الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

بقي هنا شي‌ء وهو أن ظاهر عبارة الخلاف وجود الرواية بالانعزال بمجرد العزل ، كما ذهب إليه في القواعد ، حيث قال : إذا عزل الموكل وكيله من الوكالة في غيبة عن الوكيل ، لأصحابنا فيه روايتان إحديهما أنه ينعزل في الحال ، وان لم يعلم الوكيل وكل تصرف يتصرف فيه الوكيل بعد ذلك يكون باطلا ، وهو أحد قولي الشافعي ، والثانية أنه لا ينعزل حتى يعلم الوكيل ذلك ، وكل ما يتصرف فيه يكون واقعا موقعه الى آخره.

وأنت خبير بأن هذه الرواية لم تصل إلينا ولم ينقلها أحد غيره وبذلك اعترف في المختلف أيضا حيث قال : ولم نظفر بالرواية الأخرى التي نقلها في الخلاف ، ثم انه قال في المختلف : والظاهر عدم عزل الوكيل الا أن يعلم العزل لهذه الروايات ، ولأنه لو انعزل قبل علمه كان فيه ضرر ، لأنه قد يتصرف تصرفات تقع باطلة ، وربما باع الجارية فيطؤها المشتري ، والطعام فيأكله أو غير ذلك فيتصرف فيه المشتري ويجب ضمانه بتصرف المشتري والوكيل.

ثم قال : والقول الآخر ليس بردي ، لأن الوكالة من العقود الجائزة ، فللموكل الفسخ وان لم يعلمه الوكيل ، والا كانت لازمة حينئذ هذا خلف ، ولأن العزل رفع عقد ، لا يفتقر الى رضا صاحبه ، فلا يفتقر الى علمه كالطلاق ، والعتق ، وقول النهاية لا بأس به ، لأنه توسط بين الأقوال ، انتهى.

ونسج على منواله المحقق اردبيلى بالنسبة إلى تعليل هذين القولين ، سيما قول القواعد ، وأطال المناقشة والطعن في أسانيد الاخبار حتى أنه في آخر البحث قال : والمسئلة من المشكلات ، لما علمت مما تقدم.

وأنت خبير بان كل ذلك اجتهاد في مقابلة النصوص ، وجرأة تامة على أهل الخصوص ، سيما في الروايات المذكورة ما هو صحيح السند باصطلاحهم مع صراحة الدلالة بما لا يحوم حوله الشك ، والاشكال ، ولكنهم جرت عادتهم بالركون الى هذه التعليلات العقلية ، وترجيحها على الأدلة النقلية ، ويتفرع

٢١

على الخلاف المذكور صحة تصرف الوكيل بعد العزل ، وقبل الاعلام بناء على القول المختار ، وعلى القولين الأخيرين من الانعزال بمجرد العزل أو بمجرد الاشهاد يبطل جميع ما فعله بعد الأمرين المذكورين ، وهو الظاهر ، والله سبحانه العالم.

الخامسة : قد صرح الأصحاب بأن الوكالة تبطل بأمور منها ما تقدم من عزل الوكيل نفسه على ما قالوه ، وعزل الموكل كما عرفت ، ومنها التعليق بالشرط أو الصفة

، وقد عرفت الكلام فيه ، الا أن في عد هذا الفرد نوع تسامح.

ومنها موت كل من الوكيل أو الموكل ، أما موت الوكيل فظاهر ، وأما موت الموكل فلأن ما وكل فيه ينتقل الى غيره ، فلا يجوز التصرف فيه إلا بإذن من انتقل اليه ، ولأن العقد كان جائزا منوطا باذنه ، ورضاءهما غير متحققين بعد الموت.

وبالجملة فإنه لا خلاف ولا إشكال في البطلان في الصورة المذكورة وقد صرحوا بأنه لو مات الموكل فان تصرف الوكيل بعد الموت باطل ، وان لم يعلم الموت ، لأن ذلك هو الأصل وإنما خرجت مسألة العزل بالنص.

وعندي فيه توقف ، لعدم إيرادهم نصا على ما ادعوه من البطلان ، سيما مع ما عرفت من خروج النصوص بعدم انعزال الوكيل قبل بلوغ العزل له الجاري ذلك على خلاف قواعدهم ، حتى اضطربوا في التفصي عنها ، فمنهم من قال بها ، وألغى تلك القواعد ، ومنهم من ألغاها وقدم تلك القواعد ، فمن المحتمل قريبا أن يكون الحكم هنا كذلك أيضا ، وما ادعوه من الأصل هنا لا أعرف له أصلا ، وكأنهم أرادوا بالأصل أصل العدم.

وفيه أن الأصل بمعنى الاستصحاب لثبوت الوكالة حتى يقوم الدليل على الإبطال في الصورة المذكورة قائم ومرجع هذا الاستصحاب الى عموم الدليل ، حتى يثبت الرافع له ، ويعضده الأمر بالوفاء بالعقود ، وبالجملة فالحكم لعدم النص لا يخلو عن اشكال.

٢٢

نعم يمكن أن يستدل لما ذكروه بما رواه في الكافي عن ابن بكير (١) في الموثق عن بعض أصحابنا عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل أرسل يخطب عليه امرأة وهو غائب ، فأنكحوا الغائب وفرضوا الصداق ، ثم جاء خبره بعد أنه توفي بعد ما سيق الصداق ، فقال : ان كان أملك بعد ما توفي فليس لها صداق ، ولا ميراث ، وان كان أملك قبل أن يتوفى فلها نصف الصداق ، وهي وارثة ، وعليها العدة».

فإنها ظاهرة في أنه وكل في حال الغيبة من يخطب له ويعقد عنه ويسوق المهر ثم مات ، وقد حكم عليه‌السلام بصحة العقد متى وقع قبل الموت ، وبطلانه متى كان بعده ، وحينئذ فيتم ما ذكروه من الحكم المذكور ، وان لم يتنبه أحد منهم لهذا الخبر الذي ذكرناه ، بل إنما بنوا الحكم على قواعدهم المتداولة بينهم ثم انهم نبهوا على أنه وان بطلت الوكالة في الصورة المذكورة ، لكن ما بيده يكون أمانة لأن الأمانة لا تبطل بالموت كما تبطل الوكالة الا أنه يجب المسارعة وردها على الوارث فإن أخر لا لعذر ضمن ، كما تقدم في الوديعة ، ولو تلف بغير تفريط فلا ضمان.

