الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

ومنها رواية زرارة (١) عن أبى جعفر عليه‌السلام قال : في الرجل يتصدق بالصدقة المشتركة قال : جائز». ورواية الفضل بن عبد الملك (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل تصدق بنصيب له في دار على رجل قال : جائز وان لم يعلم ما هو ، والله العالم.

المطلب الرابع في شرائط الواقف :

والمشهور أنه يعتبر فيه البلوغ والعقل ، وجواز التصرف ، والكلام هنا يقع في موضعين أحدهما ـ في وقف من بلغ عشرا ، وفيه قولان : استدل على الصحة برواية زرارة (٣) عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا أتي على الغلام عشر سنين فإنه يجوز له في ماله ما أعتق ، وتصدق وأوصى على حد معروف وحق فهو جائز».

والظاهر أن معنى آخر للحديث أن كل ما صنع على وجه المعروف ، فهو جائز.

والرواية وان كان موردها الصدقة ، الا أن الشيخ وجماعة عدوه إلى الوقف نظرا إلى أنه بعض أفراد الصدقة بالمعنى الأعم.

أقول : ظاهر الخبر كما عرفت أن كل ما صنع على وجه المعروف فهو جائز ، وحينئذ فيدخل فيه الوقف كما عرفت ، ويؤيد الرواية المذكورة موثقة جميل بن دراج (٤) عن أحدهما عليه‌السلام قال يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ، ووصيته وان لم يحتلم.

وموثقة الحلبي ومحمد بن مسلم (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم قال : نعم إذا وضعها في موضع الصدقة».

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٧ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٩ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٥٢ ح ٦٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٩ ح ٣.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٢٨ ح ١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٤٥ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢١ ح ١.

(٤) التهذيب ج ٩ ص ١٨٢ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢١ ح ٢.

(٥) التهذيب ج ٩ ص ١٨٢ ح ٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢١ ح ٣.

١٨١

قال المحقق في الشرائع وفي وقف من بلغ عشرا تردد ، والمروي جواز صدقته ، والاولى المنع ، لتوقف رفع الحجر على البلوغ والرشد ، وقال في المسالك بعد إيراد رواية زرارة وقريب منها رواية سماعة : ومثل هذه الأخبار الشاذة المخالفة لأصول المذهب ، بل وإجماع المسلمين ، لا تصلح لتأسيس هذا الحكم.

أقول : يمكن أن يقال : ان ما دل على الحجر قبل البلوغ والرشد وهو المشار إليه في كلامه في المسالك بأصول المذهب مخصص بهذه الأخبار التي ذكرناها ، ونحوها غيرها مما ورد في الوصية ، كرواية عبد الرحمن بن أبى عبد الله (١) قال : «قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «وإذا بلغ عشر سنين جازت وصيته». وفي معناها روايات عديدة في الوصية ، ونسبة جميع هذه الروايات إلى الشذوذ بعيد جدا.

نعم لو كانت المخالفة منحصرة فيما نقله من الروايات لأمكن ما ذكره ، إلا أنك قد عرفت كثرة الأخبار بما يوجب الخروج عن تلك الأصول المذكورة ، فيجب التخصيص ، ولو أنه ناقش بعدم صراحة الرواية في الوقف كما هو المدعى كان كلامه أقرب إلى القبول ، إلا أنك قد عرفت أن إطلاق الصدقة على الوقف شائع ، ذائع في الأخبار ، بل هو الأصل في الإطلاق ، وانما الإطلاق على ما ذكروه مستحدث وبما ذكرنا تظهر قوة ما ذهب إليه الشيخ وأتباعه في هذه المسئلة ، والله العالم.

وثانيهما ـ أنه صرح الأصحاب من غير خلاف يعرف بأنه يجوز للواقف أن يجعل النظر لنفسه في الوقف ولغيره أيضا ، ولو لم يعين كان النظر إلى الواقف ، أو الموقوف عليه ان قلنا بانتقال الملك إليه ، والا فإلى الحاكم الشرعي ، والذي تدل على الأول الأخبار الدالة على وجوب الوفاء بالشروط الا ما حلل حراما أو حرم حلالا (٢) «وعلى الثاني ـ مضافا إلى عموم ما دل على وجوب الوفاء

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٨١ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٤٢٩ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٥ ص ١٦٩ ح ١ وص ٤٠٤ ح ٩ ، التهذيب ج ٧ ص ٢٢ ح ١٠ وص ٤٦٧ ح ٨٠ ، الوسائل ج ١٢ ص ٣٥٣ ح ٥.

١٨٢

بالشروط ـ خصوص التوقيع الخارج من الناحية المقدسة (١) كما تقدم ، «وفيه وأما ما سألت من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة يسلمها من قد يقوم بها ويعمرها ويؤدى من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما يبقي من الدخل لناحيتنا فإن ذلك لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها إنما لا يجوز ذلك لغيره». الحديث.

ويدل على ذلك خبر صدقة فاطمة عليها‌السلام بحوائطها حيث جعلت النظر فيه لعلي عليه‌السلام ثم الحسن ثم الحسين عليهما‌السلام ثم الأكبر من ولدها روى في الكافي والفقيه والتهذيب عن أبى بصير (٢) وهو ليث المرادي بقرينة عاصم بن حميد عنه ، فيكون الخبر صحيحا.

قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : ألا أقرؤك وصية فاطمة عليها‌السلام؟ قال : قلت : بلى ، قال : فأخرج حقا أو سفطا فاخرج منه كتابا فقرأه : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أوصت بحوائطها السبعة : العواف ، والدلال ، والبرقة ، والميثب ، والحسنى ، والصافية ، وما لأم إبراهيم إلى علي بن ابى طالب عليه‌السلام فإن مضى علي فإلى الحسن فان مضى الحسن فإلى الحسين فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي ـ شهد الله على ذلك ، والمقداد بن الأسود ، والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

وقد تقدم ما يدل أن هذه الحوائط كانت وقفا (٣) ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأخذ منها ما ينفق على أضيافه ، وأن العباس خاصم فاطمة عليها‌السلام فيها بعد موته ، فشهد علي عليه‌السلام وغيره أنها كانت وقفا على فاطمة.

