الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

وفي نفوذ الاستيلاد الخلاف في استيلاد الراهن ، لتعلق حق الموقوف عليه وأولى بالمنع هنا ، والله العالم.

المقصد الثاني في الصدقة :

قد عرفت مما قدمنا في سابق هذا المطلب أن الصدقة في الصدر الأول إنما تطلق بمعنى الوقف ، ولهذا ان الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) قد استندوا في كثير من أحكام الوقف الى الأخبار الواردة بلفظ الصدقة كما تقدم ذكره ، وحينئذ فالصدقة في الأخبار أعم من هذا المعنى المبحوث عنه من الوقف ، وقد يوجد فيها من القرائن ما يتعين به أحدهما ، وقد لا يوجد فيبقى محتملا لكل من الأمرين كما سيظهر لك ـ ان شاء الله تعالى ـ في البين.

وقد ذكر الأصحاب بأنه لا بد في الصدقة من العقد المشتمل على الإيجاب والقبول ، كما يعتبر في غيرها من العقود اللازمة.

أقول : إذا أريد بالقبول هو القبول القولي ففي فهمه من الأخبار إشكال ، لعدم ما يدل عليه فيها ، وان أريد الفعلي فهو المفهوم منها خاصة كما لا يخفى على المتدبر ، وستمر بك شطر منها ان شاء الله تعالى.

ومن شروطها القبض ، لكن باذن المالك عند الأصحاب ، فلو قبضها بغير اذنه لم ينتقل اليه ، قالوا : لان القبض المترتب عليه أثره ، هو المأذون فيه شرعا والمنهي عنه غير منظور اليه ، ونحوها غيرها من العقود المفتقرة إلى القبض ، كالوقف والهبة.

ومن شروطها أيضا القربة ، والظاهر أنه إجماعي ، وعليه تدل جملة من الأخبار الآتية ان شاء الله تعالى ، حتى إذا حصل القبض بعد العقد المشتمل على التقرب بها امتنع الرجوع فيها على الأشهر الأظهر ، ونقل عن الشيخ أنه قال : ان صدقة التطوع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام ، ومن شروطها الإيجاب والقبول

٢٦١

ولا يلزم إلا بالقبض ، وكل من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة عليه.

ورد بأن المقصود بالصدقة الأجر والثواب كما يدل عليه اشتراط القربة فيها ، وقد حصل فلا يجمع بين العوض والمعوض عنه ، ولو سلم مساواتها للهبة ، فإنها يمتنع أيضا الرجوع في الهبة مع التعويض فيها مطلقا بقربة أو غيرها.

وبالجملة فإن قول الشيخ ضعيف ، لدلالة الأخبار الآتية ـ ان شاء الله تعالى ـ على امتناع الرجوع مع القربة ، والواجب نقل ما وصل إلينا من الأخبار المتعلقة بالمقام ، والكلام فيها بما رزق الله تعالى فهمه منها ببركة أهل الذكر (عليهم الصلاة والسلام).

فمنها ما رواه في الكافي والتهذيب في الحسن أو الصحيح في الأول ، والموثق في الثاني ، عن حماد وهشام وابن أذينة وابن بكير وغيرهم (١) كلهم قالوا «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لا صدقه ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى».

وعن زرارة (٢) في الصحيح «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : ان الصدقة محدثة ، إنما كان الناس على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينحلون ويهبون ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، قال : وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه ، نحلة كانت أو هبة ، حيزت أو لم تحز ، ولا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته» الحديث ،. ويأتي تمامه ـ ان شاء الله تعالى في مقصد الهبة.

قال المحدث الكاشاني في الوافي في ذيل هذا الخبر : الصدقة ما يعطى لله سبحانه ، والهبة والنحلة ما يعطى لأغراض أخر ، وأكثر ما يطلق النحلة فيما لا عوض له ، بخلاف الهبة ، فإنها عامة ، وقد تكون لله تعالى ، وكثيرا ما تطلق الصدقة على الوقف كما سيتبين فيما بعد ذلك ، لأن الوقوف انما تكون لله سبحانه وأكثر ما نسب الى نحو الدار والمضيفة على غير محصور ، فالمراد بها الوقف

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٣٠ ح ٢ و ٣، التهذيب ج ٩ ص ١٥١ ح ٦٧ وص ١٥٢ ح ٦٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٠ ح ٣ وص ٣٢٠ ح ١ من باب ٣.

٢٦٢

لله سبحانه ، ولعل المراد بالحديث أن الناس كانوا على عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يتصدق بعضهم على بعض إذا أرادوا معروفا فيما بينهم سوى الزكاة وما يعطى لأهل المسكنة ، بل كانوا يهبون وينحلون ، إما لإرادة تحصيل ملكة الجود أو إرادة سرور الموهوب له أو الإثابة منه أو غير ذلك ، وانما صدقة بعضهم على بعض في غير الزكاة والرحم المسكين أمر محدث ، يعني إطلاق هذه اللفظة في موضع الهبة والنحلة محدث ، لا يدرى ما يعنى به من يتفوه بها ، أيجعلها لله أم لا؟ ثم ان الصدقة حيث لا تكون إلا لله عزوجل فلا يجوز الرجوع فيها ، لأن ما يعطى لله وفي الله فلا رجعة فيه ، وذلك لأنه بمجرد إلا بأنه استحق الأجر وكتب له وما لم يعط لله وفي الله جاز الرجعة فيه إلا في مواضع مشتثناة كما يأتي ، انتهى.

