الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

فخروجهم بناء على ذلك ظاهر.

وثالثها ـ أفراد المستضعفين من الشكاك وغيرهم ، وهؤلاء على ما يفهم من الأخبار الكثيرة تجري عليهم أحكام الإسلام في الدنيا وأما في الآخرة فهم من المرجئين لأمر الله ، وان دل بعض الأخبار على أن عاقبة أمرهم الجنة أيضا ، كما أوضحناه في كتابنا المتقدم ذكره وهؤلاء لا ريب في دخولهم لوجوب إجراء أحكام الإسلام عليهم ، وهذا منها.

ويعضد ما ذهب اليه ابن إدريس هنا أيضا ما ألزم به الشيخ حيث أن مذهبه في النهاية كما قدمنا نقله عنه القول باشتراط القربة في الوقف ، كما هو مذهب ابن إدريس ، وبموجب ذلك أنه لا يصح التقرب الى الله بالوقف على أحد من المخالفين ، الذين قد عرفت أنهم محل البحث ، سيما على القول بالكفر الذي هو مذهب هذا القائل ، وبذلك يتبين لك قوة ما ذهب اليه.

وأما بحثه معه في المسالك بما قدمنا نقله عنه من المناقشة في الوقف على هؤلاء ، كوقف الكافر الذي ينصرف الى فقراء نحلته ، فهي مناقشة لفظية ، لا يوجب بطلان ما ذهب إليه ، لأنه إنما قصد بذلك التنظير والتمثيل لدفع الاستبعاد ، وإلا فدليله المعتمد انما هو ما ذكرناه ، وهو كما ترى واضح الظهور ، لا تعتريه شائبة القصور والله العالم.

ومنها الوقف على المؤمنين ، وقد اختلف الأصحاب في ذلك ، فقال الشيخ في النهاية : إذا وقف على المؤمنين كان ذلك لمجتنبي الكبائر من أهل المعرفة بالإمامة دون غيرهم ، ولا يكون للفساق منهم معهم شي‌ء على حال ، وكذا قال الشيخ المفيد وابن البراج وابن حمزة ، وقال ابن إدريس : لا يختص ذلك بالعدل بل هو عام لجميع المؤمنين ، العدل منهم والفاسق ، وعلى هذا القول جرى المتأخرون.

أقول : والتحقيق في ذلك أن الكلام هنا يتوقف على بيان معنى الايمان ، والمشهور بين الأصحاب أنه عبارة عن الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان يعني

٢٠١

الإقرار بالشهادتين ، وجميع ما جاء به النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) مقرونا بالتصديق والإذعان ، وقيل : انه كذلك مع انضمام العمل بالأركان إلى ذلك ، والمراد بالعمل الذي يكون جزء من الايمان هو الإتيان بكبائر الطاعات ، واجتناب كبائر المعاصي ، وهو مذهب الصدوق ، والشيخ المفيد (رحمة الله عليهما) وجملة من المتقدمين ، وهو المستفاد من الأخبار المتكاثرة ، ولا فرق في أخذ العمل جزء من الايمان بين أن يكون من الاثني عشرية ، وغيرهم ، وان كان الايمان عندنا لا يثبت لغير الاثني عشرية.

فما ذكره في المسالك من أن الايمان الخاص قسمان : أحدهما المأخوذ فيه العمل الصالح ، والثاني اعتقاد إمامة الاثني عشر اماما عليهم‌السلام مما يؤذن بعدم اعتبار أخذ الأعمال جزء بالنسبة إلى المعتقد بهذا الاعتقاد ، فليس في محله.

وبالجملة فإن المستفاد من الأخبار على وجه لا يعتريه الشبهة للمتتبع ، ولا يقبل الإنكار ، هو أن الايمان عبارة عن المركب من هذه الثلاثة ، وهي الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان ، والعمل بالأركان ، وبهذا المضمون جملة من الأخبار أوردها الصدوق في عيون الأخبار (١).

وعلى هذا فهيهنا ثلاثة أقسام : مؤمن ، وهو من كان كذلك ، وكافر وهو من لم يتصف بشي‌ء من هذه الثلاثة ، وهؤلاء أهل الوعدين ، الجنة والنار ، فالأولون يساقون من قبورهم إلى الجنة ، والآخرون إلى النار ، لا حساب عليهم ولا كتاب ، والقسم الثالث المسلم ، وهو من خرج من الكفر ، لعدم إنكاره ، ولم يدخل في الايمان لعدم اعماله ، وهؤلاء أكثر الناس ، وهم أصحاب الحساب وأهل المحشر ، ولتحقيق هذا المقام محل آخر.

وبالجملة فإن ما ذهب إليه المتقدمون في هذه المسئلة مبني على مختارهم

__________________

(١) عيون اخبار الرضا (عليه‌السلام) ج ١ ص ١٧٧ ط النجف الأشرف سنة ١٣٩٠ الكافي ج ٢ ص ٢٥ باب ان الايمان يشرك الإسلام والإسلام لا يشرك الايمان.

٢٠٢

في معنى الايمان ، وما ذكره المتأخرون مبني أيضا على ما اختاروه ، فالنزاع هنا لفظي ، ومحل البحث في تحقيق معنى الايمان ، والحق عندي فيه هو مذهب المتقدمين ، لأنه المستفاد من الأخبار المستفيضة ، وان حملها متأخرو الأصحاب على الفرد الأكمل منه ، إلا أن الحمل فرع وجود المعارض ، ثم الظاهر أنه على تقدير تفسير الايمان بالمعنى المشهور ، فمظهر الفرق بينه وبين التفسير بالمعنى الثاني وهو اضافة العمل إلى ما ذكر ، إنما هو في اتصاف الفساق بالايمان وعدمه ، فيتصفون به على القول المشهور ، لا على القول الآخر ، ولكن مع عدم اتصافهم به لا يكونون كفارا ، بل مسلمين ، لأنها المنزلة الوسطى بين الكفر والايمان ، وكيف كان فإن محل الجميع الإمامية الاثني عشرية.