ومنها حديث وقف علي عليه‌السلام أمواله التي له في ينبع (٤) وقد تقدم شطر منه

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٠ ح ٨.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٨ ح ٥ وص ٤٩ ح ٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٤ ح ٥٠ الفقيه ج ٤ ص ١٨٠ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١١ ح ١.

(٣ و ٤) الكافي ج ٧ ص ٤٧ ح ١ وص ٤٨ ح ٧ التهذيب ج ٩ ص ١٤٥ ح ٥١ وص ١٤٦ ح ٥٥ ، وهما في الوسائل ج ١٣ ص ٣١١ ح ٢ وص ٣١٢ ح ٤.

١٨٣

«وفيه أنه يقوم على ذلك الحسن عليه‌السلام يأكل منه بالمعروف ، ثم ذكر بعده الحسين عليه‌السلام ثم من بعده الى من يختاره الحسين عليه‌السلام ويثق به. الحديث ملخصا».

ومنها صدقة الكاظم (١) عليه‌السلام بأرضه ، وقد جعل الولاية فيها الى الرضا عليه‌السلام وابنه إبراهيم ثم على من بعدهم على الترتيب المذكور في الخبر ، هذا كله مع الشرط لنفسه أو لغيره.

وأما لو لم يعين فإنه يبنى القول في ذلك هنا على أنه هل ينتقل الوقف عن الواقف بالوقف أم لا؟ وعلى الأول فهل ينتقل الى الموقوف عليه مطلقا ، أو لله سبحانه مطلقا ، أو للموقوف عليه ان كان على جهة عامة؟ وعلى الأول والثالث فالنظر لكل منهما ، وعلى الثاني والرابع فالنظر للحاكم ، حيث لا يوجد الخاص ويصير الواقف في ذلك كالأجنبي ، وسيأتي الكلام في تحقيق المسئلة المذكورة ان شاء الله تعالى.

بقي في المسئلة أمور يجب التنبيه عليها ، الأول ـ متى قلنا ان النظر للواقف ابتداء أو مع شرطه ، فهل تشترط عدالته أم لا؟ ظاهر الأصحاب الثاني ، وبه قطع في التذكرة مع احتمال اشتراطها ، لخروجه بالوقف عن الملك ، ومساواته لغيره ، فلا بد من اعتبار العدالة في التولية ، كما تعتبر في غيره.

وعلل العدم بأنه انما نقل ملكه عن نفسه على هذا الوجه ، فيتبع شرطه والمسئلة محل توقف لعدم النص ، أما بالنسبة إلى غيره ممن شرطه في العقد أم لم يشترطه فلا بد من العدالة فيه ، لا أعرف خلافا فيه ، ويدل عليه ما في خبر صدقة أمير المؤمنين (٢) عليه‌السلام بماله الذي في ينبع حيث قال في آخره بعد ذكر الحسن والحسين عليهما‌السلام كما قدمنا الإشارة إليه ، قال فان حدث بحسن وحسين حدث فإن

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٣ ح ٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٩ ح ٥٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٤ ح ٥.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٩ ح ٧ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٢ ح ٤.

١٨٤

الآخر منهما ينظر في بنى علي ، فان وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته ، فإنه يجعله اليه ان شاء ، وان لم ير فيهم بعض الذي يريد فإنه يجعله الى رجل من آل أبي طالب يرضي به ، فان وجد آل أبى طالب قد ذهب كبرائهم ، وذوو آرائهم فإنه يجعله الى رجل يرضاه من بنى هاشم». الحديث.

قالوا : فان لم يكن عدلا أو خرج عنها خرج عن النظر ، وكان الحكم كما لو أطلق ، ولو عادت العدالة عاد الى النظران كان مشروطا من الواقف ، وإلا فلا ، قالوا : ويشترط فيه مضافا الى ذلك الاهتداء إلى كيفية التصرف كما يعتبر ذلك في الوصي.

الثاني ـ قد عرفت أنه متى صرح بالنظر للغير صح إلا أنه لا يجب على ذلك الغير القبول ، ولو قبل لم يجب عليه الاستمرار ، لأنه في معنى التوكيل ، كذا صرح به في الدروس.

أقول : كما يحتمل أنه في معنى الوكالة فيترتب عليه ما ذكره ، كذلك يحتمل أنه في معنى الوصية فيجب عليه الاعلام بعدم القبول ، وإلا لزمه القيام بذلك ويمكن ترجيح الأول بأن الأصل عدم الوجوب ، وإذا كان الأصل عدم وجوب القبول عليه ابتداء استصحب الحكم في عدم الاستدامة ، فلا يجب عليه الاستمرار استصحابا للأصل المذكور ، فإذا رد صار كما لا ناظر له ابتداء فيتولاه الحاكم أو الموقوف عليه ان قلنا بالانتقال اليه ، وكيف كان فالحكم لا يخلو من شوب التردد.

الثالث ـ الناظر من قبل الواقف على قسمين أحدهما ـ أن يكون مشروطا في العقد ، وإذا كان كذلك فإنه لا يجوز للواقف عزله ، عملا بوجوب الوفاء بالشروط الا أن يظهر ما يوجب عزله.

وثانيهما ـ ما لم يكن كذلك ، بأن نصبه بعد العقد بالنظر المتناول فإنه يجوز عزله متى شاء ، لأنه حينئذ في حكم الوكيل الذي يجوز عزله بعد الوكالة متى أراد.

١٨٥

الرابع ـ لو شرط للناظر شيئا من الريع صح وكان ذلك اجرة عمله ليس له أزيد منه وان كان أقل من الأجرة وان أطلق فله مثل أجرة عمله.

