الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

ظاهرها مجرد الاذن في السكنى وليس هنا عقد غير ذلك ، ولا قبول بالكلية بالمعنى الذي أرادوه غير مجرد الرضى بذلك ، وهذا هو المفهوم من الأخبار بالنسبة إلى سائر العقود أيضا كما تقدم التنبيه عليه في غير موضع.

وبالجملة فإن دائرة الأمر في العقود أوسع مما ضيقوه وسهولة الأمر في ذلك أظهر مما شرطوه وان كان الوقوف على ما ذكروه هو الأولى.

الثاني : لا خلاف في أنه لا يلزم شي‌ء منها قبل القبض ، واختلفوا في أنه هل تلزم بالقبض المشهور ذلك ، وقيل : بالعدم ، لأصالة بقاء الملك لمالكه ، فهي كالعارية ، وحينئذ تلزم ان قرنت بالقربة ، والا فلا ، لأنه في معنى الهبة المعوضة ، وهذان القولان الأخيران نقلهما الأصحاب في كتب الاستدلال بلفظ قيل : ولم يصرحوا بالقائل ، ولا ريب في ضعفهما لدلالة الأخبار المذكورة على اللزوم بعد حصول القبض كالحديث الأول وقوله فيه «الناس عند شروطهم» إلى أن قال : «فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يرد الى صاحب الدار» فإنه ظاهر ، بل صريح في وجوب الوفاء بما اشترط ، وأنه ليس لصاحب الدار التصرف الا بعد فنائهم ، الحديث الثاني والثالث ، وفيه تصريح بأنه ليس لصاحب الدار أن يخرجه ، ومعنى الجواز في هذه الأخبار الصحيحة يعنى أنه يصح له التصرف والخبر المذكور صريح في اللزوم ، ومثل ذلك الحديث الخامس حكم فيه بأن البيع لا ينقض السكنى بمعنى أنها لازمة لا يوجب البيع نقضها ، ويؤكده جعلها في قرن الإجارة التي لا إشكال في لزومها ، وبالجملة فإن القولين المذكورين ضعيفان لا يلتفت إليهما ، ومما ذكرنا يعلم أن القبض شرط في لزومها وبذلك صرح الأصحاب أيضا.

الثالث : لو قال : لك سكنى هذه الدار ما بقيت وحييت ، يعنى الساكن فإنه لا اشكال ولا خلاف ظاهرا في أنه بعد موت الساكن ترجع الدار إلى من أسكنه أو إلى ورثته ان مات ، وعلى ذلك تدل جملة من الاخبار المتقدمة كالخبر

٢٨١

الأول والثاني ، فإنهما ظاهران في وجوب العمل بالشرط ، وأنه بعد انقضاء الشرط ان كان بالنسبة إلى الساكن أو مع ورثته ترجع الدار إلى صاحبها الأول.

وقال المحقق في الشرائع : ولو قال لك سكنى هذه الدار ما بقيت أو حييت جاز ، ويرجع الى المسكن بعد الساكن على الأشبه ، أما لو قال : فإذا متّ رجعت إلى ، فإنها ترجع قطعا ، انتهى.

ونسبة القول المذكور إلى الأشبه مؤذن بالخلاف في ذلك ، والظاهر أن منشأ ذلك ما ذكره الشيخ في المبسوط حيث نقل في أصل المسئلة قولين بالصحة والبطلان ، ثم نقل عن القائلين بالصحة أنهم اختلفوا فذهب قوم منهم إلى أنها للمعمر مدة بقائه ، ولورثته من بعده ، وقال آخرون منهم : أنه إذا مات رجعت إلى المعمر أو إلى ورثته ان كان مات ، قال : وهذا هو الصحيح على مذهبنا.

وأنت خبير بأن الظاهر أن الخلاف الأول والثاني إنما هو للعامة لما علم من عادة الشيخ في الكتاب المذكور ويشير إلى ذلك قوله أخيرا وهذا هو الصحيح على مذهبنا ، فإنه ينقل أقوال العامة ويختار منها ما يوافق مذهبه ، وأخبارنا المتقدمة ظاهرة بل صريحة في بطلان هذه الأقوال المذكورة عدا ما ذكرنا من الانتقال إلى المالك بعد انقضاء مدة الإسكان ان قرن بمدة ، أو موت الساكن ان قرن بحياته ، ثم ان المفهوم من كلام الأصحاب وعليه تدل الأخبار المتقدمة أنه متى قرن السكنى بعمر الساكن خاصة أو مع عقبه فإنه بعد موت الساكن أو الجميع يرجع ذلك المسكن إلى المالك ، ونقل عن الشيخ في المبسوط عدم الانتقال لو شرط العقب بعده.

قال في الدروس : ولو قال : هي لك عمرك ولعقبك لم يملكها المعمر ، بل ترجع بعد موت العقب الى المالك ، وظاهر الشيخ عدم رجوعها لخبر جابر عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، انتهى.

أقول والخبر المذكور هو ما رواه جابر أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

٢٨٢

قال : أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنما هي للذي يعطاها ، لا ترجع إلى الذي أعطاها ، فإنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث» (١). وأنت خبير بأن هذا الخبر غير موجود في كتب أخبارنا ، والظاهر أنه عامي.

وكيف كان فالقول المذكور ضعيف مردود بالأخبار المتقدمة ، كالخبر الأول والثاني فإنهما صريحان في الرجوع إلى صاحب الدار بعد فناء العقب ، وقوله انه ليس للعقب أن يبيعوا ولا يورثوا أظهر في عدم الملك.

وبالجملة فإن المفهوم من الأخبار المتقدمة تصريحا في بعض وتلويحا في آخر أنه لا فرق في رجوع المعطي بأحد الوجوه المذكورة إلى المالك بين أن يعلق على عمر أحدهما أو على عقب المعمر بعده ، بأن يجعل المنفعة لهم بعده مدة عمرهم ، أو لبعض معين منهم ، أو جعله له مدة ، ثم لعقبه مدة معينة مخصوصة ، فيكون حينئذ مركبا من العمرى والرقبى ، ثم بعد انقضاء المدة المعينة يرجع إلى المالك ، وإلى جميع ذلك يشير قوله في الخبر الأول «الناس فيه عند شروطهم» ، والله العالم.

