الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

على الأخوة ليس بمجهول ، وبذلك قال ابن إدريس أيضا ، معللا بتناول الاسم ، إلا أن الشيخ فرضه في المفرد ، وابن إدريس فرضه في الجمع ونحوه المحقق في الشرائع ، فإنه تبع الشيخ في الحكم بالصحة ، الا أنه فرضه في الجمع.

وقال ابن حمزة : إذا وقف على مولاه اختص بمولى نفسه ، دون مولى أبيه وبمولاة الذي أعتقه ، دون مولى نعمته ، إلا إذا لم يكن له مولى عتق ، وكان له مولا نعمة ، وإن قال : على موالي دخل فيه مولى العتاقة ، ومولى النعمة.

وقال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه أن نقول : ان عرف بقرينة حالية أو مقالية قصده فيهما حمل لفظه عليه ، عملا بالقرينة ، وان انتفت القرائن فإن كان اللفظ مفردا ليس بجمع بطل الوقف ، وان كان جمعا وقلنا بجواز ارادة معنى المشترك من لفظ الجمع حمل عليهما ، وان قلنا إن حكمه حكم الواحد بطل ، لنا أنا قد بينا في أصول الفقه أنه لا تجوز ارادة معنى المشترك منه بلفظ واحد ولا شك أن لفظة مولى من الألفاظ المشتركة بين المعالي المتضادة ، وهي المعتق والمعتق ، وقول الشيخ أن الاسم يتناولهما ، قلنا : ان أراد ذلك على سبيل الجمع ، فهو ممنوع لأن الواضع لم يضعه لكلا المعنيين ، فيكون استعماله فيهما استعمالا للفظ في غير موضوعه والقياس على الاخوة ضعيف ، لأن الإخوة موضوع لمعنى واحد ، يتناول المتقرب بالأبوين وأحدهما على سبيل التواطؤ ، بخلاف المولى ، وقول ابن إدريس يشعر بمتابعته للشيخ ، وقول ابن حمزة في الجمع جيد ، أما في المفرد فحمله على المعتق ضعيف ، وكونه أقوى من المولى من أسفل لأنه يرث لا يخرج اللفظ عن كونه مشتركا ، ولا يوجب ترجيحا في التناول ، انتهى.

وظاهر شيخنا الشهيد (رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد الميل الى ما ذكره العلامة هنا من الفرق بين المفرد والجمع ، والبطلان في الأول دون الثاني ، قال بعد الكلام في المسئلة : واعلم أن الصحة وتناول الجميع يقوى إذا كان اللفظ بصيغة الجمع ، كالمسئلة المفروضة ، فإن بعض من منع استعمال المشترك المفرد في كلا معنييه

٢٤١

أجازه في الجمع ، ولأنه يكون جمعا مضافا وهو للعموم ، كما قرر في الأصول ، وان كان اللفظ مفردا كما لو وقف على مولاه ، يقوى البطلان ، ونصر شيخنا المرتضى عميد الدين الصحة في المجموع ، وهو ظاهر المصنف في المختلف لأنه لفظ مستغرق لجميع ما يصلح له ، انتهى.

أقول : قد تقدم في مواضع من كتب العبادات الإشارة الى أن ما اشتهر بينهم في الأصول من عدم جواز استعمال المشترك في معينة مما يظهر من الأخبار خلافه ، وبذلك اعترف في الذكرى أيضا ، ومنه تظهر قوة ما ذهب اليه الشيخ ، وكيف كان فالمسئلة لما عرفت محل اشكال ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : في الوقف على الأولاد ، وله صور أحدها ـ الوقف على أولاد الأولاد ، والظاهر أنه لا خلاف في أنه إذا وقف على أولاد أولاده فإنه يشترك أولاد البنين والبنات ذكورهم وإناثهم من غير تفصيل.

أما الحكم الأول ، فلان إطلاق الولد شامل للذكور والإناث بلا اشكال لقوله سبحانه (١) «يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» ونحوها فيصدق على أولادهم مطلقا أنهم أولاد أولاد ، وان اختلف في صدق الأولاد على أولاد الأولاد ، كما سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى.

وأما الحكم الثاني فلاقتضاء الإطلاق ذلك ، واقتضاء الاشتراك التسوية حتى يقوم الدليل على خلافها ، وكما يدخل الذكور والإناث في لفظ الولد تدخل الخناثي أيضا ، أما لو كان بلفظ البنين خاصة أو البنات خاصة ، وأولادهم ، فالظاهر عدم صدق ذلك عليهم ، وأما لو جمعهما بأن قال : على البنين والبنات وأولادهم فهل يدخلون في ذلك أم لا؟ قولان للعلامة في القواعد والتحرير منشأ الثاني منهما أنهم ليسوا بذكور ولا إناث ، والأول أنهم لا يخرجون عن الصنفين في نفس الأمر ، ولهذا يستخرج أحدهما بالعلامات ، ومع فقدها ترث نصف النصيبين.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ١١.

٢٤٢

ورد بأنه لا كلام مع وجود العلامة ، ولا دلالة لنصف النصيبين على حصره فيهما ، بل يمكن دلالته على عدمه ، وجاز أن تكون طبقة ثالثة متوسطة النصيب كما أنها متوسطة الحقيقة.

الثانية ـ ما لو قال : على من انتسب إلي ، قال في الشرائع لم يدخل أولاد البنات ، وقال بعد ذكر العبارة هذا هو المشهور ، وقد تقدم خلاف المرتضى في ذلك ، فإنه حكم بدخولهم في الأولاد حقيقة ، وهو يقتضي انتسابهم بطريق أولى.

