الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

والثالث كالوقف على مسجد في قرية صغيرة أو على مدرسة كذلك بحيث يحتمل انقطاع مصلحته كما يحتمل دوامها ، وفي حملها على أي الجهتين نظر ، من أصالة البقاء فيكون كالمؤبد ، والشك في حصول شرط انتقال الملك عن مالكه مطلقا الذي هو التأبيد ، فيحصل الشك في المشروط ، فلا نحكم إلا بالمتيقن منه ، وهو خروجه عن ملكه مدة تلك المصلحة ، ويبقى الباقي على أصلية البقاء على ملك مالكه ، انتهى.

ففيه أنه لا يخفى على المتأمل في هذا الباب أن أصل هذا الحكم لا نص عليه ، ولا دليل في الوقف على المصالح ، بل هو بمقتضى قواعدهم باطل غير صحيح ، لما تقدم أن من جملة شروط الموقوف عليه عندهم أن يكون موجودا له أهلية التملك والحكم بصحة الوقف على هذه الكيفية إنما استندوا فيه الى ان الوقف هنا في الحقيقة وقف على المسلمين ، وان كان باعتبار مصلحة خاصة ، وحينئذ فإذا كان الموقوف عليه انما هو المسلمون ، فإنه لا يلزم من بطلان تلك المصلحة بطلان الوقف ، بل يجري في غيرها من مصالحهم بأي نحو كانت تلك المصلحة الموقوف عليها أولا من الأنحاء التي ذكرها.

بقي الكلام في أنه هل يتعين الأقرب فالأقرب إلى تلك المصلحة أم لا؟ وجهان أحوطهما الأول ، هذا وعندي في أصل الحكم أعنى الوقف على المصالح اشكال ، حيث لم أقف على خبر دال على شي‌ء من أفراد هذا النوع ، فضلا عن أن يدل عليه بأمر كلي ، وغاية ما يتعلقون به ويدور في كلامهم الوقف على المساجد ، وقد عرفت أن ظاهر الصدوق المنع منه ، للخبرين المتقدمين ، وظاهر الخبرين المذكورين ذلك أيضا ، وبذلك يظهر أن تعميم الكلام في المصلحة المذكورة إلى شمول مثل شجر العنب والتين وعين الماء كما تقدم في كلام شيخنا المشار اليه مشكل ، والله العالم.

بقي فيما يتعلق بهذا المطلب أمور يجب التنبيه عليها ، أحدها : لو وقف على

٢٢١

بنى تميم أو بنى هاشم ، فالمشهور الصحة ، ويصرف إلى من يوجد منهم ، وقال ابن حمزة : لا يصح الوقف على بنى فلان ، وهم غير محصورين ، وما ذهب اليه ابن حمزة هو قول الشافعي ، معللا بالجهل في المصرف ، حيث انه متعذر استيعابهم وحصرهم وفي التذكرة أسند القول بالصحة إلى علمائنا ، مؤذنا بدعوى الإجماع عليه ، ورد ما ذكره ابن حمزة والشافعي بالأخبار والإجماع الدالين على صحة الوقف على الفقراء والمساكين والمؤمنين مع انتشارهم وعدم حصرهم.

أقول : ويدل عليه ما رواه في الكافي عن على بن محمد بن سليمان النوفلي (١) قال : «كتبت الى أبى جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان ابن فلان ، وهم كثير متفرقون في البلاد ، فأجاب : ذكرت الأرض التي وقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حصر البلد الذي فيه الوقف وليس لك أن تتبع من كان غائبا».

ورواه الشيخ مثله ، (٢) إلا أنه قال : من ولد فلان بن فلان الرجل يجمع القبيلة ، وهم كثير متفرقون في البلاد وفي ولد الواقف حاجة شديدة فسألوني أن أخصهم بهذا دون سائر ولد الرجل الذي يجمع القبيلة ، فأجاب عليه‌السلام كما تقدم.

وثانيها المشهور بينهم جواز الوقف على الذمي ، لأن الوقف تمليك فهو كإباحة المنفعة وقيل : لا يصح ، لأنه تشترط فيه نية القربة.

أقول : مرجع هذا الخلاف الى ما تقدم في الوقف على الكافر ، فان اشترط التقرب في الوقف بطل هذا الوقف ، وإلا فلا ، وقد مر تحقيق الكلام في هذا المقام.

وثالثها ـ المشهور أنه لو وقف ولم يذكر المصرف بطل الوقف ، لأن الوقف تمليك فلا بد من ذكر المالك ، كالبيع والهبة ونحوهما ، فلو قال : بعت داري

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٨ ح ٣٧.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٣٣ ح ١٠ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٨ ح ١.

٢٢٢

بكذا أو وهبتها ولم يذكر المشتري ولا الموهوب بطل إجماعا.

أقول : ويؤيده ما تقدم ذكره من أن الوقف من العقود الناقلة للملك ، فلا بد فيه من دليل يدل على ما يحصل به النقل ، والعقد بهذه الكيفية لم يقم دليل على كونه ناقلا ، وبالجملة بقاء الملك حتى يقوم دليل شرعي على نقله أقوى دليل في المقام.

ونقل عن ابن الجنيد الصحة ، قال : ولو قال : صدقة لله ولم يذكر من تصدق بها عليه جاز ذلك ، وكان ذلك في أهل الصدقات الذين سماهم الله لأن الغرض من الوقف الصدقة والقربة ، وهو متحقق ، وأورد عليه بأن الغرض من الوقف ليس مطلق القربة بل القربة المخصوصة ، أقول : والأظهر في رده هو ما قدمنا ذكره.

ورابعها ـ المشهور أنه إذا وقف على أولاده أو اخوته أو ذوي قرابته ولم يفضل بعضا على بعض ، فان مقتضى الإطلاق الاشتراك والتساوي بين الذكور والإناث ، والأقرب والأبعد ، والوجه في ذلك هو أن كل من تناوله أحد هذه الألفاظ ونحوها دخل في الحكم المذكور ، والاشتراك يقتضي التسوية ، وبعض هذه الألفاظ وان كان مخصوصا بالذكور كالأخوة مثلا إلا أنه لا خلاف في دخول الإناث تبعا ، كما في سائر الأحكام الشرعية التي مورد الاخبار فيها الذكور ، الا مع قيام دليل على التخصيص ، ونقل عن ابن الجنيد هنا أنه مع الإطلاق يكون للذكر مثل حظ الأنثيين ، حملا على الميراث ، وكذا لو قال : لورثتي وفيه أنه قياس مع الفارق.