الرابع : لا خلاف بين الأصحاب في أنه لو قرن السكنى بعمر المالك ثم مات الساكن قبل المالك فإنه ينتقل الحق إلى ورثته مدة حياة المالك ، كغيره من الحقوق والأملاك التي يرثها الوارث ، إنما الخلاف فيما لو قرنت بعمر المعمر وهو الساكن ثم مات المالك قبله ، فالمشهور أنه لا يجوز لورثة المالك إزعاج المعمر وإخراجه ما دام حيا ، لأن الأصل في العقد اللزوم ، وهو قد استحق بالعقد المنفعة مدة حياته ، حيث أنها قرنت بعمرة ، وقد دل الخبر الأول كما عرفت «الناس عند شروطهم» ومقتضى الشرط هنا ما ذكرناه.

ويدل عليه أيضا قوله في الخبر الثاني ان كان جعل السكنى في حياته فهو كما شرط ، فان الضمير راجع إلى الساكن بقرينة قوله بعده «وان كان جعلها له

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١٥ ح ٤.

٢٨٣

ولعقبه» وهو أعم من أن يموت المالك أو يبقى.

وذهب ابن الجنيد إلى تفصيل في ذلك ، فقال : إذا أراد ورثة المالك إخراج الساكن بعد موت المالك نظر إلى قيمة الدار ، فان كانت تحيط بثلث الميت لم يكن لهم إخراجه ، وان كان ينقص عنها كان ذلك لهم.

ويدل على ما ذهب إليه الخبر السادس حيث فصل فيه كما ذكره ، قال الشيخ في كتابي الأخبار بعد إيراد الخبر المذكور ما تضمن هذا الخبر من قوله «يعنى صاحب الدار ، فإنه غلط من الراوي وهم منه في التأويل ، لأن الأحكام التي ذكرها بعد ذلك إنما تصح إذا كان قد جعل السكنى حياة من جعل له السكنى فحينئذ يقوم وينظر باعتبار الثلث وزيادته ونقصانه.

وأما إذا جعل السكنى حياة صاحب الدار فإنه يبطل السكنى بموته ولم يحتج إلى تقويمه واعتبار الثلث وربما أوهم هذا الكلام منه موافقته لابن الجنيد مما ذهب إليه ، الا أن الظاهر أنه إنما أراد به بيان بطلان هذا التأويل ، بناء على ما اشتملت عليه الرواية من هذا الحكم ، وأنه لا يتمشى هذا الحكم المذكور فيهما الا على تقدير كون التعمير بمدة عمر الساكن ، لا صاحب الدار ، لأنه لا خلاف ولا إشكال في البطلان بموت صاحب الدار إذا قرنت بعمرة ، وربما حمل صاحب الدار في الخبر على الساكن فإنه صاحب في الجملة لملكه المنافع مدة حياته ـ وان بعد ، الا أنه لا بأس به في مقام التأويل جمعا بين الأدلة ، ثم ان الأصحاب قد ردوا هذه الرواية بضعف السند ، واضطراب المتن.

قال في الدروس : وقال ابن الجنيد (رحمة الله عليه) : يعتبر خروجها من الثلث لرواية خالد بن نافع عن الصادق عليه‌السلام وفي متنها اضطراب ، وقال في المسالك : ان في سندها جهالا وضعفاء ، ومتنها خللا يمنع من الاستناد إليها ، فالمذهب هو المشهور.

أقول : ولعل الخلل المشار إليه منشؤه أن التفصيل بالخروج من الثلث

٢٨٤

وعدمه إنما هو فيما إذا كان ذلك في مرض الموت لا في حال الصحة ، والمفروض في الخبر لا دلالة فيه ، ولا إشارة إلى أن ذلك كان في المرض ، فيصير الخبر بذلك مضطربا ومختلا لخروجه عن مقتضى القواعد الشرعية ، والأصول المرعية.

ومن ذلك يظهر أن العمل على القول المشهور لتأييده بما قدمناه من الأخبار وموافقته القواعد المقررة ، وضعف هذا الخبر سندا ومتنا كما عرفت ، والله العالم.

الخامس : الموجود في كلام الأصحاب وكذا في الأخبار في الاقتران بالعمر هو عمر المالك ، أو عمر الساكن وحده أو مع عقبه ، وهل يتعدى الحكم إلى غيرهم ، فيقرن بعمر أجنبي اشكال ، قال في المسالك : يحتمل العدم ، وهو الذي أفتى به الشهيد في قواعده ، للأصل وعموم الأمر بالوفاء بالعقود (١) ، و «أن المؤمنين عند شروطهم» (٢) ، وهذا من جملته ، ولصدق اسم العمرى في الجملة ، المدلول على مشروعيتها في بعض الأخبار من غير تقييد بعمر أحدهما ، وهذا لا بأس به ، ويحتمل عدم التعدي إلى غير ما نص عليه ، لاشتمال هذا العقد على جهالة من حيث عدم العلم بغاية وقت المنفعة المستحقة ، والأصل يقتضي المنع في غير محل الوفاق.

ويتفرع على الأول حكم ما لو مات أحدهما في حياة من علقت بعمرة ، فإن كان الميت المالك فالحكم كما لو مات في حياة المعمر ، وان كان المعمر رجعت إلى المالك ولو مات من علقت على عمره عادت إلى المالك أيضا مطلقا ، عملا بالشرط ، انتهى.

أقول : الظاهر أن الأقرب هو الثاني ، لأن الحكم بانتقال الملك عن مالكه عينا كان أو منفعة يتوقف على ناقل شرعي ، ولم يرد من الشارع ما يدل على هذه الصورة ، ليصح ترتب النقل عليها ، والاحتجاج بالأصل مدفوع بأن الأصل العدم حتى يقوم دليل على جواز ذلك ، وعموم الأمر بالوفاء بالعقود متوقف على مشروعية العقد وثبوته عن الشارع ، فالاستدلال به لا يخرج عن المصادرة «والمؤمنون عند شروطهم». غاية ما يفيده الإباحة ، والكلام في لزوم ذلك بحيث لا يجوز له الرجوع

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١.

(٢) الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤. ، التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ٦٦.

