الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

أولها مقدمات الكتاب أعنى المقدمات الواقعة في أول جلد كتاب الطهارة (١) وبينا ثمة أن الأولى في ذلك هو الوقوف على الأخبار فيما ترد به من الأحكام ، وأن ذلك لا تتخذ قاعدة كلية في بطلان الشرط خاصة ، أو أصل العقد ، كما يفهم من كلام الأصحاب ، بل يجب الوقوف فيه على موارد النصوص ، حيث أن بعضها تضمن بطلان الشرط خاصة ، مع صحة أصل العقد في بعض الأحكام ، وبعضها تضمن بطلان أصل العقد في بعض آخر ، كما في هذا الموضع وغيره ، ثم انه لا فرق في البطلان بما يشترط بين أن لا يكون قليلا أو كثيرا ، لوجود المقتضي في الجميع ، قال في المسالك : ومن جوز الوقف على نفسه جوز اشتراط هذه الأشياء مطلقا.

أقول : ظاهر هذا الكلام وجود قول في المسئلة بجواز الوقف على نفسه ، مع أن ظاهر الأصحاب الاتفاق على العدم وهو نفسه ممن صرح بذلك أيضا ، فقال في شرح قول المصنف ومن وقف على نفسه لم يصح ، لا خلاف بين أصحابنا في بطلان وقف الإنسان على نفسه الى آخره ، والظاهر أن منع الاشتراط المذكور انما هو بالنسبة إلى نفسه ، وإلا فلو اشترط لغيره من أقاربه أو غيرهم صح الوقف والشرط ، ويدل على ذلك ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن جعفر بن حيان (٢) وهو مجهول أو واقفي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أوقف غلة له على قرابته من أبيه ، وقرابته من أمه ، وأوصى لرجل ولعقبه عن تلك الغلة ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم في كل سنة ويقسم الباقي على قرابته من أبيه ، وقرابته من أمه؟ قال : جائز للذي أوصى له بذلك ، قلت : أرأيت ان لم يخرج من غلة الأرض التي وقفها إلا خمسمائة درهم ، فقال : أليس في وصيته ان يعطى الذي أوصى له من الغلة ثلاثمائة درهم ويقسم الباقي على قرابته من أمه وقرابته من أبيه ، قلت : نعم ، قال : ليس لقرابته أن يأخذوا من الغلة شيئا حتى يوفي الموصى له بثلاثمائة درهم ، ثم لهم ما بقي من

__________________

(١) ج ١ ص ١٦٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٥ ح ٢٩ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٣ ح ١٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٦ ح ٨.

١٦١

بعد ذلك ، قلت : أرأيت ان مات الذي أوصى له؟ قال : ان مات كانت الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم فإذا انقطع ورثته ، ولم يبق منهم كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميت ، ترد الى ما يخرج من الوقف ، ثم يقسم بينهم يتوارثون ذلك ما بقوا وبقيت الغلة ، قلت : فللورثة من قرابة الميت بأن يبيعوا الأرض إذا احتاجوا ولم يكفهم ما يخرج من الغلة؟ قال : نعم إذا رضوا كلهم وكان البيع خيرا لهم باعوا».

وفي هذا الخبر دلالة علي تفسير العقب بالورثة ، والأكثر على أن المراد به إنما هو الولد ، وولد الولد ، وقيل بتفسيره بالورثة ، وهذا الخبر صريح فيه كما ترى ، وأما ما ذكره آخر الخبر من جواز بيع الوقف ، فقد تقدم الكلام فيه مستوفى في فصل البيع من كتاب التجارة (١).