أقول : ونحن قد استوفينا الكلام بما لا يحوم حوله نقض ولا إبرام في هذا المقام ، وأوضحنا ضعف هذه الأوهام في كتاب الخمس (١) ولكن ربما تعذر على الناظر هنا الرجوع إلى ذلك ، فلا علاج ان ارتكبنا مرارة التكرار في بيان ضعف هذا الكلام ، دفعا لثقل المراجعة على النظار :

فنقول : أما ما ذكره من أن أولاد البنات لا يدخلون في النسبة إلى أب الأم ، فقد علله العلامة في المختلف في كتاب الخمس في مقام الرد على المرتضى (رضى الله عنه) فقال : لنا أنه إنما يصدق الانتساب حقيقة إذا كان من جهة الأب عرفا ، فلا يقال : تميمي إلا إذا انتسب إليهم بالأب ، ولا حارثي إلا إذا انتسب الى حارث بالأب ، ويؤيده قول الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وما رواه حماد بن عيسى (٢) قال : «رواه لي بعض أصحابنا عن العبد الصالح أبى الحسن الأول عليه‌السلام ومن كانت أمه من بنى هاشم وأبوه من سائر قريش ، فإن الصدقة تحل له ، وليس له من الخمس شي‌ء لأن الله تعالى (٣) «يقول ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ». ولأنه أحوط ، انتهى.

__________________

(١) ج ١٢ ص ٣٩٠ الى ص ٤١٦.

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٥٣٩ ح ٤ ، الوسائل ج ٦ ص ٣٥٨ ح ٨.

(٣) سورة الأحزاب ـ الاية ٦.

٢٤٣

وفيه نظر من وجوه ، أحدها ـ ما ادعاه من أنه لا يصدق الانتساب حقيقة إلا إذا كان من جهة الأب ، فإن الأخبار عموما وخصوصا متظافرة بخلافه ، فمن الأول ما رواه في الكافي في كتاب الروضة والثقة الجليل علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبي الجارود (١) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليهما‌السلام قلت : ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : فأي شي‌ء احتججتم عليهم؟ قلت : احتججنا عليهم بقول الله تعالى في عيسى ابن مريم (٢) (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ)» ثم ساق الآية قال : فأي شي‌ء قالوا لكم؟ قلت : قالوا : قد يكون ولد الابنة من الولد ، ولا يكون من الصلب ، قال : فأي شي‌ء احتججتم عليهم قلت : بقول الله تعالى لرسوله «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ» (٣) قال : فأي شي‌ء قالوا؟ قلت : قالوا : قد يكون في كلام العرب أبناء رجل ، ويقول آخر أبناؤنا قال : فقال أبو جعفر عليه‌السلام : يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله عزوجل أنهما من صلب رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لا يردها إلا الكافر قلت : فأين ذلك جعلت فداك؟ قال : من حيث قال الله عزوجل «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ» (٤) الآية الى أن انتهى الى قوله «وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم» فسلهم يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نكاح حليلتيهما؟ فان قالوا : نعم كذبوا وفجروا ، وان قالوا : لا فهما ابناه لصلبه» الحديث.

أقول : لا يخفى أن تأويل المخالفين للآيتين الأولتين مرجعه الى التجوز ، كما يدعيه أصحابنا هنا مع ما في الخبر من التشنيع الفضيع على من قال من أصحابنا بالقول المشهور ، تبعا للعامة العمياء في هذا الباب ، نعوذ بالله من طغيان

__________________

(١) الكافي ج ٨ ص ٢٦٣ ح ٥٠١ ، تفسير القمي ج ١ ص ٢٠٩ ، الوسائل ج ١٤ ص ٣١٦ ح ١٢.

(٢) سورة الانعام ـ الآية ٨٤ و ٨٥.

(٣) سورة آل عمران ـ الاية ٦١.

(٤) سورة النساء ـ الاية ٢٣.

٢٤٤

الأقلام ، وزيغ الأفهام ، ولكن العذر لهم (رضوان الله عليهم) بقصور التتبع للأخبار ، وبمضمون هذا الخبر أخبار عديدة ، قد تقدمت في الكتاب المشار إليه آنفا.

ومن الثاني ما رواه في الكافي في باب ما نص الله ورسوله على الأئمة عليهم‌السلام واحدا فواحد بسند صحيح عن عبد الرحيم بن روح القصير (١) «عن أبي جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل «النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» (٢) ثم ساق الحديث الأول على اختصاص الإمامة بهم الى أن قال : فقلت : هل لولد الحسن فيها نصيب ، فقال : لا والله يا عبد الرحيم ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا».

وما رواه الصدوق في كتاب معاني الأخبار عن حمزة ومحمد ابني حمران (٣) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال عليه‌السلام فيه بعد ذكر حمران لعقيدته في الإمامة ما صورته : يا حمران مد المطمر بينك وبين العالم ، قلت : يا سيدي وما المطمر؟ قال : أنتم تسمونه خيط البناء فمن خالفك على هذا الأمر فهو زنديق ، قلت : وان كان علويا فاطميا فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : وان كان محمديا علويا فاطميا».

وهما كما ترى صريحان في صحة النسبة إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ، مع أن ذلك انما من جهة الأم ، وأن كل من كان من ذريته في أبناء ابنته ، فهو محمدي ، وبه يظهر أن ما ادعاه (قدس‌سره) من أنه لا تصح النسبة ، ولا يقال : تميمي ولا حارثي إلا لمن انتسب بالأب كلام شعري ، لا تعويل عليه ، والظاهر أنه مأخوذ من كلام العامة العمياء المنكرين لكون ابن البنت ابنا حقيقيا ، للتوصل بذلك الى الطعن على الأئمة عليهم‌السلام كما هو المفهوم من جملة من الأخبار التي ابتنا عليها في الكتاب المتقدم ذكره.

ومن ذلك أيضا ما رواه في الكافي في حديث طويل في باب ما يفصل به بين

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٢٨٨ ح ٢.

(٢) سورة الأحزاب ـ الاية ٦.

(٣) معاني الأخبار ص ٢١٢ ط تهران سنة ١٣٧٩.

٢٤٥

دعوى المحق والمبطل في الإمامة (١) «عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : في آخره الله بيننا وبين من هتك سترنا وجحدنا حقنا وأفشى سرنا ونسبنا الى غير جدنا» الحديث.

وما رواه العياشي في تفسيره والبرقي في محاسنه (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من قبل النساء ، ثم تلا (ومن ذريته). الآية.

وثانيها ـ أن الاستناد الى هذا البيت ، في مقابلة الآيات المتظافرة والروايات المتكاثرة الدالة على كون ولد البنت ولدا حقيقيا ، مما لا يلتفت اليه ، ولا يعول عليه ، كما صرح بذلك الشيخ في الخلاف في كلامه المتقدم في المسئلة الخامسة من سابق هذا المطلب ، وقد فسر معنى البيت المراد منه بأن الشاعر أراد الانتساب بمعنى أن أولاد البنات لا ينسبون إلى أمهم ، وإنما ينسبون إلى أبيهم.