أقول : ان أريد بالإطلاق هو عدم ذكر شي‌ء معين ، مع ذكر ما يوجب ان له أجرة ، فما ذكروه جيد ، وان أريد وقوع العقد خاليا من التعرض لذلك نفيا ولا إثباتا فما ذكروه مشكل ، لأن الوقف قد انتقل بالعقد إلى من عينه الواقف من الموقوف عليه ، وإخراج شي‌ء منه يحتاج الى دليل ، وليس في العقد ما يدل على ذلك كما هو المفروض ، والنصوص الدالة على جواز جعل الواقف ناظرا للوقف خالية من ذلك ، والظاهر أن الناظر إنما رضي بذلك مجانا فلا يستحق أجرة.

الخامس ـ قد صرحوا بأن وظيفة الناظر في الوقف العمارة له أولا ، وتحصيل الريع وقسمته على المستحق ، وحفظ الأصل والغلة ، ونحو ذلك من مصالحه.

أقول : وقد صرح بذلك في التوقيع المتقدم ذكره وهو المفهوم من إطلاق باقي الأخبار ، ومقتضاه انه لا يجوز التصرف في شي‌ء من الأعمال المذكورة ، ولا في الغلة إلا باذنه ، ولو كان التصرف من الموقوف عليه وهو مقتضى إطلاق كلام الأصحاب أيضا.

قال في المسالك : وفيه اشكال ، من وجهين : أحدهما ـ ما لو كان الموقوف عليه متحدا ، اما ابتداء أو لاتفاق ذلك في بعض الطبقات ، فإنه مختص بالغلة ، فتوقف تصرفه على اذن الناظر بعيد ، لعدم الفائدة خصوصا مع تحقق صرفها إليه بأن تكون فاضلة عن العمارة وغيرها مما يقدم على القسمة يقينا ، نعم لو أشكل الحال توقف على اذنه قطعا ، لاحتمال أن يحتاج إليها أو الى بعضها في الأمور المتقدمة على اختصاص الموقوف عليه.

أقول : يمكن الجواب عن ذلك بأنه لا عموم في الأمرين المتقدمين على وجه يشمل ما ذكره من هذه الصورة ، فإن الظاهر من نصب الناظر انما هو فيما يحتاج الى النظر والعمل ، مثل التعمير ودفع الخراج ، وقسمة الحاصل بين أربابه

١٨٦

ونحو ذلك ، لا مطلقا بحيث يشمل مطلق التصرف ، وإلا لأدى ذلك الى انه لا يجوز لأحد من الموقوف عليه بعد القسمة وتميز حصته ، التصرف فيها إلا بإذنه ، مع أنه ليس كذلك اتفاقا.

وبالجملة فإن حكم الغلة فيما فرضه ، حكمها فيما لو قسمها الناظر وميزه فكما أنها اختصت بصاحبها في صورة القسمة ، كذلك في صورة الاتحاد ، ثم قال (قدس‌سره) : وثانيهما ـ الأوقاف العامة على المسلمين ، ونحوهم التي يريد الواقف انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها ، كأشجار الثمار ، فان مقتضى القاعدة أيضا عدم جواز تصرف أحد منهم في شي‌ء منه ، الا بإذن الحاكم ، ولا يخلو من اشكال وتفويت لكثير من أغراض الواقف ، بل ربما دلت القرينة هنا على عدم ارادة الواقف النظر على هذا الوجه ، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل واحد من أفراد تلك الجهة العامة ، فكأنه في قوة جعل النظر إليه ، لكن هذا كله لا يدفع الاشكال ، لما تقدم من أنه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر لأحد يصير كالأجنبي ، وينتقل الحكم إلى الحاكم ، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك حيث لا يوافق القواعد الشرعية ، وجعل مثل هذا الإطلاق نظرا لكل واحد في حيز المنع.

وبالجملة فهذه القواعد الشرعية المتفق عليها لا تدفع. بمثل هذا الخيال ، وينبغي أن يقال : ان المتصرف على هذا الوجه يأثم خاصة ، ويملك حيث لا يجب صرف الثمرة في الأمور المتقدمة على صرفها إلى الموقوف عليه ، وكذا القول في تصرف الموقوف عليه المتحد.

أما المتعدد فلا ، لأن قسمتها وتميز حق كل واحد من الشركاء يتوقف على الناظر ، وحينئذ فيكون كالتصرف في المال المشترك بغير إذن الشريك ، فيستقر في ذمته حصة الشريك من ذلك ، ولم أقف في هذه الأحكام للأصحاب على شي‌ء ، فينبغي تحرير النظر فيه ، انتهى.

أقول : ويمكن الجواب أيضا بما قدمنا في سابقه ، فإنه متى كان الأمر

١٨٧

كما ذكره من أن الغرض من وقفه على المسلمين انتفاع كل من الموقوف عليه بالثمرة إذا مر بها ، فانا لا نسلم دخوله تحت القاعدة المذكورة ، لأن ذلك في قوة قوله من شاء أن يأكل من هذه الثمرة ، فهو مأذون ، ومع تسليم التوقف على إذن الحاكم ، فالواجب على الحاكم أيضا أن يأذن إذنا عاما على حسب ارادة الواقف ومطلوبه ، فلا يتوقف كل فرد فرد من أفراد تلك الجهة الموقوف عليها إلى إذن خاص ، كما ظنه (قدس‌سره).