ومنها الجنون والإغماء من كل منهما والظاهر أن المستند فيه هو الإجماع كما في المسالك ، فقال : هذا موضع وفاق ، ولأنه من أحكام العقود الجائزة ، وكان مبناه على الخروج عن أهلية التصرف وقد صرحوا أيضا بأنه لا فرق بين أن يكون مطبقا أو أدوارا ولا في الإغماء بين طوله وقصره ، ولا فرق بين أن يعلم الموكل بعروض المبطل وعدمه.

ثم انهم صرحوا أيضا بأنه يجي‌ء في هذه المسئلة ما تقدم في مسئلة ما تقدم في مسئلتي بطلان الوكالة بالرد وبالتعليق ، من جواز التصرف وعدمه ، فإنه بعد زوال الجنون أو الإغماء الذين بهما بطلت الوكالة ، هل يجوز لهما التصرف بالاذن العام فكل من قال بالجواز ثمة ، فإن الحال فيه هنا كذلك.

وقد عرفت مما حققناه في تلك المسئلتين ، أن الحق هو جواز التصرف بل

__________________

(١) الكافي ج ٥ ص ٤١٥ ح ١ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٣٠ ح ٢.

٢٣

عدم بطلان الوكالة بشي‌ء من ذينك الأمرين وان ادعوا الإجماع عليه فكذلك هنا لأنا لم نقف لهم على دليل يدل على ابطالها بما ذكروه ، سوى ما ادعي من الإجماع وحينئذ فيجوز التصرف فيما وكل فيه ، ولا يحتاج إلى تجديد عقد من الموكل بعد زوال ذلك عنه لو كان هو المصاب بأحد الأمرين ، بل يكفي استصحاب حكم العقد السابق ، أما عندنا فلعدم ثبوت الابطال بذلك كما عرفت ، وأما عندهم فلاستصحاب الاذن العام ، لانه وان بطل عقد الوكالة الا أن الاذن باق.

ويؤيد جواز التصرف هنا وان امتنع بوجود أحد هذين الأمرين جملة من النظائر ، كما صرحوا به من دخول الصيد الغائب في ملك المحرم ، بعد زوال الإحرام ، وأن من وكل محلا فصار محرما لم يحتج الى تجديد الوكالة بعد تحلله عن الإحرام ، ونحو ذلك مما يقف عليه المتبع ، وفي جميع ذلك تأييد لما ذكرناه من عدم بطلان الوكالة هنا.

ومنها الحجر على الموكل فيما يمنع الحجر من التصرف فيه ، فإنه إذا منع ذلك الموكل منع وكيله بطريق أولى ، ولان الحجر موجب لزوال أهلية التصرف المالي ، قالوا : وفي حكم الحجر طرو الرق على الموكل بأن كان كافرا فاسترق ، ولو كان هو الوكيل صار بمنزلة توكيل عبد الغير ، وسيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى ، ويأتي الكلام في التصرف بعد زوال الحجر كما تقدم.

ولا تبطل بالنوم وان طال لبقاء أهلية التصرف ، ومن ثم أنه لا تثبت الولاية عليه ، وقيد في اللمعة النوم المتطاول بأن لا يؤدى الى الإغماء ، وفيه كما أشار إليه الشارح خروج عن موضع فرض المسئلة ، لأن الإبطال انما هو بالإغماء ، لا بالنوم.

ومنها تلف ما تعلقت به الوكالة كتلف العبد الموكل ببيعه وموت المرأة الموكل بتزويجها أو طلاقها ، وتلف الدينار الموكل بأن يشري به شيئا ، قالوا : وفي حكم التلف انتقاله عن ملكه كما لو أعتق العبد الموكل في بيعه ، أو باع

٢٤

العبد الموكل في عتقه.

ومنها ما لو فعل الموكل ما تعلقت به الوكالة كأن يوكله في بيع عبد ثم يبيعه هو ، وثبوت البطلان ظاهر ، إذ لا شك في ثبوت ذلك له قبل الوكالة ، والوكالة غير مانعة منه ، ولا منافية له ، سيما مع ثبوت كونها جائزة ، ومعلوم أنه بعد فعله لم يبق ما وكل فيه ، فلا تبقى الوكالة ، لعدم بقاء محلها فهو بمنزلة تلف ما وكل فيه ، كما في سابق هذا الموضع.

وبالجملة فالأمر في ذلك أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان ، وفي حكمه فعل الموكل ما ينافي الوكالة ، قال في المسالك وفي كون وطئ الزوجة الموكل في طلاقها والسرية الموكل في بيعها منافيا وجهان : من دلالة الوطي على الرغبة ظاهرا ولهذا دل فعله على الرجوع في المطلقة رجعية فرفعه للوكالة أولى ، ومن ثبوت الوكالة ومنافاة الوطي لها غير معلوم ، وثبوت الفرق بين الطلاق والوكالة ، فإن الطلاق يقتضي قطع علاقة النكاح فينافيه الوطي ، بخلاف التوكيل فإنه لا ينافيه انتفاع الموكل بالملك الذي من جملته الوطي بوجه نعم فعل مقتضى الوكالة ينافيه ، والأولوية ممنوعة ، وهذا أقوى وأولى بعدم البطلان فعل المقدمات.

وفي القواعد فرق بين الزوجة والسرية فقطع في الزوجة بالبطلان ، وفي السرية بخلافه ، وفي التذكرة توقف في حكم الوطي والمقدمات معا انتهى ، ونحوه كلام المحقق الثاني في شرح القواعد.

والتحقيق أن يقال : ان الوطي والمقدمات التي هي عبارة عن التقبيل والمباشرة دون الفرج ونحو ذلك الدال بظاهره على الرغبة ان وقع مقرونا بالندامة على التوكيل وقصد العزل ، فإنه لا إشكال في كونه عزلا ، وأنه تبطل الوكالة بذلك ، وان وقع مقرونا بعدم ذلك ، فالظاهر بقاء الوكالة وعدم العزل ، وان وقع مشتبها فإنه ينبغي استفسار ذلك من الموكل ، ويقبل قوله في ذلك ، وان لم يمكن مراجعته

٢٥

واستعلام الحال منه فإن الأقرب عدم العزل وبقاء الوكالة ، لأن ما فعله من هذه الأشياء أعم من قصد الإمساك والعزل عن الوكالة والرغبة فيها ، ومن عدم ذلك ، فالأصل ثبوت الوكالة وبقائها حتى يعلم الرافع لها.