أقول : الظاهر ان المراد بقوله عليه‌السلام إنما الصدقة محدثة إنما هو بمعنى أن إطلاق الصدقة على هذا المعنى المشهور الآن ، المشروط بالشروط المتقدمة أمر محدث لم يكن في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وانما الذي في زمنه النحل والهبات والصدقة يومئذ إنما تستعمل بمعنى الوقف ، كما في صدقات علي عليه‌السلام وفاطمة والكاظم (صلوات الله عليهما) المتقدم جميع ذلك ، الا أن المراد ما ذكره من أن إطلاق هذه اللفظة في موضع الهبة والنحلة محدث ، ويشير الى ما قلناه ما رواه في الكافي والتهذيب عن عبيدين زرارة (١) في الموثق قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بصدقة؟ إله أن يرجع في صدقته؟ فقال : ان الصدقة محدثة انما كان النحل والهبة ، ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ، ولا ينبغي لمن اعطى شيئا لله أن يرجع فيه».

فان الخبر كما ترى ظاهر في أن السؤال انما هو عن الصدقة المعهودة ، وقد أجاب عليه‌السلام بأن الصدقة بهذا المعنى أمر محدث ، وانما المستعمل يومئذ النحل والهبة ، ثم أجاب بأن من من أعطى لله يعنى قرن عطيته بالقربة صدقة كانت أو هبة

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٠ ح ٤ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٢ ح ١.

٢٦٣

أو نحلة فإنه لا ينبغي الرجوع فيه ، أي لا يجوز ، فان لفظ لا ينبغي ، في هذه الأخبار بمعنى التحريم كما سيظهر لك ـ ان شاء الله تعالى ـ وأما قوله عليه‌السلام «أنه يجوز الرجوع لمن وهب أو نحل حيز أو لم يحز» فالمراد به مع عدم القربة كما ينبه عليه قوله في الخبر الذي قبله «وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز» ونحو هذا الخبر ، فيما ذكرنا ما تقدم في سابقه من قوله عليه‌السلام : «ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه.»

وكيف كان فالخبر الأول صريح في اشتراط الصدقة بالقربة ، الا أنه أعم من الصدقة بالمعني المذكور ، أو الوقف ، والأخيران ظاهران في عدم جواز الرجوع مع القربة.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن محمد بن مسلم (١) في الصحيح «عن أحدهما عليهما‌السلام ورواه الشيخ بسند آخر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه سئل عن رجل كانت له جارية فآذته امرأته فيها فقال : هي عليك صدقة ، فقال : ان كان قال ذلك لله فليمضها ، وان لم يقل : فله أن يرجع ان شاء فيها». وهذا الخبر ظاهر فيما ذكره الأصحاب مع أنه مع القربة فلا يجوز له الرجوع.

وفيه رد لما تقدم نقله عن الشيخ (رحمه‌الله) ولكن يجب تقييده بحصول القبض الذي هو شرط لزوم الصدقة كما ستعرف ان شاء الله تعالى ، والصدقة في هذا الخبر ظاهرة في المعنى المعهود ، ولا مجال لحملها على الوقف ، وعن جميل في الحسن (٢) أو الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل يتصدق على ولده بصدقة وهم صغار إله أن يرجع فيها؟ قال : لا الصدقة لله عزوجل».

والتقريب فيه ما تقدم في سابقه إلا أن لفظ الصدقة هنا محتمل للحمل على المعنى المعهود والحمل على الوقف ، لكن الأصحاب يخصونه بالأول حيث أن القربة عندهم غير مشترطة في الوقف على المشهور.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥١ ح ٦٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣١ ح ٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٥ ح ١٥.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣١٩ ح ١ وص ٢٩٨ ح ٢.

٢٦٤

ومنها ما رواه الشيخان المتقدمان عن السكوني (١) عن أبي جعفر عليه‌السلام ورواه الصدوق والشيخ أيضا عن عبيد بن زرارة (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا فقال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ، فان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأن والده هو الذي يلي أمرهم ، وقال عليه‌السلام : لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله عزوجل».

أقول : وهذا الخبر أيضا محتمل للحمل على المعنيين المتقدمين ، ولهذا ان الأصحاب قد إ به على اشتراط القبض في الوقف ، وأنه مع عدم القبض يبطل ويرجع ميراثا ، واللازم من ذلك اشتراط القربة في الوقف كما صرح به في آخر الخبر ، مع أن المشهور بينهم عدمه ، ومن ثم ناقشهم في الاستدلال به صاحب المسالك ، كما تقدم في مقصد الوقف ، والظاهر هو الاشتراط في الموضعين ، والمراد من الجواز في قوله «فهو جائز» يعنى واقع صحيح.

ومنها ما روياه عن الحكم بن أبي عقيلة (٣) قال : «تصدق علي أبي بدار وقبضتها ثم ولد له بعد ذلك أولاد فأراد أن يأخذها مني ويتصدق بها عليهم ، فسألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ذلك فأخبرته بالقصة فقال : لا تعطها إياه ، قلت : فإنه إذا يخاصمني قال : فخاصمه ولا ترفع صوتك على صوته».

وما رواه في الفقيه عن موسى بن بكر عن الحكم (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ان والدي تصدق علي بدار ثم بدا له أن يرجع فيها ، وان قضاتنا يقضون لي بها فقال : نعم ما قضت به قضاتكم ولبئس ما صنع والدك إنما الصدقة لله عزوجل ، فما جعل لله فلا رجعة فيه له ، وان أنت خاصمته فلا ترفع عليه

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣١ عن محمد بن مسلم ح ٧ التهذيب ج ٩ ص ١٤٥ ح ٥٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٧ ح ١.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٢٩٩ ح ٥ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٢ ح ٢٠. الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٩ ح ٥.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٣٣ ح ١٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٦ ح ٢٠ الوسائل ج ١٨ ص ٢٢٤ ح ١.

(٤) الفقيه ج ٤ ص ١٨٣ ح ٢٢. الوسائل ج ١٣ ص ٣١٦ ح ١.

٢٦٥

صوتك ، وان رفع صوته فاخفض أنت صوتك قلت له : فإنه قد توفي قال : فأطب بها».