٢٨٥

تلك المدة كما هو مقتضى هذه المعاملة.

نعم إذا وقع الشرط في عقد لازم لزم ما وقع فيه ، ويؤيد ذلك أيضا أنه هو الأحوط في الدين ، والأخذ به واجب في موضع عدم النص عند المحدثين ، «حلال بين ، وحرام بين ، وشبهات بين ذلك فمن اجتنب الشبهات نجى من الهلكات». والله العالم.

السادس : الظاهر أنه لا خلاف في أنه لو أطلق السكنى ولم يعين مدة أو عين مدة غير مضبوطة فله السكنى مدة تكون جائزة ، لا لازمة بمعنى أنه له إخراجه متى شاء ، ويدل على ذلك الخبر الثالث والرابع ، وعلى ذلك يحمل الخبر الثالث عشر والا فإنه على إطلاقه مخالف للأخبار وفتوى الأصحاب ، مضافا الى ضعف الرواية ، فلا بد من حمله على ما ذكرناه ، والا فطرحه من البين ، وهذه الصورة مستثناة من صورة هذه المعاملة ، حيث ان الحكم فيها اللزوم كما عرفت نصا وفتوى ، إلا في هذه الصورة.

بقي الكلام هنا في موضعين : أحدهما ـ في أنه قد صرح في التذكرة بأنه مع الإطلاق يلزم الإسكان في مسمى العقد ولو يوما ، والضابط ما يسمى إسكانا وبعده للمالك الرجوع متى شاء ، وتبعه المحقق الشيخ على (رحمة الله عليه) واحتج بالرواية الرابعة ولعل ذلك بالنظر الى قوله «وله أن يخرجه بعد قوله أسكن رجلا دارا» فإن الإخراج ظاهر في كونه قد سكن ، وأن الإخراج بعد السكون فيها ، قيل : ويمكن الاحتجاج له بما يدل على لزوم غيره من العقود ، كعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) فلا بد من الحكم هنا بلزومه وقتا ما ، عملا بالدليل ، ثم يرجع الى الجواز.

أقول : أنت خبير بأن قضية الجواز التخيير بين الوفاء بالعقد وعدمه ، لأنه لا معنى لكونه جائزا غير لازم ، الا أنه ان شاء اسكن وان شاء لم يسكن ، ومتى

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.

٢٨٦

اسكن فان شاء اخرج وان شاء لم يخرج ، وأما الرواية فإن ما اشتملت عليه أحد الفردين المذكورين ولا يلزم من ذكره الاختصاص به ، وأما الآية فهي مخصوصة بالعقود اللازمة ، ولزوم الوفاء آنا ما ، وان جاز الرجوع بعد ذلك كما ذكروه خلاف ظاهر الآية ، إذ ظاهرها وجوب الوفاء ما لم يعرض للعقد ما يوجب فسخه أو بطلانه ، وكان مبنى ما ذهبوا اليه على أنه لا بد من الإسكان في الجملة ، ليصدق السكنى وتندرج هذه الصورة تحت هذه القاعدة ، وفيه أنها قد خرجت بعدم لزوم الإسكان فيها ، فهي ليست من أفرادها وانما هذا حكم سأل عنه السائل في تلك الأخبار ، فأجابوا عليهم‌السلام عنه بأنه بإذنه في ذلك لا بأس بالجلوس ولكنه لا يلزم كما في غيره من صور هذه القاعدة ، وبالجملة فإني لا أعرف لما ذكروه هنا وجها وجيها يعتمد عليه.

وثانيهما أنه لا يخفى أن مورد الخبرين المتقدمين السكنى خاصة لو أطلقها ، وأما العمرى والرقبى فلم يتعرضوا في الأخبار لحكمها لو أطلقنا أيضا ، وقطع في الدروس يبطلان العمرى مع الإطلاق ، ولم يتعرض للرقبى ، وفي التحرير قطع بأنه مع إطلاق العمرى والرقبى يصح ، ويكون للمالك إخراجه متى شاء كالسكنى.

قال في المسالك بعد نقل ذلك : وهو في الرقبى حسن ، وفتوى الدروس في العمرى أحسن ، وهو مؤذن باختيار الصحة في الرقبى خاصة ، مثل السكنى والبطلان في العمرى ، وظاهر كلامه قبيل هذا الكلام هو التوقف في العمرى ، والحكم بالصحة في الرقبى ، حيث قال : ويمكن القول بفساد العمرى مع الإطلاق لاقتضائها الاقتران بعمر ، إما لأحدهما كما هو المشهور ، أو مطلقا كما قررناه ، فإذا لم يعينه بطلت للجهالة ، كما لو عين مدة غير مضبوطة ، حيث يعتبر تعينها ، والصحة إقامة لها مقام السكنى ، لاشتراكهما في كثير من المعاني والأحكام ، ومناسبتهما على الوجه الذي قررناه سابقا ، فيكون كاستعمال لفظ السلم في مطلق البيع وكذا القول في الرقبى ، وأولى بالصحة هنا لأن إطلاقها باعتبار رقبة الملك أو ارتقاب المدة

٢٨٧

التي يرتضيها المالك ممكن هنا بطريق الحقيقة ، فاستعمالها في السكنى يكون كاستعمال أحد المترادفين مكان الآخر ، وان اختلفا من جهة أخرى ، وهذا قوي ، انتهى.

أقول : لا يخفى انه وان تكرر في كلام الأصحاب ذكر الرقبى في أفراد هذه المعاملة ، وتكلفوا الوجه في التسمية بذلك ، كما تقدمت الإشارة اليه ، الا أنه لا وجود لذلك في أخبار المسئلة المتقدمة وليس غيرها في الباب ، وحينئذ فيسقط الكلام فيها بالكلية في هذا الموضع وغيره وانما الموجود فيها السكنى والعمرى والحبس خاصة.

وقد أشرنا فيما تقدم في غير موضع أن الأصحاب في جملة أكثر التفريعات والأحكام الخارجة عن موارد الأخبار انما جروا فيها على كلام العامة ، ولا يبعد ان هذا من ذاك.