وما رواه في الكافي عن أحمد بن محمد (٢) والظاهر أنه البزنطي في الصحيح «عن أبي الحسن الثاني عليه‌السلام قال : سألته عن الحيطان السبعة التي كانت ميراث رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) لفاطمة عليها‌السلام فقال : لا انما كانت وقفا ، وكان رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) يأخذ إليه منها ما ينفق على أضيافه ، والتابعة تلزمه فيها فلما قبض جاء العباس يخاصم فاطمة عليها‌السلام فيها فشهد علي عليه‌السلام وغيره أنها وقف على فاطمة عليها‌السلام وهي الدلال ، والعواف ، والحسنى ، والصافية ، وما لأم إبراهيم والميثب ، والبرقة».

ورواه الصدوق والشيخ مرسلا (٣) وفيه بدل والتابعة تلزمه فيها ومن يمر به ، وظاهر الخبر المذكور أنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وقف هذه الحوائط في حياته على فاطمة عليها‌السلام ، وشرط الإنفاق منها على أضيافه ، وما ينوبه وهو المشار اليه

__________________

(١) ج ١٨ ص ٤٤٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٤٧ ح ١.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٤٥ ح ٥١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٠ ح ١٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١١ ح ٣.

١٦٢

بالتابعة أي ما يتبع الإنسان مما يهمه ويعينه.

الرابع : المشهور بين الأصحاب أنه لو وقف على الفقراء فصار فقيرا أو على الفقهاء فصار فقيها فإنه يصح له الأخذ منه ، ومشاركة المذكورين ، وخالف في ذلك ابن إدريس ، فمنع من ذلك لخروجه عنه ، فلا يعود اليه.

وفصل العلامة في المختلف تفصيلا حسنا ، فقال : والوجه عندي أن الوقف ان انتقل الى الله تعالى كالمساجد ، فإنه للواقف الانتفاع به ، كغيره من الصلاة فيه ، وغيرها من منافع المسجد ، وان انتقل الى الخلق لم يدخل ، سواء كان مندرجا فيهم وقت الوقف ، كما لو وقف على المسلمين أو على الفقهاء وهو منهم ، أو لم يكن ، كما لو لم يكن فقيها وقت الوقف ثم صار منهم ، لنا أنه مع الانتقال الى الله تعالى يكون كغيره ، لتساوي النسبة مع جميع الخلق ، فلا معنى لإخراجه عنه مع ثبوت المقتضى وهو الإباحة السالمة عن معارضة وقفه على نفسه ، ومع الانتقال إلى من يندرج فيهم ، أو دخل لمكان دخوله تحت اللفظ العام ، فيكون قد وقف على نفسه وغيره ، فيبطل في حق نفسه ، فان العام يتساوى نسبة أفراده اليه ، انتهى.

أقول : ومما يؤيد أن الوقف في هذه الصورة انما ينتقل الى الله عزوجل دون الموقوف عليه ، أن الوقف على هذه الكيفية ليس وقفا على الأشخاص المتصفين بهذا الوصف ، فليس وقفا على نفسه ، ولا على جماعة هو منهم ، وانما هو وقف على جهة مخصوصة ، وهي جهة الفقر والمسكنة مثلا ، وقصد نفع الموصوف بهذه الصفة لا أشخاص بعينهم ، ولهذا انه لا يشترط قبولهم ولا قبول بعضهم وإن كان ممكنا لأنه لم ينتفل إليهم ، ولا يجب صرف النماء على جميعهم ، بل يجوز أن يخص به بعضهم ولو واحد منهم ، ولو كان وقفا عليهم لوجب إيصاله إلى كل فرد فرد منهم ، مثل ما لو وقف على أولاده ونحوهم.

والى هذا التفصيل مال في المسالك أيضا احتج القائلون بالعموم بأنه وقف

١٦٣

صحيح فيتناول كل من يدخل تحت اللفظ عملا بإطلاقه ، وهو كغيره والفرق ظاهر بين الوقف عليه بالتنصيص ، والاندراج تحت العموم ، ومع الفرق لا يتم القياس ، وأجيب بالمنع من كونه كغيره فان الفرق واضح ، إذ يصح الوقف على غيره دونه ، ولا فرق بين التنصيص والاندراج في الإرادة من اللفظ ، والمطلق ممنوع منه ، ويتساوى جزئياته في المنع.