ويشير اليه ما تقدم في الأخبار المتقدمة من قوله عليه‌السلام في بعضها «الوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها» وفي آخر «الوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه ، أو يشافه العزل» الدال جميع ذلك على أنه بعد ثبوت الوكالة ، فإنه يجب البقاء عليها الا مع العلم بالرافع لها ، ولهذا لو كان المبلغ للعزل غير ثقة لا يترتب على خبره العلم لم يوجب العزل ، فكذا هنا بمجرد وقوع هذه الأشياء على وجه لا يعلم به ارادة العزل لا توجب عزلا ، ويمكن إرجاع كلام الفاضلين المذكورين الى ما حققناه هنا ، فان ظاهر اعتراضهما على الوجه الأول ـ بأن منافاة الوطي لها غير معلوم ـ أنه لو كانت المنافاة معلومة لكان ذلك عزلا ، وحينئذ فإذا كان مقرونا بالمنافي من قصد الإمساك وقصد العزل عن الوكالة فلا ريب في كونه عزلا عندهما ، وأما ما نقله عن التذكرة من أنه توقف في حكم الوطي والمقدمات فالذي يظهر لي أن التوقف انما هو في المقدمات.

وأما حكم الوطي فالظاهر أنه الأقرب عنده ، وان عبر عنه بلفظ الاحتمال حيث قال في عد عبارات العزل والفسخ فإذا وكله في طلاق زوجته ثم وطئها احتمل بطلان الوكالة ، لدلالة وطئه لها على رغبته واختياره إمساكها ، وكذا لو وطئها بعد طلاقها رجعيا ، كان ذلك ارتجاعا لها ، فإذا اقتضى الوطي رجعتها بعد طلاقها ، فلأن يقتضي استبقاؤها على زوجيتها ومنع طلاقها أولى ، وان باشرها دون الفرج أو قبلها أو فعل ما يحرم على غير الزوج فهل يفسخ الوكالة في الطلاق؟ إشكال ، ينشأ من حصول الرجعة به ، وعدمه انتهى.

والتقريب فيما ذكرناه أنه ذكر الدليل على بطلان الوكالة بالوطء ولم يتعرض لرده ، بل جمد عليه بل جعله أولى من الرجعة ، فكيف ينسب له التوقف

٢٦

مع الحكم بذلك عنده في الرجعة ، وعدم التوقف فيها وهو قد حكم بالأولوية من الرجعة.

نعم التوقف في المقدمات ظاهر حيث صرح بالإشكال في ذلك ، وجعل الإشكال في الإبطال بها تابعا للإشكال بحصول الرجعة بذلك ، والله سبحانه العالم.

السادسة :قالوا : إطلاق الوكالة يقتضي الابتياع بثمن المثل بنقد البلد حالا ، وان يبتاع الصحيح دون المعيب ، ولو خالف وقف على الإجازة.

أقول : الظاهر أن الوجه في اقتضاء الإطلاق هذه الأمور هو أن المتبادر من الإطلاق ذلك بحسب العرف والعادة ، لأن المرجع في مثل ذلك اليه كما صرحوا به في غير موضع ، وادعى في التذكرة الإجماع هنا على ذلك ، الا أنه في التذكرة قيد إطلاق الوكالة في البيع بثمن المثل ، بما إذا لم يكن هناك باذل بأزيد ، وإلا فلا يجوز ، بل لا يصح البيع حينئذ ، فإنه تجب رعاية المصلحة على الوكيل وصحة فعله موقوفة عليها ، قال في الكتاب المذكور : كما لا يجوز للوكيل أن ينقص عن ثمن المثل ، لا يجوز أن يقتصر عليه ، وهناك طالب بالزيادة ، بل يجب بيعه على باذل الزيادة ، لأنه منصوب لمصلحة الموكل ، وليس من مصلحته بيعه بالأقل مع وجود الأكثر ، انتهى ، وصرح أيضا بأنه لو باع بخيار ثم وجد باذلا يزيد في الثمن في زمن الخيار وجب عليه الفسخ ، تحصيلا لمصلحة المالك في ذلك والتزام البيع مناف لها فلا يملكه.

وزاد المحقق الأردبيلي أيضا أنه يمكن ذلك فيما لو عين الموكل الثمن أيضا ، قال : فان تعيينه إنما هو لظن عدم الزيادة عليه ، وهو المفهوم عرفا إذ المتعارف والغالب أن شخصا لم يبع بأنقص مع وجود الزائد ، والأمور محمولة على الغالب والعرف ، مع أن ذلك أيضا منوط بالمصلحة ، ولا مصلحة في البيع بالناقص مع وجود الزائد ، انتهى وهو غير بعيد ، واستثنى بعضهم أيضا من ثمن المثل النقصان اليسير الذي يتسامح الناس فيه ، ولا يناقشون فيه كدرهم أو درهمين في ألف درهم ،

٢٧

ولا بأس به نظرا الى ما قدمنا ذكره من دوران هذه الأحكام مدار العرف والعادة.

وأما نقد البلد فان كان واحدا في تلك البلد ، لا تعدد فيه فمعلوم انصراف الإطلاق إليه في البيع والوكالة ، ومع التعدد فإنه ينصرف الى الغالب ، فان استوت تحرى ما هو الأنفع للموكل ، وإلا تخير.

وأما كونه حالا فإنه هو الغالب في العادة ، فيجب حمل الإطلاق عليه.

واما اقتضاء الإطلاق الصحيح دون المعيب ، فادعى عليه في التذكرة الإجماع ، قال : لأن الإطلاق في الشراء يقتضي سلامة المبيع ، حتى أن للمشتري الرد لو خرج معيبا ، ثم نقل عن أبي حنيفة جواز شراء المعيب ، وانه كالمضارب ثم رده بالفرق بين المضارب والوكيل ، وأن المضارب إنما يشترى للربح ، وقد يكون في المعيب ، بخلاف الوكيل فإنه قد يكون للغنية والانتفاع ، والعيب قد يمنع بعض المقصود ، وإنما يقتضي ويد خر السليم ، الى آخر كلامه رحمة الله عليه.