واما العمرى فالظاهر أنها مثل السكنى في هذا الحكم فإنه لا فرق بين الأمرين إلا بالتعبير بلفظ الإسكان في الأول ، والعمرى في الثاني ، والا فالمرجع إلى أمر واحد ، فإذا قال أسكنتك فهي سكنى ، وإذا قال : أعمرتك فهي عمري كما تقدمت الإشارة إليه في صدر المبحث ، والأخبار دلت على أنه مع اقتران الأول من هذين اللفظين بالمدة المعينة ، فإنه يلزم الوفاء تلك المدة ، ولا يجوز الرجوع ومع اقتران الثاني بعمر الساكن أو المالك كذلك ، والإطلاق الذي أوجب الجواز ـ دون اللزوم في الأول ـ انما هو من حيث عدم ذكر المدة المشترطة ، والإطلاق في الثاني يرجع الى ذلك ، فإنه من حيث عدم ذكر عمر أحد من المالك أو الساكن أو غيرهما على القول به ، فالقول بالصحة في الأول ، والبطلان في الثاني ، لا اعرف له وجها وجيها.

قوله في المسالك ـ في بيان احتمال الفساد : «انه إذا لم يعين عمر أحدهما أو مطلقا بطلت للجهالة» فيه ان ذلك وارد أيضا في السكنى إذا أطلقها ولم يقيد بمدة ، مع أنه حكم بالصحة هو وغيره ، وان كان للمالك الرجوع ، فان كانت الجهالة

٢٨٨

من هذه الجهة موجبة للبطلان ففي الموضعين ، وإلا فلا فيهما ، اللهم إلا أن يكون مبني كلامه على الفرق بين ما إذا لم يعين للسكنى مدة بالكلية ، فإنه يصح ، وبين ما إذا عين مدة غير مضبوطة كقدوم الحاج ، وإدراك الغلة ، فإنه يبطل ، والعمرى انما هي من قبيل الثاني ، لأنه ذكر العمر ولم يعينه بعمر أحد ، فهو كما لو ذكر المدة ولم يشخصها بمدة معينة ، ويشير اليه قوله كما لو عين مدة غير مضبوطة إلا أن فيه أن الظاهر من قوله عليه‌السلام في الخبرين المشار إليهما ولم يوقت ما هو أعم من الأمرين المذكورين لأن المراد لم يوقت لذلك وقتا معينا وهو أعم من أن لا يوقت بالكلية ، أو وقت ولكنه غير معين ، والمراد بالسكنى المطلقة التي تكون صحيحة غير لازمة هو هذا المعنى ، فان الوقت الغير المعين يرجع الى عدم التوقيت بالكلية ، إذ لا ثمرة ترتب عليه ، والله العالم.

السابع : المشهور بين الأصحاب أنه لا تبطل السكنى والعمرى والرقبى بالبيع ، وعليه يدل الخبر الخامس ، الا أن مورده السكنى والعمرى ، وقد عرفت أن الرقبى لا وجود لها في الأخبار ، ونقل في الدروس قولا ببطلان البيع ، واضطرب كلام العلامة هنا ، ففي الإرشاد قطع بجواز البيع ، وفي التحرير استقرب عدمه ، لجهالة وقت انتفاع المشترى ، وفي القواعد والمختلف استشكل الحكم ، وفي التذكرة أفتى بالجواز للرواية ، ثم استشكل بعد ذلك.

قال في المسالك : ومنشأ المنع أو الأشكال أن الغرض المقصود من البيع هو المنفعة ، ولهذا لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه ، وزمان استحقاق المنفعة في العمرى مجهول.

أقول : لا يخفى ما في هذا التعليل العليل من الوهن والقصور ، فان ما ذكره لو تم لاقتضى عدم جواز بيع ما آجره المالك لأن منفعته ملك للمستأجر ضمن مدة الإجارة ، والبيع انما وقع على مال مسلوب المنفعة تلك المدة ، مع أن النصوص المتقدمة في كتاب الإجارة دالة على جواز البيع ، وعدم إبطال الإجارة

٢٨٩

والكلام في الموضعين واحد ، كما صرحت به الرواية المذكورة هنا ، وقوله فيها «لا ينقض البيع الإجارة والسكنى» وقياسه ذلك على بيع ما لا منفعة فيه قياس مع الفارق ، فان البيع فيما نحن فيه وكذا في الإجارة غير خال من المنفعة في الجملة وانما تخلف بعض منها ، والجهالة المدعاة في العمرى مع تسليم الإبطال بها مستثناة بالنص.

وبالجملة فإن النص المذكور صحيح صريح فيما قلنا ، ورده بهذه التعليلات العليلة اجتهاد في مقابلة النصوص.

بقي الكلام هنا في مواضع : الأول ـ قال في الدروس : لو باع المالك العين كان فسخا للسكنى ، لا الرقبى والعمرى ، ويتخير المشتري في فسخ البيع وإجارته مع جهله ، وقيل : يبطل بيع المعلقة بالعمر للجهالة ، والأول مروي عن الحسين بن نعيم عن الكاظم عليه‌السلام ، انتهى.

أقول : المفهوم من كلام غيره من الأصحاب انه لا فرق في الصحة بين السكنى وأخويها المذكورين في صورة البيع ، فحكمه هنا بانفساخ السكنى بالبيع وتخصيص الصحة بأخويها غريب لا أعرف له موافقا فيه ، نعم لو كانت السكنى جائزة وهي السكنى المطلقة فإنهم ذكروا أنها تبطل ، لأن من شأن العقد الجائز إذا طرأ عليه عقد لازم ينافيه فإنه يبطله ، والرواية التي هي مستند هذا الحكم ليست مخصوصة بالعمرى ، كما يشعر به ظاهر كلامه ، لأنه وان كان صدر الرواية قد تضمن السؤال عن رجل أسكن رجلا داره مدة حياته ، وهذه الصورة عندهم كما قدمنا ذكره صدر البحث مما يطلق عليها السكنى والعمرى ، الا أن الخبر المنقول في آخر الرواية عن أبى جعفر عليه‌السلام وكذلك ما قبله ، إنما صرح فيه بالسكنى ، وانها مع الإجارة لا تنقض بالبيع.