ويؤيد ما قلناه قوله «بل ربما دلت القرينة على عدم ارادة الواقف النظر على هذا الوجه إلى آخره» وجوابه عن ذلك بأنه لا عبرة بقصد الواقف ذلك بعد رجوع الأمر إلى الحاكم ، حيث انه يصير مع عدم الاشتراط كالأجنبي فلا عبرة بقصده خلاف ما يقتضيه نظر الحاكم ، مردود ، بأنا نجعل هذا القصد من الواقف قرينة على عدم دخول هذا الفرد في الإطلاق ، بمعنى استثنائه من ذلك ، فلا يرجع إليه في هذه الصورة ، على أن ما ذكره من أنه بعد الوقف حيث لا يشترط النظر لأحد كالأجنبي ، وينتقل الحكم إلى الحاكم ، فلا عبرة بقصده خلاف ذلك ، محل منع وكيف لا ، والعقود تابعة للقصود ، ومقتضى القواعد الشرعية هو الوقوف على ما علم منه من القصد صريحا أو بقرينة أو نحو ذلك وكونه أجنبيا بعد العقد لا يوجب الخروج عما عينه وقصده ، وإنما المراد منه ليس له بعد العقد إحداث شي‌ء على خلاف ما دل عليه العقد ، والنظر الذي انتقل إلى الحاكم الشرعي إنما هو على حسب ما دلى عليه العقد ، ولا يجوز له الخروج عن مقتضاه ، وهو قد فرض في صورة الاشكال أنه وبما دلت القرينة هنا على عدم ارادة الواقف النظر على هذا الوجه ، بل يريد تفويض الانتفاع إلى كل واحد من أفراد تلك الجهة العامة إلى آخره.

وحينئذ فإنه متى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه في قوة التقييد للوقف بما ذكر ، والتصريح به ، فكيف تجوز مخالفته والخروج عنه ، ويكون الخروج عنه موافقا للقواعد الشرعية ، بل الوقوف عليه هو مقتضى القواعد الشرعية ،

١٨٨

والخروج عنه على خلافها ، فتأمله بعين البصيرة ، وتناوله بيد غير قصيرة ليظهر لك ما في الزوايا من الخبايا ، وكم ترك الأول للآخر كما هو المثل السائر ، وبذلك يظهر أنه لا اثم على الأخذ في الصورتين المذكورتين كما ظنه (قدس‌سره) ، والله العالم.

المطلب الخامس في شرائط الموقوف عليه :

ويشترط فيه أن يكون موجودا وله أهلية التملك ، أو تابعا لموجود كذلك ، وأمكن وجوده عادة ، وكان قابلا للوقف.

فهنا مسائل الأولى : الظاهر أنه لا خلاف في بطلان الوقف على المعدوم ابتداء ، ولم أقف على نص في المقام ، الا أنه يمكن أن يقال : مضافا إلى ظاهر الاتفاق أن الوقف نقل للمنفعة البتة أو العين على أحد الأقوال إلى الموقوف عليه ، والمعدوم لا يصلح لذلك.

قالوا : وفي معناه الحمل أيضا ، لأنه وان كان موجودا الا أنه غير صالح للتملك ما دام حملا ، فان قيل : انه تصح الوصية له ، وهو نوع تمليك فالجواب الفرق بين الأمرين ، فإن الوقف تمليك في الحال ، فلا بد من قابلية الموقوف عليه للتملك ، والوصية تمليك في المستقبل ، فالتملك فيها مراعى بوضعه حيا ، فلو مات قبل خروجه حيا بطلت ، ولم يرثها وارثه ، بخلاف ما لو خرج حيا ولو لحظة ثم مات ، فإنها يكون ميراثا.

نعم لو ذكر المعدوم تبعا لموجود كما لو وقف على أولاده الموجودين ، ومن سيوجد منهم صح بلا خلاف يعرف ، وكذا لو وقف على أولاده ومن سيتجدد منهم ، وهكذا ، أما لو كان التابع ممن لا يمكن وجوده ، كالميت أو لا يقبل الملك كالعبد بطل فيما يخصه ، ولو ذكر المعدوم أولا ثم الموجود كان منقطع الأول ، وكذا نفسه أو الميت أو العبد ، ثم بعده الموجود ، وقد تقدم الكلام ، في ذلك في المسئلة الرابعة

١٨٩

من المطلب الثاني في شرائط الوقف (١) ونقل ما فيها من الخلاف محررا محققا ، فلا حاجة إلى إعادته ، ثم انه ينبغي أن يعلم أن عدم صحة الوقف على العبد إنما هو بناء على القول بأنه لا يملك ، أولا يملك الا فاضل الضريبة مما لا يدخله الوقف ، أما على القول بكونه يملك ، وان كان محجورا عليه في التصرف ، فإنه لا مانع من الوقف عليه ، وبه صرح الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) أيضا قيل : ولا ينصرف الوقف إلى مولاه ، لأنه غير مقصود في العقد ، والعقود بالقصود.

أقول : الظاهر أن هذا الكلام خرج في معرض الرد على بعض العامة ، حيث جوز الوقف على العبد ، وجعله مصروفا إلى مولاه ، ولا ريب في ضعفه ، لما عرفت من أن العقود تابعة للقصود ، ومولاه لم يقصد بالوقف عليه ، فمن أين ينصرف إليه.

تنبيه :

قد عرفت أن من جملة الشروط في الموقوف عليه أن يكون له أهلية التملك ، ويشكل ذلك بالوقف على المساجد والقناطر ونحوهما ، فإنه مما لا خلاف فيه ، مع أن شيئا منها غير قابل للتملك كما لا يخفى ، والجواب ما صرح به الأصحاب من أن الوقف المذكور في التحقيق إنما هو وقف على المسلمين ، باعتبار بعض مصالحهم ، ولا ريب أنهم قابلون للتملك ، وغايته أنه وقف عليهم باعتبار مصلحة خاصة من مصالحهم ، فكأنه وقف عليهم بشرط صرفه في مصرف خاص ، ومصلحة خاصة ، ولا منافاة فيه.

وربما ظهر من الصدوق من المنع من الوقف على المساجد ، لما روى في كتابه مرسلا (٢) قال : «وسئل عليه‌السلام عن الوقوف على المساجد ، فقال : لا يجوز ، فان المجوس أوقفوا على بيوت النار» ، وروى فيه وفي التهذيب عن أبي الصحاري (٣)

__________________

(١) ص ١٥٥.

(٢) الفقيه ج ١ ص ١٥٤ ح ٤٢.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٥٠ ح ٥٨ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٥ ح ٢. وهما في الوسائل ج ٣ ص ٥٥٢ ح ١ و ٢.

