الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

كتاب الوكالة

قال في التذكرة : الوكالة عقد شرع للاستنابة في التصرف ، وهي جائزة بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، أما الكتاب «فقوله سبحانه (١) (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها)» فجوز العمل ، وذلك بحكم النيابة عن الشخص ، وقوله تعالى (٢) «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ» وهذه وكالة ، وقوله تعالى (٣) «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً» ، فهذه وكالة وأما السنة فما رواه العامة ثم نقل جملة من أخبارهم ، ومنها حديث عروة البارقي (٤) في شراء الشاة ، وحديث وكالته (صلى‌الله‌عليه‌وآله) عمرو بن أمية الضيمرى (٥) في قبول نكاح أم حبيبة بنت أبي سفيان ، ووكل أبا رافع (٦) في قبول نكاح ميمونة ، ثم نقل حديثا من طرق الخاصة ، وأحال على الأحاديث الآتية في الكتاب ، الى أن قال : وقد اجتمعت الأمة في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوكالة ، ولأن اشتداد

__________________

(١) سورة التوبة ـ الاية ٦٠.

(٢) سورة الكهف ـ الاية ١٩.

(٣) سورة يوسف ـ الاية ٩٣.

(٤ و ٥ و ٦) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٢ الباب ١٨ ح ١ وص ٥١٠ الباب ٢٠ ح ٣.

٣

الحاجة الى الوكالة ظاهرة ، إذ لا يمكن لكل أحد مباشرة ما يحتاج اليه من الأفعال فدعت الضرورة إلى الاستنابة ، انتهى كلامه.

والكلام في هذا الكتاب يقع في مطالب سبعة :

المطلب الأول في العقد وما يلحق به :

وتحقيق الكلام في ذلك يقع في مسائل الأولى : قال في التذكرة عقيب الكلام المتقدم : الوكالة عقد يتعلق به حكم كل واحد من المتعاقدين ، فافتقر إلى الإيجاب والقبول ، كالبيع والأصل فيه عصمة مال المسلم ، ومنع غيره من التصرف فيه إلا بإذنه ، فلا بد من جهة الموكل من لفظ دال على الرضا بتصرف الغير له ، وهو كل لفظ يدل على الاذن ، مثل أن يقول وكلتك في كذا وفوضت إليك ، واستنبتك فيه ، وما أشبهه ، ولو قال : وكلتني في كذا فقال : نعم ، وأشار بما يدل على التصديق كفى في الإيجاب ، ولو قال : بع وأعتق ونحوهما حصل الاذن ، وهذا لا يكاد يسمى إيجابا بل هو أمر واذن ، وانما الإيجاب قوله وكلتك واستنبتك وفوضت إليك وما أشبهه وقوله أذنت لك في فعله ليس صريحا في الإيجاب ، بل اذن في الفعل ، الى أن قال : ولا بد من القبول لفظا ، وهو كل ما يدل على الرضا بالفعل أو قولا ، ويجوز القبول بقوله قبلت ، وما أشبهه من الألفاظ الدالة عليه ، وكل فعل يدل على القبول ، نحو أن يأمره بالبيع فيبيع أو بالشراء فيشتري ، لأن الذين وكلهم النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لم ينقل عنهم سوى امتثال أمره ، ولأنه اذن في التصرف ، فجاز القبول فيه بالفعل ، كأكل الطعام انتهى.

أقول : قد تقدم في غير موضع ما يدل على سعة الدائرة في العقود وأن المعتبر فيها هو كل ما يدل على الرضا من الطرفين بذلك المعقود عليه ، بقي الكلام في قوله «ان قوله بع وأعتق لا يسمى إيجابا ، وانما هو أمر واذن ، وكذا في قوله أذنت لك في فعله ، ليس صريحا في الإيجاب.

٤

ففيه أنه قد صرح أولا بأن الإيجاب عبارة عن كل لفظ يدل على الرضا بتصرف الغير له ، وهو كل لفظ يدل على الأذن ، وقال : أخيرا في تعليل صحة القبول الفعلي ، ولأنه اذن في التصرف ، فجاز القبول فيه بالفعل ، وتقدم في كلامه السابق عد الآية ، وهي قوله عزوجل (١) «اذْهَبُوا بِقَمِيصِي» وقوله تعالى (٢) «فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ» عن باب الوكالة ، وقال : أيضا بعد هذا الكلام الذي نقلناه وقد وكل النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) عروة البارقي (٣) في شراء شاة بلفظ الشراء ، يعنى اشتر ، وهو مثل لفظ بع الذي منع منه هنا ، وقال : قال الله تعالى مخبرا عن أهل الكهف ، ثم ذكر الآية ثم قال : دل على الاذن فجرى مجرى قوله وكلتك ، ومقتضى ذلك كون المثالين المذكورين ، وقوله أذنت لك كذلك.

وبالجملة فإن المستفاد من كلامهم هو سعة الدائرة ، في هذا العقد زيادة على غيره من العقود من حيث أنه من العقود الجائزة ، فلا يختص بألفاظ مخصوصة ، بل يكفي كل ما دل على الرضا بالاستنابة.