وما يظهر من المسالك من أن الايمان بمعنى اعتقاد إمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) أخص من الايمان بالمعنى المشهور ، ان أريد به الخصوص والعموم بحسب المفهوم فهو كذلك ، وان أريد مصداقا بمعنى أنه يصدق الايمان بالمعنى المشهور على ما هو أعم من الاعتقاد بإمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) كما هو ظاهر كلامه فهو باطل ، لأنا نمنع صدق الايمان بأي معنى فسر على غير القائلين بإمامة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) ، لما علم من الأخبار على وجه لا يقبل الإنكار من شرف المؤمن وحرمته ، وحرمته ، ووجوب قضاء حقوقه ونحو ذلك من الأخبار المروية في الكافي في كتاب الايمان والكفر (١) ، وتفصيل حقوق المؤمن مضافا إلى ما دل على أنه الموجب لدخول الجنة ، وهذا كله لا يصح إجراؤه على غير الاثني عشرية ، فإنهم المرادون بذلك على الخصوص.

نعم يجب التفصيل فيهم بالفسق والعدالة ، بناء على القول الآخر في معنى الايمان ، وحينئذ فلو وقف على المؤمنين وأطلق فإن كان الواقف من الإمامية وهم الاثني عشرية فلا ريب في أن المراد بهم الإمامية ، لكن يبقى الكلام في الاختصاص

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ١٩٢ باب قضاء حاجة المؤمن.

٢٠٣

بالعدول ، وشمول الفساق المبني على القول المشهور في الايمان ، من عدم أخذ الأعمال في معناه فيشمل ، أو أخذها فيختص ، وان كان الواقف من غيرهم ، فالظاهر أن الحكم كالأول ، وهو المفهوم من كلام الأصحاب أيضا ، قال في المسالك ـ بعد أن اعترف بأنه في هذه الصورة ظاهر المصنف والأكثر كونه كالصورة الأولى ـ ما لفظه : وهو مشكل ، لأن ذلك غير معروف عنده ، ولا قصده متوجه إليه ، فكيف يحمل عليه ، وليس الحكم فيه كالمسلمين في أن لفظه عام فينصرف إلى ما دل عليه اللفظ وان خالف معتقد الواقف كما تقدم ، لأن الإيمان لغة هو مطلق التصديق ، وليس بمراد هنا ، واصطلاحا يختلف بحسب المصطلحين ، والمعنى الذي اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام ، فلو قيل بحمله عليه إذا كان الواقف غير امامي كان حسنا ، أو يقال : ان كان من الوعيدية يحمل على معتقده ، أو من الإمامية فعلى معتقده ، أو من غيره فعلى معتقده عملا بشاهد الحال في دلالة العرف الخاص ، والقرائن الحالية ، انتهى.

ووجه الدخل في كلامه أن ما ادعاه من الاختلاف في معنى الايمان بحسب اختلاف المصطلحين ، وانما اعتبره أكثر المسلمين هو المعنى العام ، بمعنى أنه عبارة عن مجرد الإقرار باللسان والاعتقاد بالجنان مردود ، بأن الكلام في ذلك ينبغي الرجوع فيه إلى المعنى الشرعي الذي دلت عليه الأخبار ، فإنه هو الأولى بالرجوع إليه والاعتبار ، وعليه تبنى الأحكام في الإيراد والإصدار ، ولا عبرة بعد ذلك باصطلاح المصطلحين ، ولا باختلافهم في اصطلاحهم ولا اتفاقهم ، والذي دلت عليه الأخبار كما تقدمت الإشارة إليه أن الايمان لا يصدق على غير الإمامية ، وإلا لزم دخول غيرهم الجنة ، ولا قائل به.

ثم انه قال في المسالك : إذا تقرر ذلك فهل يشترط مع الاعتقاد المذكور في المعنى المشهور اجتناب الكبائر؟ قال الشيخ : نعم ، فلا يجوز للفساق من الإمامية أخذ شي‌ء منه ، وتبعه جماعة ، ولعل مبناه على أن العمل جزء من الايمان

٢٠٤

كما هو مأثور عن السلف ، وورد في كثير من الأخبار أنه مركب من ثلاثة أشياء : اعتقاد بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان ، فيكون العمل ثلث الايمان ، والمشهور وهو الأصح عدم اعتباره ، وإليه ذهب الشهيد في البيان أيضا لما تحقق في الكلام من أن الايمان هو التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان على الوجه السابق ، وأن العمل ليس بجزء منه ، ولا شرط ، انتهى.

وفيه أنه لا يخفى على من راجع الأخبار التي هي العمدة في الإيراد والإصدار أنها دائرة بين قسمين ، فقسم منها اشتمل على أن الايمان عبارة عن التصديق والإقرار ، وهذه الأخبار وردت في مقام الفرق بين الايمان والإسلام ، وأن الايمان أخص مطلقا.

وقسم منها ورد بأنه عبارة عما ذكر مع اشتماله على العمل ، وصرحت بأنه إقرار باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان ، ولهذه الأخبار مؤيدات من الأخبار أيضا ، مثل الأخبار الدالة على تقسيم الناس إلى ثلاث فرق ، الراجعة إلى ست فرق ، مثل حديث الطيار المروي في الكافي (١) قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : الناس على ست فرق ، يؤولون (٢) كلهم إلى ثلاث فرق : الايمان والكفر والضلال : وهم أهل الوعدين الذين وعدهم الله تعالى الجنة والنار ، المؤمنون والكافرون ، والمستضعفون والمرجون لأمر الله ، إما يعذبهم وإما يتوب عليهم ، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وأهل الأعراف» ، ومرجع ذلك إلى إثبات منزلة بين الكفر والايمان ، وهو مبني على أخذ الأفعال في الأعمال ، وهؤلاء بمقتضى النصوص من المسلمين ، لا بالمعنى المشهور الذي يدخل فيه المنافقون ، بل أخص منه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه لا منافاة بين هذه الأخبار ، إذ غاية الأخبار الأول

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٨١ ح ٢.

(٢) أى : يرجعون.