وثالثها ـ ما ذكره من مرسلة حماد ، فان فيه أولا أنه بمقتضى اصطلاحهم ، فان الخبر ضعيف ، لا تقوم به حجة كما ذكروه في أمثاله.

وثانيا أنه معارض بالآيات القرآنية والأحاديث المتكاثرة الدالة على خلافه عموما وخصوصا ومن الثاني ما رواه الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في كتاب الاختصاص (٣) في حديث طويل عن الكاظم عليه‌السلام مع الرشيد ، وفيه قال الرشيد له عليه‌السلام لم لا تنهون شيعتكم عن قولهم لكم يا ابن رسول الله ، وأنتم ولد علي ، وفاطمة إنما هي وعاء ، والولد ينسب إلى الأب لا إلى الأم ، فقال عليه‌السلام بعد أن طلب منه الأمان وآمنه : أعوذ بالله السميع العليم ، ثم أورد عليه‌السلام آية عيسى (٤) عليه‌السلام ، ثم أورد آية المباهلة (٥). وما رواه في كتاب الاحتجاج (٦) عن الكاظم عليه‌السلام في حديث طويل لما

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٣٥٦ ح ١٦.

(٢) المحاسن ج ١ ص ١٥٦ ط تهران ح ٨٨ ، تفسير العياشي ج ١ ص ٣٦٧ ح ٥٢.

(٣) الاختصاص ص ٥٤ ط إيران سنة ١٣٧٩.

(٤) سورة الانعام ـ الاية ٨٤ و ٨٥.

(٥) سورة آل عمران ـ الاية ٦١.

(٦) عيون أخبار الرضا ج ١ ص ٨٣ في ضمن الحديث ٩ ، الاحتجاج ج ٢ ص ١٦٣.

٢٤٦

أدخل على الرشيد وموضع الحاجة منه أنه قال له الرشيد : لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ويقولون يا ابن رسول الله وإنما ينسب المرء إلى أبيه ، وفاطمة ، إنما هي وعاء ، والنبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) جدكم من قبل أمكم فقال : يا أمير المؤمنين لو أن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال : سبحان الله ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب وقريش بذلك ، فقال : لكنه لا يخطب الي ، ولا أزوجه ، فقال : ولم فقلت لأنه ولدني ولم يلدك ، فقال : أحسنت يا موسى» ، ونحوهما غيرهما والتقريب في هذين الخبرين ونحوهما أن الرشيد لما أنكر عليه نسبتهم عليهم‌السلام إليه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بواسطة الأم وانما ينسب المرء إلى أبيه ، كما ذكره عليه‌السلام في مرسلة حماد المذكورة واحتج بقوله (١) «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ» احتج عليه بالآيات المذكورة ، وما ذكره الرشيد في هذه الأخبار في إنكاره عليه هو عين ما ذكره عليه‌السلام في مرسلة حماد التي استند إليها الخصم ، مع أنه عليه‌السلام في هذه الأخبار قد رد ذلك بالآيات المذكورة الدالة على البنوة حقيقة ، ولو كانت البنوة في هذه المواضع إنما هي على جهة المجاز كما يدعيه العامة ومن قال بقولهم من أصحابنا ، (سامحهم الله بغفرانه) فكيف يحتاج الى الاستدلال بهذه الآيات ، بل كيف يعترض الرشيد وغيره عليهم بهذه التسمية ، وباب المجاز واسع ، وهو لا يوجب فخرا ولا يخد ذكرا فلو لا أن المخالفين من الرشيد وغيره عالمون بان دعواهم البنوة إنما هو على الحقيقة لما اعترضوا عليهم بذلك ، ولما احتاجوا عليهم‌السلام إلى الاستدلال بهذه الآيات ونحوها ، لما عرفت ، وهذه الآيات لا تصلح للاستدلال الا بناء على دعوى البنوة الحقيقية ، وهذا بحمد الله ظاهر تمام الظهور لمن اطلع على الأخبار والآيات الظاهرة ، كالنور على الطور ، ولم يعتر بصر بصيرته قصور ولا فتور.

وأما ما ذكره في المسالك ومثله غيره من نسبة هذا الخلاف إلى المرتضى

__________________

(١) سورة الأحزاب ـ الاية ٥.

٢٤٧

(رضي‌الله‌عنه) خاصة فهو عجب وأي عجب ، فان هذا القول مذهب جملة من متقدمي الأصحاب ، بل ربما كان هو المشهور بينهم كما تقدمت الإشارة إليه في المسئلة الخامسة من مسائل المطلب المتقدم ، وقد ذكرنا في كتاب الخمس (١) من ذهب إلى ذلك من علمائنا المتقدمين والمتأخرين ، بما ربما يزيد على عدد من صرح بالخلاف المشهور بين المتأخرين ، والله العالم.

الثالثة ـ ما لو وقف على أولاده ، المشهور بينهم أنه يختص بالأولاد لصلبه ، دون أولاد الأولاد ، إلا أن يكون هناك قرينة تدل على دخولهم ، كقوله الأعلى فالأعلى ، أو بطنا بعد بطن ، أو يقف على أولاد فلان ، وهو يعلم أن لا ولد له لصلبه ، ونحو ذلك ، وقيل : يشترك الجميع إلا مع القرينة ، وهو الأظهر ، احتج القائلون بالقول الأول بأن المتبادر من الولد هو ما كان لصلب ، ولا يفهم منه ولد الولد إلا بالقرينة.

قالوا : ولهذا يصح سلبه عنه ، فيقال ، ليس ولدي ، بل ولد ولدي.

أقول : فيه أن المفهوم من الآيات الكثيرة في باب الميراث ، والنكاح ، والأخبار المستفيضة هو أن الولد حقيقة أعم من أن يكون من صلب بلا فاصلة أو بفاصلة سواء كان الفاصلة ذكرا أم أنثى ، وقد اعترف بدلالة الآيات على ذلك في المسالك في باب الميراث في مسئلة أن أولاد الأولاد هل يقومون مقام آبائهم في الميراث؟ فلكل نصيب من يتقرب به ، أو يقتسمون اقتسام أولاد الصلب ، حيث ذكر أن القول الثاني مذهب المرتضى ، وجماعة من الأصحاب ، ثم استدل لهم بآيات تحريم حلائل الأبناء ، وتحريم بنات الابن والابنة ، والحجب بهم للأبوين ، والزوجين.