المطلب السادس في اللواحق :

وفيه مسائل الأولى ـ اختلف الأصحاب (رحمهم‌الله) في أن الوقف هل ينتقل عن ملك الواقف أم لا؟ وعلى الأول فهل ينتقل إلى الموقوف عليه أم إلى الله تعالى؟ أم يفصل في ذلك بين ما كان الوقف لمصلحة أو جهة عامة؟ فإنه ينتقل الى الله عزوجل ، وما كان الموقوف عليه ممن يصح تملكه ، فإنه ينتقل إليه ، فالكلام هنا يقع في مقامين الأول ـ أنه هل ينتقل الموقوف بالوقف عن ملك الواقف أم لا؟ المشهور الأول ، ونقل عن ظاهر أبى الصلاح وأسنده في المسالك

٢٢٣

أيضا إلى اختيار جمع من العامة أنه يبقى على ملك الواقف ، احتج الأولون بأن الواقف يزيل التصرف في العين والمنفعة ، فيزيل الملك كالعتق ، ولأنه لو كان باقيا على ملكه لرجعت إليه قيمته.

احتج الآخرون بقوله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) «حبس الأصل وسبل الثمرة». وسيأتي أن التحبيس على الآدمي لا يخرج عن الملك ، ولجواز إدخال من يريد مع صغر الأولاد ، ولو انتقل لم يجز ذلك ودليل الصغرى قد تقدم ، والكبرى ظاهرة ، وأجيب عن الأول بأن المراد بتحبيس الأصل أن يكون محبوسا على ملك الموقوف عليه ، وما في معناه لا يباع ولا يوهب ولا يورث ، والملك إنما زال على هذا الحد من الشرائط ومطلق الحبس لا يدل على عدم الخروج ، فان منه ما يخرج عن الملك ، مع أن هذا الحبس ليس هو ذلك ، لأنه قسيمه ، فلا يكون قسما منه ، بل هذا حبس أقوى.

وعن الثاني بأن إدخال من يريد من أولاده ان سلم ، فبدليل من خارج.

أقول : لا يخفى على من لاحظ الأخبار المتقدمة سيما أخبار صدقاتهم (٢) عليهم‌السلام ووقوفهم أنه لا يرتاب في دلالتها على خروج الوقف عن ملك الواقف ، وصيرورته كالأجنبي خصوصا ما دل على نصب القيم بذلك الوقف ، وان مورد الصدقة فيها التي هي عبارة عن الوقف كما عرفت هو العين بأن قصد المتصدق بها ابتغاء وجه الله سبحانه ، بمعنى أنه أخرج هذه العين عن ملكه الى ملك أولئك الموقوف عليهم ابتغاء وجه الله ، ويؤكده قوله (٣) عليه‌السلام في بعضها صدقة بتلا بتا. أي منقطعة عن صاحبها الأول ، ومبانة عنه ، فان البتل لغة القطع ، والبت أيضا بمعناه ، وفي حديث صدقة الكاظم (٤) عليه‌السلام وفي حديث صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام بأمواله هذه

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١١ الباب ٢ ح ١.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٧ باب صدقات النبي (ص) وفاطمة والأئمة (عليهم‌السلام) ووصاياهم. الوسائل ج ١٣ ص ٣١١ الباب ١٠.

(٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٥٤ ذيل ح ٨ وص ٤٩ ح ٧ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣١١ الباب ١٠.

٢٢٤

صدقة واجبة بتلة حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة يبتغى بها وجه الله الى آخره ، وبتلة منقطة عن صاحبها.

وفي صحيح محمد بن مسلم والحلبي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قالا سألناه عن صدقة رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وصدقة فاطمة عليها‌السلام قال : صدقتها لبني هاشم وبنى المطلب». واللام للملك ، ونحوه رواية أبي مريم ، وبالجملة فالظاهر أنه لا خلاف في ضعف القول المذكور ، والله العالم.

الثاني ـ أنه على تقدير الانتقال هل ينتقل الى الموقوف عليه أم الى الله سبحانه ، أم التفصيل؟ أقوال : أشهرها الأول ـ قال الشيخ في المبسوط : إذا وقف وقبض زال ملكه عنه على الصحيح ، وملكه الموقوف عليه ، واختاره ابن إدريس وغيره ، ونقل ابن إدريس عن بعضهم أنه ينتقل الى الله ، وحكاه الشيخ في المبسوط عن قوم ، والقول بالتفصيل اختيار شيخنا الشهيد الثاني في المسالك.

استدل للقول الأول ، بأنه مال لثبوت أحكام المال فيه ولهذا يضمن بالقيمة ، فكان ملكا كأم الولد ، وبهذا النحو وان كان مجملا استدل المحقق في الشرائع ، وأوضحه في المسالك بأنه مال مملوك لوجود فائدة الملك فيه ، وهي ضمانه بالمثل والقيمة ، وليس الضمان للواقف ولا لغيره ، فيكون للموقوف عليه.

وأورد عليه بأنه ينتقض ذلك ببواري المسجد والأمة ، فإنها تضمن بالقيمة ، وملكها لله تعالى لا للناس.

واحتج القائل بالقول الثاني بأن الوقف ازالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة ، فانتقل الملك الى الله تعالى كالعتق ، ولأنه ممنوع من بيعها فلو ملكها لكان له سبيل إلى إخراجها عنه ، لأن «الناس مسلطون على أموالهم» (٢). وأجاب في المختلف بظهور الفرق بين العتق والوقف ، قال : لأن العتق إخراج عن المالية

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٨ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٤ ح ٨.

(٢) البحار ج ٢ ص ٢٧٢ ح ٧.

٢٢٥

بالكلية ، وازالة التسلط عن العبد بالنسبة الى كل أحد والمنع من البيع ، لا يقتضي الخروج عن الملك ، كأم الولد.