٢٠٥

أنها مطلقة والثانية مقيدة ، وطريق الجمع حمل الإطلاق في تلك الأخبار على ما دلت عليه هذه من أخذ الأعمال ، وإلا فإن اطراحها من غير موجب لا معنى له سيما مع ما عرفت من تأيدها بغيرها.

وبذلك يظهر لك أن ما اختاروه في علم الكلام من أن الايمان عبارة عما ذكروه ، لا أعرف له وجها وجيها ، بل المفهوم من الأخبار بعد ضم بعضها إلى بعض هو ما ذكرناه ، من أنه مركب من الثلاثة المذكورة ، ثم ان في كلامه اشارة ظاهرة إلى أن مذهب السلف أعنى متقدمي الأصحاب هو القول بما اخترناه ، والترجيح لما رجحناه ، والعجب أنه مع اعترافه بذلك وأنه قد ورد في كثير من الأخبار كيف خالفه ، وخرج عنه من غير حجة واضحة ، سوى ما أحاله على علم الكلام.

وفيه أن ما تحقق في علم الكلام ان كان مستفادا من الأخبار فقد عرفت أنه ليس كذلك لما ذكرناه ، وان كان من غيرها فلا عبرة به ، ولا عمل عليه ، والله العالم.

ومنها الوقف على الشيعة قال الشيخان : لو وقفه على الشيعة ولم يميز كان ذلك ماضيا في الإمامية ، والجارودية من الزيدية ، دون التبرية ، وبه قال سلار وابن البراج وابن حمزة ، وقال المحقق في الشرائع والمراد بهم الإمامية والجارودية دون غيرهم من فرق الزيدية.

قال في المسالك : اسم الشيعة يطلق على من قدم عليا عليه‌السلام في الإمامة على غيره بعد النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ولا شبهة في كون الإمامية منهم ، وكذا الجارودية ، وكذا الإسماعيلية ، حيث لا يكونون ملاحدة ، وأما باقي الشيعة كالكيسانية والواقفية والفطحية فداخلة لكن لانقراضهم استغنى عن ذكرهم.

أقول ويؤيد ما ذكره من إطلاق الشيعة على هذه الفرق ما رواه الكشي في

٢٠٦

كتاب الرجال بسنده عن عمر بن يزيد (١) قال : «دخلت على أبى عبد الله عليه‌السلام فحدثني مليا في فضائل الشيعة ، ثم قال : ان من الشيعة بعدنا من هو شر من النصاب ، قلت : جعلت فداك أليس ينتحلون حبكم ويتولونكم ويبرءون من عدوكم؟ قال : نعم ، قلت : جعلت فداك بين لنا لنعرفهم ، فلسنا منهم؟ قال : كلا يا عمر لست منهم ، إنما هم قوم يفتنون بزيد ، ويفتنون بموسى» ،.

إلا أن المستفاد من الأخبار الكثيرة المستفيضة بل المتواترة معنى ، من طرق الخاصة والعامة في فضائل الشيعة هو التخصيص بالإمامية بحيث يقطع بعدم دخول غيرهم في هذا الإطلاق ويؤيده ما صرح به في النهاية الأثيرية (٢) حيث قال بعد ذكر بعض معاني لفظ الشيعة ما لفظه : وقد غلب هذا الاسم على كل من يتولى عليا وأهل بيته ، حتى صار لهم اسما خاصا فإذا قيل : فلان من الشيعة ، عرف أنه منهم ، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم ، انتهى.

ويؤيده أنه وان كان لفظ الشيعة مما يطلق على هؤلاء في تلك الأعصار السابعة ، الا أنه في الأعصار المتأخرة لا يتبادر من لفظ الشيعة إلا الإمامية ، حتى اشتهر المقابلة له بأهل السنة ، فيقال : شيعي ، وسني.

وبالجملة فإن المتبادر عنه في هذه الأزمان إنما هو ما ذكرناه ، ومنه يعلم أن ما ذكره الأصحاب (رضوان الله عليهم) من الخلاف والكلام في هذه المسئلة على إطلاقه غير متجه ، فان المشهور بينهم أنه لو وقف على الشيعة انصرف إلى من ذكر مما قدمنا نقله عن المسالك.

وفصل ابن إدريس ، فقال : ان كان الواقف من احدى فرق الشيعة كالجارودية والكيسانية والناووسية والفطحية والواقفية والاثني عشرية حمل كلامه العام على شاهد حاله ، وقوى قوله ، وخصص به ، وصرف في أهل نحلته دون من عداهم من سائر المنطوق به ، عملا بشاهد الحال ، انتهى.

__________________

(١) رجال الكشي ص ٤٥٤ الرقم ٨٦٩.

(٢) النهاية الأثيرية ج ٢ ص ٥٢٠.

٢٠٧

وبمقتضى ما قلناه ينبغي أن يخص هذا الخلاف بما لو وقع الوقف في تلك الأعصار ، أما في مثل أوقاتنا هذه ونحوها مما تقدمها وتأخر عنها ، فإنه لا ينبغي الريب في انصرافه إلى الإمامية لو كان الواقف منهم ، وانما يبقى الشك فيما لو كان الواقف من أحد تلك الفرق الموجودة الآن ، فإنه لا يبعد القول فيه بما ذهب اليه ابن إدريس عملا بشاهد الحال ، وهكذا لو كان في الصدر السابق من أي واقف كان ، ونقل عن التذكرة أنه نفى البأس عن قول ابن إدريس ؛ وقال في المسالك :

وهو حسن مع قيام القرينة على إرادته لفريقه ، ومع اشتباه الحال فالحكم العموم لعموم اللفظ كالمسلمين. انتهى.

وإنما خص الأصحاب الجارودية من فرق الزيدية بالذكر ، لأنهم هم القائلون بإمامة علي عليه‌السلام بعده (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وأما غيرهم من الصالحية والسليمانية والتبرية فإنهم يقولون بإمامة الشيخين ، وان اختلفوا في غيرهما ، والجارودية نسبة إلى أبى الجارود زياد بن المنذر ، والله العالم.

ومنها الوقف على الإمامية ، والظاهر أنه لا خلاف في أن المراد بهم الاثني عشرية القائلون بإمامة الأئمة الاثني عشر (صلوات الله عليهم) ، وفي الدروس صرح باشتراط اعتقاد عصمتهم ، بناء على أنه لازم المذهب.