ثم أنه لو خالف الوكيل وشرى المعيب ، فان كان عالما كان فضوليا على القول بصحة الفضولي ، وباطلا على القول الآخر ، وهو المختار كما تقدم في البيع ، ومثله يأتي فيما لو اشترى بزيادة على ثمن المثل عالما ، فإنه للمخالفة يكون موقوفا أو باطلا ، وكذا الحكم عندهم فيما لو اشتراه جاهلا بالعيب.

وإن كان باطنا قالوا : يقع عن الموكل ، لأنه إنما يلزمه الشراء الصحيح بحسب الظاهر ، ولا يخاطب بالسلامة في الباطن ، لأنه يعجز عنه ، ولا يمكنه الوصول إليه إذ هو عيب لا يجوز التكليف به ، فيقع البيع للموكل ، كما لو شرى بنفسه جاهلا بالعيب.

بقي الكلام في خيار العيب بعد العلم به ، والرد به أو الإمساك ، والظاهر أنه للموكل دون الوكيل وبه صرح في التذكرة ، وظاهره الإجماع عليه ، قال : وحيث قلنا يقع عن الموكل وكان الوكيل جاهلا بالعيب فللموكل الرد إذا اطلع عليه ، لأنه المالك ، وهل يملك الوكيل الرد بالعيب ، أما عندنا فلا ، لأنه

٢٨

إنما وكله في الشراء ، وهو مغاير للرد ، فلا يملكه ، انتهى.

ومنه يظهر أنه لو كانت الوكالة مطلقة أو كان وكيلا في الشراء والرد ، فان للوكيل الرد ، وهو ظاهر ، الا أنه سيأتي في كلامهم أيضا ما يؤذن بأن للوكيل الرد بالعيب.

ثم ان ظاهرهم فيما لو اشترى جاهلا بالغبن ، بأن شرى بما يزيد على ثمن المثل جاهلا ، فإنه لا يقع للموكل ، كما في العيب ، بل يكون حكمه حكم العالم ، كما تقدم ، قالوا : والفرق بين الجهل بالعيب ، والجهل بالغبن أن العيب قد يخفى فهو في شرائه معذور ، والوكالة شاملة له ، لأن التكليف بالصحيح إنما هو بالنظر الى الظاهر ، لا الباطن كما عرفت آنفا.

وبالجملة فهو لا يزيد على شرائه لنفسه ، بخلاف الجهل بالغبن فان الغبن لا يخفى ، ونقص القيمة أمر ظاهر ، مستند الى تقصيره في تحرير القيمة ، فلا يكون داخلا تحت الوكالة.

وفيه أن ما ذكروه لا يطرد كليا لأنه وان تم ذلك في بعض الأفراد الا أن الأمر في بعضها على خلاف ذلك ، فان من العيب ما يكون ظاهرا لا خفاء فيه كالعور والعرج ، ومن الغبن ما هو خفي بل أخفى على كثير من أهل الخبرة ، كما في كثير من العيوب ، كما في الجواهر ونحوها ، وعلى هذا فينبغي أن يجعل الضابط فيهما واحدا بأن يقال ان كلا من العيب والغبن ان كان مما يخفى غالبا ، فإنه يقع الشراء من الموكل مع الجهل بهما ، وإلا وقف على الإجازة ، كما ذكروه ، وبطل على المختار ، والله سبحانه العالم.

السابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أن إطلاق الوكالة بالبيع يقتضي بيع الوكيل على ولده الكبير وزوجته ، كما في غيرهما ، ولم ينقل فيه الخلاف الا عن بعض العامة ، محتجا بمظنة التهمة ، وأما على الولد الصغير فعن الشيخ القول بالمنع : للزوم اتحاد الموجب والقابل ، ولأنه تجب عليه رعاية المصلحة من

٢٩

الجانبين والمماكسة مهما أمكن ، وذلك غير ممكن هنا.

أقول : ويلزم ذلك كل من قال بعدم جواز شراء الوكيل بنفسه ، قال في التذكرة : إذا منعنا من شراء الوكيل لنفسه لم يجز أيضا أن يشتري لولده الصغير ، ولا لمن يلي عليه لوصية ، لأنه يكون بيعا من نفسه ، وبه قال الشافعي ، وعندي فيه نظر ، أقربه الجواز في ذلك كله ، انتهى.

أقول : ويؤيد الصحة أيضا عموم أدلة البيع وأدلة الوكالة ، والمنع من بطلان الاتحاد ، وقد جوز الشيخ ذلك في الأب والجد بالنسبة إلى الصغير ، وهو ظاهر في عدم مانعية الاتحاد ، وفي عدم اشتراط المماكسة.

وأما البيع على نفسه أو الشراء لنفسه ، فقد تقدم الكلام فيه في الموضع الخامس من المسئلة الخامسة من المقام الأول في البيع (١) ويأتي الكلام في ذلك إنشاء الله تعالى في المطلب السادس ، والله سبحانه العالم.

الثامنة : قال في الشرائع : إطلاق الوكالة في البيع يقتضي تسليم المبيع ، لأنه من واجباته ، وعلله الشارح في المسالك بأنه إنما كان من واجباته ، لأن البيع يقتضي إزالة ملك البائع عن المبيع ، ودخوله في ملك المشتري ، فيجب على مدخل الملك التسليم ، لأنه من حقوقه.

وقال في الإرشاد : ووكيل البيع لا يملك تسليم المبيع قبل توفية الثمن ، ووجهه الشارح الأردبيلي بأن تسليم المبيع ليس بداخل في مفهوم البيع ، ولا يشترط في ذلك ، فلا يكون وكيله مالكا له ، إذ ما وكله إلا في البيع ، وأما إذا دفع الثمن إلى الموكل أو وكيله الجائز له قبضه ، أو أبرأه من الثمن فلا يجوز منعه ، لأنه صار ملكا خالصا للمشتري ، بحيث لا يجوز للموكل منعه ، فيجب عليه التسليم كالوكيل ، وان لم يكن وكيلا في التسليم صريحا ، انتهى.