أقول : وهذان الخبران بضم أحدهما إلى الآخر صريحان في أنها بالقبض والقربة لا يصح الرجوع فيها حسب ما صرح به الأصحاب ، والخبر الأول وان كان مجملا بالنسبة إلى القربة ، إلا أن الثاني صريح في أن العلة في عدم صحة الرجوع بعد القبض هو التقرب الى الله سبحانه ، وأن الصدقة لا تكون الا مع القربة ، وهي ظاهرة في اشتراط القبض والقربة كما قدمنا ذكره ، والظاهر أن الصدقة فيهما بالمعنى المبحوث عنه.

بقي الكلام فيما اشترطه الأصحاب (رحمهم‌الله) في اذن المالك في صحة القبض ، فان الروايات خالية منه ، وما ذكروه من التعليل المتقدم ذكره مع كونه لا يصلح لتأسيس حكم شرعي لا يخلو من مناقشة أيضا ، قوله «ان القبض المترتب عليه أثره يعني لزوم العقد هو المأذون فيه شرعا» مدخول بأنه بعد العقد وقصد التقرب فيه لله سبحانه ، فإنه يحصل به الانتقال الى من تصدق به عليه ، فإذا قبضه فقد قبض حقا شرعيا انتقل اليه بالعقد الشرعي ، والأذن الشرعي حاصل على هذا التقدير كما لا يخفى ، لأنه لم يتعد في قبضه ، ويؤيده قوله في الرواية الأولى تصدق علي بدار وقبضتها ، فإنه أعم من أن يكون المالك أقبضه أو قبض بنفسه ، وبالجملة فالأصل العدم حتى يقوم دليل على هذا الشرط.

ومنها ما رواه الشيخ في الصحيح عن الحلبي (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): إنما مثل الذي يرجع في صدقته كالذي يرجع في قيئه». وعن جراح المدائني (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : في الرجل يرتد في الصدقة قال : كالذي يرتد في قيئه». وعن عبد الله بن سنان (٣) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بالصدقة ثم يعود في صدقته فقال :

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٥٥ ح ١٢. الوسائل ج ١٣ ص ٣١٦ ح ٤.

(٢ و ٣) التهذيب ج ٩ ص ١٥٥ ح ١١ وص ١٥١ ح ٦٥.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣١٦ ح ٤ و ٢ وص ٣١٧ ح ٥.

٢٦٦

قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : إنما مثل الذي يتصدق بالصدقة ثم يعود فيها مثل الذي يقي ثم يعود في قيئه».

أقول : وهذه الأخبار كما ترى صريحة في عدم جواز الرجوع في الصدقة بعد حصول الشروط المتقدمة ، وفيها مع ما تقدم من أخبار الدار رد على ما تقدم نقله عن الشيخ من جواز الرجوع ، وقد تقدمت جملة من الأخبار بلفظ الصدقة في أحكام الوقف ، واستدل به على تلك الأحكام ، ومنها ما هو صريح في الوقف ، ومنها ما هو محتمل لذلك ، ولكن الأصحاب فهموا منها الحمل على الوقف ، والذي يتلخص من النظر في الأخبار والجمع بينها وان لم يذهب إليه أحد من علمائنا الأبرار هو أن الصدقة أعم من المعنى المبحوث عنه هنا ، ومن الوقف ، وكل من الأمرين مشترط بالقبض والقربة ، وعدم جواز الرجوع بعد استكمال الشروط ، لكن متى قرنت بالدوام تمحضت المحمل على الوقف ، أو كانت الصدقة على جهة من الجهات أو مصلحة من المصالح المتقدمة ، فإنها يختص بالوقف أيضا ، وما عدا هما فهو قد تشتمل على ما تختص بالصدقة بالمعنى المبحوث عنه ، وقد يكون محتملا للأمرين كما عرفت ، والله العالم.

تنبيهات :

الأول ـ قال الشيخ في النهاية : ما تصدق به الإنسان لوجه الله تعالى لا يجوز أن يعود إليه بالبيع والهبة والشراء ، فان رجع إليه بالميراث كان جائزا ، وبنحو ذلك صرح الشيخ المفيد (عطر الله تعالى مرقده) ومنع ابن إدريس من تحريم العود لعدم الدلالة عليه ، فان المتصدق عليه قد ملك العين فله بيعها على من شاء من المتصدق وغيره ، قال : وقد رجع في الخلاف فقال في كتاب الزكاة : يكره للإنسان أن يشتري ما أخرجه في الصدقة ، ثم تعجب من كلام الشيخ في الموضعين ، وظاهر المشهور بين الأصحاب الجواز على كراهة ، وعليه حمل في المختلف كلام الشيخ ، قال : لأنه يطلق لفظ لا يجوز على المكروه كثيرا.

٢٦٧

أقول : والذي وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بما ذكر ما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن منصور بن حازم (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ان تصدقت بصدقة لم ترجع إليك ولم تشترها الا أن تورث».

وما رواه الشيخ عن منصور بن حازم (٢) (قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام) إذا تصدق الرجل بصدقة لم يحل له أن يشتريها ولا يستوهبها ولا يستردها إلا في الميراث». وما رواه الشيخ عن علي بن إسماعيل عمن ذكره (٣) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يخرج الصدقة يريد أن يعطيها السائل فلا يجده قال : فليعطها غيره ولا يردها في ماله».

وعن محمد بن مسلم (٤) في الصحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا تصدق الرجل على ولده بصدقة فإنه يرثها ، وإذا تصدق بها على وجه يجعله لله فإنه لا ينبغي له.

وعن طلحة (٥) «عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام قال : من تصدق بصدقة ثم ردت عليه فلا يأكلها ، فإنه لا شريك لله عزوجل في شي‌ء فيما جعل له ، انما هو بمنزلة العتاقة لا يصلح ردها بعد ما يعتق».

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن إسماعيل الجعفي (٦) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام من تصدق بصدقة فردها عليه الميراث فهي له».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح في الثاني عن محمد بن مسلم (٧) «عن أحدهما عليهما‌السلام في الرجل يتصدق بصدقة أيحل له أن يرثها؟ قال : نعم».