قال في المسالك : وفي اشتراطه نظر وان كان أولى ، قال : ويلزمه اشتراط اعتقاد أفضليتهم على غيرهم ، وغيره من معتقدات الشيعة المجمع عليها عندهم ، والفتاوى خالية عنه ، والظاهر يشهد بخلافه ، انتهى.

أقول : لا يظهر لي وجه في هذا الخلاف ولا أثر يترتب عليه ، فإنه لا ريب أن القول بإمامة الإمام عليه‌السلام مستلزم للقول بما يستتبع ذلك من عصمته وأفضليته ونحوهما ، إذ المراد من الإمامية هو من قال بإمامتهم واعتقدها مع جميع ما يتبعها ، فتصريح الدروس باشتراط اعتقاد عصمتهم دون غيرها لا وجه له ، لأن هذا حاصل من غير اشتراط ، والتخصيص بالعصمة دون غيرها لا يظهر له وجه ، ونزاعه

٢٠٨

له في المسالك جيد إلا أن قوله «وان كان أولى» لا أعرف له وجها وجيها.

وبالجملة فالحق أن هذه الأشياء كلها لازمة للقول بالإمامة ، فاشتراطها لا يزيد على أصل حصولها ، وتخصيص بعضها دون بعض ترجيح من غير مرجح ، مع ما عرفت من أنه لا معنى لهذا الاشتراط بالكلية.

ويظهر من الدروس أيضا أن الخلاف في اشتراط اجتناب الكبائر آت هنا ورده في المسالك بأنه ليس كذلك ، قال : والفرق يظهر من دليل القائل باشتراطه ، فان مفهوم الإمامية لا مدخل له في العمل مطلقا ، بخلاف المؤمنين ، انتهى وهو جيد.

ومنها الوقف على الزيدية فمن وقف عليهم كان ذلك للقائلين بإمامة زيد بن علي بن الحسين عليهما‌السلام فإنهم يجعلون الإمامة بعده لكل من خرج بالسيف من ولد فاطمة عليها‌السلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح ، ولا فرق بين أن يكون الواقف منهم ، أو من غيرهم هذا هو المشهور ، وبه قال الشيخان والأكثر.

وقال ابن إدريس : هذا الإطلاق غير جيد ، بل إذا كان الواقف زيديا ، وان كان الواقف إماميا لم يصح الوقف ، بناء على أن وقف المحق على غيره باطل قال في المسالك بعد نقل ذلك عنه : وهو باطل.

أقول : وقد تقدم الكلام في ذلك في هذه المسئلة في صورة ما لو وقف على المسلمين ، وقد بينا ثمة قوة ما ذهب اليه ابن إدريس ، ومرجعه إلى أنه يحكم بكفر هؤلاء ، وهم يقولون بإسلامهم ، وهو يشترط القربة في الوقف ، وهي هنا متعذرة ، وهم لا يشترطونها ، فيكون قول ابن إدريس جيدا على أصوله ، وهو الحق في كل من الحكمين كما سلف بيانه ، والله العالم.

ومنها الوقف على الجيران وقد اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في الجوار ، فقيل أنه يرجع إلى العرف ، وهو اختيار العلامة في المختلف ، قال : والمعتمد العرف ، لأن ألفاظ الشرع يحمل عليه في غير الحقيقة الشرعية ، ونحوه في

٢٠٩

المسالك ، قال : ووجهه واضح حيث لا يكون للفظه حقيقة شرعية

وقيل : لمن يلي داره إلى أربعين ذراعا ، وبه قال الشيخان وأبو الصلاح وسلار وابن البراج وابن إدريس وابن زهرة وابن حمزة والقطب الكيدري ، قال في الشرائع : وهو حسن ، وبه قال الشهيد ، وإليه مال العلامة في التحرير.

قال في المسالك : ولم نقف لهم على مستند خصوصا لمثل ابن إدريس الذي لا يعول في مثل ذلك على الأخبار الصحيحة ونحوها ، والعرف لا يدل عليه ، فكيف فيما لا مستند له ، ولعله عول على ما تخيله من الإجماع عليه ، كما اتفق له ذلك مرارا.

وقيل : إلى أربعين دارا من كل جانب ، قال في الشرائع وهو مطرح ، وفي المسالك : لم أعلم قائله ، وجماعة من باحثى مسائل الخلاف كالإمام فخر الدين في الشرح والمقداد في التنقيح والشيخ علي ، أسندوا دليله إلى رواية العامة عن عائشة (١) «عن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) سئل عن حد الجوار؟ فقال : أربعين دارا.

أقول : والعجب كل العجب منهم (رضوان الله عليهم) في هذه المسئلة حيث اختلفوا فيها كما عرفت ، وقالوا ما قالوا ، مع أنه قد روى ثقة الإسلام في الكافي هنا روايات تدل على القول الثالث الذي حكم المحقق في الشرائع بإطراحه ، وجملة منهم كما عرفت إنما استندوا فيه إلى الرواية العامة ، مع ان الكتاب المذكور في أيديهم ، عاكفون على درسه وشرحه ومطالعته ، فمن الأخبار المشار إليها ما رواه في الحسن عن معاوية بن عمار عن عمرو بن عكرمة (٢) وهو مجهول عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) كل أربعين دارا جيران من بين يديه ، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله.

__________________

(١) الجامع الصغير ج ١ ص ١٤٧.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٦٩ ح ١ ، الوسائل ج ٨ ص ٤٩١ ح ٢ الباب ٩٠.

٢١٠

وعن جميل بن دراج (١) في الصحيح أو الحسن عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : «حد الجوار أربعون دارا من كل جانب من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله».

وعن عمرو بن عكرمة (٢) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : ان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أتاه رجل من الأنصار فقال : انى اشتريت دارا في بني فلان وان أقرب جيراني مني جوارا من لا أرجو خيره ، ولا آمن شره قال :

فأمر رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عليا وسلمان وأبا ذر ونسيت آخر وأظنه قال : والمقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى أصواتهم بأنه لا إيمان لمن لم يأمن جاره بوائقه فنادوا بها ثلاثا ، ثم أومي بيده الى كل أربعين دارا بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله».