وأما القول بالتفصيل فاستدل عليه في المسالك قال : بعد ان اختار القول بالانتقال عن الواقف لكن هذا إنما يتم في الموقوف عليه المعين المنحصر ، أما لو كان على جهة عامة أو مسجد أو نحوه فالأقوى أن الملك فيه لله تعالى لتساوى نسبة كل واحد من المستحقين إليه ، واستحالة ملك كل واحد ، أو واحد معين ، أو غير معين للإجماع ، واستحالة الترجيح ، ولا المجموع من حيث هو مجموع ، لاختصاص الحاضر به ، انتهى.

أقول : لا يخفى على من راجع الاخبار وقطع النظر عن كلامهم فان المستفاد منها أنه متى كان الموقوف عليه موجودا منحصرا فإنه ينتقل الملك إليه ، ولهذا دلت على اشتراط قبضه ، أو قبض وليه ، ليتم بذلك الملك ، ويمتنع الرجوع فيه كما تقدمت الأخبار به ، ومتى كان الموقوف عليه جهة عامة كالفقراء أو مصلحة كالمساجد فإن غاية ما يفهم منها هو أنه بالوقف يخرج من ملك الواقف ، وأما أنه يصير إلى الله سبحانه أو غيره ، فلا دلالة في شي‌ء من الأخبار عليه ، وإنما يدل على أنه بعد الوقف وخروجه عن ملك الواقف يجب إبقاء العين ، ولا يجوز التصرف فيها ببيع ولا هبة ولا ميراث ولا نحو ذلك من الأمور الموجبة لإخراجها عما صارت إليه وصرف حاصلها في تلك الجهة ، أو المصلحة المعينة.

وأما أنه يشترط القبض فيها كما هو المشهور من أن القبض شرط في صحة الوقف مطلقا ، فيجب القبض هنا من القيم الذي ينصبه الواقف ، أو الحاكم الشرعي أو غير ذلك ، فلا دليل عليه في الأخبار ، ومورد القبض فيها إنما هو فيما إذا كان الموقوف عليه موجودا معينا محصورا ، على أن المراد من كونه في هذه الصورة ملكا لله كما صرح به في المسالك إنما هو الكناية عن عدم انتقاله الى أحد من الآدميين.

٢٢٦

قال : والمراد بكون الملك لله تعالى انفكاك الموقوف عن ملك الآدميين واختصاصهم ، لا كونه مباحا كغيره مما يملكه الله تعالى ، انتهى وهو يرجع الى ما ذكرناه.

وفي حديث وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام أمواله (١) على جهة الطاعات والقربات وصلة الرحم بعد أن جعل الولي القيم بذلك الحسن ثم الحسين عليهما‌السلام ثم من يختاره الحسين عليه‌السلام ما صورته «وأن يشترط على الذي يجعله إليه ان يجعل المال على أصوله ، وينفق الثمرة حيث يأمره به من سبيل الله ، وذوي الرحم من بنى هاشم وبنى المطلب القريب والبعيد لا يباع منه شي‌ء ، ولا يوهب ، ولا يورث» الحديث ، وليس فيه كما ترى أزيد من أنه بعد الوقف يجب إبقاء أصوله على ما هي ، ولا يتصرف فيها بشي‌ء من هذه التصرفات ونحوها ، ويصرف الحاصل في الوجه الذي عينه ، ولا دلالة فيه على الانتقال لأحد ، وهو ظاهر في الرد على القول المشهور من أنه ينتقل في هذه الصورة إلى الموقوف عليه ، وليس في الخبر أيضا على طوله ما يشعر بأنه أقبضه أحدا ، بل ظاهره أنه مدة حياته عليه‌السلام كان في يده يصرفه في الوجوه المذكورة ، وبعد موته فوض الأمر فيه الى الحسن ثم الى الحسين عليهما‌السلام ثم من ذكره في الخبر ، ولو كان القبض في هذه الصورة شرطا في صحة الوقف لوقعت الإشارة إليه في الخبر ، واحتمال أنه قبضه بالولاية العامة وان أمكن ، إلا أن الظاهر بعده ، إذ هو فرع وجود الدليل على اشتراط القبض في هذه الصورة ونحوها ، وقد عرفت أنه لا دليل على ذلك فيها سوى الصورة المتقدمة.

فروع :

الأول : قال في المختلف : ان قلنا بأن الوقف ينتقل الى الموقوف عليه ثبت بشاهد ويمين ، لأن المقصود منه المال ، وان قلنا انه ينتقل الى الله تعالى لم يثبت

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٩ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٢ ح ٤.

٢٢٧

بالشاهد واليمين ، كالعبد لو ادعى العتق ويحتمل عندي ثبوته بالشاهد واليمين ، وان لم ينتقل إليه ، لأنه يحلف لتحصيل غلته ومنفعته ، فلما كان المقصود من الوقف المنفعة ، وهي مال يثبت بالشاهد واليمين ، بخلاف حرية العبد ، لان المقصود منها تكميل الأحكام ، انتهى.

أقول : ما ذكره جيد فيما إذا كان الموقوف عليه معينا محصورا ، أما لو كان الموقوف عليه الجهة أو المصلحة كما هو مقتضى القول بالتفصيل الذي شرحناه ، فإشكال لما عرفت من أن غلة الوقف هنا لا مالك لها معينا ، ليقيم الشاهد ، ويحلف معه ، سيما إذا كان الوقف لمسجد ونحوه ، والقيم لا تعلق له بذلك الا من حيث صرف الغلة وحفظ الأصول ونحو ذلك ، ولأنه غير مالك للغلة ، إذ هو غير داخل في الموقوف عليه ، والله العالم.

الثاني : قالوا : لو أعتق العبد الموقوف عليه لم يصح ، لتعلق حق البطون به قيل : في توجيهه لما كان الحكم بانتقال الملك الى الموقوف عليه ربما أوهم جواز تصرفه في العين بالعتق وغيره ، والأمر ليس كذلك ، نبهوا على منعه أيضا ، وعللوا بأنه وان كان مالكا الا أن الحق غير منحصر فيه ، بل مشتركا بينه وبين ما بعده من البطون ، وان لم تكن موجودة بالفعل ، فتصرفه فيه بالعتق يبطل حقهم.