قال في المسالك : لما كان عقد الوكالة من العقود الجائزة صح بكل لفظ يدل على الاستنابة وان لم يكن على نهج الألفاظ المعتبرة في العقود ، وينبه عليه قول النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لعروة البارقي «اشتر لنا شاة» وقوله تعالى حكاية عن أهل الكهف (٤) «فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ» ومنه بع ، واشتر ، وأعتق ، وأذنت لك في كذا ، ونعم ، عقيب الاستفهام التقريري ، كو كلتني في كذا ، لأنها نائبة مناب وكلتك ، وكذا الإشارة الدالة على المراد الواقعة جوابا ، فإنها وان لم تفد جوابا صريحا ولم يحصل النطق به ، إلا أنه بمنزلته في الدلالة ، فيكفي فيه التوسع في مثل هذا العقد ، انتهى وهو جيد.

__________________

(١) سورة يوسف ـ الاية ٩٣.

(٢) سورة الكهف ـ الاية ١٩.

(٣) المستدرك ج ٢ ص ٤٦٢ الباب ١٨ ح ١.

(٤) سورة الكهف ـ الاية ١٩.

٥

ثم ان ظاهر كلامهم هنا الاتفاق على الاكتفاء بالقبول الفعلي ، وان اختلفوا فيه في غيره من العقود سيما العقود اللازمة كما تقدم ذكره في جملة من العقود ، وذلك بأن يوكله في البيع أو الشراء ، فيبيع أو يشتري من غير لفظ يدل على القبول ، قالوا : والوجه في ذلك أن المقصود عن الوكالة الاستنابة ، والاذن في التصرف ، وهو اباحة ورفع حجر ، فأشبه إباحة الطعام ، ووضعه بين يدي الآكل ، فإنه لا يفتقر الى القبول اللفظي.

بقي الكلام في أن ظاهر ما قدمنا نقله عنه من قوله «وكل فعل يدل على القبول» الى آخره يدل على أن القبول الفعلي هو فعل ما تعلقت به الوكالة ، وهو الذي صرح به غيره من الأصحاب أيضا الا أنه قال بعد هذا الكلام والقبول يطلق على معنيين : أحدهما الرضا والرغبة فيما فوض اليه ، ونقيضه الرد ، والثاني اللفظ الدال عليه على النحو المعتبر في البيع ، وسائر المعاملات ، ويعتبر في الوكالة القبول بالمعنى الأول ، حتى لو رد وقال : لا أقبل أو لا أفعل ، بطلت الوكالة ولو ندم وأراد أن يفعل أو يرجع ، بل لا بد من استيناف اذن جديد مع علم الموكل ، لأن الوكالة جائزة من الطرفين ، يرتفع في الالتزام بالفسخ انتهى.

وظاهر هذا الكلام أنه لا يكفي مجرد الفعل لما تعلقت به الوكالة ، بل لا بد من اقترانه بالرضا والرغبة ووقوعه قبل أن يرد ، ومقتضى الكلام الأول هو صحة الوكالة متى فعل ما وكل به لأن بذلك يحصل القبول ، وينضم إلى الإيجاب المتقدم وان رد أولا ، وقال : لا أقبل ، والفسخ إنما يكون بعد تمام العقد بالقبول ، وما لم يفعل أو يقبل باللفظ فلا معنى للفسخ ، لعدم حصول العقد.

ويؤيد ما ذكرناه عموم أدلة الوكالة مثل قوله عليه‌السلام (١) «الوكالة ثابتة حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول». على أن انعزاله بعزله نفسه بعد تمام

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٣ ح ١ ، الفقيه ج ٣ ص ٤٧ ح ٣٣٨١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٥ ح ١.

٦

العقد مع عدم عزل الموكل له محل منع ، كما سيأتي التنبيه عليه ان شاء الله تعالى في محله.

ثم ان ظاهر ما ذكروه من الاكتفاء في الإيجاب بما يدل على الوكالة ، ولو بالإشارة هو الاكتفاء بالكتابة أيضا ، قال في المسالك : وما ذكره المصنف والجماعة من الاكتفاء في الإيجاب بالإشارة اختيارا يقتضي الاكتفاء بالكتابة أيضا ، لاشتراكهما في الدلالة مع أمن التزوير انتهى.

أقول : والذي وقفت عليه من أخبارهم عليهم‌السلام في المقام ما رواه الصدوق عن داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رجل قال لآخر اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شي‌ء مما قاولت من صداق أو ضمنت من شي‌ء أو شرطت فذلك لي رضا وهو لازم لي ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له ، وبذل الصداق. الحديث وما رواه عن حماد عن الحلبي (٢) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوموا عليه قيمة فيقولون بع فما ازددت فلك. إلى أنه قال في امرأة ولت أمرها رجلا فقالت : زوجني فلانا. الحديث ، وفيه أنه بعد أن قاول الزوج على المهر زوجها من نفسه فأبطل عليه‌السلام التزويج ، وموثقة سماعة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يحمل المتاع لأهل السوق ، وقد قوموا عليه قيمة فيقولون : بع فما ازددت فلك ، فقال لا بأس بذلك.

وفي صحيحة زرارة (٤) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل يعطي المتاع فيقول ما ازددت علي كذا فهو لك فقال : لا بأس».

وفي صحيحة محمد بن مسلم (٥) عن أبي عبد الله عليه‌السلام «انه قال في رجل

__________________

(١ و ٢) الفقيه ج ٣ ص ٤٩ ح ٤ و ٥٠ ح ٦ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١٦ ح ٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٨ ح ١ و ص ٢٩٠ ح ١.

(٣) الفقيه ج ٣ ص ١٤٥ ح ٢٩ ، الكافي ج ٥ ص ١٩٥ ح ٣ ، التهذيب ج ٧ ص ٥٤ ح ٣٣. الوسائل ج ١٢ ص ٣٨١ ح ٣.