وهذه الأخبار كما ترى واضحة الدلالة في القول المذكور ، وبه يظهر أنه هو المختار المنصور ، وأن ما عداه بمحل من القصور ، ولم أعثر على من تنبه لهذه الروايات وذكرها في هذا المقام منهم سوى شيخنا الشهيد الثاني في المسالك ، والعجب قوله بعد ذكرها ولولا شذوذ القول به بين أصحابنا لكان القول به حسنا لكثرة رواياته من الطرفين ، وكثيرا ما يثبت الأصحاب قولا بدون هذا المستند ، والعامة عاملون برواياتهم في ذلك ، انتهى.

فان فيه أن الواجب على الفقيه والمأمور به من الله سبحانه ورسوله وأوصيائه هو القول بالدليل الوارد عنهم عليهم‌السلام والنهي عن القول بغير دليل ، فضلا عن مخالفة الدليل الوارد ، ومن الظاهر أن هذا الاختلاف في هذه المسئلة إنما نشأ من حيث عدم الوقوف على هذه الأخبار ، والا فمع الوقوف عليها والعدول عنها الى ما لا دليل عليه بالكلية أمر لا تجوز نسبتهم إليه ، لأنه موجب لحملهم على مخالفة الله سبحانه ورسوله تعمدا من دليل ، وأي طعن أعظم منه ، على أنه قد صرح هو

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦٦٩ ح ٢ ، الوسائل ج ٨ ص ٤٩١ ح ١ الباب ٩٠.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٦٦ ذيل الحديث ١ ، الوسائل ج ٨ ص ٤٨٧ ح ١.

٢١١

نفسه بنحو ما قلناه من وجوب عمل الفقيه بما قام له الدليل عليه ، وان ادعى الإجماع على خلافه في مسئلة ما لو أوصى له بأبيه فقبل الوصية ، حيث قال ما صورته : والأقوى ما اختاره المصنف ، ولا يقدح دعواه الإجماع في فتوى العلامة ، لأن الحق أن الإجماع عند أصحابنا انما يكون حجة مع تحقق دخول المعصوم في جملة قولهم ، فان حجيته انما هي باعتبار قوله عندهم ، ودخول قوله في قولهم في مثل هذه المسئلة النظرية غير معلوم ، وقد نبه المصنف في أوائل المعتبر على ذلك ، ثم نقل عبارته الى أن قال : وهذا الإنصاف عين الحق ، فإن إدخال قول شخص غائب لا يعرف قوله في قول جماعة معروفين بمجرد اتفاقهم على ذلك القول بدون العلم بموافقته لهم ، تحكم بارد ، وبهذا يظهر جواز مخالفه الفقيه المتأخر لغيره من المتقدمين في كثير من المسائل التي ادعوا فيها الإجماع إذا قام عنده الدليل على ما يقتضي خلافهم ، وقد اتفق ذلك لهم كثيرا ، لكن زلة المتقدم متسامحة عند الناس دون المتأخر ، انتهى وهو جيد نفيس.

ومنه يعلم أيضا ان ما يقول به هو وغيره من هذه الإجماعات المتناقلة في كلامهم والجارية على رؤس أقلامهم مما لا اعتماد عليها ولا التفات إليها ، كما حققه أيضا في رسالته التي في وجوب صلاة الجمعة ، وحققناه بما لا مزيد عليه في باب صلاة الجمعة من كتاب الصلاة (١).

بقي في المقام فوائد ينبغي التنبيه عليها الأولى ـ أنه على تقدير القول المختار من اعتبار الجوار بعدد الدور من الجوانب الأربعة ، فالظاهر أنه لا فرق في ذلك بين الدار الصغيرة والكبيرة ، ولا بين قرب المسافة بين الدور وبعدها ، عملا بالإطلاق وحصول مسمى العدد ، ويحتمل اعتبار قرب المسافة نظرا إلى العادة والعرف في البلدان ، وأن دورها في الغالب متصلة بعضها ببعض ، أو يكون بينها مسافة يسيرة ولعله الأقرب ، وهل يصدق هذا الحكم في سكان البادية؟ ظاهره في المسالك ذلك

__________________

(١) ج ٩ ص ٣٦١ الى ص ٣٧٦.

٢١٢

حيث قال : ولو كان في أهل البادية اعتبر من ينزل حوله ، ويسمى جاره عرفا أو مساحة أو عددا بالنسبة إلى البيوت المخصوصة ، انتهى.

وفيه اشكال بناء على القول المختار ، وأما على القولين الآخرين فيمكن ذلك وان كان لا يخلو من بعد ، ووجه الأشكال أن مورد النصوص تفسير الجوار بالدور والعدد المخصوص منها ، ومن المحتمل قريبا أن استمرار السكنى مما له مدخل في ذلك ، بخلاف البادية التي ينتقل ويتحول من مكان الى آخر.

الثانية ـ الظاهر أنه لا فرق في صدق الجوار بين أن يكون الدار ملكا للساكن أو إجارة أو عارية ، وفي التحرير توقف في استحقاق المستأجر والمستعير وربما قيل : باحتمال التخصيص بالمملوكة ، وعلى هذا فان كان مستعارا أو مستأجرا لم يستحق أحد منهما من الوقف شيئا.

أما المالك فلعدم حصول الجوار بالنسبة اليه ، وأما الساكن فلعدم كونه مالكا ، وعلى ما استظهرناه فهل يكون الغاصب كذلك؟ اشكال من صدق الجوار عرفا ، ومن أنه عدوان فلا يترتب عليه أثر ، وتنظر فيه في المسالك ، قال : لعدم المنافاة ، ورجح في التحرير العدم.

الثالثة ـ لو باع الدار التي يسكنها زال حقه من الجوار ، وانتقل إلى المشتري ان سكنها ، ولو عاد إليها عاد إليه الحق ، وكذا المستأجر بعد انقضاء المدة يعود إلى كل منهما الحق متى حصل السكنى.