ثم قال : وهذه توجيهات حسنة ، الا أن الدليل قد قام أيضا على ان أولاد البنات ليسوا أولادا حقيقة لثبوت ذلك في اللغة وصحة السلب الذي هو علامة المجاز ، وفيه أنه مع تسليم دلالة اللغة على ما ذكره فعرف الشرع مقدم على عرف

__________________

(١) ج ١٢ ص ٣٩١.

٢٤٨

اللغة ، وهو قد اعترف بدلالة الآيات على ذلك ، ومثلها الأخبار كما ستعرفه ان شاء الله تعالى وحينئذ يلتفت الى ما دل عليه كلام أهل اللغة لو كان كما يدعونه وأما الاستناد الى ما ذكروه من صحة السلب في قول القائل هذا ليس ولدي ، بل ولد ولدي ، وهو عمدة أدلتهم فهو على إطلاقه ممنوع ، فانا لا نسلم سلب الولدية حقيقة ، فإن حاصل المعنى بقرينة الإضراب أن مراد القائل المذكور انما هو أنه ليس بولدي بلا واسطة ، بل ولدي بالواسطة ، فالمنفي حينئذ انما هو كونه ولده بلا واسطة ، والولد الحقيقي عندنا أعم منها ، ولو قال ذلك القائل : ليس ولدي من غير الإضراب منعنا صحة السلب.

وأما الأخبار الواردة في المقام فمنها رواية أبي الجارود المتقدمة : وهي صريحة في كون ولد البنت ولدا للصلب ، كما عرفت ، ونحوها الروايات الأخر.

ومنها ما رواه في الكافي في أبواب الزيارات بسنده عن بعض أصحابنا (١) قال حضرت أبا الحسن الأول عليه‌السلام وهارون الخليفة وعيسى بن جعفر وجعفر بن يحيى بالمدينة قد جاؤا الى قبر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) فقال هارون لأبي الحسن عليه‌السلام تقدم ، فأبى فتقدم هارون فسلم وقام ناحية ، وقال عيسى بن جعفر : لأبي الحسن عليه‌السلام تقدم فأبى ، فتقدم عيسى فسلم ووقف مع هارون ثم ساق الخبر الى أن قال : وتقدم أبو الحسن عليه‌السلام فقال : السلام عليك يا أبت أسأل الله الذي اصطفاك واجتباك وهداك وهدى بك أن يصلى عليك ، فقال هارون لعيسى : سمعت ما قال؟ قال : نعم ، فقال هارون : أشهد أنه أبوه حقا».

أقول : لو كان لفظ الأب هنا انما هو مجاز كما يدعيه أصحابنا تبعا للعامة العمياء فأي فخر فيه ، حتى أنه عليه‌السلام يعبر به ، ثم انظر الى شهادة هارون بأنه أبوه حقا ، وأي محل للحمل على المجاز في ذلك ، لو لا عدم التدبر في الأخبار ، والوقوف عليها.

__________________

(١) فروع الكافي ج ٤ ص ٥٥٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٠ ص ٢٦٨ ح ٤.

٢٤٩

ومنها ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) بطرق عديدة ، ومتون متقاربة عن عائذ الأحمسي (١) قال : دخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فقلت : السلام عليك يا بن رسول الله فقال : وعليك السلام أي والله أنا لولده ، وما نحن بذوي قرابته.

أقول : انظر الى صراحة كلامه عليه‌السلام في أنهم ولد حقيقة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ـ لا أنهم من ذوي قرابته وأن إطلاق الولد عليهم انما هو مجاز ـ كما يدعيه من لم يعض على التطلع في الأخبار ـ بضرس قاطع ، وأكد ذلك بقسمة بالله سبحانه ، الى غير ذلك من الأخبار التي ذكرناها في كتاب الخمس (٢) ومجمل القول فيها أنها قد دلت على دعواهم عليه‌السلام البنوة له (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وافتخارهم بذلك ، وأن شيعتهم كانوا عاكفين على تسميتهم بذلك ، وان المخالفين أنكروا ذلك عليهم ، وهم عليهم‌السلام قد استدلوا بالآيات القرآنية كما عرفت ، فلو لا أن المراد البنوة الحقيقية ، لما كان لما ذكر من هذه الأمور وجه بالكلية ، لأن المجاز لا يوجب الافتخار ، ولا يتوقف على الاستدلال ، ولا يكون محلا للمخاصمة والجدال بل هذه الأشياء إنما تترتب على المعنى الحقيقي ، كما لا يخفى على الناقد البصير ، ولا ينبئك مثل خبير.

ولكن أصحابنا (سامحهم الله برضوانه) لما لم تصل هذه الأخبار الى نظرهم ، ولم يطلعوا عليها بالكلية جروا على ما جرت عليه العامة العمياء في المباحث الأصولية ، إلا أن الآيات حجة ظاهرة عليهم ، وهي مكشوفة لديهم فخروجهم عنها الى التمسك بهذه التخريجات الضعيفة من قول أعرابي بوال على عقبيه ، وما ذكروه من صحة السلب ونحو ذلك كله رمي في الظلام ، كما لا يخفى على ذوي الأفهام.

__________________

(١) فروع الكافي ج ٣ ص ٤٨٧ ح ٣ ، الوسائل ج ٣ ص ٥٠ ح ١٠.

(٢) ج ١٢ ص ٣٩١.

٢٥٠

ولذلك ملل إلى هذا القول زيادة على من ذكرنا من المتقدمين جملة من من متأخري علمائنا الأعلام ، والله العالم.

الرابعة ـ ما لو قال : على أولادي وأولاد أولادي ، فإنه على المشهور بين المتأخرين يختص بالبطنين المذكورين من البطون المتجددة ، لأنهم أولاد عندنا حقيقة كما عرفت ، والله العالم.