وعن أبى الجارود (٨) قال : «أبو جعفر عليه‌السلام لا يشترى الرجل ما تصدق به» الحديث.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٣١ ح ٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥٠ ح ٦١.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٥٧ ح ٢٤.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣١٩ ح ٥ وص ٣١٨ ح ١ وص ٣١٧ ح ٦.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٩ ص ١٥١ ح ٦٣ وص ١٥٢ ح ٦٩.

(٦) التهذيب ج ٩ ص ١٥٠ ح ٦٠ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٤ ح ٢٦.

(٧) الكافي ج ٧ ص ٣٢ ح ١٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥١ ح ٦٢.

(٨) التهذيب ج ٩ ص ١٣٤ ح ١٤ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣١٩ ح ٥ وص ٣١٨ ح ١ و ٤ و ٢ وص ٣١٦ ح ٣.

٢٦٨

وأنت خبير بأن ما هو المشهور من الجواز في غير الميراث وان كان على كراهية هو الأوفق بمقتضى الأدلة العقلية ، لأنه بانتقاله الى ملك المتصدق عليه تصير كسائر أمواله في بيعه أو هبته أو نحو ذلك على المتصدق أو غيره ، لكن هذه الأخبار كما عرفت قد اتفقت من غير معارض على المنع من ذلك.

ومنها ما هو صريح في التحريم مثل قوله لا يحل في الرواية الثانية معللا ذلك في رواية طلحة بأنه لا شريك لله فيما جعل له ، بمعنى أنه بعد ان أخرجها عن نفسه لله سبحانه فتصرفه فيها بعد الانتقال اليه ببيع أو هبة أو نحوهما مستلزم لذلك ، وأن الصدقة بمنزلة العتق لله سبحانه ، لا تصلح رده لمن أعتقه بوجه من الوجوه ، وينبغي تخصيصه بغير الرد بالميراث كما دلت عليه الأخبار الباقية ، وبالجملة فالمسئلة غير خالية من شوب الأشكال.

وظاهر كلام الشيخين انما هو التحريم ، والروايات كما ترى ظاهرة فيه ، ولا معارض لها الا ما عرفت من الدليل العقلي ، والخروج عنها بمجرد ذلك مشكل وكم مثل ذلك في الأخبار ، ثم لا يخفى على من جاس خلال الديار.

بقي هنا اشكال آخر أيضا وهو أن أكثر هذه الأخبار قد صرحت باستثناء الميراث من الكراهة والتحريم على القول به ، وظاهر صحيحة محمد بن مسلم تخصيص الإرث بما إذا لم يكن تلك الصدقة على وجه يجعله لله ، فلو كانت الصدقة لله سبحانه فإنه لا ينبغي له أن يتصرف فيها بالإرث أيضا ، وتقييد تلك الروايات الكثيرة بهذه الرواية بأن تحمل تلك الروايات على أن الصدقة خالية من التقرب كما احتمله في الوافي وجعله وجها للجمع بين الأخبار في غاية البعد.

وكيف لا والصدقة بدون شرط القربة غير لازمة فله الرجوع فيها شرعا فضلا أن يشتريها ويتهبها ، ورواية طلحة قد عللت عدم الجواز بالتقرب في الصدقة بمعنى أن العلة في عدم جواز اتباعها واتهابها من حيث انه أخرجها لله سبحانه.

وبالجملة فبعده أظهر من أن يخفى على الناظر المتأمل في هذه الأخبار فهي مرجوعة إلى قائليها (صلوات الله عليهم) ، والله العالم.

٢٦٩

الثاني : لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في تحريم الصدقة أعني الزكاة المفروضة على بنى هاشم إلا في حال الاضطرار ، وانما الخلاف هنا في مقامين أحدهما ـ في الصدقة الواجبة غير الزكاة كالمنذورة والكفارة ونحوهما ، فظاهر إطلاق جملة من الأصحاب التحريم.

وقال في المسالك : لا خلاف في تحريم الصدقة الواجبة على بنى هاشم في الجملة عدا ما استثنى ، ولكن اختلفوا في عمومها وتخصيصها بالزكاة ، والأكثر أطلقوا كالمصنف ، وكذلك ورد تحريم الصدقة من غير تفصيل ، فيعم ، ولكن ظاهر جملة من الأخبار أن الحكم مختص بالزكاة ، فيكون ذلك تقييدا لما أطلق منها ، انتهى وهو جيد.

ومن الروايات التي أشار إليها بأنها دالة على الاختصاص بالزكاة صحيحة زرارة وأبى بصير ومحمد بن مسلم (١) «عن أبى جعفر عليه‌السلام وأبى عبد الله عليه‌السلام قالا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) : ان الصدقة أو ساخ أيدي الناس ، وأن الله حرم علي منها ومن غيرها ما قد حرمه ، فإن الصدقة لا تحل لبني عبد المطلب» الحديث. فان التعليل بالأوساخ ظاهر في الزكاة لأنها مطهرة للمال.

وأصرح منها في ذلك صحيحة إسماعيل بن الفضل الهاشمي (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الصدقة التي حرمت على بنى هاشم ما هي؟ فقال : هي الزكاة قلت : فتحل صدقة بعضهم على بعض ، قال : نعم».

ورواية زيد الشحام (٣) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم ما هي؟ فقال : الزكاة المفروضة».

وأما ما أشار إليه من الروايات التي وردت بتحريم الصدقة من غير تفصيل

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٨ ح ٥٨ ، الوسائل ج ٦ ص ١٨٦ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٩ ح ٥ ، الوسائل ج ٦ ص ١٩٠ ح ٥.

(٣) الوسائل ج ٦ ص ١٩٠ ح ٤.