أقول : لا يخفى أن الأخبار قد تكاثرت بأن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث بعد أنه عقد صيغة الوقف ، والانتقال عن الواقف يجب إبقاؤه على حاله ، لا يتصرف فيه بما يوجب النقل بأي وجه كان ، وهذه الألفاظ إنما خرجت مخرج التمثيل ، والمراد إنما هو ما ذكرناه كما يشير اليه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام فيما تقدم قريبا «وأن يجعل المال على أصوله ، وينفق الثمرة حيث أمره ، الى أن قال : لا يباع منه شي‌ء ولا يوهب ، ولا يورث وفي آخر لاتباع ولا تورث ، ولا توهب ، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

وفي ثالث لاتباع ولا توهب حتى يرثها وارث السموات والأرض.

٢٢٨

وفي رابع حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض» والمراد بجعل المال على أصوله يعني جعله على الوجه الذي عينه الواقف من كونه لا يتصرف فيه بشي‌ء من الوجوه الناقلة ، الى أن يرثه وارث السموات والأرض ، ولا ريب أن العتق تصرف ناقل ، ومخرج عما عينه الواقف ، سواء كان الوقف ـ بعد الموقوف عليه ـ راجعا الى البطون أو أحد الجهات العامة والمصالح ، وبه يظهر ما في العبارة المتقدمة من الحزازة ،

الثالث : لو كان العبد مشتركا بين اثنين بالمناصفة ، فوقف أحدهما نصفه ، ثم أعتق الآخر نصفه فهل يسرى عليه ويعتق أجمع ، أم لا؟ قالوا : يبنى على أن الملك في الوقف هل بقي للواقف ، أم انتقل الى الله تعالى ، أم إلى الموقوف عليه؟ فعلى الأولين لا سراية لأنه على تقدير عدم انتقاله عن الواقف في معنى إعتاقه ، وهو ممتنع أيضا لما يستلزم من إبطال حق الموقوف عليه ، وعلى تقدير انتقاله الى الله تعالى يكون في معنى التحرير الذي لا يقبل التحرير ثانيا.

وأما على تقدير انتقاله الى الموقوف عليه فان الأكثر على عدم السراية أيضا ، قيل : بل كاد أن يكون إجماعا ، وعلل بأن العتق لا ينفذ في الحصة الموقوفة مباشرة ، كما تقدم ، فبالأولى أن لا ينفذ فيها سراية.

وقيل : بالسراية والفرق بين المباشرة والسراية بما هو مذكور في كلامهم ، ولهم في المقام كلام لا فائدة في التعرض لذكره ، فإنه لا يخفى على من لا حظ أخبارهم عليهم‌السلام في المقام ، أن جميع ما أطالوا به من الكلام والنقض والإبرام كله نفخ في غير ضرام لأنها قد صرحت كما تقدم ذكره بأنه بعد عقد الوقف الجامع لشرائط الصحة يجب إبقاء العين الموقوفة ، بمعنى أنه لا يتصرف فيها بنقل ، وانما المتصرف في حاصلها بصرفه على من وقف عليه من بطون أو جهة أو مصلحة ، وأنه يجب إبقاء العين على الوجه المذكور الى أن يرثها الله تعالى وارث السموات والأرض ، وهو

٢٢٩

كناية الى التأبيد إلى يوم القيمة ، وهو معنى الخبر النبوي (١) «حبس الأصل وسبل الثمرة». ولا معنى لحبسه إلا عدم التصرف فيه بوجه ناقل عما هو عليه بعد الوقف ، ونحوه قول أمير المؤمنين عليه‌السلام المتقدم ، ويجعل المال على أصوله وينفق الثمرة» وبذلك يظهر لك أن هذا الخلاف والتفريع على ما ذكروه من تلك الأقوال التي قد عرفت خروج أكثرها عن جادة الاعتدال كله تطويل بغير طائل والله العالم.

الرابع : قالوا : مما يتفرع على الخلاف المتقدم نفقة العبد الموقوف ، فان جعلناه للموقوف عليه ، كما هو أحد الأقوال ، ففي نفقته وجهان : بل قولان : أحدهما للشيخ في المبسوط ، وهو أنها في كسبه ، لأن نفقته من شروط بقائه ، كعمارة العقار وهي مقدمة على حق الموقوف عليه ، ولأن الغرض بالوقف انتفاع الموقوف عليه ، وهو موقوف على بقاء عينه ، وانما يبقى بالنفقة فيصر كأن قد شرطها من كسبه.

والثاني ـ والظاهر أنه الأقرب وقواه في المسالك وهو اختيار العلامة في المختلف وغيره أيضا ، وجوب النفقة على الموقوف عليه ، لأنه ملكه ، والنفقة تابعة للملك.

أقول : ويؤيده أن منافعه مستحقة للموقوف عليه بالوقف ، وربما أوجب سعيه في كسب النفقة وتحصيلها تفويت المنافع المذكورة ، فلا ثمرة للوقف حينئذ وما تقدم من الاستدلال على كونها في كسبه بأن النفقة من شروط بقائه مسلم ، ولكن لا يستلزم ذلك أن يكون من كسبه ، بل الواجب على الموقوف عليه ذلك للغرض المذكور.

وان قلنا بكونه لله عزوجل فإنهم بنوه على أن نفقة مستحق المنافع كالأجير الخاص والموصى بخدمته على مستحقها ، أم لا؟ فان جعلناها عليه ، فهي هنا على الموقوف عليه أيضا ، وإلا ففي كسبه ، فان تعذر ففي بيت المال ، وان قلنا بكونه للواقف فإشكال.

__________________

(١) المستدرك ج ٢ ص ٥١١ الباب ٢ ح ١.

٢٣٠

قال في المسالك : وعلى القول بكون المالك هو الواقف ، فالنفقة على الموقوف عليه على الأول ، وعلى الواقف على الثاني ، انتهى.