الخامسة ـ لو قال : على أولادي فإن انقرضوا وانقرض أولاد أولادي فعلى الفقراء ، فإنه لا شك في صحة الوقف على أولاده ، لكن بعد انقراضهم فهل يرجع الوقف إلى أولاد الأولاد؟ ثم بعد انقراضهم الى الفقراء؟ أو يرجع الى الفقراء بعد انقراض أولاده ، ولا يرجع الى أولاد الأولاد ، قولان : قال في المبسوط : إذا قال : وقفت على أولادي فإذا انقرضوا أولادي وأولاد أولادي فعلى الفقراء ، فإنه صرح بالوقف على أولاده أولا ، وعلى الفقراء والمساكين ، فعلى هذا إذا انقرض أولاده وبقي أولاد أولاده صرف انتفاعه إلى أقرب الناس إليه ، الى أن ينقرضوا ، فإذا انقرضوا صرف الى الفقراء ، ومنهم من يقول : يكون وقفا على أولاد أولاده بعد انقراض أولاده ، لأنه شرط انقراضهم ، وذلك بظاهره يقتضي أنه وقف عليهم ، كما لو صرح به ، فعلى هذا يصرف إليهم بعد الأولاد ، فإذا انقرضوا صرف الى الفقراء ، وهذا أقوى.

قال العلامة في المختلف ـ بعد نقل كلام الشيخ المذكور : والوجه عندي الأول ، لأن الوقف بصريحه دل على صيرورته إلى أولاده ، ثم بعدهم وبعد أولاد أولاده يصرف الى الفقراء ولا دلالة صريحة على صيرورته بعد أولاده إلى أولاد أولاده ، وأما الدلالة الالتزامية فهي منفية هنا أيضا ، لإمكان اقتران كلا النقيضين بهذا اللفظ ، ويكون اللفظ معه صادقا ، فصدقه أعم من اقترانه بالصيرورة إلى أولاد أولاده ، ومن اقترانه بعدم ذلك ، ولا دلالة للعام على الخاص ، قوله شرط انقراضهم يقتضي مشاركتهم ، فأي وجه لترتبهم على أولاد ، فهلا شاركوهم ، فإنه لم يوجد ما يدل على الترتيب فكأنه قال : وقفت على أولادي وأولاد أولادي ، فإذا انقرضوا

٢٥١

جميعا فعلى الفقراء ، انتهى.

والظاهر أن هذا القول هو المشهور بين المتأخرين وقوته بالنظر الى تعليلاتهم ظاهرة ، فإن أولاد الأولاد لم يتعرض للوقف عليهم بالكلية ، فكيف يدخلون في الوقف ، ومجرد اشتراط انقراضهم في الوقف على الفقراء لا يستلزم كونه وقفا عليهم ، لانتفاء وجه التلازم ، ولأنه لو دل ذلك على الوقف عليهم أوجب التشريك بينهم وبين الأولاد ، لانتفاء ما يدل على الترتيب كما ذكره العلامة مع أنه لا يقول به.

هذا كله بناء على ما هو المشهور بين المتأخرين من عدم دخول أولاد الأولاد في إطلاق الأولاد ، وأما على القول بدخولهم كما هو المختار ، وبه صرح الشيخ المفيد وابن إدريس وغيرهم ممن تقدم ذكره ، فإنه لا شك في صحة الوقف المذكور ، وأنه إنما ينتقل إلى الفقراء بعد انقراض أولاد الواقف من أولاد الصلب ومن بعدهم من الأولاد ، وان تعددت الطبقات وتكاثرت.

بقي الكلام في أنه على تقدير عدم دخول أولاد الأولاد في الوقف وصحته على الفقراء بعد انقراض الجميع فالنماء المتخلل في تلك المدة بعد موت الأولاد وقبل انقراض أولاد الأولاد لمن هو؟ قد عرفت من عبارة الشيخ المتقدمة أنه يصرف إلى أقرب الناس إليه الى أن ينقرض أولاد الأولاد ، فإذا انقرضوا صرف الى الفقراء.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسالك احتمال تفريع ذلك على انتقال الوقف وعدمه ، قال : فان قلنا ببقائه على ملك الواقف ، فلا شبهة في كونه لورثته ، وان قلنا بانتقاله الى الله ، فالمتجه صرفه في وجوه البر ، وعلى القول بانتقاله الى الموقوف عليه ، يكون لورثة البطن الأول.

أقول : قد تقدم في المطلب الثاني ذكر الخلاف في المنقطع الآخر ، ومثله يأتي في منقطع الوسط ، من أنه هل يصح ، ويكون وقفا أو حبسا أو يبطل من أصله ، وقد رجحنا أنه يصير حبسا لاشتراط الوقف بالدوام ، وعلى هذا فإنه يكون

٢٥٢

النماء هنا لورثة الواقف ، ولا يعود الى الفقراء بالكلية.

وبهذا أيضا صرح شيخنا المذكور في آخر البحث في هذه المسئلة فقال : نعم إذا قلنا حبسا لبطلانه بانقطاع وسطه اتضح عوده إلى ورثة الواقف على وجه الملك ، ثم لا ينتقل عنهم الى الفقراء ، وهذا هو الأقوى ، انتهى.

وهو جيد بناء على مذهبهم في المسئلة ، والا فقد عرفت أن الأظهر صحة الوقف بغير اشكال كما قدمنا ذكره ، والله العالم ، أقول : وقد تقدم بعض صور المسئلة أيضا في المباحث السابقة.

تتمة :

يجب اتباع الشروط المذكورة في عقد الوقف من الترتيب والتشريك ، والتفصيل ، فلو وقف على أولاده وأولاد أولاده اقتضى ذلك تشريك البطن الأخير مع البطن الأول ، ويأتي على ما اخترناه من دخول أولاد الأولاد في إطلاق الأولاد اشتراك جميع البطون من غير تفصيل كما هو مقتضى الإطلاق.

ولو قال : على أولادي ثم أولاد أولادي أو قال : الأعلى فالأعلى ترتبوا ، ولا يستحق البطن الثاني شيئا ما بقي من الأول واحد ، وكل من مات من البطن الأول فنصيبه يرجع الى الباقين ، الا أن يقول : فنصيبه لولده ، فإنه يجب اتباع الشرط المذكور ، فلو مات أحدهم ممن ولد كان نصيبه لولده ، ولو مات بعضهم عن غير ولد كان نصيبه للباقين من البطن ، دون الولد الذي أخذ نصيب أبيه ، والمراد بأولادي هنا هم الذين من الصلب ، فلا يدخل فيه أولاد الأولاد لقرينة العطف.