الرابعة ـ لو غاب عن الدار بسفر مع ارادة الرجوع فأطلق بعضهم أنه لا يخرج بذلك عن الاستحقاق ، والأقرب التفصيل بأنه ان كانت الغيبة بعد السكنى وله فيها أهل وعيال ، وأسباب ، وإنما سافر لأمر من الأمور التي جرت العادة بالسفر لها ، فلا ريب في صحة ما ذكروه من أنه لا يخرج عن الاستحقاق ، سواء كان الوقف متقدما على سفره أم وقع في حال غيبته ، وان كانت غيبته عن الدار وليس له فيها أهل ولا أسباب بالكلية ، فما ذكروه محل اشكال ، لعدم صدق

٢١٣

السكنى على هذه الحال على حال الغيبة ، والفرق بين الصورتين أنه باعتبار أنه في الدار من الأهل والعيال والأسباب في الصورة الأولى في حكم الساكن ، بل هو ساكن ، وان كان غائبا بنية الرجوع ، بخلاف الثانية.

الخامسة ـ قالوا : لو كان له داران يتردد إليهما في السكنى فهو جار لأهلهما فيستحق بسببهما معا لصدق الاسم مع وجود القدر المعتبر عند معتبرة ، ولو كان يسكنهما على التناوب أو بحسب الفصول استحق زمن السكنى.

أقول : وفي تخصيص الاستحقاق بزمن السكنى في الصورة الأخيرة تأييد لما قدمنا ذكره في الغائب عن داره ، وليس له فيها عيال ولا مال ولا أسباب وان كان بنية الرجوع ، فإنه لا يستحق زمن الغيبة شيئا.

السادسة ـ ان قلنا ببناء الجوار على العرف كما هو أحد الأقوال المتقدمة ، وجب قسمة الموقوف على رؤس الجيران مطلقا ، وكذا ان قلنا بالأذرع ، ويستوي فيه الصغير والكبير والذكر والاثني ، وان قلنا بالبناء على عدد الدور ، والظاهر قسمته على عددها صغيرة كانت أو كبيرة ثم يقسم رصد كل دار على عدد أهلها ، وقيل : بأنه يقسم من أول الأمر على عدد أهل الدور ، والله العالم.

ومنها ما لو وقف على قومه ، قال الشيخان : يكون على جماعة أهل لغلته من الذكور دون الإناث ، وتبعهما ابن البراج وابن حمزة ، وقال أبو الصلاح : يعمل بالمعلوم من قصده ، فان لم يعرف ما قصده عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق ، وقال سلار : يكون لجماعة أهل لغته ولم يخص الذكور بالذكر.

وقال ابن إدريس : الذي يقتضيه أصول المذهب وتشهد بصحته الأدلة الظاهرة أنه يكون مصروفا إلى الرجال من قبيلته ممن ينطلق العرف بأنهم أهله وعشيرته ، دون من سواهم ، هذا الذي يشهد به اللغة وعرف العادة وفحوى الخطاب ، قال الشاعر :

«قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي»

قال : وإنما قلنا انه يختص بالذكر لقوله تعالى «لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ. وَلا نِساءٌ

٢١٤

مِنْ نِساءٍ» (١) وقول زهير : «فما أدرى وسوف أخال أدري أقوم أهل حصن أم نساء» قال : وأما الرواية التي وردت بأن ذلك على جميع أهل لغته فهي خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا من غير دليل يعضدها من إجماع أو كتاب أو سنة أو دليل أصل ، فإذا عدم جميع ذلك وورد خطاب مطلق حمل على العرف ، والعرف ما اخترناه.

وقال العلامة في المختلف بعد نقل ذلك عنه ، والجواب المنع من ذلك ، فان الشيخين أعرف باللغة ، ومقاصد العرب ، والمرجع في ذلك إليهم ، انتهى.

أقول : الظاهر أن الأقرب من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه ابن إدريس (رحمه‌الله عليه) لشهادة ما استند إليه من البيت بذلك ، فإنه ظاهر فيما ادعاه من أن المراد بقومه هم الأهل والعشيرة ، وجواب العلامة له بما ذكره مجرد تحامل عليه ، كما هو عادته غالبا ، وأما ما يشير إليه كلام ابن إدريس من ورود رواية بتفسير القول بما ذكره الشيخان وأتباعهما فلم تصل إلينا ، ولا نقلها غيره ولو ثبتت لما كان عنها معدل ، وكلام ابن إدريس هنا في المنع من العمل بها على قاعدته غير مسموع ولا موجه ، ومن المحتمل قريبا ان ابن إدريس ظن أن الشيخين إنما ذكرا ذلك لرواية وصلت إليهما ، فطعن فيها بما ذكره ، ومثل ذلك كثير في كلامه مع الشيخ من نسبة كلام الشيخ إلى أخبار الآحاد ، مع أنه ليس ثمة خبر.

ومنها ما لو وقف على عشيرته ، فقال الشيخان : إنه على الخاص من قومه الذين هم أقرب إليه في نسبه ، وبه قال سلار وابن البراج وابن إدريس ، وقال : أبو الصلاح بعمل بالمعلوم من قصده ، فان لم يعرف عمل بعرف قومه في ذلك الإطلاق ، قال : وروى أنه إذا وقف على عشيرته كان على الخاص من قومه الذين هم أقرب الناس إليه في نسبه ، مع أنه قال عقيب ذلك : إذا وقف على قومه كان ذلك على جميع أهل لغته من الذكور دون الإناث.

__________________

(١) سورة الحجرات ـ الاية ١١.

٢١٥

أقول : ما ذكره هنا من الرواية أيضا فإنا لم نقف عليها ولم تصل إلينا ، ومن المحتمل قريبا ان هذه الرواية وكذا المذكورة في سابق هذا الموضع إنما هي من روايات العامة ، فإن أصحابنا كثيرا ما يستسلفون رواياتهم في أمثال هذه المقامات سيما مع عدم ورود نص من طرقهم ، والله العالم.