وظاهر عبارة القواعد مثل الشرائع ، والظاهر أنه يجب تقييدهما بما ذكره

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤١٦.

٣٠

هنا من دفع الثمن أولا ، بناء على قاعدتهم من عدم الوجوب الا بالتقابض ، وكذا تقييد عبارة المسالك المذكورة ، فإنه وان دخل في ملك المشتري بمجرد عقد البيع كما ذكره ، الا أن ملكه له لا يستلزم وجوب تسليمه له قبل قبض الثمن منه ، حيثما صرحوا به فيما لو باع مال نفسه ، كما تقدم في البيع ، ولهذا انه في المسالك استدرك ذلك ، فقال في تتمة العبارة المتقدمة : لكن لا يسلمه حتى يقبض الثمن هو ، أو من يكون له قبضه.

قال في التذكرة : إذا وكله في البيع يملك تسليم المبيع إلى المشترى ان كان في يده ، وهو قول أكثر الشافعية ، لأن البيع يقتضي إزالة الملك ، فيجب التسليم ، ولأن تسليم المبيع إلى المشترى من تمامه وحقوقه ، وهذا عين ما علله في المسالك ، ثم قال في المسئلة التي بعدها : إذا وكله في البيع لم يملك قبض الثمن على ما تقدم ، ويملك تسليم العين إلى المشتري ، لكن لا يسلم قبل أن يقبض الموكل أو من نصبه الثمن ، فإن سلمه قبل قبضه كان ضامنا ، وقد قيد في هذه المسئلة ما أطلقه في المسئلة التي قبلها.

وبالجملة فإن رعاية قواعدهم في المسئلة توجب ذلك ، ولهذا انه في المسالك استدرك بالتقييد بذلك ، هذا بالنسبة إلى تسليم المبيع.

وأما قبضه الثمن فقد صرحوا بأن إطلاق الوكالة في البيع لا يقتضي قبض الثمن ، لأنه قد لا يؤمن على القبض والوكالة انما وقعت في البيع ، وقبض الثمن أمر زائد على ذلك ، إلا أن يكون هناك قرينة تدل عليه ، فيكون الاعتماد في ذلك عليها ، كما لو أمره بالبيع في سوق بعيدة أو بلد آخر بحيث أنه يضيع الثمن بترك قبضه ، ولا يمكن للموكل قبضه ، ففي مثل ذلك يجوز ، بل يجب قبضه حتى أنه لو تركه ولم يقبضه كان ضامنا ، لأن الظاهر من حال الموكل أنه انما أمره بالبيع للانتفاع بالثمن ، ولا يرضى بتضييعه ، ولهذا يعد من فعل ذلك مفرطا هذا في الوكيل في البيع.

٣١

وأما الوكيل في الشراء فإنهم قد صرحوا بأن إطلاق الوكالة في الشراء يقتضي الاذن في تسليم الثمن ، ولا يقتضي الاذن في تسلم المبيع ، قال في التذكرة : الوكيل بالشراء إذا اشترى ما وكل فيه ملك تسليم ثمنه ، لأنه من تتمته وحقوقه ، فهو كتسليم المبيع في الحكم ، والحكم في قبض المبيع كالحكم في قبض الثمن في البيع ، الوجه عندنا أنه لا يملكه ، كما قلناه في البيع لا يملك الوكيل فيه قبض الثمن ، انتهى ، وعلى هذا النهج كلام الشرائع والإرشاد وغيرهما.

أقول : وينبغي تقييد إطلاقهم هنا عدم ملكه تسلم المبيع ، لعدم دخوله تحت إطلاق الوكالة بما قيد به عدم قبض الثمن في صورة الوكالة في البيع ، من أنه لو دلت القرائن على فوات المبيع وذهابه لو لم يتسلمه لكان الواجب عليه قبضه ، فضلا عن أن يكون جائزا لعين ما ذكروه ثمة ، كما لو وكله في شراء عين من مكان بعيد يتعذر على الموكل قبضها ، بحيث لو لم يقبضها ذهبت وفاتت ، فإنه يجب عليه قبضها ، وأنه يضمن بترك ذلك لعين ما تقدم ،

وينبغي أيضا تقييد إطلاقهم ملك تسليم الثمن هنا بما تقدم في الوكالة في البيع من تقييد ملكه لتسليم المبيع ، بما إذا قبض الموكل أو من يقوم مقامه الثمن لعين ما تقدم من الدليل في تلك الصورة ، ولعله الى ذلك يشير قوله في التذكرة : فهو كتسليم المبيع ، فان قياسه على تسليم المبيع وجعله مثله وعلى نهجه مع أنه كما عرفت قد صرح ثمة بأنه لا يسلم المبيع حتى يقبض الموكل أو من نصبه الثمن ، بمقتضى ما قلناه هنا من أنه لا يسلم الثمن إلا بعد قبض المبيع ، فمعنى قولهم أنه مأذون في دفع الثمن يعنى بعد تسليم المبيع.

وبالجملة فالظاهر عدم الفرق بين الوكيل البائع والوكيل المشتري ، في أنه ليس لهما دفع ما بيدها وإقباضه إلا بعد وصول عوضه الى الموكل أو من نصبه لقبضه ، حيثما تقدم في كلامهم في البيع في غير موضع من اشتراط التقابض ونحوه والله سبحانه العالم.

٣٢

التاسعة : قد صرح جمع من الأصحاب منهم الفاضلان في الشرائع والإرشاد بأن للوكيل الرد بالعيب مع حضور الموكل وغيبته ، وعلله في الشرائع قال : لأنه من مصلحة العقد.

