب لولده الصغار وبناته الذين لم يخرجوا عن حجابه ، وان كن بالغات تامة ، وان لم يخرجها عن يده ، لأن قبضه قبض لهم ، انتهى.

والحاقه البنات في الحجاب بالأولاد الصغار ، قياس محض ، وقياسه على النكاح ممنوع مع وجود الفارق ، وبالجملة فهو قول نادر لا يعبأ به.

ورابعها ـ أنه لو كان الواهب للصغير غير الأب والجد له ، فإنه لا خلاف في أنه لا بد من القبض عنه ، ويتولى ذلك الأب أو الجد أو الوصي أو الحاكم أو من يعينه ، وانما الخلاف في أنه للصغير ولي شرعي غير الأب والجد كالوصي فهل يتولى القبض له؟ أم يرجع الأمر إلى الحاكم؟ الذي صرح به الشيخ في المبسوط وتبعه عليه جمع منهم المحقق في الشرائع الثاني ، فإنهم ألحقوا الوصي هنا بغير

٣١٧

الولي من الأجانب ، واحتج في المبسوط بأنه لا يصح أن يبيع من الصبي شيئا أو يشترى عنه ، قال : وينصب الحاكم أمينا يقبل منه هبته للصبي ، فإذا قبلها صحت الهبة ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه والوجه التسوية بينه وبين الأب لأن له أن يقبل هبة غيره ، فكذلك يقبل هبة نفسه ، لعموم ولايته ، فلا وجه لاختصاصها بغيره ، والجواب عما احتج به ، المنع من حكم الأصل ، فإن له أن يبيع ويقبل الشراء وأيضا الفرق فإن المعاوضة قد يحصل بها التغابن ، أما الهبة فإنها عطية محضة ، فكانت المصلحة فيها ظاهرة ، انتهى وهو جيد.

السادس : لا خلاف ولا إشكال في جواز هبة المشاع كغيره ، ويدل على ذلك ما رواه

في الكافي عن أحمد بن عمر الحلبي عن أبيه (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دار لم تقسم فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار؟ قال : يجوز قلت : أرأيت ان كانت هبة؟ قال : يجوز». وقبضه كالقبض في البيع ، فان اكتفينا بمجرد التخلية مطلقا كما هو أحد القولين فلا اشكال ، وان اعتبرنا الفرق بين المنقول وغير المنقول فتختص التخلية بغير المنقول ، فلا بد في المنقول من النقل ، ليتحقق قبض الحصة الموهوبة ، فإن كان الشريك هو الواهب ، فاقباضه بتسليم الجميع للمتهب ، ليتحقق القبض ، وان كان الشريك غيره ، توقف تسليم الكل على اذن الشريك ، فإما أن يرضى بذلك أو يوكل المتهب الشريك على القبض عنه ، فان تعاسرا رفع إلى الحاكم ، فينصب أمينا يقبض الجميع نصيب الهبة ، والباقي أمانة حتى يتم العقد ، هذا هو المشهور ، وبه قال في المبسوط ، وتبعه الأكثر ، وقال العلامة في المختلف في صورة التعاسر : والوجه عندي جعل القبض هنا التخلية ، لأنه مما يمكن نقله وتحويله ، فإنه لا فرق بين عدم الإمكان المستند إلى عدم القدرة الحسية ، أو عدم القدرة الشرعية ، وهو أولى من التحكم في مال الشريك ، بغير اختياره.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٥ الباب ١٢.

٣١٨

واعترضه في المسالك بأن فيه منع عدم القدرة الشرعية ، حيث يوجد الحاكم المجبر أما مع عدمه فلا بأس به دفعا للضرورة والعسر ، انتهى ،

وقد سبقه إلى ذلك شيخنا الشهيد في الدروس كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، ونقل في المسالك عن شيخنا الشهيد في الدروس قولا آخر ، قال : وبالغ شيخنا في الدروس فاشترط اذن الشريك في القبض مطلقا ، حتى لو اكتفينا بالتخلية ، نظرا إلى أن المراد منها رفع يد المالك وتسليط القابض على العين ، وذلك لا يتحقق الا بالتصرف في مال الشريك ، فيعتبر اذنه ورفع المانع عن حصة المالك خاصة مع الإشاعة لا يحصل به التسلط على الغير الذي هو المقصود من القبض ، وقبض جميع العين واحد لا يقبل التفرقة بالحكم ، ومن ثم لو كانت العين مقبوضة بيد متسلط لم تكف التخلية من المالك وتسليطه عليها ، مع وجود المانع من التسليم ، وله وجه حسن ، وان كان الأشهر الأول.