وأنت خبير بأن المسئلة لعدم النص لا تخلو من شوب الأشكال وان كان ما ذكره العلامة (أجزل الله تعالى إكرامه) لا يخلو من قرب.

ونقل عن الشهيد في بعض فتاويه أنه يشارك ما لم يقصد منع نفسه أو إدخالها واستحسنه في المسالك ، قال : فإنه إذا قصد إدخال نفسه فقد وقف على نفسه ، ولم يقصد الجهة ، وإن قصد منع نفسه فقد خصص العام بالنية ، وهو جائز فيجب اتباع شرطه السابق وانما يبقى الكلام عند الإطلاق ، انتهى وهو جيد.

الخامس : اختلف الأصحاب فيما لو شرط الواقف في عقد الوقف عوده اليه عند الحاجة ، والخلاف هنا وقع في موضعين : أحدهما في صحة هذا الشرط وبطلانه ، والمشهور الأول ، بل ادعى المرتضى (رضي‌الله‌عنه) الإجماع عليه ، قال : ومما انفردت به الإمامية القول بأن من وقف وقفا جاز أن يشترط أنه ان احتاج اليه في حال حياته كان له بيعه ، والانتفاع بثمنه ، وبه قال الشيخ المفيد والشيخ في النهاية ، وابن البراج ، وسلار ، والمحقق في الشرائع ، والعلامة والشهيد الثاني في المسالك وغيرهم.

وقيل : بالثاني وهو مذهب ابن إدريس ، مدعيا عليه الإجماع ، والشيخ في المبسوط ، وابن حمزة ، وابن الجنيد ، والمحقق في النافع ، احتج الأولون على ما ذكره في المسالك ، وقبله العلامة في المختلف بالإجماع المنقول في كلام المرتضى وعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (١) «والمؤمنون عند شروطهم» (٢). وقول العسكري عليه‌السلام

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

١٦٤

«الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها» (١).

وخصوص رواية إسماعيل بن الفضل (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير؟ وقال : ان احتجت إلى شي‌ء من مالي أو من غلة فأنا أحق به أله ذلك وقد جعله لله؟ وكيف يكون حاله إذا هلك الرجل أيرجع ميراثا أم يمضي صدقة؟ قال : يرجع ميراثا على أهله».

هكذا نقله في المسالك ، قال : والمراد بالصدقة في الرواية الوقف لقرينة الباقي ، ولأن الوقف تمليك المنافع ، فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة ، انتهى.

وعندي ان هذا الاستدلال لا يخلو من تطرق الإشكال ، أما الإجماع فمعلوم مما سبق في غير مقام ، ولا سيما مع مقابلته هنا بالإجماع الذي ادعاه ابن إدريس ، وإجماعات المرتضى (رضى الله عنه) فيما انفرد به من الأقوال كثيرة ، وبه يظهر ضعف الاستناد إليه في جميع الأحكام كما تقدم تحقيقه ، وأما عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «والمؤمنون عند شروطهم» ففيه أنه لا ريب أن العقد كما يطلق على الصحيح ، يطلق على الفاسد ، وكذلك الشرط ، فيقال : عقد صحيح ، وعقد فاسد ، وشرط صحيح وشرط فاسد ، ولا جائز أن يأمر الشارع بالوفاء بالعقد الفاسد ، ولا بالشرط الفاسد ، فالأمر بالوفاء بالعقد والشرط إنما يتوجه إلى العقد الصحيح ، والشرط الصحيح ، ودعوى كون ذلك صحيحا هنا محل النزاع كما ذكرنا ، فلا يتم الاستدلال.