وبالجملة فالخبر صريح في السكنى والعمرى معا ، لا أنه مختص بالعمرى ، كما هو ظاهر كلامه ، ومثله الشهيد الثاني في المسالك أيضا ، وكأنهم بنوا على

٢٩٠

ما تضمنه صدر الخبر وغفلوا عما تكرر فيه بعد ذلك من ذكر السكنى ، سيما الرواية عن أبى جعفر عليه‌السلام.

الثاني ـ حيث قد عرفت أنه يجوز البيع في هذه الصورة ، فإن كان المبيع مسلوب المنفعة ، فإن كان المشتري عالما فلا خيار له ، لأنه قدم على شراء عين مسلوبة المنفعة ، فيجب عليه أن يصبر حتى ينقضي المدة أو العمر المقرون بها فتنتقل المنفعة بعد ذلك ، وله في تلك المدة وبقاء العمر الانتفاع بالمبيع ، بالبيع والهبة والعتق ، وغير ذلك مما لا يتعلق بتلك المنفعة المستحقة ، وان كان جاهلا تخير بين الصبر مجانا إلى انقضاء المدة أو العمر ، وبين الفسخ ، لحصول العيب بفوات المنفعة.

الثالث ـ لو كان المشترى هو المعمر في صورة العمرى أو الساكن في صورة السكنى ، فإنك قد عرفت أن المنفعة قد انتقلت إليه في تلك المدة وزمان العمر ، وبعد الاشتراء قد انتقلت له العين أيضا ، فصارت العين ومنافعها له ، فيجوز له أن يبيعها مع منافعها ، لأن الجميع ملك له ، وأما قبل الاشتراء فإنه لا يجوز له بيع المنفعة التي انتقلت إليه ، لأن البيع لا يقع على المنافع ، وإنما مورده الأعيان كما تقدم في كتاب البيع (١).

نعم الأقرب أنه يجوز له الصلح عليها ، وعلى هذا لو اشترى العين غيره جاز له أن يصالح المشتري على ما يستحقه من المنفعة بمال معلوم ، فيصير المشتري مالكا للعين والمنفعة ، كما لو كان المشتري هو المعمر أو الساكن ، والله العالم.

الثامن : المشهور بين الأصحاب أنه إذا أطلق السكنى بمعنى أنه لم يعين الساكن ، بل قال : أسكنتك هذا الدار مدة كذا ، أو عمرك أو نحو ذلك ، فإنه يسكن فيها بنفسه وأهله وأولاده ، ولا يجوز له إسكان غيرهم إلا بإذن جديد زائد على مجرد هذا العقد.

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٢٩.

٢٩١

قال الشيخ في النهاية إذا أسكن انسان غيره لم يجز للساكن ان يسكن معه غيره إلا ولده وأهله ، ولا يجوز له سواهم ، ولا يجوز للساكن أيضا أن يؤاجره ولا أن ينتقل عنه فيسكن غيره إلا بإذن صاحب المسكن ، وعلى هذه المقالة جرى من تأخر عنه إلا ابن إدريس ، فإنه قال في السرائر بعد نقل كلام الشيخ المذكور : والذي يقتضيه أصول المذهب أن له جميع ذلك ، اخلافه وإجارته وانتقاله عنه وإسكان غيره معه سوى ولده وامرأته سواء أذن له في ذلك أم لم يأذن ، إذا كان أول ما أسكنه قد أطلق السكنى لأن منفعة هذه الدار استحقها ، وصارت مالا من أمواله ، وحقا من حقوقه ، فله استيفائها كيف شاء بنفسه وبغيره ، وما أورده شيخنا أبو جعفر (رحمة الله عليه) في نهايته فلا شك أنه خبر واحد قليلا ما يورده أصحابنا في كتبهم ، فشيخنا المفيد (رحمة الله عليه) لم يورده في مقنعته ، ولا السيد المرتضى (رضي‌الله‌عنه) ولا المحصلون من أصحابنا ، انتهى.

احتج الأصحاب على ما ذكروه بأن الأصل عصمة مال الغير ، وحفظه عن تسلط غير المالك ، خرج عنه المسكن بالاذن وأهله وأولاده قضية للعرف ، فصار كالمأذون فيه مطلقا ، بقي الباقي على أصل المنع ، وأجابوا عما ذكره بالمنع عن الاستحقاق المطلق ، بل إنما يستحق على ما جعل له ، وهو السكنى فلا يتناول الإجارة وغيرها ، لعدم الاذن فيه مطلقا ، وعرفا.

وتنظر فيه في المسالك ، ولم يذكر وجه النظر ، ثم قال : وكيف كان فالعمل على القول المشهور ، وان كان كلام ابن إدريس لا يخلو من قوة.

أقول : لا يخفى أنه ليس في شي‌ء من أخبار المسئلة ما يدل على هذا الحكم المذكور بوجه ، فقول ابن إدريس أن ما أورده الشيخ في النهاية خبر واحد ، إنما هو من قبيل ما قدمنا ذكره في غير موضع من أنه لما كان أكثر ما يذكره الشيخ في هذا الكتاب قد جرى فيه على ما أورد في الأخبار ، ظن ابن إدريس أن جميع ما في الكتاب من فتاوى الشيخ من ذلك القبيل ، والا فهذه أخبار المسئلة

٢٩٢

كملا كما قدمناه ، وهي كما ترى خالية من التعرض لذلك ، ولهذا ان الأصحاب إنما استندوا في إدخال من ذكروه إلى العرف ، حيث ان ظاهر اللفظ إنما يدل على إسكان ذلك الرجل وحده ، ولكن حيث دل العرف على دخول من ذكروه حكموا بوجوب دخولهم ، ولهذا أيضا ان العلامة في التذكرة ألحق من جرت العادة أيضا بإسكانه ، مثل عبده وجاريته ومرضعة ولده ، لدلالة العرف على ذلك وكذا الدابة والضيف إذا كان في الدار موضع يصلح لها ، وكذا إحراز الغلة فيها ونحو ذلك مما جرت العادة به ، ولا بأس به.