وهو غير ظاهر المراد ، ولعل ذلك لغلط في العبارة المذكورة وبالجملة حيث كانت المسئلة خالية من النص فللتوقف فيها مجال ، إلا أنه يمكن الكلام في ذلك جريا على قواعدهم بأن يقال : انك قد عرفت آنفا أن الأظهر هو انتقال الوقف الى الموقوف عليه ان كان معينا ، وان كان جهة أو مصلحة فهو غير مملوك لأحد ، وهو الذي عبروا عنه بأنه ملك لله سبحانه ، وعلى الأول فإن مقتضى القول بالملك وجوب النفقة على المالك كما هو أحد القولين المتقدمين ، وأشهرهما وأظهرهما.

وعلى الثاني فإن الظاهر أن النفقة تكون في كسبه مقدمة على حق الموقوف عليه ، فان قصر كسبه ففي بيت المال ان كان ، وإلا وجبت كفاية على المكلفين كغيره من المضطرين ، وأما البناء على أن نفقته على مستحق المنافع كما تقدم ، فالظاهر بعده ، لان مستحق المنافع قد لا يكون له مال ، من أجل ذلك كان أحد الأقوال فيه أن نفقته على نفسه ، وليست على المستأجر كما تقدم تحقيق القول فيه في كتاب الإجارة على أن البناء على نقل ذلك لا يخرج عن القياس الخارج عن أصول الشريعة.

ولو مات العبد فمؤنة تجهيزه كنفقته حال حياته ، ولو كان الوقف عقارا فإنهم صرحوا بأن نفقته حيث شرط الواقف ، فان انتفى الشرط ففي غلته مقدمة على الحق الموقوف عليه ، فان قصرت لم يجب الإكمال.

أقول : ويدل على الإخراج من الغلة مقدما على حق الموقوف عليه قول الكاظم عليه‌السلام (١) في حديث وقف أرضه المتقدم ذكره ، «يقسم وإليها ما أخرج الله من غلتها بعد الذي يكفيها من عمارتها ، ومرافقها بين ولد موسى الى آخره». ولو عدمت الغلة لخراب الوقف واضمحلاله لم تجب عمارته ، بخلاف الحيوان لوجوب صيانة روحه.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٤ ح ٥.

٢٣١

ولو صار العبد الموقوف مقعدا أو عمى أو جذم انعتق ، وبطل الوقف وسقطت عنه الخدمة ، وقضية ذلك سقوط النفقة عن مولاه ، لأن وجوب النفقة عليه من حيث أنه مملوك له ، والآن قد صار حرا ، وعلى هذا فنفقته مع عدم وجود باذل من الواجبات الكفائية على المسلمين كغيره من المضطرين ، والموقوف عليه من الجملة ، فالوجوب شامل له ، وان تغاير الوجه والله العالم.

المسئلة الثانية : لو جنى العبد الموقوف على غيره عمدا أو خطأ أو جني عليه فهنا مقامات ثلاثة الأول ـ أن يجني عمدا ولا خلاف في أنه يلزمه القصاص وان استلزم إبطال الوقف عمدا ، بما دل على وجوب القصاص من الجاني.

قال في المسالك : وهو موضع وفاق ، ثم انه ان كانت الجناية دون النفس قالوا : يبقى الباقي وقفا لوجود المقتضي ، فإن الوقف لا يبطل بتلف بعض الموقوف وهو ظاهر لا اشكال فيه ولا خلاف ، وان كانت الجناية النفس ، فان اختار الولي القصاص كان ذلك له ، ولا إشكال أيضا ، وان اختار الولي الاسترقاق الذي هو أحد فردي الحقين المخير فيهما الولي فيما إذا كان الجاني عمدا عبدا ، فهل له ذلك أم لا؟ قولان : فقيل : بالأول ، لأن المجني عليه له إبطال الوقف وإخراجه عن ملك الموقوف عليه بالقتل قطعا ، والعفو عنه أمر مطلوب شرعا ، وراجح قطعا ، وفي استرقاقه جمع بين حق المجني عليه ، وفضيلة العفو ، فيكون أولى من القتل ، والى هذا القول مال في المسالك فقال : انه الأقوى.

وقيل : بالثاني وبه جزم المحقق في الشرائع والعلامة في الإرشاد والتحرير وفي القواعد بعد أن أفتى بذلك قال : على اشكال ، وعلل القول المذكور بأن الوقف يقتضي التأبيد ما دامت العين باقية ، وهو ينافي استرقاقه ، لاستلزام بطلان الوقف مع بقاء عينه وخروجه عن الوقف في بعض الموارد لدليل خارج ، لا يقتضي التعدي بحيث لا دليل.

أقول : ومن تعارض هذين التعليلين استشكل في القواعد ، إلا أن شيخنا الشهيد الثاني في المسالك حيث اختار القول الأول أجاب عن هذا التعليل ، بأن

٢٣٢

التأبيد الواجب في الوقف إنما هو من حيث لا يطرء عليه ما ينافيه ، وهو موجود هنا فيما هو أقوى من الاسترقاق ، انتهى.

وبالجملة فالمسئلة لخلوها من النص محل اشكال ، لما عرفت من عدم الركون الى أمثال هذه التعليلات ، في تأسيس الأحكام الشرعية ، فكيف مع تعارضها ، الا أنه يمكن أن يؤيد ما ذكره شيخنا المتقدم بإطلاق الأخبار الواردة في المسئلة.

ومنها ما رواه في الكافي والتهذيب عن أبان بن تغلب (١) عمن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إذا قتل العبد الحر دفع الى أولياء المقتول ، فان شاؤا قتلوه ، وان شاؤا حبسوه ، وان شاؤا استرقوه يكون عبدا لهم». وبهذا المضمون أخبار آخر هي المستند في أصل المسئلة ، والتقريب فيها هو أن العبد المذكور في هذه الأخبار شامل للموقوف والمطلق ، فإنه بالوقفية لم يخرج عن العبودية ، وقد دلت على أن الحكم في العبد القاتل عمدا التخيير بين القتل والاسترقاق.