المسئلة الخامسة : إذا قال : وقفت على أولادي ثم على الفقراء ، فإن أضاف إلى ذلك ما يدل على الاختصاص بأولاد الصلب كقوله أولادي لصلبي ونحوه أو ما يدل على العموم لكل من تناسل منه ، بان يقول : على أولادي والحال أنه لا ولد له لصلبه ، أو يقول : إلا ولد البنات ، أو إلا ولد فلان ، أو قال : يفضل البطن الأعلى على التالي أو نحو ذلك ، فإنه لا خلاف ولا إشكال في التخصيص في الأول ، والعموم في الثاني ، إنما الخلاف فيما لو أطلق ، فالمشهور بين المتأخرين هو الاختصاص بأولاد الصلب ، وهو قول الشيخ في المبسوط وابن الجنيد ، لأنهم الأولاد ، إذ هم المتولدون من نطفته ، وإطلاقه على أولاد الأولاد مجاز ، والمشهور بين المتقدمين العموم لكل من تناسل منه ذكورا وإناثا حقيقة ، وهو قول الشيخ المفيد وابن البراج وأبو الصلاح وابن إدريس وغيرهم.

وقال الشيخ المفيد في المقنعة : وإذا وقف الإنسان ملكا على ولده ولم يخص بعضا من بعض بالذكر والتعيين كان لولده الذكور والإناث وولد ولدهم ، وقال ابن إدريس في السرائر : وإذا وقف على أولاده فحسب ، ولم يقل لصلبه دخل فيهم أولاد أولاده ، ولد البنين والبنات ، بدليل إجماع أصحابنا ، ولان اسم الولد يقع عليه لغة وشرعا ، وقد أجمع المسلمون على أن عيسى عليه‌السلام ولد آدم ، وهو ولد ابنته ، وقال النبي (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) في الحسن والحسين عليهما‌السلام «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

ولا خلاف بين المسلمين في أن الإنسان لا يحل له نكاح بنت

__________________

(١) البحار ج ٤٣ ص ٢٧٨.

٢١٦

بنته ، مع قوله تعالى (١) «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ» وبنت البنت بنت بغير خلاف ، فاما استشهاد المخالف على خلاف ما ذكرناه بقول الشاعر :

بنونا بنوا أبنائنا ، وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فإنه مخالف لقول الرسول (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقول الأمة والمعقول فوجب رده ولا يقضى بهذا البيت من الشعر على القرآن والإجماع ، إلى آخر كلامه زيد في إكرامه.

والعجب من أصحابنا المتأخرين حيث خصوا الخلاف في كون المتولد من البنت ابنا حقيقة أم لا؟ بالمرتضى (رضى الله عنه) وكلام هؤلاء المذكورين مما نقل هنا وما لم ينقل صريح في أنه ابن حقيقة ، ونحو ذلك كلام الشيخ في الخلاف في هذا الكتاب ، فإنه قال : إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده دخل أولاد البنات فيه ، ويشتركون فيه مع أولاد البنين الذكر والأنثى فيه سواء ، ثم نقل أقوال العامة واختلافهم إلى أن قال : دليلنا إجماع المسلمين على أن عيسى بن مريم من ولد آدم ، وهو ولد ابنته ، لأنه ولد من غير أب ، وأيضا دعاء رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) الحسن ابنا وهو ابن بنته (٢) ، فقال : لا تزرموا على ابني أو لا تقطعوا عليه بوله ، وكان قد بال في حجره فهموا بأخذه ، فقال : ذلك». فاما استشهادهم بقول الشاعر بنونا ثم ذكر البيت ثم قال فإنه مخالف لقول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإجماع الأمة والمعقول ، فوجب رده ، على أنه إنما أراد بذلك الشاعر الانتساب ، لأن أولاد البنت لا ينسبون إلى أمهم وإنما ينسبون إلى أبيهم ، وكلامنا في غير الانتساب ، انتهى وهو الحق الحقيق بالاتباع ، وقد حققنا المسئلة بما لا مزيد عليه ، ولا سبق سابق ولا لحق لا حق من علمائنا إليه في كتاب الخمس (٣) ، والله العالم.

__________________

(١) سورة النساء ـ الاية ٢٣.

(٢) معاني الأخبار ص ٢١١ ط إيران سنة ١٣٧٩.

(٣) ج ١٢ ص ٣٩٠ الى ٤١٦.

٢١٧

المسئلة السادسة : المشهور أنه لو وقف على مصلحة فبطل رسمها ، فإنه يصرف في وجوه البر ذكره الشيخ ، وتبعه الجماعة من غير نقل خلاف ، ويظهر من المحقق في النافع التوقف في ذلك ، حيث أنه نسب الحكم بذلك الى قول ، مؤذنا بالتردد فيه ، وعلل القول المشهور بأن الملك خرج عن ملك الواقف بالوقف الصحيح أولا ، فلا يعود اليه ، والقربة الخاصة قد تعذرت ، فإنه يصرف الى غيرها من القرب ، لاشتراك الجميع في أصل القربة ، ولأنه أقرب شي‌ء إلى مراد الواقف ، ولا أولوية لما أشبه تلك المصلحة التي بطل رسمها ، لاستواء القرب في عدم تناول عقد الوقف لها ، وعدم قصد الواقف لها بخصوصها ، ومجرد المشابهة لا دخل له في تعلقه بها ، فيبطل القيد ، ويبقى أصل الوقف من حيث القربة.

واعترضه في المسالك قال : وفيه نظر ، فإنه لا يلزم من قصد القربة الخاصة وارادتها قصد القربة المطلقة ، فإن خصوصيات العبادات مقصودة ، ولا تلزم ارادة بعضها من ارادة بعض ، انتهى.

وعلل ما ذهب اليه المحقق في النافع بأنه حيث لا دليل على القول المذكور فالأصل بقاء الملك ، خرج عنه ما نص الواقف عليه ، فمع تعذره يرجع الوقف اليه مع وجوده ، ومع فقده الى ورثته ، كذا ذكره ابن فهد في شرحه على الكتاب.