١٩٠

«عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له : رجل اشترى دارا فبقيت عرصة فبناها بيت غلة أيوقفه على المسجد؟ فقال : ان المجوس أوقفوا على بيت النار».

والمستفاد من الخبرين تعليل المنع بالتشبه بالمجوس ، ولم يتعرض لنقل الخبرين المذكورين أحد من الأصحاب في هذا المقام ، فضلا عن الجواب عنها ، ويمكن حملهما على الكراهة ، بناء على أن المفهوم من الأخبار خفة المؤنة في المساجد ، لا كما هو المتعارف في هذه الأزمان من التكلفات الزائدة فيها ، كما لا يخفى ، والله العالم.

المسئلة الثانية : قد اختلف الأصحاب (رضي‌الله‌عنهم) في الوقف على الكافر وقد اضطرب كلامهم في هذا المقام ، فقيل : بالجواز مطلقا ، والمنقول عن الشيخين (عطر الله مرقديهما) أنهما منعا من وقف المسلم على الكافر ، إلا أن يكون من الأقارب سواء كان الأبوين أو غيرهما من ذوي الأرحام ، وبه قال أبو الصلاح وابن حمزة ، وعن سلار وابن البراج الحكم بالبطلان مطلقا وان كان من الأبوين.

واضطرب كلام ابن إدريس فقال : يصح وقف المسلم على والديه الكافرين دون غيرهما من الأهل والقرابات وغيرهم ، لقوله تعالى (١) «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً» وأما غيرهما فلا يجوز وان كان قريبا ، لأن شرط الوقف القربة ، ولا يصح التقرب إلى الله تعالى بالوقف على الكافر ، ونسب كلام الشيخ في النهاية من صحة الوقف على الأقارب ، إلى أنه خبر واحد أورده بلفظه إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد غيره ، إلى أن قال : والأولى عندي أن جميع ذوي أرحامه من الكفار يجرون مجرى أبويه الكافرين في جواز الوقف عليهم ، لحثه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) بصلة الأرحام (٢) قال : وبهذا أفتى ، ثم أمر بلحظة وتأمله ، ثم نقل بعد ذلك بكلام طويل عن الشيخ في الخلاف أنه يجوز الوقف على أهل الذمة إذا كانوا

__________________

(١) سورة لقمان ـ الاية ١٥.

(٢) الكافي ج ٤ ص ١٠ ح ٣ ، الوسائل ج ٦ ص ٢٨٦ ح ٢.

١٩١

أقاربه ، ثم قال : وقد قلنا ما عندنا في هذه المسئلة أنه لا يجوز الوقف على الكفرة الا أن يكون الكافر أحد الأبوين ، لأن من صحة الوقف وشرطه نية القربة ، انتهى.

واضطرابه ظاهر ، وحينئذ ففي المسئلة أقوال أربعة : الأول ـ الجواز مطلقا ، واستدل عليه بالعمومات ، مثل «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها (١)». «ولكل كبد حرى أجر (٢) ، وقوله تعالى «لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ (٣)».

الثاني ـ المنع ، واستدل عليه بقوله عزوجل «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ (٤)» الآية.

الثالث ـ تخصيص الجواز بالأرحام ، ومستنده الجمع بين ما ذكر وبين الأخبار الدالة على وجوب صلة الأرحام (٥).

والرابع ـ التخصيص بالأبوين ، ووجهه ما ذكر مضافا إلى قوله تعالى «وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً (٦)» وقوله «وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً (٧)» فيجب الجمع بين الأدلة مما دل على المنع ، ومما دلت عليه هذه الأدلة بالتخصيص بالأبوين.

والمفهوم من كلام المتأخرين كالمحقق وغيره تقسيم الكافر إلى حربي وذمي ،

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٧٦ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ١٢٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٧ ح ٢.

(٢) الكافي ج ٤ ص ٥٧ ح ٢ وص ٥٨ ح ٦ وفيه «أفضل الصدقة إبراد كبد حرى» الوسائل ج ٦ ص ٣٣٠ ح ٢ و ٥ وص ٢٨٤ ح ٢.

(٣) سورة الممتحنة ـ الآية ٨.

(٤) سورة المجادلة ـ الاية ٢٢.

(٥) الكافي ج ٤ ص ١٠ باب الصدقة على القرابة ، الوسائل ج ٦ ص ٢٨٦ الباب ٢٠.

(٦) سورة الأحقاف ـ الاية ١٥.

(٧) سورة لقمان ـ الاية ١٥.

١٩٢

والقول في الأول بالمنع مطلقا ، والخلاف في الثاني بهذه الأقوال الأربعة ، فمحل هذه الأقوال عندهم إنما هو الذمي.

ويشير إلى ما ذكرنا أن المحقق في الشرائع قال : ولا يقف المسلم على الحربي وان كان رحما ، ويقف على الذمي وان كان أجنبيا ، وشيخنا الشهيد الثاني في الشرح نقل الأقوال الأربعة في الذمي ، ثم قال : واعلم أنه لم يرد في عبارات المتقدمين الا الوقف على الكافر غير المبسوط ، فإنه صرح بالذمي ، ولعل مرادهم ذلك يعنى لعل مراد الأصحاب بالكافر الذي أطلقوه وجعلوه محل البحث والخلاف في المسئلة هو الذمي ، دون الحربي.

واختار في المسالك المنع في الحربي مطلقا ، كما هو مذهب المصنف ، وظاهره أيضا الميل إلى قوله في الذمي ، حيث قال بعد نقل الأقوال الأربعة المتقدمة : وكيف كان فالقول بالمنع مطلقا ضعيف ، وقول المصنف لا يخلو من وجه.

إذا عرفت ذلك فاعلم أني لم أقف في النصوص على ما يدل على حكم الوقف على الكافر ذميا كان أو غيره ، ونسبة ابن إدريس في رده على الشيخ في النهاية ما ذكره في النهاية إلى أنه خبر واحد أورده الشيخ إيرادا لا اعتقادا ، ربما أشعر بوجود خبر بذلك ، الا أنه لم يصل إلينا كما عرفت.