نعم ظاهر كلامهم يدعون الخروج عما دلت عليه هذه الأخبار بالنسبة إلى جواز اختيار الاسترقاق بالمعارضة ، بأن الوقف يقتضي التأبيد ما دامت العين موجودة ، فلا يجوز الاسترقاق وإلا للزم بطلان الوقف مع بقاء عينه ، وغاية ما يلزم من هذه المعارضة ، أنه قد تعارض هنا عموم الأخبار الدالة على جواز استرقاق العبد القاتل عمدا أعم من أن يكون وقفا أو طلقا ، وعموم الأخبار الدالة على أن الوقف يقتضي التأبيد ما دام الموقوف موجودا أعم من أن يكون عبدا قاتلا أو غيره ، وتخصيص أحد العمومين بالآخر يحتاج الى دليل ، فمن أين يرجح ما ادعوه من تخصيص العموم الأول بالثاني دون العكس ، بل يمكن ترجيح العكس ، باتفاقهم على الخروج عن العموم الثاني باختيار جواز القتل لهذه الأخبار ، وهي كما دلت على ذلك دلت على جواز اختيار الاسترقاق ، فالواجب تخصيص العموم الثاني بالأول ، والله العالم.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٠٤ ح ٦ ، التهذيب ج ١٠ ص ١٩٤ ح ٦٣ ، الوسائل ج ١٩ ص ٧٣ ح ٢.

٢٣٣

الثاني ـ أن تكون الجناية خطأ وقد اختلف كلامهم في هذا المقام فقال الشيخ وجماعة : بأنها تتعلق بمال الموقوف عليه ، لتعذر استيفائها من رقبته ، إذ لا يتعلق الأرش إلا برقبة من يباع ، والبيع هنا ممتنع من حيث الوقف ، وحق الموقوف عليه ، فالواجب عليه أن يفديه بالأرش.

قال في المبسوط : إذا جنى العبد الموقوف جناية توجب المال لم يتعلق إلا برقبة من يباع فيه ، فأما رقبة من لا يباع فالأرش لا يتعلق بها ، إذا ثبت هذا فمن قال : أن الملك ينتقل اليه ، فهو في ماله ، ومن قال : ينتقل الى الله قيل : من مال الواقف ، لأنه الذي منع الرقبة من تعلق الأرش بها ، وقيل : يكون في بيت المال كالحر ، انتهى.

وذهب المحقق في الشرائع إلى أنه يتعلق بكسبه ، قال : لأن المولى لا يعقل عبدا ، ولا يجوز إهدار الجناية ، ولا طريق إلى عتقه ، فيتوقع ، وبهذا القول صرح العلامة في التحرير والمختلف.

قال في المسالك : وهو الأقوى ، وهو اختيار الشهيد في الدروس ، معللا بما ذكره المحقق بأن كسبه أقرب الأشياء الى رقبته ، فإذا تعذر تعلقه برقبته تعلق بما هو أقرب إليه ، واحتمل في المختلف تعلقها برقبته ، فيباع فيها كما يقتل في العمد ، والبيع أدون من القتل ، وهذا كله مبني على انتقال الملك الى الموقوف عليه.

أما على القول بانتقاله الى الله ، أو القول ببقائه على ملك الواقف كما تقدم نقله عن أبى الصلاح وبعض العامة ، فإنهم قالوا : يحتمل تعلق أرش الجناية بالوقف ، لأنه بوقفه منع من تعلق الأرش برقبته ، ويحتمل أن تكون في بيت المال كالحر المعسر.

أقول : قد عرفت من كلام الشيخ المتقدم أنه حكى هذين الاحتمالين قولين في المسئلة ، وزاد بعضهم على هذا التقدير احتمال التعلق بكسبه أيضا ، والظاهر

٢٣٤

أن احتمال تعلقها ببيت المال أو الكسب إنما هو بناء على القول بالانتقال الى الله ، وإلا فعلى القول بالبقاء على ملك الواقف ، فالمناسب هو كون ذلك على الواقف ، للتعليل المتقدم ، ثم انه على تقدير القول بتعلقها بكسبه فلو لم يكن كسوبا قال في المسالك : اتجه تعلق الجناية برقبته ، وجواز بيعه كما يقتل في العمد ، والبيع أدون من القتل.

أقول : قد تقدم في كلام العلامة احتمال التعلق بالرقبة ، وجواز البيع مطلقا ، ومن هنا أورد الشهيد (رحمة الله عليه) في شرح الإرشاد ، وعلى عبارة الشيخ المتقدم الدالة على تعذر استيفاء الجناية من رقبته ، لعدم صحة بيعه ، بأن هذا إنما يتم لو لم يكن على منحصر ، وكان المنحصر موسرا ، وقد تلخص من ذلك احتمال التعلق بالرقبة مطلقا ومع العجز عن الكسب ، ومع كون الموقوف عليه منحصرا معسرا ، هذا حاصل كلامهم في المقام ، والمسئلة محل توقف واشكال ، والله العالم.

الثالث ـ لو جنى عليه فان كانت جناية توجب القصاص كأن يقتله عبد مثله ، فظاهر كلامهم تفريع ذلك على الخلاف المتقدم ، فان قلنا بأن الملك ينتقل الى الموقوف عليه ، فإنه يصير القصاص اليه كما لو كان المقتول عبده ، ولو قلنا بانتقاله الى الله تعالى مطلقا أو على التفصيل المتقدم ، فإنه يكون ذلك الى الحاكم الشرعي ، لأنه ولي هذه المصالح المتعلقة به سبحانه ، ولو قلنا ببقائه على ملك الواقف كان حق القصاص إليه ، وقد عرفت فيما تقدم أن الأصح هو التفصيل ، بأنه ان كان الموقوف عليه منحصرا ، فإنه للموقوف عليه ، وان كان على جهة عامة أو مصلحة عامة فإنه لله سبحانه ، وعلى هذا يترتب القصاص هنا ، فيقال : بكونه للموقوف عليه على الأول والحاكم على الثاني ، وأما إذا أوجب القتل الدية كأن يقتل خطأ أو أخذت صلحا أو يكون القاتل حرا ، أو فيه شي‌ء من الحرية ، أو أوجبت الجناية أرشا كقطع يده مثلا ، وملخصه أن تكون الجناية موجبة للمال ، فهل يكون ذلك

٢٣٥

للموجودين من الموقوف عليهم وقت الجناية ، أو أنه يشترى به عبد أو بعض عبد يكون وقفا؟ قولان.