٢٧٠

فمنها صحيحة جعفر بن إبراهيم الهاشمي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : أتحل الصدقة لبني هاشم؟ فقال : انما تلك الصدقة الواجبة على الناس لا تحل لنا ، فأما غير ذلك فليس به بأس ، ولو كان كذلك ما استطاعوا أن يخرجوا إلى مكة هذه المياه عامتها صدقة».

ونحوها غيرها وطريق الجمع حمل إطلاق هذه الأخبار على ما دلت عليه تلك الأخبار من التقييد بالزكاة صراحتها في ذلك ، وبه يظهر ضعف قول من ذهب الى العموم ، وان نسب إلى الأكثر.

وثانيها في الصدقة المستحبة والمشهور بين الأصحاب (رحمهم‌الله الجواز) ونسبه في المنتهى الى علمائنا ، وأكثر العامة ، وخالف في التذكرة فذهب الى التحريم ، وقد تقدم تحقيق الكلام في ذلك في كتاب الزكاة (٢).

الثالث : قد صرح جملة من الأصحاب بأنه تجوز الصدقة على الذمي وان كان أجنبيا ، لقوله (٣) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «على كل كبد حرى أجر». ولقوله تعالى (٤) «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ».

وهذا هو المشهور ونقل في الدروس عن الحسن بن أبى عقيل المنع من الصدقة على غير المؤمن مطلقا ، وظاهر بعض الأصحاب أن الخلاف في الصدقة على الذمي كالخلاف في الوقف عليه ، وقد تقدم الكلام في الوقف عليه ، والخلاف في ذلك.

والذي وقفت عليه من الروايات المتعلقة بهذا المقام ما رواه في الكافي عن سدير الصيرفي (٥) في الموثق قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أطعم سائلا لا أعرفه

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ٥٩ ح ٣ ، الوسائل ص ١٨٩ الباب ٣١ ح ٣.

(٢) ج ١٢ ص ٢١٧.

(٣) هامش الجامع الصغير ج ٢ ص ٦٦ ، المستدرك ج ٢ ص ٥٤٦ ، الكافي ج ٤ ص ٥٨ وفيه ان الله يحب إبراد الكبد الحريّ ومن سقى كبدا حرى من بهيمة أو غيرها أظله الله يوم لا ظل الا ظله ، الوسائل ج ٦ ص ٢٨٤ ح ١.

(٤) سورة الممتحنة ـ الاية ٨.

(٥) الكافي ج ٤ ص ١٣ ح ١ ، الوسائل ج ٦ ص ٢٨٨ ح ٣.

٢٧١

مسلما؟ فقال : نعم أعط من لا تعرفه بولاية ولا عداوة للحق ان الله تعالى يقول : «وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً» ولا تطعم من نصب لشي‌ء من الحق ، أو دعا إلى شي‌ء من الباطل ،. وهذه الرواية ظاهرة في جواز إعطاء المستضعفين الذين هم أحد أفراد المسلمين ، وهم أكثر الناس في الصدر الأول ، وقوله في الخبر لا أعرفه مسلما أي مؤمنا ، وقد حققنا في جملة من زبرنا وكتبنا سيما كتاب الشهاب الثاقب ، ان الناس في زمنهم عليهم‌السلام كانوا على أصناف ثلاثة مؤمن وكافر ومسلم ، والأول من عرف الإمامة ودان بها ، والثاني من جحدها وأنكرها ، والثالث من جهلها ويعبر عنه في الاخبار بمن لا يعرف ولا ينصب ، كما يشير اليه هذا الخبر ، ويؤيد ما قلناه ما رواه في الكافي عن المعلى بن خنيس (١) «قال خرج أبو عبد الله عليه‌السلام في ليلة قد رشت ، وهو يريد ظلة بنى ساعدة ما تبعته فإذا هو قد سقط منه شي‌ء فقال : بسم الله ، اللهم رد علينا قال فأتيته وسلمت عليه ، فقال : معلى قلت : نعم جعلت فداك فقال : التمس بيدك ، فما وجدت من شي‌ء فادفعه إلي فإذا أنا بخبز منتشر كثير فجعلت ادفع اليه ما وجدت ، الى ان قال فأتينا بني ساعدة فإذا نحن بقوم نيام فجعل يدس الرغيف والرغيفين حتى اتى على آخرهم ، ثم انصرف ، فقلت : جعلت فداك ، يعرف هؤلاء الحق؟ فقال : لو عرفوا لواسيناهم بالدقة والدقة هي الملح» الحديث ،. فان هؤلاء المذكورين ممن أشرنا إليهم بأنهم من المسلمين الذين لا يعرفون ولا ينصبون ، وفي هذين الخبرين رد لما تقدم نقله ، عن ابن أبى عقيل من منع الصدقة على غير المؤمن.

ومنها ما رواه في الكافي (٢) عن عمرو بن ابى نصر ، قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ان أهل السواد يقتحمون علينا وفيهم اليهود والنصارى والمجوس ، فنتصدق عليهم قال : نعم. وهذا الخبر دال على ما هو المشهور بين الأصحاب عليه‌السلام مما قدمنا ذكره ، وفيه رد على ابن أبى عقيل أيضا.

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ص ٢٨٤ ح ١. الكافي ج ٤ ص ٨ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٤ ص ١٤ ح ٣.

٢٧٢

وما رواه في الكافي عن عبد الله بن الفضل النوفلي (١) عن أبيه عن ابى عبد الله عليه‌السلام ورواه الصدوق مرسلا عن ابى عبد الله عليه‌السلام «انه سئل عن السائل يسأل ولا يدرى ما هو ، فقال : أعط من وقعت له الرحمة في قلبك ، وقال : أعط دون الدرهم ، قلت أكثر ما يعطى؟ قال أربعة دوانيق ، وفيه رد لما ذهب اليه ابن ابى عقيل ايضا.

وما رواه في الكافي ، عن منهال القصاب (٢) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام أعط الكبير والكبيرة والصغير والصغيرة ومن وقعت له في قلبك رحمة وإياك وكل وقال بيده وهزها».