(٤ و ٥) التهذيب ج ٧ ص ٥٤ ح ٣٢ و ٣١.

وهذه الروايات في الوسائل ج ١٢ ص ٣٨١ ح ٣ و ٢ و ١

٧

قال لرجل : بع ثوبا بعشرة دراهم فما فضل فهو لك ، قال : ليس به بأس».

والعقود في هذه الأخبار كلها كما ترى من قبيل ما تقدم من قوله بع وأعتق واشتر ، ونحو ذلك مما يدل على الاذن والاستنابة ، وليس في شي‌ء منها ما يتضمن القبول لفظا وانما تضمنت المبادرة إلى امتثال ما أمر به ، لكنه في الحديث الثاني حيث خالف مقتضى الأمر وزوجها من نفسه أبطل عليه‌السلام التزويج.

ونحو ذلك في صحيحة هشام (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا قال لك الرجل اشتر لي فلا تعطه من عندك ، الحديث.

وقوله في موثقة إسحاق بن عمار (٢) عنه عليه‌السلام قال : «سألته عن الرجل يبعث الي الرجل فيقول : ابتع لي ثوبا فيطلب له في السوق الحديث.

وفي الثانية منهما دلالة على ثبوت الوكالة من الغائب بالمكاتبة أو الإرسال على لسان شخص آخر كما تقدم ذكره.

وفي رواية هشام بن سالم (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل وكل آخر على وكالة في إمضاء أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر» ، الحديث.

وهو ظاهر في الاكتفاء بالقبول الفعلي وإطلاق هذه الاخبار ظاهر فيما هو المشهور من حصول القبول الفعلي بالإتيان بما تعلقت به الوكالة ، خلافا لما تقدم نقله عن التذكرة من اشتراط الرضا والرغبة.

وفي رواية العلاء بن سيابة (٤) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة وكلت رجلا أن يزوجها من رجل ، فقبل الوكالة وأشهدت له بذلك ، فذهب الوكيل فزوجها» الحديث.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٦ ح ١٩ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٨٨ ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٢ ص ٢٨٩ ح ٢.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٦ ص ٢١٣ ح ٢ وص ٢١٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٦ ح ١ و ٢.

٨

وهذا الخبر مما يدل على القبول لكنه أعم من أن يكون بلفظ قبلت ونحوه ، أو بمجرد إظهار الرضا ، وفي صحيحة أبي ولاد الحناط (١) قال : «سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن رجل أمر رجلا أن يزوجه امرأة بالمدينة ، وسما هاله ، والذي أمره بالعراق فخرج المأمور فزوجها إياه» الحديث.

ورواية الحذاء (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أمر رجلا أن يزوجه امرأة من البصرة من بني تميم ، فزوجه امرأة من أهل الكوفة من بني تميم ، قال : خالف أمره». الحديث.

وفي هذين الخبرين دلالة على ما دلت عليه الأخبار المتقدمة من قوله : «زوجني أو اخطب لي» والقبول فيهما إنما وقع بالإتيان بما أمر به ، لكنه في الثاني أبطل الوكالة من حيث المخالفة. وفي رواية محمد بن عيسى (٣) «أنه بعث إليه أبو الحسن الرضا عليه‌السلام بثلاثمائة دينار الى رحم امرأة كانت له ، وأمره أن يطلقها عنه ويمتعها بهذا المال». وفيها دلالة على ما قدمنا ذكره من ثبوت الوكالة عن الغائب بالكتابة أو الإرسال على لسان شخص ، الى غير ذلك من الأخبار التي يقف عليها المتتبع ، ولا يخفى على من تتبع الروايات الخاصة والعامة أن ما اشتملت عليه من عقود الوكالة ليس فيها أزيد من الأوامر بما يريده الموكل مما يدل على الاذن له في التصرف ، وليس فيها لفظ «وكلتك» ولا نحوه من تلك الألفاظ ، وكذا في جانب القبول ليس فيها أزيد من الرضا بذلك ، والمبادرة إلى فعل ما وكل فيه ، وكأنهم إنما أخذوا هذا اللفظ واشتقوه من لفظ الوكالة فعبروا به ، وعبروا بالقبول من حيث الدلالة على الرضا الذي هو الأصل في صحة العقد ، فسرى الوهم الى ترجيح الفرع على الأصل.

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٢٧١ ح ٧٥.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٨٣ ح ١٥٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٤ ح ٤٤.

(٣) التهذيب ج ٨ ص ٤٠ ح ٤٠ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٤ ص ٢٣٠ ح ١ وص ٢٢٨ ح ١ وج ١٠ ص ٤١٠ في تعليقة ح ٦.

٩

أقول : ويستفاد من موثقة إسحاق بن عمار ، وصحيحة أبي ولاد عدم فورية القبول في عقد الوكالة ، والظاهر أنه اتفاقي عندهم ، كما يفهم من التذكرة حيث أسنده إلى أصحابنا ، وجوز تراضيه إلى سنة ، ومما ذكر يعلم ضعف مناقشة المسالك للمصنف حيث ان المصنف استدل على جواز تأخير القبول ، بأن الغائب له أن يوكل ، والقبول متأخر ، وأورد عليه أن جواز توكيل الغائب فرع جواز التراخي في القبول ، إذ لو قلنا بفوريته لم يصح.