قال في المبسوط : لو جني على العبد الموقوف عليه ، ووجبت قيمته ، قال قوم : يشترى بها عبد آخر يقوم مقامه ، سواء قيل : انتقل ملكه الى الله ، أو إليه ، لأن حق البطون الأخر تعلق برقبة العبد ، فإذا مات أقيم غيرها بقيمتها مقامها ، وفيهم من قال : انتقل القيمة إليه ، وهو الأقوى ، لأنا قد بينا أن ملكه له ، والوقف لم يتناول القيمة ، والأول قول من قال : ينتقل الى الله ، انتهى.

وظاهره أنه على تقدير القول بانتقال الملك الى الموقوف عليه كما هو مذهبه فإنه يصير المال اليه ، وعلى تقدير القول بأنه ينتقل الى الله ، فإنه يشتري به عبد آخر يقوم مقامه ، ويكون وقفا.

وقال العلامة في المختلف : والمعتمد اقامة غيره مقامه ، لعدم اختصاص البطن الأول بملكه ، ولهذا يملك البطن الثاني عن الواقف عن البطن الأول ، والوقف ان لم يتناول القيمة لكنها بدل عن العين ، انتهى.

وهو صريح في اختيار القول الثاني ، كما أن كلام الشيخ صريح في اختيار الأول ، وهو اختيار المحقق في الشرائع أيضا ، والعلامة في التحرير ، وجعل الثاني احتمالا ، وظاهر الشهيد في الدروس ، وشرح الإرشاد التوقف في المسئلة ، حيث اقتصر على نقل القولين ، ولم يرجح شيئا منهما في البين ، وهو في محله.

وتوضيح أدلة القولين زيادة على ما تقدم ، أما القول الأول فلأن الدية عوض رقبته ، والرقبة ليست ملكا تاما للموجودين ، بل للبطون اللاحقة منها حق وان لم يكن بالفعل ، لكنه بالقوة القريبة منه ، لحصول السبب والمعدات للملك ، ولم يتخلف منها سوى وجودهم ، وحينئذ فلا سبيل إلى إبطال حقهم ، فيجب أن يشترى به عبدا ، وبعض عبد يكون وقفا ، إبقاء للوقف بحسب الإمكان ، وصيانة له عن الابطال ، وتوصلا الى غرض الواقف ، ولأن الوقف تابع لبقاء المالية ، ولهذا

٢٣٦

يجب الشراء بقيمته ـ حيث يجوز بيعه ـ يكون وقفا.

وأما الثاني فوجهه أن الوقف ابتداء متعلق بالعين ، لأن موضوعه العين الشخصية لا غير وقد بطلت بإتلافه ، فامتنع أن يكون لمن سيوجد من البطون فيه حق ، لأنهم حال الحياة غير مستحقين ، ووقت صيرورتهم مستحقين قد خرج التالف عن كونه وقفا ، هكذا قرره في المسالك.

ثم أنه أورد على الدليل الثاني حيث أنه اختار القول الأول ما لفظه : ويضعف بأن القيمة بدل عن العين ، فيملكها على حد ما يملكها ، ويتعلق بها حق من يتعلق حقه بها والوقف وان لم يتناول القيمة مطابقة ، لكنه يتناولها اقتضاء ، من حيث أنها قائمة مقام العين ، ولأن الوقف أقوى من حق الرهن ، وهو يتعلق بالقيمة ، والوقف أقوى ، وحينئذ فالأقوى الأول.

أقول : لو صح بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العقلية ، لاتجه قوة ما قواه (قدس‌سره) سيما أنه الأوفق بالاحتياط المطلوب في أمثال هذه المقامات الخالية من النصوص ، إلا أنك قد عرفت ما فيه في غير مقام مما تقدم.

بقي في المقام فوائد يحسن التنبيه عليها :

الاولى : ظاهر الأكثر أن محل الخلاف ما قدمنا ذكره من الجناية الموجبة للمال دية أو غيرها ، والظاهر من كلام المحقق في الشرائع أن محل الخلاف الدية خاصة ، وأما ما كان أرشا فإنه للموجودين من غير خلاف ، ومقتضى الدليل المتقدم يؤيد ما ذكره الأكثر.

الثانية : أنه على تقدير شراء عبد أو بعض عبد يكون وقفا ، فمن الذي يتولى ذلك؟ قال شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد : والأجود تفويضه الى الناظر الخاص ، فان تعذر فالناظر العام ، وان تعذر فالموقوف عليه ، قضية للشرط في النظر عموم حكم الحاكم على البطون ، وأولوية الموقوف عليه ، وفي المسالك

٢٣٧

أنه يبنى على الخلاف المتقدم ، فان حكمنا بالملك للموقوف عليه ، فان حق الشراء راجع إليه ، لأنه المالك لذلك ، والبطون اللاحقة تابعة لهم ويحتمل الحاكم نظرا الى حق البطون اللاحقة ، وأن للحاكم حق الولاية عليهم دون البطون المتقدمة وان حكمنا بكونه لله سبحانه فللحاكم لا غير ، وان حكمنا للواقف فالوجهان الأولان.

أقول : ولو تعذر الحاكم فالظاهر قيام عدول المؤمنين بذلك ، كما في غير هذا الموضع من الأمور الحسبية ، وقيل : بتقديم الموقوف عليه ، والأظهر الأول.

الثالثة : انه هل يصير وقفا بمجرد الشراء أم يفتقر إلى الصيغة؟ قال في المسالك : كل محتمل ، وان كان الأول أقوى ، لأنه بالشراء يصير بدلا عن العين كالرهن وعلى الثاني يباشره من يباشر الشراء أقول : وبالأول صرح شيخنا الشهيد (رحمة الله عليه) في الإرشاد.

الرابعة : قال في المسالك : لو لم تف القيمة بعبد كامل اشترى شقص بها امتثالا للأمر بحسب الإمكان ، ولو فضل منه فضل عن قيمة عبد اشترى معه ولو شقص آخر.