وما ذكره شيخنا المتقدم ذكره من النظر في جواب الأصحاب عن حجة ابن إدريس لا أعرف له وجها ، فإن غاية ما يدل عليه لفظ السكنى هو السكون في تلك الدار لا مطلق الانتفاع ، كما يدعيه ابن إدريس ، ومطلق الانتفاع إنما يترتب على الإجارة لا على السكنى الصريح في خصوص هذه المنفعة ، ان أراد جميع منافعها فمنعه ظاهر ، وان أراد هذه المنفعة الخاصة فهو مسلم ، ولكن بالنسبة إليه خاصة ، لأن قوله أسكنتك في معنى أذنت لك في السكون ، والاذن إنما حصل له خاصة ، ولكن لما كان مقتضى العرف والعادة هو تبعية من جرت العادة بملازمته له كالزوجة والأولاد ونحوهم أدخلناهم في الاذن من هذه الجهة ، واما غيرهم فلا يدل العرف عليه ، ولا يدخل تحت مفهوم اللفظ كما عرفت ، فكيف يتم ما ذكره ابن إدريس والحال كذلك.

وبالجملة فأصالة العدم حتى يقوم الدليل على خلافه أقوى مستمسك ، فالأظهر هو القول المشهور.

التاسع : قال الشيخ في النهاية : إذا جعل الإنسان خدمة عبده أو أمته لغيره مدة من الزمان ثم هو حر بعد ذلك ، كان له ذلك أيضا جائزا ، وكان على المملوك الخدمة في تلك المدة ، فإذا مضت المدة صار حرا ، فإن أبق العبد هذه المدة ثم ظفر به من جعل له خدمته لم يكن له بعد انقضاء تلك المدة سبيل.

٢٩٣

أقول : وما ذكره الشيخ هو مدلول الخبر الثامن ، وقال ابن إدريس بعد نقل كلام الشيخ : أورد شيخنا هذه الرواية وهي من أضعف أخبار الآحاد ، لأنها مخالفة لأصول المذهب ، لان التدبير عند أصحابنا بأجمعهم لا يكون الا بعد موت المولى الذي هو المعتق المباشر للعتق.

أقول : وقد غفل ابن إدريس هنا عن شي‌ء آخر ، وهو أن الإباق عند الأصحاب وعليه دلت الأخبار مبطل للتدبير ، والرواية المشار إليها قد اشملت على الإباق بعد التدبير ، حيثما ذكره الشيخ هنا في عبارته ، والتحقيق في المقام أن يقال لا ريب أن ما ذكره ابن إدريس هو المتفق عليه بين الأصحاب ، من أن التدبير إنما يعلق بموت المولى ، ولكن الشيخ وجماعة من اتباعه وجملة من المتأخرين كالمحقق والعلامة وغيرهما صرحوا بالتدبير في هذه الصورة أيضا ، استنادا إلى الخبر المشار إليه ، وهو صحيح صريح في ذلك ، ولا مانع من العمل به ، وان رده ابن إدريس بأنه من أخبار الآحاد بناء على قاعدته الخارجة عن جادة السداد.

وأما ما ذكرناه نصرة لابن إدريس من أن الإباق مبطل للتدبير فقد أجاب عنه الشيخ بأن هذا الحكم مخصوص بالتدبير معلق على موت المولى ، كما هو مورد تلك الأخبار ، لا مطلق وهو جيد ، وألحق العلامة أيضا التدبير بموت زوج المملوكة.

ويدل عليه ما رواه الشيخ في الموثق عن محمد بن حكيم (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن رجل زوج أمته من رجل حر ثم قال لها : إذا مات زوجك فأنت حرة ، فمات الزوج قال : فقال إذا مات الزوج فهي حرة ، تعتد منه عدة الحرة المتوفى عنها زوجها ، ولا ميراث لها منه ، لأنها صارت حرة بعد موت الزوج».

وشيخنا الشهيد الثاني في المسالك رد هذا القول ، وضعفه بعدم وجود الدليل وهو غفلة عن الاطلاع على الخبر المذكور ، وسيأتي ان شاء الله تعالى مزيد تحقيق

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٤٤ ح ٣٨ ، الوسائل ج ١٦ ص ٩٧ ح ٢.

٢٩٤

للمقام في كتاب التدبير ، وفي هذا الخبر تأييد وتأكيد لسابقه في عدم اشتراط التدبير بموت المولى خاصة ، وربما قيل : بجواز التدبير بموت كل من علق عليه ، ولا أعرف له دليلا ، فالواجب الوقوف على موارد النصوص.

بقي الكلام في أن مخرج ذلك من الأصل أو الثلث ، والظاهر أن الحكم في ذلك ما صرح به في المختلف ، قال : وهل ينعتق العبد من الأصل أو من الثلث؟ الأقوى أنه ينعتق من الأصل ، ان كان المالك حيا حال وفاة من علقت الخدمة بموته. ومن الثلث ان كان قد مات قبله ، وقد نبهنا على ذلك في كتاب القواعد ، انتهى ووجهه ظاهر.

العاشر : المعروف من كلام الأصحاب من غير خلاف يعرف أنه إذا حبس فرسه أو بغيره في سبيل الله أو غلامه في خدمة المسجد أو بيت الله الحرام أو بيت العبادة ، لزم ذلك ولم يجز تغييره ما دامت العين موجودة ، وفي التذكرة أنه يعتبر فيه القبض ، وفي التحرير صرح بأنه يعتبر فيه القربة ، وظاهر من حكم بلزومه وعدم جواز تغييره ما دامت العين موجودة ، هو عدم الخروج عن ملك المالك ، وفي الدروس صرح بخروجه عن ملكه بالعقد ، بخلاف الحبس على الإنسان ، كما سيأتي.

وصرح بعضهم بأنه يصح الحبس على جميع القرب ، وأما إذا حبس على آدمي فإن أطلق ولم يعين مدة بطل بموت الحابس ، وعاد إلى ورثته ، والأصحاب حملوا ما تقدم من قضاء أمير المؤمنين عليه‌السلام برد الحبيس وإنفاذ المواريث على هذا الفرد ، وهو صريح الخبر الحادي عشر ، وعليه يحمل إطلاق الخبر الثاني عشر ، وان عين مدة لزم في تلك المدة ، وبعد انقضائها يرجع إلى الحابس أو ورثته ، وعلى هذا فلا دليل لهم على الحبس المقيد بمدة ، ولا على الحبس في سبيل الله الا ظاهر الاتفاق على ذلك ، والا فإنه لا تعرض له في شي‌ء من الأخبار المتقدمة ، وليس في الباب غيرها.