وفيه ان المصنف إنما استدل بتوكيل الغائب بناء على النص الدال على ذلك كما ذكرناه ، ومتى ثبت ذلك بالنص في الغائب ثبت في غيره بتنقيح المناط ، إذ لا خصوصية للغائب بذلك ، مع تأيد ذلك بإطلاق جملة من أخبار الوكالة أيضا والله سبحانه العالم.

الثانية لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط التنجيز في الوكالة ، فلو علقها على شرط يمكن وقوعه وعدم وقوعه ، مثل «ان قدم زيد» أو على صفة وهي ما لو كان وجوده في المستقبل محققا كطلوع الشمس ، ومجي‌ء رأس الشهر بطلت.

قال في التذكرة : لا يصح عقد الوكالة معلقا بشرط ، أو وصف ، فان علقت عليهما بطلت ، مثل أن يقول : «إن قدم زيد» أو «إن جاء رأس الشهر وكلتك» عند علمائنا ، وهو أظهر وجهي الشافعية ، انتهى.

والظاهر أن مرجع ذلك الى أنه لا يجوز توقيف حصول الوكالة على شي‌ء من هذين الأمرين ، سواء كان مقرونا بأداة الشرط مقدما أو مؤخرا ، مثل «إن كان كذا فأنت وكيل» أو «أنت وكيل إن كان كذا» أو غير مقرون بها مثل «وكلتك بشرط مجي‌ء زيد» هذا.

والظاهر أنه لا خلاف أيضا في أنه لو تنجز الوكالة وشرط تأخير التصرف كأن يقول «وكلتك في كذا ، ولا تتصرف إلا بعد شهر» ، فإنه يجوز ، ونقل الإجماع عليه في التذكرة أيضا ، وكذا الظاهر أنه لا نزاع عندهم في جواز التوقيت ، مثل أن

١٠

يقول : وكلتك شهرا ، وأنه لا يكون بعد تمامه وكيلا ، وأنت خبير بأنه لا فرق عند التأمل بعين التحقيق بين التعليق على الصفة ، وهو قولنا : وكلتك ان جاء رأس الشهر ، أو ان طلعت الشمس ، وبين التنجيز الذي ذكروه مع شرط التأخير كأن يقول وكلتك ، ولا تتصرف إلا بعد شهر ، فانا لا نعرف لهذا التنجيز هنا معنى ، ولا ثمرة مع هذا الشرط ، والمسئلة من أصلها عارية من النص.

وحينئذ فالظاهر أن الفارق إنما هو الإجماع المدعى في التذكرة في كل من الموضعين ، وأما ما ذكره في المسالك حيث قال بعد ذكر المسئلة الثانية : وهي ما لو نجز الوكالة ، وشرط تأخير التصرف جاز ، والوجه أن منعه من التصرف في الوقت المعين شرط زائد على أصل الوكالة المنجزة ، وهي قابلة للشروط السابغة ، وهذا وان كان في معنى التعليق الا أن العقود لما كانت متلقاة من الشارع نيطت بهذه الضوابط ، وبطلت فيما خرج عنها ، وان أفاد فائدتها ، انتهى.

ففيه أنه أي نص دل هنا على ما ذكروه من بطلان العقد بالتعليق على الشرط ، أو الصفة المذكورين في كلامهم ، وأي نص دل على اشتراط التنجيز الذي ذكروه.

وبالجملة فإنه لا مستند لكل من المسئلتين ، ولا للفرق بينهما إلا الإجماع المدعى ، والى ما ذكرنا يميل كلام المحقق الأردبيلي قال : ثم اعلم أن الأصل وعموم أدلة التوكيل ـ وكونه جائزا ، ومبناه على المساهلة ، دون الضيق ، وما تقدم في عبارة التذكرة من أنه اذن وأمر وأنه مثل الاذن في أكل الطعام ولا شك في جواز تعليقه مثل ان جئت فأنت مأذون في الأكل ونحوه مع عدم مانع ظاهر ـ يدل على جواز التعليق ، ويؤيده جواز التعليق في العقود الجائزة مثل القراض ، بل هو وكالة بجعل ، والعارية وغيرها ، انتهى.

وبالجملة فمقتضى إطلاق روايات الوكالة وعمومها هو الصحة مطلقا وتخصيصها يتوقف على الدليل ، وليس إلا الإجماع ، فمن ثبت عنده حجية الإجماع وأنه

١١

دليل شرعي فله أن يخصص به عموم تلك الأخبار ، والا فالعمل على ما دلت عليه تلك العمومات ، بقي الكلام في أنه متى حكمنا ببطلان العقد بتعلقه على الشرط ، فهل يجوز له التصرف بعد حصول الشرط ، أم لا؟ قرب في التذكرة الجواز ، وجعله في القواعد احتمالا.

قال في التذكرة : قد بينا بطلان الوكالة المعلقة ، فلو تصرف الوكيل بعد حصول الشرط فالأقرب صحة التصرف ، لأن الإذن حاصل لم يزل بفساد العقد ، وصار كما لو شرط في الوكالة عوضا مجهولا ، فقال : بع كذا على أن لك العشر من ثمنه ، فإنه يفسد الوكالة ، ولكن ان باع يصح الشرط ، ثم اعترض على نفسه بعدم ظهور فائدة للفساد ، فقال : ان قيل لا فائدة حينئذ للفساد على تقدير صحة التصرف التي هي ثمرة صحة عقد الوكالة ، فإذا وجدت مع القول بالفساد فلا ثمرة في القول بالبطلان ، بل لا معنى للبطلان حينئذ ، إذ البطلان في المعاملات عدم ترتب الأثر ، وقد قيل : هنا بالترتيب مع الفساد ، ثم أجاب بأنه تحصل الفائدة في سقوط الجعل المسمى في عقد الوكالة ان كان ، والرجوع الى أجرة المثل كما في المضاربة الفاسدة ، فإنه تبطل الحصة المسماة ، ويرجع الى أجرة المثل ، وكذا الشرط الفاسد في النكاح يفسد الصداق ، ويوجب مهر المثل ، وان لم يؤثر في النكاح ، انتهى ملخصا.