أقول : قد تقدم في عبارة التذكرة في المسئلة السادسة ما يؤذن بدعوى الإجماع على أن الوكيل لا يملك الرد بالعيب ، لأنه إنما وكله في الشراء وهو مغاير للرد فلا يملكه ، وعلل في المسالك كلام المصنف هنا بأن الموكل قد أقامه مقام نفسه في هذا العقد ، والرد بالعيب من لوازمه لأن التوكيل لما لم ينزل إلا على شراء الصحيح ، فإذا ظهر العيب كان له الرد وشراء الصحيح ، ثم اعترضه فقال : ويشكل الأول بأنه انما أقامه مقام نفسه في العقد ، لا في اللوازم ، إذ من جملتها القبض ، والإقالة وغيرهما ، وليس له مباشرتهما إجماعا ، والثاني بأن مقتضاه وقوف العقد على الإجازة كما مر لا ثبوت الرد ، الى أن قال : والأجود عدم جواز الرد مطلقا ، وفاقا للتذكرة ، لأن الوكالة في الشراء انما اقتضت إدخال المبيع في ملكه ، والرد يقابله ويضاده ، فلا يدخل فيها ، انتهى وهو جيد.

وكيف كان فإنه متى رضي به الموكل أو منعه عن الرد فإنه ليس له الرد ، أما على ما اخترناه فإنك قد عرفت أن الوكيل ليس له الرد ، وانما الخيار للموكل بين الرد والإمساك.

وأما على ما ذكروه هنا من أن للوكيل الرد فلأنه بمنعه عن الرد قد انعزل عن الوكالة في ذلك ، كما ذكره في المسالك بناء على ذلك ، حيث قال ـ بعد قول المصنف ولو منعه الموكل لم تكن له مخالفته ـ ما لفظه : لا شبهة في بطلان رده بالنهي المذكور ، لأنه إبطال للوكالة فيما تضمنه ، وعزل له فيه ، وإذا جاز عزله عن الوكالة فمن بعض مقتضياتها أولى وفي حكمه إظهار الرضا بالعيب ، فإنه في معنى النهي عن الرد وأراد بذلك الفرق بين الوكيل ، وعامل المضاربة ، حيث انه قد سلف أن ليس للمالك منعه من الرد بالعيب ، وان رضى به مع كون العامل في معنى الوكيل ، والفارق انحصار الحق هنا في الموكل ، واشتراكهما في العامل.

٣٣

المطلب الثاني فيما تصح النيابة فيه وما لا تصح :

قال في التذكرة : البحث الرابع فيما فيه التوكيل والنظر في شرائطه ، وهي ثلاثة

الأول : أن يكون مملوكا للموكل ، الثاني : أن يكون قابلا للنيابة ، الثالث : أن يكون ما به التوكيل معلوما ولو إجمالا ، انتهى.

والكلام في هذا المطلب يقع في موارد : الأول : قال في التذكرة : يشترط فيما يتعلق الوكالة به أن يكون مملوكا للموكل ، فلو وكل غيره بطلاق زوجة سينكحها أو بشراء عبد سيملكه ، أو إعتاق رقبة يشتريه ، أو قضاء دين يستدينه ، أو تزويج امرأة إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها ، وما أشبه ذلك ، لم يصح ، لأن الموكل لا يتمكن من فعل ذلك بنفسه ، فلا تنتظم فيه اقامة غيره ، وهو أصح وجهي الشافعية.

الثاني : انه صحيح ، ويكتفى بحصول الملك عند التصرف ، وأنه المقصود من التوكيل ، وقال بعض الشافعية : الخلاف عائد الى أن الاعتبار بحال التوكيل أم حال التصرف ، انتهى.

أقول : ينبغي أن يعلم أن المراد بكون متعلق الوكالة مملوكا للموكل بمعنى كونه مما يمكن الموكل التصرف فيه ، ومباشرته بنفسه عقلا وشرعا ، ومثل هذه الأمور المعدودة لما لم يمكنه مباشرتها بشي‌ء من الوجهين المذكورين انتفت الوكالة فيها ، وأولى منها الأمور المستحيلة عقلا أو شرعا ، فلا يجوز التوكيل في الغصب والسرقة والقتل ونحوه ، وأحكامها انما تلزم المباشر لها ، وهل يعتبر الإمكان المذكور من حين التوكيل الى حين التصرف ، ظاهر جمع منهم ذلك على ما نقله في الكفاية ، وهو ظاهر عبارة التذكرة المتقدمة.

وقال المحقق الثاني في شرح القواعد على ما نقله بعض الأفاضل فمن شرط صحة الوكالة أن يكون التصرف مملوكا للموكل في وقت صدور عقد التوكيل والظاهر أن ذلك متفق عليه عندنا ، وللشافعية خلاف في ذلك.

٣٤

أقول : ومنه يعلم أن الاكتفاء بحصول الملك وقت التصرف مختص بالعامة كما تقدم نقله عن بعض الشافعية ، وقد تلخص من ذلك أنه متى كان شرط الوكالة ذلك امتنع التوكيل في هذه الأفراد المعدودة ، الا أنه قد أورد المحقق الأردبيلي هنا عليهم اشكالا ، وهو انهم قد حكموا بجواز التوكيل للطلاق في طهر المواقعة وفي حال الحيض ، وانهم يجوزون التوكيل في تزويج امرأة وطلاقها قبل التزويج وكذا في شراء عبد وعتقه من غير نزاع ، ثم نقل عن التذكرة التصريح بذلك ، ثم قال : وأيضا يجوزون الطلقات الثلاث مع رجعتين بينهما ، ومعلوم جواز عقد القراض ، وهو مستلزم للبيوع المتعددة الواردة على المال مرة بعد أخرى ، وليس بموجود حال العقد.

وبالجملة لا شك في جواز التوكيل في أمر لا يكون بالفعل للموكل فعله بل بعد فعل آخر كما مثلناه ، وجميع ذلك مع قولهم بهذا الشرط مشكل ، الى أن قال : فهذا الشرط غير متحقق اعتباره لي ، سواء قلنا وقت التوكيل فقط ، أو يستمر الى وقت الفعل انتهى.

أقول : من المحتمل قريبا حصول الفرق بين ما قدمنا ذكره عن التذكرة من الأمثلة التي يمتنع التوكيل فيها لعدم الشرط المذكور ، وبين ما ذكره من الأمثلة بأن يقال : بالفرق بين ما وقع فيه التوكيل مستقلا كالأمثلة التي منعوا عن الصحة فيها ، وبين ما وقع التوكيل فيه تبعا لما يجوز التوكيل فيه اتفاقا كالأمثلة التي أوردها ، فيبطل في الأول ، ويصح في الثاني ، ويشير الى ذلك ، جمعه في التذكرة بين الكلام الذي اعترض به عليه ، وبين ما قدمنا نقله عنه في صدر المسئلة في موضع واحد ، فإنه قال : على أثر ما قدمناه في صدر المسئلة ما صورته : ولو وكله في شراء عبد وعتقه أو في تزويج امرأة وطلاقها ، أو في استدانة دين وقضاءه صح ذلك كله ، لأن ذلك مملوك للموكل ، انتهى.