والمستفاد من هذه الأخبار هو جواز الصدقة على غير المؤمن من ذمي وغيره ، ولكن يعطى كما يعطى المؤمن وانما يعطى بقدر دفع الضرورة ، وقوله في هذا الخبر : وإياك وكل يعنى وكل ما تعطيه غيره من المؤمنين ، فهو في معنى الخبر الذي قبله ، والله العالم.

الرابع : قد استفاضت الأخبار بالحث على التصدق وما فيه من عظيم الأجر ودفع البلاء وجلب الرزق فروى في الكافي في الصحيح (٣) «عن زرارة عن سالم بن أبي حفصة عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : ان الله تعالى يقول ما من شي‌ء إلا وقد وكلت به من يقبضه غيري إلا الصدقة فإني أتلقفها بيدي تلقفا حتى ان الرجل يتصدق بالتمرة أو بشق التمرة ، قال : فأربيها له كما يربى الرجل فلوه وفصيله فيأتي يوم القيامة وهو مثل أحد أو أعظم من أحد».

وروى في الكافي والفقيه مسندا في الأول عن إسحاق بن غالب (٤) عمن حدثه عن ابي جعفر عليه‌السلام ومرسلا في الثاني عن ابي جعفر عليه‌السلام قال البر والصدقة ينفيان الفقر ويزيدان في العمر ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة السوء. قال في الكافي وفي

__________________

(١) الكافي ج ٤ ص ١٤ ح ٢ ، الفقيه ج ٢ ص ٣٩ ح ١٦.

(٢) الكافي ج ١٤ ص ٢ باب الصدقة على أهل البوادي.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٤٧ ح ٦.

(٤) الكافي ج ٤ ص ٢ ح ٢ ، الفقيه ج ٢ ص ٣٧ ح ٢ وهذه الروايات في الوسائل ج ٦ ص ٢٨٩ ح ٦ وص ٢٨٨ ح ٤ وص ٢٨٣ ح ٣ وص ٢٥٥ ح ٤.

٢٧٣

خبر آخر ويدفعان عن شيعتي ميتة السوء. الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة المذكورة في الكتب الأربعة وغيرها.

الخامس : الأفضل في الصدقة ان تكون سرا وهل هو مخصوص بالمندوبة أو يشمل الواجبة؟ المشهور الأول ، واستثنى بعضهم من أفضلية الأسرار بها ان لا يكون منهما بترك المواساة فان إظهارها أفضل دفعا للتهمة ، والذي يدل على أفضلية السر قوله سبحانه «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» (١).

وما رواه في الكافي عن القداح (٢) ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه عليهما‌السلام قالا : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم): صدقة السر تطفئ غضب الرب ، وعن عمار الساباطي (٣) قال : قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : يا عمار الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية ، وكذلك والله العبادة في السر أفضل منها في العلانية.

وظاهر الآية مع هذه الاخبار هو أفضلية السر مطلقا وإليها استند من قال بالعموم ، إلا انه روى في الكافي أيضا عن ابن بكير في الموثق (٤) عن رجل عن ابى جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى «إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ» قال يعني الزكاة المفروضة قال : قلت «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» قال : يعني النافلة انهم كانوا يستحبون إظهار الفرائض وكتمان النوافل ، وعن إسحاق بن عمار (٥) في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل «وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ» فقال هي سوى الزكاة فإن الزكاة علانية غير سر. وعن ابي بصير (٦) في الموثق عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : وكل ما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من إسراره ،

__________________

(١) سورة البقرة ـ الاية ٢٧١.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٧ ح ١. الوسائل ج ٦ ص ٢٧٥ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٨ ح ٢ من باب فضل صدقة السر. الوسائل ج ٦ ص ٢٧٥ ح ٣.

(٤ و ٥ و ٦) الكافي ج ٤ ص ٦٠ ح ١ وص ٥٠٢ ح ١٧ وص ٤٩٩ ح ٩. وهذه الروايات في الوسائل ج ٦ ص ٢١٥ ح ٣ و ٢ وص ٢١٥ ح ١.

٢٧٤

وما كان تطوعا فإسراره أفضل من إعلانه ، ولو ان رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسمها علانية كان ذلك حسنا جميلا.

وما رواه العياشي في تفسيره (١) «عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئلته عن قول الله : (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) ، قال ليس تلك الزكاة ولكنه الرجل يتصدق لنفسه الزكاة علانية ليس بسر».

ومن هذه الأخبار يظهر تخصيص الآية وما في معناها من الأخبار بالصدقة المندوبة ، ويظهر ضعف القول بالعموم ، واما ما ذكروه من استحباب الإظهار في المندوبة لدفع التهمة عن نفسه بترك المواساة ، وكذا ما ذكره في المسالك من استحباب الإظهار أيضا لمتابعة الناس له في ذلك واقتدائهم به لما فيه من التحريص على نفع الفقراء فلم أقف فيه على دليل ، وإطلاق هذه الأخبار يدفعه ، وتخصيصها بهذه التعليلات العقلية غير مقول ، وعلل الإخفاء والاستتار في المندوبة بأنه أبعد من تطرق الرياء ، ولا بأس به بان يجعل وجها لما دلت عليه النصوص ، نعم ما ذكروه من استحباب الإعلان في الصورتين المذكورتين جيد في الواجبة التي يستحب الإعلان بها ، ويكون ذلك وجها للنصوص الدالة على الإعلان فيها ، والله العالم.

المقصد الثالث في الحبس والسكنى والرقبى والعمرى :

اعلم أن انتقال المنفعة إلى الغير إما على وجه اللزوم أم لا ، والثاني في العارية والأول اما مع خروج العين عن الملك أم لا ، والأول الوقف ، والثاني إما بعوض أم لا ، والأول الإجارة ، والثاني العمرى التي هي محل البحث هنا ، ومنه يظهر أن ثمرتها هو التسليط على المنفعة مجانا مع بقاء الملك لمالكه.