واعترضه في المسالك بأن الوكالة ليست أمرا زائدا على الاذن ، والجعل المشروط ليس جزء منها ، وانما هو شرط زائد عليها لصحتها بدونه ، بخلاف المضاربة فإن اشتراط الحصة شرط في صحتها ، ولأنه لو تم ذلك لزم الحكم بصحة التصرف مع فسادها بوجه آخر ، كقول الوكيل نفسه مع علم الموكل به وسكوته ، فإن الإذن

حاصل منه ، فلا يرتفع بفسخ الوكيل ، ولأن العقد حينئذ فاسد قطعا ، ولا معنى للفاسد إلا ما لا يترتب عليه أثره ، ولأن الإذن المطلق انما وجد في ضمن الوجه المخصوص ، إذ لا وجود للكلي إلا في ضمن جزئياته ، ولم يوجد منها إلا هذا الجزئي فإذا ارتفع ارتفع الكلي ، ثم قال : وللتوقف في هذا الحكم مجال ، انتهى.

١٢

أقول : ويزيده تأييدا أن مقتضى كلام العلامة المذكور أن ثمرة ما ذكره انما تظهر في صورة ما إذا كان العقد مشتملا على جعل وإلا فمع عدم اشتماله على ذلك فإنه لا يظهر للحكم بالبطلان فائدة ، ولا أثر يترتب عليه ، وحينئذ لا يكون ما ذكره كليا ، ويتم ما أورده على نفسه ، وعلى هذا يجب القول بصحة العقد حينئذ ، وليس ذلك إلا من حيث بطلان اشتراط التنجيز الذي جعلوه شرطا في صحة الوكالة ، ولأنه إذا حكم بفساد الوكالة من حيث كون عدم التعليق شرطا في صحتها ، فمع التعليق المذكور يجب الحكم بالبطلان ، لفوات شرط الصحة ، فكيف يصح التصرف حينئذ الذي هو ثمرة الصحة ، ويحكم باستحقاق الأجرة ، وكيف تظهر الفائدة فيما ذكره ، مع أنه يرجع الى القول بعدم اشتراط التنجيز ، وعدم البطلان مع التعليق ، بل تصح فيها إذا لم يكن جعل ، بل معه أيضا ، وإنما يبطل الجعل خاصة ، على أن ما ادعاه من الصحة ـ استنادا الى الاذن وأنه لم يزل بفساد العقد ، ـ قد عرفت ما فيه من كلام المسالك ، وتوضيحه أن الاذن إنما علم على تقدير الشرط الذي اشتملت عليه عبارة العقد ، والحال أنه قد حكم ببطلانها ، وليس هنا ما يدل على الاذن غيرها ، ولزوم الأجرة على هذا أيضا ممنوع ، كما تقدمت الإشارة إليه ، لأنه إنما تلزم لو فعل ما وكل فيه على ما أمر ، والحال أن ذلك الأمر قد بطل.

وبالجملة فإن الحكم بالصحة لا يتجه ولا يتم إلا بناء على عدم اشتراط التنجيز ، وهو ليس ببعيد ، كما عرفت من أنه لا دليل على هذا الشرط غير الإجماع المدعى ، مع ما عرفت من المجازفة في أمثال هذه الإجماعات ، والله العالم.

الثالثة : اختلف الأصحاب في ما لو وكله في شراء عبد هل يفتقر الى وصفه لينتفي الغرر أم لا؟ وبالأول قال في المبسوط وجماعة منهم الشرائع ، قال في المبسوط :

إذا وكله في شراء عبد وجب وصفه ، ولو أطلق لم يصح لما فيه من الغرر ، ونحو عبارة الشرائع ، وقيل : بالعدم ، وهو اختيار المسالك والمختلف وغيرهما ، وحجة

١٣

الأولين ما عرفت من الغرر ، لأن العبد المطلق متوغل في الإبهام ، وصادق على أصناف مختلفة ، فلا بد من وصفه ببعض الأوصاف المزيلة للجهالة ، ولو في الجملة ككونه تركيا أو زنجيا ولا يجب استقصاء الأوصاف الرافعة للجهالة بالكلية.

وأجاب الآخرون بأن الغرر يندفع بمراعات الوكيل المصلحة في شرائه ، فإن الإطلاق محمول شرعا على الاستنابة في شراء عبد يكون شرائه مشتملا على مصلحة للموكل ، ويتخير الوكيل حيث توجد المصلحة في متعدد كذا ذكره في المسالك ، وفي المختلف أجاب بأن الإطلاق ينصرف الى شراء الصحيح بثمن المثل.

وظني أن شيئا من هذين الجوابين لا يفي بالمطلوب ، أما الأول : فلأن مراعاة مصلحة الموكل فرع العلم بغرضه ومطلوبه من شراء ذلك العبد ، والمفروض أعم من ذلك ، وأما الثاني فإن دفع الغرر لا ينحصر في ما ذكره ، وقد ذكروا في كتاب البيع ولا سيما في السلم من توقف صحة البيع على الوصف الرافع للغرر ما هو ظاهر في تأييد ما قلناه.