وحينئذ فلو لم يكن الفرق حاصلا بما ذكرنا بل كان الجميع من باب

٣٥

واحد كما ذكره ، لحصل التدافع بين كلاميه ، فكيف يصرح في محل واحد في بعض الأمثلة بأنه لا يصح التوكيل ، لأنه لا يملك التصرف ، ويقول في نظيره أنه يصح ، لأن ذلك مملوك للموكل.

وبالجملة فإن الفرق بين وقوع الشي‌ء أصالة وتبعا غير عزيز في الأحكام ، وقد تقدم في الضمائم الى ما لا يصلح بيعه منفردا ما هو ظاهر في ذلك ، ومنه أيضا عدم جواز الوقف على من لم يوجد أصالة ، وصحة الوقف عليه تبعا فلو وقف على من سيولد له بطل اتفاقا ، وعلى من ولد ومن سيولد صح اتفاقا.

نعم يبقى الكلام في الدليل الدال على هذا الشرط ، ولا أعلم لهم دليلا زيادة على ما يفهم من الاتفاق الذي ادعاه المحقق الشيخ علي ، وفيه ما عرفت في غير مقام مما تقدم فالمسئلة غير خالية من الاشكال ، كما في غيرها من مسائلهم الجارية على هذا المنوال.

الثاني : قد عرفت أن من الشروط قبول الفعل الموكل فيه للنيابة ، والأصحاب قد جعلوا لذلك ضابطا ، فقالوا : ان كلما تعلق قصد الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة فإنه لا يقبل التوكيل ، ولا تصح فيه النيابة ، فكلما جعل ذريعة إلى غرض لا يختص بالمباشرة تصح النيابة فيه.

قال في التذكرة ، الضابط فيما تصح فيه النيابة وما لا يصح أن نقول : كلما يتعلق غرض الشارع بإيقاعه من المكلف مباشرة لم تصح فيه الوكالة ، وأما مالا يتعلق غرض الشارع بحصوله من مكلف معين ، بل غرضه حصوله مطلقا ، فإنه تصح فيه الوكالة وذلك لان التوكيل تفويض وانابة ، فلا يصح فيما لا تدخله النيابة ، انتهى.

وعدوا من الأول الطهارة ، وان جازت النيابة في غسل الأعضاء عند الضرورة ، الا أن ذلك ليس وكالة ، والصلاة الواجبة ما دام حيا ، وكذا الصوم والاعتكاف والحج الواجب مع القدرة ، والايمان والنذور والغصب والقسم بين الزوجات لانه

٣٦

يتضمن استمتاعا ، والظهار واللعان وقضاء العدة والجناية ، والالتقاط والاحتطاب والاحتشاش ، واقامة الشهادة إلا على وجه الشهادة على الشهادة.

وعدوا من الثاني البيع ، وقبض الثمن ، والرهن والصلح ، والحوالة والضمان والشركة والعارية ، واختلفوا في جملة من الأفراد كما سيأتي التنبيه عليها إنشاء الله تعالى.

أقول : لا يخفى ان الظاهر أن بناء هذا الضابط إنما هو على التقريب في جملة من هذه المعدودات ، والا فإنه لا نص على هذا الضابط ، ولا دليل عليه من الأخبار.

أما العبادات فالتقريب فيها أنه لما كان المقصود منها الانقياد والخضوع والخشوع لله سبحانه ، وتهذيب النفس الأمارة وتذليلها كان مستلزما للمباشرة ، وفعل المكلف بنفسه ليترتب عليه الأغراض المذكورة ، ولا ينافي ذلك الاستنابة في غسل أعضاء الطهارة مع العجز في الطهارة المائية ، أو الترابية فإنه لا يسمى وكالة ، ولذلك تجوز الاستنابة فيه ، لمن لا يصح توكيله كالمجنون والصغير والنية في ذلك من المكلف إذ لا عجز فيها إلا مع زوال التكليف بالكلية ، وأما تطهير الثوب والبدن من النجاسة فليس في حد ذاته من العبادات ، ليمتنع التوكيل فيه ، وان ألحق بها من حيث استحباب النية ، ولهذا يحكم فيه بالطهارة بحصول الغسل كيف اتفق وان كان لا من قصد ولا نية بالكلية.

نعم قد استثنى من العبادات هنا مواضع : منها الصلاة الواجبة كركعتي الطواف حيث تجوز الاستنابة في الحج الواجب مع العذر ، ومنها الحج في الصورة المذكورة ، ومنها الحج المندوب وركعتا الطواف فيه ، والطواف المندوب حيث يناب فيه وصلاة الزيادة ، وأما غيرها من النوافل والصوم المندوب ففي جواز التوكيل فيه اشكال ، وإطلاق جمع من الأصحاب المنع من الاستنابة في العبادات يشملهما ، وان قيد الإطلاق في غيرهما لقيام الدليل عليه ، ويبقى ما عداه على

٣٧

المنع ، ومنها عتق العبد عن كفارة وجبت عليه ، ومنها أداء الزكاة الواجبة والخمس فإنه يجوز التوكيل فيها بغير اشكال ، وكذا الزكوات المستحبة.

وأما الالتقاط والاحتطاب والاحتشاش فالكلام فيها مبني على ما تقدم تحقيقه في الشركة في المسئلة الثانية من الفصل الثالث اللواحق من الكتاب المذكور ، ومن ذلك يعلم أن هذه الأشياء مما قد اختلف فيه كلامهم.

وهنا مواضع قد وقع الخلاف في جواز التوكيل فيها ، منها الإقرار بأن يقول وكلتك لتقرعنى لفلان بكذا وكذا ، فذهب الشيخ الى جواز التوكيل فيه ، وهو أحد قولي الشافعية ، لأنه قول يلزم به الحق فأشبه الشراء وسائر التصرفات. وتردد في التذكرة ، ومن ذهب الى المنع علله بأن الإقرار إخبار بحق عليه ، ولا يلزم الغير إلا على وجه الشهادة ، ولا يليق التوكيل بالإنشاءات.