ثم أنه ينبغي أن يعلم أن الاختلاف في هذه الألفاظ اعتباري بحسب اختلاف ما تضاف ، والمرجع إلى أمر واحد ، فإذا قرنت بالإسكان قيل سكنى ، وإذا قرنت

__________________

(١) تفسير العياشي ج ١ ص ١٥١ ح ٤٩٩ ، الوسائل ج ٦ ص ٢١٦ ح ٩.

٢٧٥

بالعمر من المالك أو الساكن قيل عمري ، وإذا قرنت بمدة معينة قيل رقبى ، من ارتقاب المدة وخروجها أو رقبة الملك ، وقد يقترن باثنين منها كأن يقول أسكنتك هذه الدار مدة عمرك ، فيقال سكنى لاقترانها بالإسكان ، وعمري لاقترانها بالعمر ولو قال : أسكنتكها مدة كذا وكذا ، قيل : سكنى ورقبى ، ولو قال : أرقبتكها تحققت الرقبى خاصة ، وتنفرد السكنى فيما لو أسكنه إياها مطلقا وتنفرد العمرى فيما لو كان للعمر في غير مسكن.

قالوا : وهي يعنى السكنى عقد يشتمل على الإيجاب والقبول والقبض ، وفائدتها التسليط على استيفاء المنفعة مع بقاء الملك على مالكه.

أقول : وقد تقدم الكلام في العقد وما اشترطوه فيه في غير مقام ، ويؤيده ما سيظهر لك ان شاء الله تعالى من الأخبار الواردة في المقام.

قالوا : والعبارة عن العقد أن يقول : أسكنتك أو أعمرتك أو أرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك هذه الدار وهذه الأرض أو هذا المسكن عمرك أو عمري أو مدة معينة ، والواجب أولا نقل الأخبار الواردة فيما يتعلق بهذا الباب ثم الرجوع الى كلام الأصحاب وعرضه عليها ليتميز القشر من اللباب بتوفيق الملك الوهاب ، وبركة أهل الذكر الأطياب.

الأول ـ ما رواه المشايخ الثلاثة عن حمران (١) قال : «سألته عن السكنى والعمرى فقال : ان الناس فيه عند شروطهم ، ان كان شرطه حياته سكن حياته وان كان لعقبه فهو لعقبه كما شرط حتى يفنوا ثم يرد الى صاحب الدار».

الثاني ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبى الصباح الكناني (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل عن السكنى والعمرى فقال : ان كان جعل السكنى في

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٣ ح ٢١ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٩ ح ٥٨٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٦ ح ٦٥٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٥ ح ١.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٣ ح ٢٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٠ ح ٥٨٨ ، الوسائل ج ١٣ وص ٣٢٦ ح ١.

٢٧٦

حياته فهو كما شرط ، وان كان جعلها له ولعقبه من بعده حتى يفنى عقبه فليس لهم إن يبيعوا ولا يورثوا ثم ترجع الدار الى صاحبها الأول».

الثالث ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) عن أحمد بن عمر الحلبي (١) عن أبيه في الموثق عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل أسكن رجلا داره حياته قال : يجوز له وليس له أن يخرجه ، قلت : فله ولعقبه؟ قال : يجوز ، وسألته عن رجل أسكن رجلا ولم يوقت له شيئا قال يخرجه صاحب الدار إذا شاء».

الرابع ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن الحلبي (٢) في الصحيح أو الحسن عن أبى عبد الله عليه‌السلام «في الرجل يسكن الرجل داره ولعقبه من بعده ، قال : يجوز لهم وليس لهم أن يبيعوا ولا يورثوا ، قلت : فرجل اسكن رجلا داره حياته؟ قال يجوز ذلك ، قلت : فرجل أسكن رجلا داره ولم يوقت؟ قال : جائز ويخرجه إذا شاء».

الخامس ـ ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن الحسين بن نعيم (٣) «عن أبى الحسن موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل جعل داره سكنى لرجل «ابان» حياته أو جعلها له ولعقبه من بعده قال : هي له ولعقبه من بعده كما شرط ، قلت : فان احتاج الى بيعها يبيعها قال : نعم ، قلت : فينقض بيعه الدار السكنى؟ قال : لا ينقض البيع السكنى ، كذلك سمعت أبي عليه‌السلام يقول : قال أبو جعفر عليه‌السلام لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى ، ولكن يبيعه على أن الذي

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٤ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٠ ح ٥٨٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٦ ح ٦٥١.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٥ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٠ ح ٥٩٠.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٣٨ ح ٣٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤١ ح ٥٩٣ وفيه «أيام» الفقيه ج ٤ ص ١٨٥ ح ٦٤٩.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٧ ح ٢ وص ٣٢٦ ح ٢ وص ٣٢٥ ح ٢.

٢٧٧

يشتريه لا يملك ما اشترى حتى ينقضي السكنى على ما شرط والإجارة ، قلت : فان رد على المستأجر ماله وجميع ما لزمه من النفقة والعمارة فيما استأجره؟ قال : على طيبة النفس ويرضى المستأجر بذلك لا بأس».

السادس ـ ما رووه أيضا عن خالد بن نافع البجليّ (١) عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : «سألته عن رجل جعل لرجل سكنى دار له مدة حياته يعنى صاحب الدار ، فلما مات صاحب الدار أراد ورثته أن يخرجوه ألهم ذلك؟ قال : فقال : أرى أن تقوم الدار بقيمة عادلة وينظر الى ثلث الميت ، فان كان في ثلثه ما يحيط بثمن الدار فليس للورثة أن يخرجوه ، وان كان الثلث لا يحيط بثمن الدار فلهم أن يخرجوه قيل له : أرأيت ان مات الرجل الذي جعل له السكنى بعد موت صاحب الدار يكون السكنى لعقب الذي جعل له السكنى؟ قال : لا».