وبالجملة فالاحتياط يقتضي الوقوف على ما ذهب اليه الشيخ ومن تبعه ، والله سبحانه العالم.

الرابعة : الظاهر أنه لا خلاف في أن الوكالة من العقود الجائزة من الطرفين فيجوز لكل منها العزل والفسخ قال في التذكرة : العقود أربعة أضرب : الأول : عقد لازم من الطرفين لا ينفسخ بفسخ أحد المتعاقدين ، وهو البيع ، والإجارة ، والصلح ، والخلع ، والنكاح.

الثاني : عقد جائز من الطرفين وهو الوكالة ، والشركة ، والمضاربة ، والجعالة ، فلكل منهما فسخ العقد في هذه.

الثالث : عقد لازم من أحد الطرفين جائز من الآخر كالرهن ، فإنه لازم من طرف الراهن ، جائز من طرف المرتهن ، والكتابة عند الشيخ جائزة من طرف العبد ، لأن له أن يعجز نفسه ، ولازمة من جهة المولى.

١٤

الرابع : المختلف فيه ، وهي السبق والرماية ان قلنا إنهما اجارة ، كان لازما ، وان قلنا إنهما جعالة ، كان جائزا ، ولا نعلم خلافا من أحد من العلماء في أن الوكالة عقد جائز من الطرفين ، لأنه عقد على تصرف مستقبل ، ليس من شرطه تقدير عمل ، ولا زمان ، فكان جائزا كالجعالة ، فان فسخها الوكيل انفسخت ، وبطل تصرفه ، وان فسخها الموكل فكذلك ، الى أن قال : ولا خلاف في أن العزل يبطل الوكالة ، انتهى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أن الكلام هنا يقع في مقامين الأول : في عزل الوكيل نفسه ، وقد عرفت أنه لا خلاف فيه ، قالوا : ولا فرق في بطلان الوكالة بعزله نفسه ، بين اعلام الموكل وعدمه ، بخلاف عزل الموكل له لما سيأتي ـ ان شاء الله تعالى ـ في المقام الثاني ، ومقتضى ذلك أنه لا ينفذ تصرفه بعد عزله نفسه ، وقبل علم المالك ، لأن مناط صحة التصرف هو العقد ، والمفروض أنه صار باطلا بعزله نفسه ، الا أنه قد صرح جملة منهم بأنه يحتمل توقف انعزاله على علم الموكل ، وحينئذ فيجوز له التصرف قبل بلوغه ، عملا بالاذن العام الذي تضمنه الوكالة ، بل يحتمل ذلك مع بلوغه أيضا ، لأصالة بقاء الاذن ، ومجرد علمه بالرد لا يدل على بطلانه من قبل الاذن ، قالوا : ولو اكتفينا في قبول الوكيل بفعله مقتضاها كيف كان ، قوي هذا الاحتمال جدا لأنها حينئذ تصير مجرد اذن واباحة ، ويجوز مع ذلك إطلاق العقد عليها ، بحيث أن قبولها بالقول يصح ، ويترتب عليه أثر في الجملة ، وبهذا الاحتمال قطع في القواعد مع جهل الموكل بالرد.

أقول : قد عرفت مما قدمناه من الأخبار أنه ليس فيها ما يدل على ما ذكروه من القبول اللفظي الذي أدخلوا به الوكالة في باب العقود ، وإنما دلت تصريحا في بعض وتلويحا في آخر على القبول بالإتيان بالفعل المأمور به ، وان أدخلوها بذلك في باب الاذن والإباحة دون باب العقود ، كما أنه لا دلالة في شي‌ء منها على ما اعتبروه من صيغ الإيجاب التي ذكروها ، وعدوا بها الوكالة

١٥

من باب العقود كلفظ وكلتك ونحوه ، وإنما اشتملت على مجرد الاذن والأمر الذي هو عندهم أيضا من باب الإباحة.

وبذلك يظهر لك أن الأظهر والأقوى بالنظر الى مراجعة الأخبار والعمل بما دلت عليه هو أنه بعزله نفسه ـ علم المالك أو لم يعلم ـ لا تبطل الوكالة ، لبقاء الاذن المفهوم من تلك الأوامر التي اشتملت عليها الأخبار ما لم يعزله المالك ، ويصرح بعزله.

وبالجملة فإني لم أقف على دليل من النصوص يدل على البطلان بعزله نفسه ، غير ما يدعونه من الإجماع ، ومقتضى النصوص المذكورة وعموم أدلة الوكالة هو البقاء على مقتضاها ، حتى يثبت المخرج من ذلك ، والمانع منه ، وليس الأعزل الموكل ونحوه مما سيأتي ، وأما عزله نفسه وكونه مبطلا لها فلم أقف فيه على نص ، ومجرد كونها من العقود الجائزة لا يوجب ما ذكروه من بطلانها بعزله نفسه ، وانه فسخ لها ، بل غاية ما يوجبه أنه لا يلزمه شرعا ولا يجب القيام بذلك ، كما هو مقتضى العقود اللازمة ، بل ان شاء فعل وان شاء لم يفعل ، وعدم مشية الفعل في وقت عزله نفسه ورده لها ، لا يوجب منعه من الرجوع متى أراد ، الا أن يعزله الموكل.