ومنها أيضا التوكيل في إثبات الحدود التي هي حق الله سبحانه ، وأما ما يتعلق بالآدميين فقد جوزوا الوكالة فيه ، ووجه المنع من التوكيل فيها أنه مبنية على التخفيف ، ولقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «ادرأوا الحدود بالشبهات». والتوكيل يؤدي الى إثباتها ، والقول بذلك مذهب الفاضلين ، في غير التذكرة ، وأما في التذكرة فإنه قال : ويجوز التوكيل في إثبات حدود الله سبحانه ، وبه قال بعض العامة ، ثم نقل خبرا من أخبار العامة يدل على أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكل في إثبات الحد واستيفائه ، ثم قال : ولأن الحاكم إذا استناب نائبا في عمل فإنه يدخل في تلك النيابة الحدود وإثباتها فإذا دخلت في التوكيل بالعموم فبالتخصيص أولى ، ثم نقل عن الشافعي المنع من التوكيل في إثباتها ، محتجا بما تقدم ثم رده بأن للوكيل أن يدرء بالشبهة ، وإلى هذا القول قال في المسالك محتجا بما ذكره العلامة هنا ، وأجاب عن دليل المانع بما أجاب به هنا أيضا.

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ٥٣ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٨ ص ٣٣٦ ح ٤.

٣٨

ومنها الجهاد قال في المبسوط : وأما الجهاد فلا تصح النيابة فيه على حال ، لأن كل من حضر الصف توجه فرض القتال اليه ، وكيلا كان أو موكلا ، وقد روى أنه تدخله النيابة ، قال في المختلف بعد نقل ذلك عنه : والمعتمد دخول النيابة فيه ، ولذا يصح الاستيجار عليه ، وهذا اختيار ابن البراج ، انتهى.

أقول : ما نقله الشيخ من وجود الرواية بالنيابة لا تحضرني الآن ، فان ثبت فلا معدل عن القول بها ، وبه يزول الاشكال ، ويضعف ما ذهب اليه ، وما استدل به العلامة قوى أيضا ان ثبت صحة الاستيجار عليه ، كما ادعاه.

ومنها وكالة الرجل لزوجته في طلاق نفسها منه ، قال في المبسوط : وأما المراءة فإنها تتوكل لزوجها في طلاق نفسها عند الفقهاء وفيه خلاف بين أصحابنا ، والأظهر أنه لا يصلح ، وتبعه ابن إدريس قال في المختلف : والوجه عندي الجواز ، لنا أنه فعل تدخله النيابة صدر من أهله في محله ، فكان واقعا ، عملا بالأصل ، ولا يخفى أن ما استدل به ، لا يخرج عن المصادرة ، وأنه عين المدعى ، واما التمسك بأصالة الصحة فهو أيضا لا يخلو من الاشكال.

ومنها توكيل الكافر في تزويج المسلمة ، منع عنه في المبسوط ، وجوزه ابن إدريس ، واختار في المختلف ما ذهب اليه الشيخ ، واستدل عليه بأنه نوع سلطنة ، وثبوت ولاية وسبيل على المسلم ، فلا يصح لقوله تعالى (١) «وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً».

أقول : لا يخفى ما في هذا الاستدلال من الوهن ، ثم قال : احتج بالأصل والجواب المنع من التمسك به مع قيام منافيه.

ومنها من وكل غيره في طلاق زوجته وهو حاضر ، فذهب الشيخ وجماعة منهم ابن البراج وأبو الصلاح الى عدم جواز ذلك ، وذهب ابن إدريس ومن تأخر عنه الى الجواز ، وسيأتي تحقيق المسئلة في محلها ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ١٤١.

٣٩

ومنها أن يتوكل المسلم للذمي على المسلم ، وظاهر الخلاف المنع منه ، وكذا في النهاية ، وهو ظاهر الشيخ المفيد أيضا ، ومنع أبو الصلاح من ذلك ، وصرح ابن إدريس والعلامة في المختلف بالجواز ، قال في المختلف : لنا الأصل الدال على الجواز السالم عن المعارضة بإثبات السبيل للكافر على المسلم.

ومنها توكيل الحاضر في الخصومة من غير أن يلزمه الحضور ، رضي خصمه بذلك أم لا ، والمشهور الجواز ، وذهب ابن الجنيد إلى أنه مع حضوره لا يجوز إلا أن يرضى الخصم بمخاصمة وكيل خصمه.

ومنها أيضا قبض الزكاة والخمس ، فهل يجوز للفقير والسيد التوكيل في قبض ذلك له ممن عليه ذلك ، قولان : الجواز وهو قول المبسوط ، والمختلف والتذكرة ، والمنع وهو قول ابن إدريس ، وابن البراج ، إما إخراجهما فلا خلاف نصا وفتوى في ذلك.

قال ابن إدريس : قال بعض أصحابنا يجوز من أهل السهمين التوكيل في قبضها ، وقال ابن البراج : لا يجوز ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنه لا دلالة عليه ، فمن ادعى ذلك فقد أثبت حكما شرعيا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ولا دلالة ، وأيضا فالذمة مرتهنة بالزكاة ، ولا خلاف بين الأمة ان دفعها الى مستحقها يبرء الذمة بيقين ، وليس كذلك إذا سلمه الى الوكيل ، لأن الوكيل ليس هو من الأصناف الثمانية بغير خلاف ، لأن الزكاة والخمس لا يستحقهما واحد بعينه ، ولا يملكهما إلا بعد قبضه لهما ، فتعين له ملكهما ، والوكيل لا يستحق إلا ما تعين ملكه للموكل ، واستحق المطالبة به ، وكل واحد من أهل الزكاة والخمس لا يستحق المطالبة بالمال ، لأن الإنسان مخير في وضعه فيه ، أو في غيره ، فلا يجبر على تسليمه اليه ، انتهى.

واستدل في المختلف على ما ذهب اليه من الجواز ، فقال لنا : أنه عمل مباح يقبل النيابة ، فصحت الوكالة فيه ، أما إباحته فلا شك فيه ، وأما قبوله

٤٠