نعم يبقى الكلام فيما ذكر من العمومات التي ذيلت بها الأقوال المتقدمة وهي أيضا غير خالية من الاشكال ، سيما الآيات المذكورة ، فإن الآية التي استدل بها على الجواز مطلقا ، ظاهرة في ذلك حتى قال أمين الإسلام الطبرسي ـ في تفسيرها من كتابه مجمع البيان على ما نقله عنه بعض الأعيان بعد كلام في البين ـ : والذي عليه الإجماع أن بر الرجل من يشاء من أهل الحرب قرابة كان أو غير قرابة ليس بمحرم ، وإنما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة والفطرة والكفارات ، فلم يجوزه أصحابنا ، وفيه خلاف بين الفقهاء ، وهو كما ترى صريح في دعوى الإجماع على جواز برهم ، والوقف من جملة ذلك ، فالآية كما ترى دليل ظاهر

١٩٣

على القول المذكور.

وأما الاستدلال بحديث «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». فقد عرفت آنفا ما فيه ، والحديث الذي بعده ، وان لم يكن ظاهرا في الدلالة ، الا انه صالح للتأييد.

وأما الآية التي استدل بها على المنع مطلقا فهي ظاهرة الدلالة أيضا على القول المذكور ، وفي معناها قوله عزوجل (١) «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ، وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ» الآية وهما صريحتان في النهي عن مودة الكافر ، ولا ريب أن الوقف عليه إنما ينشئ من المحبة والمودة ، وهو مؤكد لها ، والحال أنه منهي عن المودة التي نشأ منها الوقف ، وتأكد بها ، فيكون منهيا عنه أيضا بالطريق الأولى.

نعم لا يخفى أن الآية الأولى وان دلت على الجواز مطلقا الا أنه يدفعها بالنسبة إلى الحربي أولا للقول باشتراط القربة في الوقف ، وقد عرفت أنه مذهب جملة من الأصحاب (رحمهم‌الله) فإنه مقتضى الأدلة ، والتقرب إلى الله تعالى بصلته مع نهيه سبحانه عن مودته لا يجتمعان.

وثانيا حل أمواله للمسلمين ، فان مال الحربي في‌ء للمسلمين يصح أخذه وبيعه ، وهو ينافي صحة الوقف عليه ، والمعارضة كما ترى حاصلة بين الآية المستدل بها على الجواز ، وبين ما ذكرناه ، ولم يظهر لي وجه يجمع به بينهما ، وبذلك يزيد الاشكال.

ومن ثم أنه في المسالك رجح القول بالمنع في الحربي ، والجواز في الذمي ، لكن الواجب عليه كان أن يجيب عن الآية الدالة على الجواز مطلقا ، مع أنه لم يتعرض لذلك ، إلا أنه خص آية الجواز بالذمي كما أشرنا إليه آنفا ، من أنه جعل الأقوال الأربعة في الذمي خاصة ، والآية كما ترى أعم ، بل صريح أمين الإسلام

__________________

(١) سورة الممتحنة ـ الاية ١.

١٩٤

الطبرسي كما عرفت هو كونها في الحربي ، وربما قيل : بأن النهي عن الموادة في تلك الآية إنما هو من حيث المحادة ، فلا ينافيه الوقوع على غير تلك الحيثية ، وهو محتمل ، وبه يقوى الاعتماد على الآية الأخرى مع ما عرفت من المعارض لها وبالجملة فالمسئلة عندي لما عرفت محل اشكال وإعضال ، والله العالم بحقيقة الحال.

إلحاق :

قد عرفت الكلام في وقف المسلمين على الكفار ، بقي الكلام في وقف الكافر على مثله مطلقا ، أو وقف الحربي على الذمي أو الذمي على الذمي خاصة ، فظاهر الأصحاب الصحة ، وكذا الوقف على البيع والكنائس ، وعلل الصحة باعتقادهم شرعيته ، مضافا إلى إقرارهم على دينهم.

والثاني : إنما يتم بالنسبة إلى الذمي ، والمسئلة محل توقف لعدم الظفر فيها بنص ، ويشكل أيضا باشتراط القربة في الوقف على القول به ، حيث أن ذلك معصية في الحقيقة والواقع ، فلا يعقل التقرب والحال ذلك ، الا أن يحمل قصد القربة على قصدها في الجملة ، وان لم يحصل حقيقة ، أو يخصص قصدها ممن يعتقد حصولها ، والأول بعيد غاية البعد ، فإنه لغو محض ، والثاني أيضا لا يخلو من بعد ، وان استظهره في المسالك ، ولهذا ان الأصحاب منعوا من تولى الكافر الأفعال المشروطة بالقربة ، مثل غسل الأموات ونحوه ، وأبطلوا ذلك من حيث عدم تأتي ذلك من الكافر.

المسئلة الثالثة : قد صرح الأصحاب (رضى الله عنهم) ببطلان الوقف على البيع والكنائس ، وكذا لو وقف في معونة الزناة وقطاع الطريق ، وشاربي الخمر وأمثالهم ، وكذا على الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل من غير خلاف يعرف.

أما الأول فالوجه فيه على ما قالوه وان قلنا بجواز الوقف على أهل الذمة كما أحد الأقوال المتقدمة ، هو الفرق بين الأمرين ، فإن الوقف على أهل الذمة

١٩٥

أنفسهم لا يستلزم معصية ، حيث أن نفعهم من حيث الحاجة ، وأنهم عباد الله ، ومن جملة بنى آدم ، وممن يجوز أن يتولد منهم المسلمون ، ولا معصية فيه ، وما ربما يترتب عليه من الإعانة على شرب الخمر ، وسائر المحرمات التي يستحلونها فهي غير مقصودة للواقف ، ولو فرض قصدها حكمنا ببطلان الوقف ، وكذا لو وقف عليهم لكونهم كفارا بل على فسقة المسلمين ، كما سيأتي الكلام فيه إنشاء الله تعالى.