أقول : قوله امتثالا للأمر بحسب الإمكان لا أعرف له معنى في هذا المكان ، إذ لا نص كما عرفت ، إلا أن يكون المراد بناء على ما يدعونه قصد الواقف.

الخامسة : قال شيخنا الشهيد في شرح الإرشاد : والأقرب أن البدل يجب كونه من جنس الموقوف ، لأنه أقرب الى الوقف ، وكلام المصنف هنا يشمل الجنس وغيره ، وحينئذ تجب المساواة في الذكورة والأنوثة ، وان أمكن المساواة في باقي الصفات أو معظمها فهو أولى ، ولو قيل : في القيمي بضمانه بالمثل وأمكن له مثل ، كان هو الوقف ، واستغنى عن الشراء ، وان قيل : بالقيمة وأتى بعبد بالصفات أمكن وجوب قبوله ، لأن غاية القيمة صرفها في مثلة ، انتهى.

السادسة : هل للموقوف عليهم العفو عن القصاص أو عن الأرش أو الدية؟

٢٣٨

قال في المسالك : يبنى على أن البطون اللاحقة هل تشاركهم فيه أم لا؟ فعلى الأول ليس لهم العفو ، وعلى الثاني لهم ، لانحصار الحق فيهم.

السابعة : قال : في المسالك : على تقدير المشاركة لو عفى الأول فللثاني أن يستوفي ، لوجود سبب الاستحقاق من حين الجناية وان لم يثبت بالفعل ، مع احتمال العدم ، لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو ، وعلى تقدير جواز استيفاء الثاني هل له القصاص كالأول ان كانت الجناية توجبه أم يختص بالدية؟ وجهان : من مساواته للأول في الاستحقاق ، ومن تغليب جانب العفو بحصوله من الأول ، والأقوى الأول.

أقول : لا يخفى أن قضية المشاركة ـ وان كان أخذ حق أحد الشريكين موقوفا على وجوده ـ هو أن حكم الثاني كالأول في كل من الأمرين المذكورين ، قوله في الاحتمال المذكور «لتجدد استحقاقهم بعد سقوط الحق بالعفو» مدفوع بأن الساقط انما هو حق أولئك العافين ، لا حق هؤلاء المتأخرين ونحوه قوله في الثاني لتغليب جانب العفو بحصوله من الأول ، فإن الحاصل من الأول انما هو بالنسبة إليه ، لا الى شريكه ، وهو ظاهر والله العالم.

المسئلة الثالثة : المشهور بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) أنه إذا وقف في سبيل الله انصرف الى كل ما يكون وصلة الى الثواب ، لأن السبيل بمعني الطريق فيكون المراد كلما يكون طريقا الى حصول الثواب منه سبحانه ، ويكون وسيلة إلى رضوانه ، وكذا لو قال : في سبيل الله وسبيل الثواب وسبيل الخير ، فان مرجع الثلاثة إلى أمر واحد ، وهو سبيل الله بالمعنى المتقدم.

وخالف الشيخ في أحد قوليه في الموضعين ، فقال. في الأول ان سبيل الله الغزاة المقطوعة ، دون العسكر المقاتل على باب السلطان ، والحج والعمرة يقسم أثلاثا فخص السبيل بهذه الثلاثة ، وعن ابن حمزة أن سبيل الله ، المجاهدون.

وقال في الثاني : بقسمته أثلاثا فثلث للغزاة والحج والعمرة ، وهو سبيل الله ، وثلث الى الفقراء والمساكين ، ويبدأ بأقاربه ، وهو سبيل الثواب ، وثلث إلى خمسة

٢٣٩

أصناف من الذين ذكرهم الله في آية الصدقة ، وهم الفقراء ، والمساكين ، وابن السبيل ، والغارمون ، والرقاب ، ولا يخلو من تحكم ، فإنا لم نقف له على دليل على هذا التفصيل.

أقول : وقد تقدم في كتاب الزكاة (١) في معنى سبيل الله فمما تدل على القول المشهور رواية علي بن إبراهيم (٢) في تفسيره عن العالم عليه‌السلام قال : وفي سبيل الله قوم يخرجون الي الجهاد ، وليس عندهم ما يتقوون به ، أو قوم مؤمنون ليس عندهم ما يحجون به ، أو في جميع سبيل الخير ، فعلى الامام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج والجهاد ،. وأشرنا ثمة أيضا الى ان الظاهر من بعض الروايات أن تفسير السبيل بالجهاد ، انما كان تقية ، حيث أن مذهب العامة ذلك ، والله العالم.

المسئلة الرابعة : إذا وقف على مواليه ، فان انحصرت الموالي في الأعلى أو الأسفل فلا اشكال ، والمراد بالأعلى هم المعتقون له ، بأن باشروا العتق أو انتهى إليهم ولاية العتق ، والأسفل هم من أعتقهم بعد عتقه كذلك ، فان اجتمعوا فان كانت ثمة قرينة تدل على إرادة أحد الصنفين أو كليهما فلا إشكال أيضا ، وان انتفت القرائن وجب الرجوع إليه في تفسير ذلك وما أراد به ، فان تعذر الرجوع اليه أو أخبر بأنه لم يقصد شيئا بخصوصه ، وانما بنى على مدلول اللفظ ، فهل يبطل الوقف أو يصح ويصرف إليهما أو إلى أحدهما أو يفرق بين المفرد والجمع؟ أقوال.

فنقل عن الشيخ في المبسوط والخلاف القول بالصحة ، قال في الخلاف : إذا وقف على مولاه ، وله موليان مولى من فوق ، ومولى من أسفل ، ولم يبين انصرف إليهما ، لأن الاسم يتناولهما ، فيجب صرفه إليهما ، كما لو أطلق الوقف على الاخوة انصرف إليهم وان كانوا متفرقين ، وليس ذلك بمجهول ، كما أن الوقف

__________________

(١) ج ١٢ ص ١٩٩.

(٢) تفسير القمي ج ١ ص ٢٩٨ ، الوسائل ج ٦ ص ١٤٥ ح ٧.

٢٤٠