ثم انه مع الإطلاق هل يصح له الرجوع فيه ، أكثر العبارات خال من

٢٩٥

التعرض لذلك ، وفي القواعد صرح بأن له الرجوع متى شاء ، واستحسنه في المسالك ، وهو غير بعيد لو حبس عليه مدة عمر أحدهما ، فإنه مثل الحبس مدة في الرجوع إلى الحابس أو ورثته بعد انقضاء المدة والعمر ، وبه جزم في التحرير ، والنصوص خالية عنه ، الا أنه الأوفق بالقواعد الشرعية.

قال في المسالك : واتفق الجميع على التعبير بالفرس والمملوكة في الوجوه المذكورة ، وزاد في الدروس البعير في سبيل الله ، فكان عليهم أن يذكروا حكم باقي ما يصح وقفه وإعماره ، والظاهر أن حكم الحبس كذلك مورده مورد الوقف ، فيصح ، وحبس كل عين ينتفع بها مع بقاء عينها بالشرائط السابقة على الإنسان مطلقا ، وعلى القرب حيث يمكن الانتفاع فيها كمطلق الدابة ، لنقل الماء إلى المسجد والسقاية ، ومعونة الحاج والزائرين وطلاب العلم والمتعبدين ، والكتب على المتفقهين ، والبيت على المساكين وغير ذلك ، فالاقتصار على ما ذكروه ليس بجيد ، وعموم الأدلة متناول للجميع ، وخصوصها خال من جميع ما ذكروه ، انتهى.

المقصد الرابع في الهبة :

والكلام في هذا المقصد يقع في مقامين الأول : في معنى الهبة وعقدها ، والأخبار الواردة فيها وما نصته تلك الأخبار من الأحكام فنقول : ان الهبة يعبر عنها بالنحلة والعطية ، قيل : والعطية تطلق على مطلق الإعطاء المتبرع به ، فيشمل الوقف والصدقة والهبة والهدية والسكنى ، ومن ثم أطلق بعض الفقهاء عليها اسم العطايا ، وعنونها بكتاب ، فيكون أعم من الهبة والنحلة في معناها ، والهبة أعم من الصدقة ـ لاشتراط الصدقة بالقربة ، كما تقدم ذكره ـ ومن الهدية لاشتراط الهدية بالنقل إلى المهدي إليه من المهدي إعظاما وتوقيرا له ، ولهذا أنه لا يطلق لفظ الهدية على العقارات ، فيقال : اهدى له دارا ، ولا أرضا ويقال : وهب له ذلك.

ومما يتفرع على ذلك أنه لو نذر الهبة برأي بالصدقة والهدية ، ولو نذر بإحدى

٢٩٦

الآخرين لم يبرأ بمطلق الهبة ، ولو حلف ان لا يهب ، فتصدق أو أهدى حنث دون العكس ونقل عن الشيخ في المبسوط أن الهبة والهدية والصدقة بمعنى واحد ، والظاهر بعده.

وظاهر المشهور أنه يشترط في الهبة بالمعنى الأعم بعد أهلية التصرف من جانب الواهب ما يشترط في سائر العقود من الإيجاب والقبول ، ونحو ذلك مما تقدم ذكره مرارا إلا اعتبار كونه بلفظ الماضي قولا واحدا ، فلا بد عندهم في الهدية التي هي أحد أفراد الهبة كما عرفت من جميع ذلك.

قال الشيخ في المبسوط : ومن أراد الهدية ولزومها وانتقال الملك منه إلى المهدى إليه الغائب فيوكل رسوله في عقد الهبة ، فإذا مضى وأوجب له وقبل الهدية المهدى إليه وأقبضه إياها لزم العقد ، وملك المهدي إليه الهدية ، ونحوه قال في الدروس ، وجعل عدم اشتراطها بالإيجاب والقبول احتمالا ، واختلف كلام العلامة في ذلك ، ففي القواعد قطع بأن الهدية كالهبة في اشتراطها بالإيجاب والقبول ، وفي التحرير نقل قريبا من كلام الشيخ ، ثم قال : فلو قيل : بعدم اشتراط القبول كان وجها قضاء للعادة بقبول الهدايا من غير نطق ، ويلوح من آخر كلامه في التذكرة الفتوى بذلك.

قال في التذكرة ـ ونعم ما قال ، وان أسنده إلى العامة ، فإنه الحق الذي لا يعتريه إشكال ـ انه لا حاجة في الهبة إلى الإيجاب والقبول اللفظيين ، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب ، والقبض من جهة المهدى إليه كالقبول ، لأن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) من قيصر وكسرى وسائر الملوك فيقبلها ولا لفظ هناك ، واستمر الحال من عهده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع ، ولهذا كانوا يبعثون على يد الصبيان الذين لا يعتد بعبارتهم قال (رحمه‌الله) : ومنهم من اعتبرهما كما في الهبة ، واعتذروا عما تقدم بأن ذلك كان اباحة لا تمليكا ، وأجيب بأنه لو كان كذلك ما تصرفوا فيه تصرف الملاك ، ومعلوم أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كان يتصرف فيه ويملكه

٢٩٧

غيره ، ويمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالإرسال والأخذ جريا على العادة بين الناس ، والتحقيق مساواة غير الأطعمة لها ، فإن الهدية قد تكون غير طعام فإنه قد اشتهر هدايا الثياب والدواب من الملوك إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فإن مارية القبطية أم ولده كانت من الهدايا ، انتهى ، ومرجع هذا التحقيق إلى ما قدمنا نقله وهو جيد ، واستحسنه في المسالك.

أقول : ومثل مارية القبطية التي أهديت إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الجارية التي أهداها المختار إلى زين العابدين عليه‌السلام فأولدها زيدا ، ومعها مبلغ من الدنانير فقبله عليه‌السلام والحديث في حكاية اهدائها موجود ليس فيه شي‌ء من هذه الأمور التي اعتبروها ، والشروط التي اشترطوها ، ومن تتبع الأخبار والسير علم صحة هذا الكلام ، وأن خلافه نفخ في غير ضرام.

على أنك قد عرفت ما في اشتراط الإيجاب والقبول في سائر العقود هذا.