السابع ـ ما رواه في التهذيب في الصحيح عن محمد بن قيس (٢) «عن أبى جعفر عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قضى في العمرى انها جائزة لمن أعمرها ، فمن أعمر شيئا ما دام حيا فإنه لورثته إذا توفي».

الثامن ـ ما رواه في الكافي والتهذيب عن يعقوب بن شعيب في الصحيح (٣) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل يكون له الخادم تخدمه فيقول : هي لفلان تخدمه ما عاش ، فإذا مات فهي حرة فتأبق الأمة قبل أن يموت الرجل بخمس سنين أو ستة ثم يجدها ورثته ، ألهم ان يستخدموها قدر ما أبقت؟ قال : إذا مات الرجل فقد عتقت».

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٨ ح ٣٩ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٢ ح ٥٩٤ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٦ ح ٦٥٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٣١ ح ١.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٤٣ ح ٥٩٥.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٣ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٣ ح ٥٩٦.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٢ ح ٢ وص ٣٣٠ ح ٢.

٢٧٨

التاسع ـ ما رواه الشيخ في التهذيب عن محمد بن مسلم (١) قال : «سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن رجل جعل لذات محرم جاريته حياتها قال : هي لها على النحو الذي قد قال».

العاشر ـ ما رواه في التهذيب والفقيه عن على بن معبد (٢) قال : «كتب اليه محمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد سنة ثلاث وثلاثين ومائتين يسأله عن مات وخلف امرأة وبنين وبنات وخلف لهم غلاما أوقفه عليهم عشر سنين ثم هو حر بعد العشر سنين فهل يجوز لهؤلاء الورثة بيع هذا الغلام وهم مضطرون إذا كان على ما وصفته لك جعلني الله فداك؟ فكتب عليه‌السلام لا يبيعوه الى ميقات شرطه الا ان يكونوا مضطرين الى ذلك فهو جائز لهم».

الحادي عشر ـ ما رواه المشايخ الثلاثة (قدس الله تعالى أرواحهم) في الصحيح في بعض أسانيدهم عن ابن أذينة (٣) قال : «كنت شاهد ابن أبى ليلى فقضى في رجل جعل لبعض قرابته غلة داره ولم يوقف وقتا فمات الرجل فحضر ورثته ابن أبى ليلى وحضر قرابة الذي جعل له غلة الدار فقال ابن أبى ليلى : أرى أن أدعها على ما تركها صاحبها فقال له محمد بن مسلم الثقفي : أما ان علي بن أبي طالب عليه‌السلام قد قضى في هذا المسجد بخلاف ما قضيت ، فقال : وما علمك؟ فقال : سمعت أبا جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام يقول : قضى علي بن أبي طالب عليه‌السلام برد الحبيس وإنفاذ المواريث ، فقال : ابن أبى ليلى هذا عندك في كتاب؟ قال : نعم قال فأرسل اليه وائتني به ، فقال له محمد بن مسلم : على أن لا تنظر في الكتاب الا في ذلك الحديث قال : لك ذلك ، فأراه الحديث عن أبى جعفر عليه‌السلام في الكتاب فرد قضيته».

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٤٣ ح ٥٩٧.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٣٨ ح ٥٨١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨١ ح ٦٣٤.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٤٠ ح ٥٩١ ، الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٧ الفقيه ج ٤ ص ١٨١ ح ٦٣٥.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٠ ح ١ وص ٣٢٧ ح ٣ وص ٣٢٨ ح ١.

٢٧٩

الثاني عشر ـ ما رواه في الكافي والفقيه عن عبد الرحمن الجعفي (١) قال كنت اختلف الى ابن أبى ليلى في مواريث لنا ليقسمها وكان فيه حبيس فكان يدافعني فلما طال شكوته الى أبى عبد الله عليه‌السلام فقال : أو ما علم أن رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أمر برد الحبيس وإنفاذ المواريث ، قال : فأتيته ففعل كما كان يفعل فقلت له : انى شكوتك الى جعفر بن محمد عليه‌السلام فقال لي : كيت وكيت قال : فحلفني ابن أبى ليلى أنه قد قال ذلك ، فحلفت له فقضى لي بذلك».

الثالث عشر ـ ما رواه عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الاسناد عن السندي بن محمد عن أبي البختري (٢) «عن جعفر عن أبيه عن علي عليهم‌السلام أن السكنى بمنزلة العارية ، ان أحب صاحبها أن يأخذها أخذها ، وان أحب ان يدعها فعل أي ذلك شاء».

هذا ما وقفت عليه من الأخبار المتعلقة بهذا المقام إذا عرفت ذلك ، فالكلام هنا يقع في مواضع :

الأول : قد عرفت مما أشرنا إليه آنفا أن ظاهر الأصحاب أنه لا بد في هذه المعاملة من عقد مشتمل على الإيجاب والقبول كغيره من العقود ، قالوا : والعبارة عن العقد أن يقول : أسكنتك وأعمرتك وأرقبتك أو ما جرى مجرى ذلك هذه الدار وهذه الأرض أو هذا المسكن عمري أو عمرك ، أو مدة معينة.

أقول المفهوم من ظاهر الأخبار المذكورة الاكتفاء بمجرد التراضي على ذلك ، والإتيان بمجرد ما يفهم منه المقصود ، مثل قوله في الحديث الثامن «هي لفلان تخدمه ما عاش» ، وفي الحديث التاسع جعل لذات محرم جاريته فإنه ليس هنا عقد زيادة على ذلك ، ونحوهما ظاهر الحديث الثالث والرابع والخامس ، فإن

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٥ ح ٢٨ عن عبد الرحمن الخثعمي ، التهذيب ج ٩ ص ١٤١ ح ٥٩٢ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٢ ح ٦٣٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٩ ح ٢.

(٢) الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٨ ح ٣ ، قرب الاسناد ص ٦٩.

٢٨٠