وبالجملة فالمدار في البطلان والصحة على الغاية المترتبة على الوقف ، ولما كانت الغاية المترتبة عليه بالنظر إلى ما قلنا صحيحة سائغة ، صح الوقف ، وهذا بخلاف الوقف على البيع والكنائس ، حيث أنه وان كان وقفا على جهة خاصة من مصالح أهل الذمة ، إلا أنه معصية محضة ، لما يتضمن من الإعانة لهم على الاجتماع لتلك العبادات المحرمة ، ورسوخهم في الكفر ، فالغرض والغاية من الوقف هنا ليس على حسب باقي الغايات المترتبة على الوقف عليهم أنفسهم ، فلذا صح الوقف هناك ، وبطل هنا.

وأما الثاني فالوجه فيه ظاهر ، لانه متى كان الغرض المترتب على الوقف والغاية المقصودة منه إنما هو معونة هؤلاء من هذه الحيثيات المذكورة التي لا ريب في تحريمها ، وأنها معينة ، فلا ريب أن الوقف معصية ، فإن الإعانة على المعصية معصية.

واما لو وقف على من هو متصف بذلك من المسلمين ، لكنه لا من هذه الحيثية فلا إشكال في صحته ، سواء أطلق أم قصد جهة محللة.

واما الثالث فعلله الأصحاب بأن الكتابين المذكورين محرفان عما كانا عليه أولا ، ومع ذلك فهما منسوخان ، ولهذا حكموا بعدم جواز حفظهما ، كما تقدم في مقدمات كتاب التجارة من عدم جواز حفظ كتب الضلال.

نعم جوزوا الحفظ للنقض والحجة بها ، وقد نقل الأصحاب في هذا المقام

١٩٦

حديثا من طرق العامة وهو أنه قد روى عن النبي (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) «أنه قد خرج إلى المسجد فرأى في يد عمر صحيفة ، وفيها شي‌ء من التورية ، فغضب (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لما رأى الصحيفة في يده ، وقال : أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ ألم آت بها بيضاء نقية حتى لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي». قال : في المسالك بعد نقل الخبر المذكور ، وهذا يدل على أن النظر إليها معصية ، وإلا لما غضب منه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لذلك.

أقول : وقد نقل ابن أبى الحديد في شرح نهج البلاغة مثل هذا الخبر عن عمر أيضا بوجه المنع ، وقد ذكرناه في كتابنا سلاسل الحديد في تقييد ابن أبى الحديد ، وبينا ما فيه من نفاق ذلك الطاغي العنيد.

قال في المسالك : وينبغي جواز الوقف عليها على الوجه الذي يجوز إمساكها لأجله وهو النقض والحجة ، لأن الحجة طاعة ، الا أن الغرض لما كان نادرا أطلقوا المنع عليها ، انتهى.

أقول : ومقتضي ما ذكروه هنا جواز الوقف على كتب الشريعة ، والظاهر أنه لا اشكال فيه ، وهل يدخل في ذلك كتب أهل الخلاف أم لا؟ وجهان مبنيان على أنه هل تدخل تلك الكتب تحت كتب أهل الضلال أم لا وقد تقدم الكلام في ذلك في الموضع المشار إليه آنفا ، فعلى الأول كما هو الأظهر لا يجوز ، وعلى الثاني كما اختاره بعض محققي متأخري المتأخرين يجوز ، والله العالم.

المسئلة الرابعة : إذا وصف الموقوف عليه بصفة أو نسبة ، دخل فيه كل من تناوله الإطلاق عرفا مع اتفاق العرف أو الاصطلاح على ذلك ، والا فالمتعارف عند الواقف ، اعتبارا بشاهد الحال ، ولو كان ثمة قرائن وجب العمل بمقتضاها.

وفي هذا الباب صور منها ـ ما لو وقف على الفقراء ، فان كان الواقف مسلما انصرف إلى فقراء المسلمين ، وان كان كافرا وقلنا بصحة وقف الكافر انصرف

__________________

(١) المسالك ج ١ ص ٣٤٩.

١٩٧

إلى فقراء نحلته ، والوجه فيه ، أن صفة الفقر وان شملت لغة لكل من المسلم والكافر ، ومقتضاه العموم للجميع في كل من الصورتين المذكورتين ، الا أن العرف وشاهد الحال يدل على ارادة المسلمين في الأولى ، وأهل نحلة الواقف في الثانية ، والعرف عندهم مقدم على اللغة ، وهذا يتم مع تحقق دلالة العرف وشهادة الحال عليه ، والا فاللغة مقدمة ، الا أنه لما كان تحقق الدلالة العرفية هنا وشهادة الحال بذلك ظاهرا جزموا بالحكم المذكور من غير تردد.

بقي أنه لو وقف على الفقراء فهل يجب تتبع من خرج عن بلد الوقف أو يكفي الدفع إلى فقراء البلد؟ صرح جملة من الأصحاب بالثاني ، وعلل بأن الوقف على غير منحصر إنما هو وقف على الجهة ، لا على أشخاصها ، ومصرف الجهة من اتصف بوصفها من فقر أو فقه لو كان الوقف على الفقهاء ، فلا يجب الدفع إلى جميع الأشخاص الداخلين في الوصف ، ويدل عليه ما رواه ثقة الإسلام في الكافي عن على بن محمد بن سليمان النوفلي (١) قال : «كتبت إلى أبى جعفر الثاني عليه‌السلام أسأله عن أرض وقفها جدي على المحتاجين من ولد فلان بن فلان وهم كثير متفرقون في البلاد فأجاب عليه‌السلام ذكرت الأرض التي أوقفها جدك على فقراء ولد فلان بن فلان وهي لمن حضر البلد الذي فيه الوقف ، وليس لك أن تتبع من كان غائبا».