قال في المسالك ـ في بيان تطبيق ما قدمنا نقله عنهم من الاحتمال الدال على جواز التصرف على ما ذكروه في أصل المسئلة ، من بطلان الوكالة وعدم جواز التصرف ما لفظه ـ : ويمكن الجمع بين كونها عقدا جائزا تبطل بالرد ، وعدم بطلان التصرف بالرد ، بأن يحكم ببطلان الوكالة الخاصة وما يترتب عليها من الجعل لو كان ، وبقاء الاذن العام.

أقول : لا يخفى ما فيه من التكلف البعيد ، بل التحمل الغير السديد ، أما أولا فبما أشرنا إليه آنفا من أنه لا منافاة بين كونها عقدا جائزا وبين كونها صحيحة مع الرد ، وعزله نفسه ، لأن جوازها ليس الا بمعنى عدم وجوب القيام

١٦

بها ، وعدم ترتب المؤاخذة على تركها ، وهذا لا ينافي جواز الرجوع إليها بعد تركها والاعراض عنها.

وثانيا ان ما ذكره من الحكم ببطلان الوكالة الخاصة وبقاء الاذن العام مردود بما قدمنا نقله عنه في المسئلة الثانية في مقام الرد على كلام التذكرة ، من قوله ان الوكالة ليست أمرا زائدا على الاذن ، وهذا هو الذي عضدته الأخبار المتقدمة ، فإنه ليس فيها أزيد من الأوامر الدالة على طلب تلك الأشياء المذكورة من قوله اشتر ، وبع ، واخطب ، وطلق ، ونحو ذلك الراجع جميعه الى الاذن في مباشرة هذه الأمور ، وهذه صيغ الوكالة التي اضطرب فيها كلامهم ، وقبولها إنما هو عبارة عن امتثال تلك الأوامر والمسارعة إلى الإتيان بها ، وليس في شي‌ء منها لفظ وكلت وقبلت ولا نحوهما ، ولكنهم لعدم مراجعة الأخبار في هذه الأبواب والجري على أبحاث العامة تلبس عليهم كثير من الأحكام.

وبالجملة فإن كلامهم في هاتين المسئلتين لا يخلو من تناقض واضطراب ، ولا سيما شيخنا العلامة ، فإنه أطلق القول بالبطلان في المسئلتين في التحرير والإرشاد ، وهو ظاهر الشرائع أيضا ، وجزم في القواعد بصحة التصرف هنا ، وجعله احتمالا في مسئلة بطلان الوكالة بالتعليق على الشرط ، وعكس في التذكرة كما قدمنا نقله عنه في تلك المسئلة ، فاستقرب بقاء الإذن الضمني وجعل بقائه هنا احتمالا فصار في المسئلة ثلاثة أقوال.

وظاهر شيخنا الشهيد الثاني في المسئلة الاولى التوقف ، كما مر في عبارته وربما ظهر منه هنا الترجيح لما ذهب إليه في القواعد ، حيث قال هنا ويمكن بناء هذا الحكم على ما تقدم من أن بطلان الوكالة هل يقتضي بطلان الاذن العام أو لا؟ وقد مر تحقيقه لاشتراكهما في بطلان الوكالة هناك ، لعدم التنجيز ، وهنا لعدم القبول ، الا أن الحكم هنا لا يخلو عن رجحان على ذلك ، من حيث أن الاذن صحيح جامع للشرائط ، بخلاف السابق فإنه معلق ، وفي صحته ما قد

١٧

عرفت ، ومن ثم جزم في القواعد ببقاء صحته هنا وجعل الصحة هناك احتمالا انتهى.

أقول : وأنت إذا تأملت فيما حققناه في المسئلتين بعين التحقيق ، وأطرحت ما ادعوه من هذه الإجماعات ورجعت الى الأخبار التي هي السبيل الواضح إلى الأحكام الشرعية والطريق ، ظهر لك المخرج من هذا الاشكال ، والنجاة من هذا المضيق ، والله سبحانه العالم.

المقام الثاني في عزل الموكل له : وقد اختلف الأصحاب في انعزال الوكيل بعزل الموكل له ، فذهب جمع منهم الشيخ في النهاية وأبو الصلاح ، وابن البراج ، وابن حمزة ، وابن إدريس إلى أنه لا ينعزل إلا بإعلامه بالعزل مشافهة ، أو اخبار ثقة ، ومع عدم إمكان الإعلام فيكفي الإشهاد على ذلك ، فالانعزال دائر بين الاعلام والاشهاد مع عدم إمكانه ، وبدون ذلك لا ينعزل والمشهور بين المتأخرين وهو قول الخلاف أنه لا ينعزل إلا بالإعلام ، وقيل : انه ينعزل بمجرد العزل ، وان لم يعلمه ولم يشهد على ذلك ، وهو قول القواعد.

والذي وقفت عليه من الأخبار في المسئلة ما رواه في الفقيه والتهذيب عن العلاء بن سيابة (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن امرأة وكلت رجلا بأن يزوجها من رجل ، فقبل الوكالة وأشهدت له بذلك ، فذهب الوكيل فزوجها ، ثم إنها أنكرت ذلك الوكيل ، وزعمت أنها عزلته عن الوكالة ، فأقامت شاهدين أنها عزلته ، فقال : ما يقول من قبلكم في ذلك؟ قلت : يقولون : ينظر في ذلك ، فان كانت عزلته قبل أن يزوج فالوكالة باطلة ، والتزويج باطل ، وان عزلته وقد زوجها فالتزويج ثابت على ما زوج الوكيل وعلى ما اتفق معها من الوكالة إذا لم يتعد شيئا مما أمرت به واشترطت عليه في الوكالة ، قال : ثم قال : يعزلون الوكيل عن وكالتها ولا تعلمه بالعزل ، فقلت : نعم : يزعمون أنها : لو وكلت

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٤٨ ح ٣ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١٤ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٦ ح ٢.