لكن يبقى الكلام في أولاد الأولاد ، فإن المشهور تخصيصهم بالبطن الثاني ، وعلى ما اخترناه فإنه يدخل فيه جميع البطون المتأخرة عن البطن الأول ، لدخولهم في إطلاق أولاد الأولاد كما عرفت ، فالترتيب حينئذ إنما هو بين البطن الأول ، وهم أولاد الصلب ، وبين من عداهم من الطبقات المتأخرة ، وأما الطبقات

٢٥٣

المتأخرة من أولاد الأولاد وما بعدهم من البطون ، فإنه لا ترتيب بينهم.

ولو قال : بطنا بعد بطن ، فالمشهور أنه يفيد الترتيب بين البطون ، وقال في التذكرة : انه لا يفيد ، والأقرب الأول ، ولو قال : على أولادي ثم أولاد أولادي على أن من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده ، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف ، ثم لو مات أحدهم عن ابنين فان نصيبه لأبنية ثم ان مات الثاني عن غير ولد ، فان نصيبه لباقي طبقته مع الابنين المذكورين بالسوية ، لأن الجميع أهل الوقف فيشتركون فيه ، ولو مات أحد الابنين المذكورين كان نصيبه لأخيه وعمه ، لأنهم أهل الوقف ، والله العالم.

السادسة ـ لو خرب المسجد الموقوف ، أو خربت القرية أو المحلة لم يخرج المسجد عن الوقف ، لما عرفت من أن الوقف مقتضى للتأبيد ، ولأن المسجد حقيقة إنما هو العرصة التي هي الأرض ، وهي باقية ، ولأن الغرض المقصود منه وهو الصلاة فيه باق ، فإنه يصلي فيه من يمر به ، وربما تعود القرية أو يحصل من يعمره.

وبالجملة فإن الخراب غير موجب للخروج عن الوقفية إذ لا منافاة ، نعم هذا إنما يتم في غير المساجد المبنية في الأرض المفتوحة عنوة ، حيث يجوز وقفها تبعا لآثار التصرف ، وقد تقدم في مقدمات صدر كتاب التجارة (١) أنه متى زالت الآثار سواء كانت آثار التملك أو الوقف فإن الأرض تعود الى ما كانت عليه ، لزوال المقتضى للاختصاص ، الا أن تبقى فيه رسوم أصل الحيطان كما هو الغالب ، بحيث يصدق وجود الآثار في الجملة ، فإنه يكفي في بقاء حكم المسجدية ، بل هذا هو المفهوم من النصوص ، فان ما صار الآن معمولا من البناء وتشييد الجدران ووضع السقف عليها أمر مخترع ، والمفهوم من النصوص إنما هو مجرد التحجير والعلامات الدالة على المسجدية ، ونقل عن بعض العامة خروجه عن المسجدية بالخراب قياسا عن عود الكفن الى الوارث عند اليأس من الميت بأن أخذه السيل

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٣٨.

٢٥٤

قياس منه بجامع استغناء المسجد عن المصلين كاستغناء الميت عن الكفن ، ورده الأصحاب بأنه قياس مع الفارق ، فان الكفن ملك للورثة ، فإن التركة تنتقل الى الوارث بالموت وان وجب صرفه في التكفين ، فإذا زال الموجب عاد الى ما كان عليه ، بخلاف المسجد ، فإنه قد خرج بالوقف عن ملك الواقف ، والمسجد حقيقة إنما هي العرصة كما عرفت ، وهي باقية ، وأيضا فإن القياس من الميت الذي أوجب رجوع الكفن إلى الورثة غير مسلم هنا ، لجواز عمارة القرية كما عرفت ، وصلاة المارة فيه ، واليأس عن المسجدية غير حاصل ، وما ذكر في الكفن عن العود الى الوارث إنما يتم فيما لو كان الكفن من التركة ، أما لو كان من الزكاة أو الوقف أو من باذل فإنه يرجع الى أصله ، وما ذكر من الكلام هنا في المسجد يجري في الدار الموقوفة ، فإنه بانهدام الدار لا يخرج العرصة عن الوقف ، ولا يجوز التصرف فيها ببيع ونحوه ، والكلام في الفرق بين الأرض الخراجية وغيرها كما تقدم في المسجد ، والله العالم.

السابعة ـ المشهور بين الأصحاب جواز بيع الوقف إذا وقع بين الموقوف عليهم خلف ، بحيث يخشى خرابه ، وقد تقدم تحقيق هذه المسئلة وما فيها من الكلام بما لا يحوم حوله للناظر نقض ولا إبرام في كتاب البيع (١) ولو انقلعت نخلة من أرض الوقف قال الشيخ : يجوز بيعها ، لتعذر الانتفاع إلا بالبيع ، وقال ابن إدريس : وتبعه أكثر المتأخرين انه يمكن الانتفاع بهذه النخلة من غير بيعها كالإجارة للتسقيف ، أو جعلها جسرا ونحو ذلك.

قال في المختلف بعد نقل القولين المذكورين : وهذه المنازعة تجري مجرى النزاع اللفظي ، لأن الشيخ فرض سلب منافعها على ما ذكره في دليله ، وابن إدريس فرض لها منافع غير الثمرة ، قال في المسالك ـ بعد أن ذكر أن كلام ابن إدريس جيد ، حيث يمكن الانتفاع ، والا فكلام الشيخ جيد ـ ما صورته : وأما ما ادعاه

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٣٩.