وظاهر الخبر الاختصاص بمن حضر البلد لظاهر اللام ، المؤذن بالملك أو الاختصاص ، والأصحاب صرحوا بأنه لو تتبع جاز ، لأن المنفي إنما هو وجوب التتبع ، والظاهر من الخبر خلافه ، وان أمكن احتماله.

وظاهر الخبر وجوب استيعاب من في البلد ، وبه صرح بعضهم ، وقيل : يجزى الاقتصار على ثلاثة مراعاة للجمع ، مع ما علم من أن الجهة لا يقتضي الأشخاص ، وقيل : يكفى اثنين ، بناء على أنه أقل الجمع.

قال في المسالك : ويحتمل جواز الاقتصار على واحد ، نظرا الى أن الأشخاص

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٨ ح ٣٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٨ ح ١.

١٩٨

مصرف الوقف ، لا مستحقوه إذ لو حمل على الاستحقاق وعمل بظاهر اللفظ لوجب الاستيعاب ، لأنه جمع معرف مفيد للعموم ، فيجب التتبع ما أمكن ، انتهى.

وفيه أن الظاهر من الخبر المذكور هو وجوب استيعاب من في البلد ، فلا ينبغي الالتفات الى هذه الأقوال ، ولا الى ما عللت به.

ومنها ما لو وقف على المسلمين ، والظاهر صدقه على من أقر بالشهادتين مع عدم إنكاره ما علم من الدين ضرورة ، فيدخل فيه جملة الشكاك والمستضعفين ويخرج منه من حكم بكفره من أفراد المسلمين ، كالخوارج ، والنواصب ، والمجسمة والغلاة ، ولفظ المسلمين وان شمل هؤلاء المذكورين عرفا ، إلا أنه شرعا لا يشملهم والعرف الشرعي مقدم على العرف العام اتفاقا.

وبذلك يظهر ما في قوله في المسالك بعد أن ذكر المعنى الأول وهو حمل المسلمين على من أقر بالشهادتين ولم ينكر شيئا من ضروريات الدين فيخرج عنه هؤلاء المذكورون ما لفظه : مع احتمال العموم نظرا الى المفهوم عرفا.

فان فيه أنه وان صدق ذلك عرفا إلا أن المفهوم من هذا اللفظ بالنظر الى الأخبار إنما هو الأول ، ولهذا أنهم صرحوا في تسميتهم مسلمين إنما هو بمعنى منتحلي الإسلام ، وإذا ثبت أن عرفهم عليه‌السلام إنما هو المعنى الأول وجب تقديمه وبطل ما ذكره من الاحتمال.

وفي دخول المخالفين وعدمه قولان مبنيان على الحكم بإسلامهم كما هو المشهور بين المتأخرين ، أو كفرهم كما هو مذهب جملة من محققي متقدمي الأصحاب ، وهو المختار ، كما أوضحناه بما لا مزيد عليه في جملة من زبرنا ، ولا سيما كتاب الشهاب الثاقب في بيان معنى الناصب ، وقد تقدم في الجلد الثاني من كتاب الطهارة نبذ من القول في ذلك (١) «قال في المسالك : ولا فرق بين كون الواقف من المسلمين محقا وغيره ، عملا بالمفهوم ، وقيل : إن كان الواقف

__________________

(١) ج ٥ ص ١٨١.

١٩٩

محقا يختص الوقف بقبيلة بشهادة الحال ، كما لو وقف على الفقراء ، ورد بأن تخصيص عام لا يقتضي تخصيص آخر ، وشهادة الحال ممنوعة ، والفرق بين المسلمين والفقراء قائم ، فان ارادة الوقف على جميع الفقراء على اختلاف آرائهم وتباين مقالاتهم ومعتقداتهم بعيد ، بخلاف ارادة فرق المسلمين من إطلاقهم ، فإنه أمر راجح شرعي مطلوب عرفا ، والأقوى المشهور.

نعم لو كان الواقف من أحد الفرق المحكوم بكفرها لم يخرج قبيلته من وقفه ولا غيره ممن يحكم بكفره أيضا ، حيث لا يشهد حاله بإخراجه ، ويحتمل اختصاص عدم الحرمان بقبيلة خاصة اقتصارا في التخصيص على محل اليقين ، وهو حسن إلا مع شهادة الحال بخلافه ، انتهى.

أقول : ما نقله من القول الذي نقضه هو قول ابن إدريس حيث قال : وإذا وقف المسلم المحق شيئا على المسلمين كان ذلك للمحقين من المسلمين ، واستدل بأن فحوى الخطاب وشاهد الحال يدل عليه ، كما لو وقف الكافر وقفا على الفقراء كان ماضيا في فقراء أهل نحلته خاصة ، بشهادة دلالة الحال عليه ، قال : وما أورده الشيخ خبر واحد أورد ، إيرادا لا اعتقادا ، لأنا وإياه نراعي في صحة الوقف التقرب به الى الله ، وببعض هؤلاء لا يتقرب الإنسان المحق بوقفه عليه ، انتهى.

وأنت خبير بأن كلام ابن إدريس جيد بناء على مذهبه ، وبيان ذلك أن الخارج عن هذا العنوان أعنى المسلم المحق منحصر في أفراد ثلاثة : أحدها ـ من أنكر شيئا من ضروريات الدين كالإفراد المتقدم ذكرها ، وهم موافقون على خروجها عن هذا العنوان بل عن عنوان المسلمين ، لأنهم كفار عندهم بلا اشكال.

وثانيها ـ أفراد المخالفين من العامة ، ومن يتبعهم من فرق الزيدية وغيرهم وهؤلاء وإن كانوا عندهم من المسلمين ، إلا أنهم عند ابن إدريس وجملة من محققي المتقدمين من الكفار باليقين ، وهو الحق كما تقدمت الإشارة اليه ، ومحل اعتراضهم هنا نشأ من هذا الفرد ، مع أن مذهبه فيه ما عرفت من القول بالكفر

٢٠٠