١٨

رجلا وأشهدت في الملاء وقالت في الملاء اشهدوا أني قد عزلته بطلت وكالته ، بلا أن تعلم العزل ، وينقضون جميع ما فعل الوكيل في النكاح خاصة. وفي غيره لا يبطلون الوكالة ، الا أن يعلم الوكيل بالعزل ، ويقولون : المال منه عوض لصاحبه والفرج ليس منه عوض إذا وقع منه ولد ، فقال عليه‌السلام سبحان الله ما أجور هذا الحكم وأفسده ، ان النكاح أحرى وأحرى أن يحتاط فيه ، وهو فرج ومنه يكون الولد ، ان عليا عليه‌السلام أتته امرأة مستعدية على أخيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين وكلت أخي هذا بأن يزوجني رجلا فأشهدت له ثم عزلته من ساعته تلك فذهب وزوجني ولي بينة أني قد عزلته قبل أن يزوجني ، فأقامت البينة ، وقال الأخ : يا أمير المؤمنين عليه‌السلام انها وكلتني ولم تعلمني أنها عزلتني عن الوكالة حتى زوجتها كما أمرتني به ، فقال لها ما تقولين :؟ فقالت : قد أعلمته يا أمير المؤمنين فقال لها : ألك بينة بذلك؟ فقالت : هؤلاء شهود يشهدون بأني قد عزلته فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام لهم ما تقولون؟ قالوا : نشهد أنها قد قالت اشهدوا أني قد عزلت أخي فلانا عن الوكالة بتزويجي فلانا واني مالكة لامري من قبل أن يزوجني فلانا فقال : أشهدتكم على ذلك بعلم منه ومحضر ، قالوا : لا ، قال فتشهدون أنها أعلمته العزل كما أعلمته الوكالة؟ قالوا : لا ، قال : أرى الوكالة ثابتة ، والنكاح واقعا أين الزوج فجاء فقال خذ بيدها بارك الله لك فيها ، فقالت : يا أمير المؤمنين أحلفه أني لم أعلمه العزل وأنه لم يعلم بعزلي إياه قبل النكاح قال : وتحلف؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين فحلف وأثبت وكالته وأجاز النكاح.

وما رواه في الفقيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم (١) وطريقه الى ابن أبى عمير صحيح ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل وكل آخر على وكالة في أمر من الأمور وأشهد له بذلك شاهدين ، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر فقال : اشهدوا أني قد عزلت فلانا عن الوكالة ، فقال : ان كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكل

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ٤٩ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٦ ح ١.

١٩

عليه قبل العزل عن الوكالة فإن الأمر واقع ماض على ما أمضاه الوكيل ، كره الموكل أم رضي ، قلت : فان الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم بالعزل أو يبلغه أنه قد عزل عن الوكالة فالأمر على ما أمضاه؟ قال : نعم ، قلت : فان بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر ، ثم ذهب حتى أمضاه لم يكن ذلك بشي‌ء؟ قال : نعم ، ان الوكيل إذا وكل ثم قام عن المجلس فأمره ماض أبدا والوكالة ثابتة حتى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه ، أو يشافه بالعزل عن الوكالة».

ورواه الشيخ في التهذيب بسند فيه العبيدي (١). وما رواه في الفقيه عن ابن مسكان عن أبي هلال الرازي (٢) قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام رجل وكل رجلا بطلاق امرأته إذا حاضت ، وطهرت ، وخرج الرجل فبدا له فأشهد أنه قد أبطل ما كان أمره به ، وأنه بدا له في ذلك ، قال : فليعلم أهله وليعلم الوكيل.

وما رواه في الفقيه والتهذيب عن جابر بن يزيد ومعاوية بن وهب (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من وكل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول ، فيها». وطريقه في الفقيه إلى معاوية بن وهب صحيح ، فتكون الرواية فيه صحيحة.

وأنت خبير بما في هذه الأخبار من الدلالة الصريحة على القول المشهور بين المتأخرين ، وقد اشتملت رواية العلاء بن سيابة على ما يؤذن ببطلان ما ذهب إليه في القواعد ، لقوله عليه‌السلام في الرد على العامة يعزلون الوكيل عن الوكالة ولا تعلمه بالعزل الى آخره ، وكذا بطلان قول النهاية ومن تبعه من الاكتفاء بمجرد الاشهاد مع عدم إمكان الاعلام ، كما يفهم من حكم أمير المؤمنين عليه‌السلام في قضية المرأة المذكورة ونحوها صحيحة هشام بن سالم (٤).

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٣ ح ٢.

(٢ و ٣) الفقيه ج ٣ ص ٤٨ ح ٢ وص ٤٧ ح ١ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١٤ ح ٤ وص ٢١٣ ح ١، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٨ باب ٣ وص ٢٨٥ باب ١.

(٤) الفقيه ج ٣ ص ٤٩ ح ٥ ، التهذيب ج ٦ ص ٢١٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٦ ح ١.

٢٠