أقول : لا يخفى أن المسئلة المذكورة وان كانت غير منصوصة على الخصوص ، الا أن لها نظائر في الشرع عديدة قد ورد الحكم فيها بما ذكره الأصحاب ، ويرجع الجميع إلى أنه مع تعذر ما عينه المالك من وصية أو نذر أو نحو ذلك ، مما يجب إنفاذه شرعا ، فإنه مع تعذر المصرف المخصوص يصرف في وجوه البر ، ولا يرجع الى الورثة ، وان خالف فيه بعض الأصحاب كما هنا ، فأوجب رده الى الورثة مع تعذر المصرف ، الا أنه محجوج بالأخبار الدالة على ما ذكرناه ، فمن ذلك ما لو أوصى بأبواب عديدة من الوصايا فنسي بابا أو أبوابا ، فإنه يصرف في وجوه

٢١٨

البر كما رواه المشايخ الثلاثة عن محمد بن الريان (١) «أنه كتب الى أبى الحسن محمد بن علي عليهما‌السلام يسأله عن إنسان أوصى بوصية ، فلم يحفظ الوصي إلا بابا واحدا منها كيف يصنع في الباقي؟ فوقع عليه‌السلام الأبواب الباقية يجعلها في البر».

وذهب ابن إدريس هنا والشيخ في المسائل الحائريات إلى أنه يرجع ميراثا حيث أن الوصية بطلت ، لامتناع القيام بها ، والنص كما ترى بخلافه ، ومن ذلك ما رووه (عطر الله تعالى مراقدهم) عن علي بن يزيد صاحب السابري (٢) عن أبى عبد الله عليه‌السلام في حديث طويل يتضمن أنه أوصى رجل بتركته إلى على المذكور ، وأمره أن يحج بها عنه ، قال : «فنظرت فإذا هو شي‌ء يسير لا يكفى للحج ، فسألت الفقهاء من أهل الكوفة فقالوا : تصدق بها عنه ، فتصدق به ثم لقي بعد ذلك أبا عبد الله عليه‌السلام فسأله وأخبره بما فعل ، فقال : ان كان لا يبلغ أن يحج به من مكة فليس عليك ضمان وان كان يبلغ ما يحج به فأنت ضامن». والتقريب فيه أنه قرره على الصدقة إذا لم يبلغ الحج به من مكة ، ولم يحكم بكونه ميراثا.

وفي جملة وافرة من الأخبار (٣) ما يدل على أن ما أوصى به بالكعبة أو كان هديا لها أو نذرا فإنه يباع ان كان جارية ونحوها ، وان كان دراهم فإنه يصرف في المنقطعين من زوارها ، معللين عليهم‌السلام ذلك بأن الكعبة لا تأكل ولا تشرب ، فيصرف ذلك الى المحتاجين من زوارها ، وهو مؤيد لذلك.

وقد تقدمت الأخبار المشار إليها في آخر جلد كتاب الحج (٤) وهذه الأخبار

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٨ ح ٧ ، التهذيب ج ٩ ص ٢١٤ ح ٢١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٦٢ الباب ١١٠.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٢١ ح ١ بعنوان على بن فرقد ، التهذيب ج ٩ ص ٢٢٨ ح ٤٦ بعنوان على بن مزيد.

وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٤٥٣ ح ١ وص ٤٧٣ ح ١.

(٣) الكافي ج ٤ ص ٢٤٢ ح ٢ و ٣ ، التهذيب ج ٥ ص ٤٤٠ ح ١٧٥ ، الوسائل ج ٩ ص ٣٥٢ الباب ٢٢.

(٤) ج ١٧ ص ٣٦٠.

٢١٩

وان كان موردها الوصية كما في بعض ، والهدي كما في آخر ، والنذر كما في ثالث ولم يتضمن شي‌ء منها حكم الوقف إلا أنها مما يتبادر منها الى الفهم السليم والذهن القويم كون الوقف كذلك ، فان الجميع مشترك في الخروج عن المالك بما وقع من وقف أو وصية أو نذر أو نحوها ، فعوده اليه عند تعذر المصرف المخصوص يتوقف على الدليل ، ولا دليل ، بقي الأمر في أنه متى لم يرجع اليه فلا بد من مصرف ، وهذه الأخبار قد عينت مصرف ما اشتملت عليه بأنه أبواب البر ، وان كان مخصوصا في بعضها بنوع خاص ، كما في أخبار الكعبة ، فلا بد أن يكون مصرف الوقف كذلك للاشتراك في العلة ، وإلا بقي بغير مصرف وهو باطل إجماعا.

وما ذكره في المسالك في الاعتراض على دليل القول المشهور من أنه لا يلزم من قصده القربة الخاصة وارادتها قصد القربة المطلقة الى آخره ، وارد في هذه الأفراد التي ذكرناها ، مع أن الأخبار قد صرحت بخلافه ، وحينئذ فلا اعتماد عليه ، إذ لو كان صحيحا في حد ذاته لكان كليا في جميع هذه الموارد ، مع أن الأخبار كما دريت على خلافه.

وأما ما ذكره في المسالك على أثر الكلام المتقدم حيث قال : والتحقيق أن المصلحة المذكورة الموقوف عليها لا يخلو من أن يكون مما ينقرض غالبا أو يدوم غالبا أو يشتبه الحال ، والأول كما لو وقف على شجر مخصوص كالتين والعنب ، وهذا الوقف يكون كمنقطع الأخر إذ هو بعض أفراده ، فيرجع بعد انقضائه إلى الواقف ، أو ورثته على الخلاف ، حيث لا يجعله بعده لمصلحة أخرى تقتضي التأبيد.

والثاني كالوقف على مصلحة عين من ماء مخصوص ونحوه مما تقضى العادة بدوامه ، فيتفق عوزه أو على قنطرة على نهر يتفق انقطاعها ، وانتقاله عن ذلك المكان حيث لا تكون العادة قاضية بذلك ، والمتجه فيه ما ذكره الأصحاب لخروج الملك عن الواقف بالوقف ، فعوده يحتاج الى دليل ، وهو منتف ، وصرفه في وجوه البر أنسب بمراعاة غرضه الأصلي ان لم يجز صرفه فيما هو أعم منه.

٢٢٠