والمشهور في كلامهم أن الإهداء إنما يفيد مجرد الإباحة دون الملك ، وللدافع الرجوع ما دامت العين موجودة ، وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك الميل إلى حصول الملك بذلك ، وان جاز الرجوع ، قال : ـ بعد ان استحسن كلام التذكرة كما ذكرناه ـ ما لفظه : ومع ذلك يمكن ان يجعل ذلك كالمعاطاة تفيد الملك المتزلزل ، ويبيح التصرف والوطي ، ولكن يجوز الوجوع فيها قبله عملا بالقواعد المختلفة ، وهي أصالة عدم اللزوم مع عدم تحقق عقد يجب الوفاء به ، وثبوت جواز التصرف فيها بل وقوعه ، ووقوع ما ينافي الإباحة ، وهو الوطي وإعطاء الغير فقد وقع ذلك للنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في مارية أم ولده ، وقد كان يهدى إليه الشي‌ء فيهديه لزوجاته وغيرهن ، وأهدى إليه حلة فأهداها لعلي عليه‌السلام

من غير أن ينقل عنه قبول لفظي ولا من الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) إيجاب كذلك مقارن له ، وهذا كله يدل على استفادة الملك في الجملة ، لا الإباحة ، ولا ينافي جواز رجوع المهدي في العين ما دامت باقية ، انتهى.

٢٩٨

أقول ـ وبالله التوفيق ، لنيل كل مأمول ـ : لا ريب أن ظواهر الأخبار الواردة في هذا المقام إنما هو الملك الحقيقي لما ذكره من التصرف بجميع وجوه التصرفات من وطئ وبيع وتصدق وهبة ونحوها ، ولا شك أن التصرف كيف شاء المتصرف من أقوى أمارات الملك ، ودعوى أصالة عدم اللزوم في التحقيق لا يخرج عن القول بالإباحة ، بل يرجع إليه ، لأنه متى لم يكن الإهداء لازما يوجب الملك كسائر المتملكات ، بل يجوز الرجوع فيه فهذا هو عين ما منعه من الإباحة ونفاه في المقام ، وان حصل الفرق بنوع من الاعتبار القشري الذي لا يصلح لترتب حكم شرعي ، وما المانع من كون الإهداء من الأسباب الناقلة للملك إذا اقتضته الأخبار كما عرفت ، ولا بد لنفيه من دليل.

وأما عدم تحقق عقد يجب الوفاء به ، ففيه ما عرفت في غير موضع مما تقدم من أن هذه العقود التي اشترطوها واشترطوا فيها ما اشترطوه مما لم يقم عليه دليل ، بل الدليل على خلافه واضح السبيل ، فان المفهوم من الأخبار أن المدار على التراضي من الطرفين ، وأنه العمدة في البين ، وقد عرفت أن بيع المعاطاة أيضا لا يشترط فيه أزيد من رضا الطرفين بما يتفقان عليه ، فجعله من باب المعاطاة كما احتمله ـ يقتضي بناء على ما حققنا في بيع المعاطاة ، من أنه شرعي لازم ـ أنه هنا كذلك ، ودعوى أن مفاده الملك المتزلزل ممنوعة ، حتى أن بعد المحدثين جوز في المعاطاة أن يزن لنفسه ، ويضع الثمن في الدكان إذا كان ذلك معلوما بأن قيمة ذلك الجنس كذلك ، من غير لفظ ولا كلام بين المتبايعين ، وما نحن فيه لا يقصر عن ذلك ، فإنه متى أرسل المهدي الهدية بقصده واختياره ، وقبضها المهدى إليه فأي مانع من لزوم ذلك ، كما لزم بيع المعاطاة على الوجه المذكور.

وكيف كان فكلامه جيد بناء على أصولهم وقواعدهم في العقود ، وأما على ما هو المفهوم من الأخبار كما تقدم في غير مقام فان ما ذكرنا أجود.

وبالجملة فإن من الظاهر البين الظهور أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم)

٢٩٩

والأئمة عليهم‌السلام لو لم يفهموا من الإهداء الملك الحقيقي لما تصرفوا هذه التصرفات من وطئ واستيلاد ونحوهما وعلو شأنهم ورفعة مكانهم أجل من أن يتصرفوا في ملك الغير مع عدم انتقاله لهم بناقل شرعي إلا بمجرد الإباحة ، أو الملك المتزلزل الراجع إليها ، فإن الإباحة لا يجوز في الفروج كما ذكره.

على أنه متى ثبت الملك كما اختاره وان ادعى أنه في الجملة فتجويز الرجوع يحتاج إلى دليل ، وما استند إليه من أصالة عدم اللزوم مع عدم تحقق عقد وهو معظم الشبهة عندهم ، فقد عرفت ما فيه ، ودعوى أنه متزلزل كبيع المعاطاة وهو المشار إليه بقوله في الجملة ، قد عرفت تزلزله ، والله العالم.

والواجب أولا نقل الأخبار التي وصلت إلينا في هذا الباب ثم الكلام فيها بتوفيق الملك الوهاب ، ونقل ما عثرنا عليه من كلام الأصحاب كما جرينا عليه في سابق هذا المقصد والله الهادي إلى حقيقة الحق والصواب.

الأول ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح أو الحسن عن الحلبي وجميل (١) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أن يرجع فيها وإلا فليس له».

الثاني ـ ما روياه في الصحيح أو الحسن عن عبد الله بن سنان (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : إذا عوض صاحب الهبة فليس له أن يرجع».

الثالث ـ ما رواه في الكافي عن معاوية بن عمار (٣) في الصحيح قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يكون له على الرجل الدراهم فيهبها له إله أن يرجع فيها؟ قال : لا».

الرابع ـ ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن زرارة (٤) «عن

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١١ وص ٣٣ ح ١٩، التهذيب ج ٩ ص ١٥٣ ح ٦٢٧ وص ١٥٤ ح ٦٣٢.

(٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٣ وص ٣٠ ح ٣، التهذيب ج ٩ ص ١٥٤ ح ٦٢٩ وص ١٥٢ ح ٦٢٤.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٤١ الباب ٨ و ٩ ح ١ وص ٣٣٢ ح ١ وص ٣٣٤ الباب ٣ ح ١

٣٠٠