٢٥٥

العلامة من أنه لا نزاع بينهما إلا في اللفظ حيث أن الشيخ (رحمة الله عليه) فرض سلب منافعها كما يقتضيه دليله ، وابن إدريس فرض وجودها غير الثمرة ، فلا يخلو من حيف على ابن إدريس ، لأن دليل الشيخ اقتضى ادعاءه عدم المنافع حينئذ ، لا على تقدير عدم المنافع ، ففيه قصور بين ، وحينئذ فالتفصيل أجود ، انتهى. والظاهر أن ما ذهب اليه ابن إدريس هو المشهور بين المتأخرين ، استنادا الى عدم جواز بيع الوقف ، أما على مذهب ابن إدريس فإنه يمنع منه مطلقا ، وأما على المشهور فإنهم إنما يجوزونه في الصورة المتقدمة ، وهذا ليس منها ، والشيخ إنما جوزه بدعوى عدم حصول النفع الذي هو الغرض من الوقف ، فيجوز البيع حينئذ ، لبطلان الوقف ، ومتى ثبت وجود النفع كما ادعاه ابن إدريس فلا يصح البيع ، بل يبقى وقفا على حاله ، وما ذكر من الكلام في المقام يجري أيضا في حصير المسجد إذا خلق ، وجذعه إذا انكسر ، وتعذر الانتفاع به فيه أو في غيره.

قال في المسالك : ومتى جاز البيع وجب أن يشتري بقيمته ما يكون وقفا على الأقوى ، مراعيا للأقرب الى صفة الأول فالأقرب ، ونقل في المختلف عن ابن الجنيد أنه قال : والوقف رقيقا أو ما يبلغ حاله الى زوال ما سبله من منفعته ، فلا بأس ببيعه ، وابدال مكانه بثمنه ان أمكن ذلك ، أو صرفه فيما كان يصرف فيه منفعته ، أورد ثمنه على منافع ما بقي من أصل ما حبس معه ، إذا كان في ذلك الصلاح ، ثم قال : وهو الأقوى عندي.

أقول : قد تقدم في مسئلة بيع الوقف المشار إليها آنفا من كتاب البيع (١) ما يؤذن بالمناقشة في ذلك ، فليراجع ، والله العالم.

الثامنة ـ قالوا : إذا آجر البطن الأول مدة ، ثم انقرضوا في أثنائها ، فإن قلنا الموت يبطل الإجارة فلا كلام ، وان لم نقل فهل يبطل هنا فيه تردد ، أظهره البطلان ، لأنا بينا أن هذه المدة ليست للموجودين ، فيكون للبطن الثاني الخيار

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٤٧.

٢٥٦

بين الإجازة في الباقي ، وبين الفسخ فيه ، ويرجع المستأجر على تركة الأولين بما قابل المتخلف ، انتهى.

أقول : الكلام هنا يقع في موضعين الأول ـ في بطلان الإجارة وعدمه بموت البطن الأول ، بناء على عدم بطلان الإجارة بموت الموجر ، كما هو الأظهر ، وظاهر المشهور القول بالبطلان هنا ، وجعلوه من جملة المستثنيات من قاعدة عدم بطلان الإجارة بموت الموجر ، وعلل البطلان بما أشير إليه من قوله : ان هذه المدة ليست للموجودين ، وتوضيحه أن ملك الموجر هنا لما آجره غير تام ، لمشاركة باقي البطون له في ذلك بأصل العقد ، والموجر إنما يملك مدة حياته ، وبعدها ينتقل الملك الى غيره ، فبموته يتعين انتهاء حقه ، فتكون إجارته بالنسبة إلى بقية المدة تصرفا في غير حقه ، متوقفا على اجازة البطن الذي بعده ، ومن ذلك يظهر أن صحة الإجارة في هذه المدة التي اشتمل عليها العقد مراعاة ببقاء الموجر ، فلو مات في أثنائها تبين بطلان الإجارة في المدة الباقية ، ومما ذكر يظهر وجه الفرق بين اجارة البطن الأول من الموقوف عليهم بالنسبة الى من بعده ، واجارة المالك بالنسبة إلى الورثة ، فإن اجارة المالك تصرف في ملكه المستقل به حال حياته ، حتى لو أراد إتلافه بالكلية لم يكن للوارث اعتراض في ذلك ، والوارث انما يتلقى الملك بعد موته ، بخلاف الوقف فان البطن الأول غير مستقل بالملك كما عرفت ، بل البطون الأخيرة مشاركون له في الاستحقاق بأصل العقد ، لا أنهم انما يتلقونه بعد موته كما في الورثة ، ووجه التردد في المسئلة مما ذكر ، ومن أن المتصرف حينئذ كالمالك ، فكان تصرفه ماضيا.

وأنت خبير بأنه بالنظر الى هذه التعليلات ، لا خفاء في قوة القول المشهور ، إلا أنك قد عرفت عدم صلوحها لتأسيس الأحكام الشرعية ، وانما العمل على النصوص حيث لا نص هنا فالمسئلة لا تخلو من الاشكال ، وقد تقدم نظير هذه المسئلة في المسئلة السابعة والعشرين فيما آجر الأب أو الوصي الصبي من مسائل المطلب

٢٥٧

الثالث في الأحكام من كتاب الإجارة ، وينبغي أن يستثني من محل الاشكال ما لو كان الموجر للوقف ناظرا سواء كان أجنبيا أو من الموقوف عليه ، فإنه في حكم النائب عن الجميع ، فلا تبطل الإجارة بموته.

الثاني ما ذكره من قوله ويرجع المستأجر على تركة الأولين ، وهو محمول على ما لو دفع الأجرة للبطن الأول ، والا فلا رجوع ، والمراد بمقابل المتخلف الذي يرجع به على ما ذكره في المسالك ، هو أن ينسب أجرة مثله إلى أجرة مثل مجموع المدة ، ويرجع من المسمى بمثل تلك النسبة ، فلو كان قد آجره سنة بمائة ومات بعد انقضاء نصفها وفرض أن أجرة مثل النصف المختلف تساوى الستين ، وأجرة مثل النصف الماضي تساوى ثلاثين ، رجع بثلثي المائة ، وعلى هذا القياس ، والله العالم.

التاسعة ـ في جملة من أحكام الأمة الموقوفة ، منها ـ أنهم قد صرحوا بأنه لا يجوز للموقوفة عليه وطئ الأمة الموقوفة لأنه لا يختص بملكها ، فان كان له شريك في ذلك البطن ، فان عليه ما عدا نصيبه من العقر للشركاء ، وكذا من قيمة الولد لو أولدها وعليه الحد بنسبة ما عدا حصته وان انحصر أهل تلك الطبقة فيه كان الولد حرا ، ولا قيمة عليه ولا حد.

أقول : أما الأول فيعلم وجهه مما تقدم في كتاب البيع في مسئلة وطئ الأمة المشتركة بغير اذن الشركاء (١) ولكن قل من تنبه لذلك ، ونبه عليه في هذا المقام.