أقول : لم أقف على هذا الكلام في الكتاب المذكور في باب الهبة واحتمال كونه في غيره بعيد ، والذي ذكره في باب الهبة موافق لما عليه الجماعة ، قال : وقبض المشاع يعتبر فيه اذن الشريك وان كان غير منقول ، فلو وكل المتهب الشريك في القبض صح ، وان تعاسر نصب الحاكم أمينا يقبض الجميع نصفه أمانة للمتهب ، وفي المبسوط غير المنقول تكفى فيه التخلية عن اذن الشريك ، وفي المختلف تكفى فيه التخلية في المنقول أيضا وهو مفارقة لقاعدته في القبض ، واعتذاره بأن عدم القدرة شرعا ملحقة بغير المنقول ممنوع ، لأنا نتكلم على تقدير التمكن من الحاكم ، أما مع عدم التمكن منه فإنه حسن ، انتهى.

وهو موافق لما في المبسوط إلا في غير المنقول فان الشيخ في المبسوط اكتفى فيه بالتخلية عن اذن الشريك ، وهو اعتبر الاذن ، ولم يكتف بالتخلية ، وأما مع التعاسر فهو موافق لما ذكره الشيخ.

وأما ما ذكره في المسالك من هذا الكلام بطوله فلا وجود له اللهمّ إلا أن

٣١٩

يكون هذا التعليل الطويل أعنى قوله «نظرا الى أن المراد منها» الى آخر الكلام من كلام صاحب المسالك ، تعليلا له لما نقله عن الدروس ، وأن الحكم مع عدم الاذن هو ما ذكره مما نقلناه عنه فيزول الاشكال لكنه لا يخلو من بعد.

وكيف كان فالظاهر هو ما ذكره الشيخ وأكثر الجماعة ، قال في المسالك : وحيث يعتبر اذن الشريك فقبض المتهب بدونه وما في حكمه يقع لاغيا ، لا للنهي ، فإنه لا يقتضي الفساد في غير العبادة ، بل لأن القبض لما كان من أركان العقد اعتبر فيه كونه مرادا للشارع ، فإذا وقع منهيا عنه لم يعتد به شرعا فيختل ركن العقد وقد عرفت أنه قبض واحد لا يقبل التفرقة في الحكم ، بجعل القبض للموهوب معتبرا والنهي عن حق الغير الخارج عن حقيقة الموهوب ، انتهى.

أقول : قد سلف هنا ومن هذا القائل تحقيق في أن قولهم النهي لا يقتضي الفساد في غير العبادة ليس على إطلاقه ، بل قد يقتضي الفساد في غير العبادة لما قدمناه من التفصيل بأن النهي ان توجه إلى ذات الشي‌ء وعدم صلاحه لترتب الحكم الشرعي عليه كالنهي عن بيع العذرة لعدم صلاحيتها للنقل ، والنهي عن نكاح المحارم ونحو ذلك ، فإنه يقتضي الفساد بلا اشكال ، وان توجه إلى أمر خارج كالبيع وقت النداء يوم الجمعة لم يقتض الفساد ، وانما يقتضي الإثم خاصة ، والظاهر أن ما نحن فيه من القسم الأول ، فإن النهي للمتهب عن قبض المشترك بغير اذن المالك للمتهب إنما هو من حيث عدم صلاحيته وقابليته للانتقال ، لا من حيث أمر خارج فلا حاجة إلى ما تكلفه (قدس‌سره) مع أنه لا يخلو من المناقشة ، فإنه لو تم لأمكن إجراؤه في سائر المعاملات ، وعدم ارادة الشارع غاية ما يقتضيه الإثم بالمخالفة ، كما لا يخفى والله العالم.

السابع : لو وهب اثنين شيئا فقبلا وقبضا فلا إشكال في الصحة ، لاستجماع شرائطها ولو قبل أحدهما وقبض ، وامتنع الآخر صحت الهبة بالنسبة إلى القابل ، وبطلت بالنسبة إلى الآخر ، لحصول شرائط الصحة في الأول دون الثاني ، وربما

٣٢٠