وأما الثاني فإن الوجه في تحريم ذلك عليه ، مع أن منافع الوقف له خاصة وان شاركته في الملك البطون المتأخرة ، والوطي من جملة المنافع ، هو الفرق بين الانتفاع بالوطء وغيره من المنافع ، من حيث ان الوطي معرض للحمل الموجب لصيرورتها أم ولد المانع من دوام الوقف على باقي البطون ، لانعتاقها بموته.

وأما الوجه في حرمة الولد إذا أولدها ، فلأن وطأه غير معدود من الزنا ،

__________________

(١) ج ١٩ ص ٤٧٤.

٢٥٨

لأنه مالك في الجملة ، ولا تجب عليه القيمة ، لمن بعده من البطون ، لأنه مخصوص بالاستحقاق الآن ، إذ المفروض انحصار تلك الطبقة فيه ، فلا شريك له الآن ، لا من البطن الذي هو فيه ، ولا من البطون المتأخرة ، والولد بمنزلة كسبها ، وثمرة البستان ، فيملكه زمان ملكه ، لأمه ، إلا أن هذا مبني على أحد القولين الآتيين في المسئلة ، والقول الآخر أنه يكون وقفا كأمه ، وأما عدم وجوب الحد عليه ، فلما عرفت من أنه غير زان وان فعل حراما كنظائره من وطئ الحليلة محرما ، ويحتمل وجوب الحد إذا لم تكن له شبهة يدرأ بها ، بناء على القول بعدم انتقال الملك اليه ، إلا أنه قال في التذكرة : انه لأحد أيضا هنا ، لأن شبهة الملك فيه ثابتة ، والمراد أن شبهة كونه مالكا فتحققه ، وان رجحنا عدم ملكه لأنها مسئلة اجتهادية ، لا يرفع ترجيح أحد جانبيها أصل الشبهة عن الجانب الآخر وهو كاف في درأ الحد ، وهو كما ذكره (قدس‌سره).

بقي الكلام هنا في موضعين أحدهما أنه هل تصير بالاستيلاد أم ولد ، أم لا؟ قولان : وعلل الأول بتحقق العلوق منه في ملكه على القول بانتقال الملك إليه ، لأن مبنى الكلام على ذلك ، وهذا هو السبب في صيرورتها أم ولد بالنص والإجماع وعلل الثاني بأن السبب إنما هو العلوق في الملك التام المختص بالمالك المعين ، والملك هنا غير مختص به ، لأن باقي البطون حقهم متعلق بها الآن ، وهو يرجع الى منع ما ادعى من سببيته السبب الأول ، لأنها يقوم عليه كلها بالاستيلاد ، ولا شي‌ء من أم الولد كذلك بالاستقراء ، ولمنافاة الوقف الاستيلاد.

وأنت خبير بأن مرجع ما ذكر من التعليلين المذكورين الى تعارض عموم النهي من إبطال الوقف وتغييره ، والحكم بدوامه ولزومه ، وعموم ما دل على ثبوت الاستيلاد ، وترتب أحكامه ، والقائل الأول اعتمد على العموم الثاني وخصص به الأول ، والقائل الآخر عكس ، والحق هو تعارض العمومين ، وتخصيص أحدهما بالآخر يحتاج الى مرجح ، وليس فليس ، فتبقى المسئلة في قالب الاشكال ، مضافا الى عدم النص في أصل المسئلة ، فيتعاظم الاشكال.

٢٥٩

وثانيهما أنه على تقدير صيرورتها أم ولد كما هو أحد القولين المتقدمين فهل تؤخذ القيمة من تركته للبطون المتأخرة بعد موته ، وانعتاقها بموته؟ قيل فيه وجهان : أطال الكلام فيهما في المسالك ، وحيث أن أصل المسئلة كما عرفت عارية عن النص ، والركون في إثبات أحكامها وما يتفرع عليها الى مجرد هذه التعليلات المتداولة في كلامهم مشكل ، أغمضنا النظر عن الكلام فيها.

ومنها ـ أنه يجوز تزويجها ، والمتولي لذلك هو الموقوف عليه ان قلنا بانتقال الملك اليه ، وان قلنا بالانتقال الى الله فالحاكم الشرعي ، لأنه المتولي لنحو ذلك ونقل عن الشيخ أنها تزوج نفسها ، ورده من تأخر عنه بأنه ضعيف.

وان قلنا ببقاء الوقف على ملك ذلك الواقف ، كان التزويج اليه ، ومهرها للموجودين من الموقوف عليهم ، أو الجهة الموقوف عليها ، لأنه فائدة من فوائدها وعوض من منفعتها المختصة بهم ، فيكون عوضها كذلك.

ومنها ـ أنه لو أتت بولد ، وكان من مملوك أو زنا ، فقيل : انه يختص به البطن الذي يولد معهم ، لأنهم من جملة النماء ، فأشبه الكسب ، وثمرة البستان ، وولد الدابة ، والظاهر أن هذا هو المشهور ، وذهب الشيخ وابن الجنيد وجماعة إلى أنه يكون وقفا كأمه ، لأن كل ولد ذات رحم حكمه حكم أمه كالمدبرة والمرهونة على قول ، ورد بأن الكلية ممنوعة وان كان الولد من حر بعقد صحيح فلا اشكال فيه ، إلا مع اشتراط الرقية في العقد ، على خلاف فيه يأتي تحقيقه ان شاء الله تعالى ـ في محله اللائق به ، وان كان من حر بوطى‌ء شبهة قالوا : فهو حر ، وعليه القيمة للموقوف عليه ، فلأنه فوت عليهم ولد أمة بغير استحقاق ، وأرادوا بكون القيمة للموقوف عليه أنها تكون لهم على جهة الملك ، لا على جهة الوقف على أصح القولين.

ومنها ـ أنه لا يجوز للواقف وطؤها على القول بالانتقال الى الموقوف عليه ، أو الانتقال الى الله سبحانه ، لخروج الملك عنه ، فيكون كالأجنبي يترتب على وطئه ما يترتب على الأجنبي ، وأما على القول ببقاء ملكه قالوا : فإنه لأحد عليه لشبهة الملك

٢٦٠