وبذلك يظهر أن الاستدلال بهذين الدليلين لا يخرج عن المصادرة ، وأما حديث العسكري عليه‌السلام فقد قدمنا سابقا أنه لا يجوز الاستدلال به على إطلاقه ، لتناوله للوقوف الباطلة اتفاقا كالوقف على نفسه ، أو على عبد أو حمل أو نحو ذلك

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٢٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٥ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٤٦ ح ٥٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٧ ح ٣.

١٦٥

مما اتفقوا على بطلانه ، فلا بد من تخصيصه بالوقف الصحيح المستكمل لشرائط الصحة ، ودعوى كونه هنا كذلك محل البحث والنزاع ، فيرجع ذلك إلى المصادرة أيضا.

وأما حديث إسماعيل بن الفضل فلا أعرف له دلالة على ما ادعوه ان لم يكن بالدلالة على البطلان أشبه ، وذلك فان كلام السائل قد تضمن السؤال عن شيئين : أحدهما أن هذا الشرط هل يصح أم لا؟ وإليه أشار قوله في الخبر المذكور «إله ذلك وقد جعله لله» والثاني أنه ما حكمه بعد موت الرجل ، والحال هذه أيرجع ميراثا أم يبقي وقفا ، والجواب في الخبر إنما وقع عن الثاني خاصة ، ولا ريب أن رجوعه ميراثا كما أجاب به عليه‌السلام كما أنه يصح مع صحة الوقف ، كما ادعوه كذلك يكون صحيحا مع البطلان ، كما يقوله الخصم ، بل هو أولى بالبطلان ، بل هو الظاهر ، فإن الأظهر أن الامام عليه‌السلام جعل هذا الجواب جوابا عن السؤالين معا ، والا فسكوته عن جواب السؤال الأول من غير وجه يدعوه إليه مشكل ، وحينئذ فحكمه عليه‌السلام برجوعه ميراثا متضمن للجواب صريحا عن السؤال الثاني ، وضمنا عن الأول ، بمعنى أن رجوعه ميراثا كناية عن كونه لم يخرج عن ملكه في حال حياته ، ويؤيده قوله وقد جعله لله.

وقد تقدم في جملة من الأخبار أن ما جعله لله لا رجعة فيه ، وحاصله أنه ليس له الرجوع بما ذكره لكونه قد جعله لله سبحانه ، بل هو باطل في حال حياته وموته ، ورجوعه ميراثا إنما هو لذلك ، لأن الحكم بصحته في حال الحياة باطل ، بما ستعرفه في حجة القول الثاني.

ونحو هذه الرواية صحيحة إسماعيل الثانية (١) المتقدمة عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : من أوقف أرضا ثم قال : ان احتجت إليها فأنا أحق بها ، ثم مات الرجل فإنها ترجع ميراثا». فان الظاهر أن رجوعها كاشف عن بطلان الوقف في حياته ، وأن

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٥٠ ح ٥٩.

١٦٦

رجوعها ميراثا إنما هو لذلك ، وأما ما ذكره والعلامة (رحمه‌الله عليه) قبله من قوله ولأن الوقف تمليك للمنافع إلى آخره ، فهو في البطلان أظهر من أن يحتاج إلى مزيد بيان ، مضافا إلى أن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه التعليلات العليلة مجازفة محضة.

استدل القائلون بالقول الثاني على ما نقله في المسالك ، بأن هذا الشرط خلاف مقتضى الوقف ، لأن الوقف إذا تم لم يعد إلى المالك على حال ، فيكون فاسدا ويفسد به العقد.

والعجب أنه في المسالك مع تصديه للانتصار للقول المشهور ، والجواب عما أورد على أدلته ظاهرة القصور لم يتعرض للجواب عن استدلال الخصم المذكور ، وكيف يمكنه الجواب عنه ، وهو قد اعترف بذلك في مسئلة ما لو وقف على غيره ، وشرط قضاء ديونه ، أو أدار مؤنته ، حيث قال : ثمة وإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو أدار مؤنته أو نحو ذلك ، فقد شرط ما ينافي مقتضاه ، فبطل الشرط والوقف ، انتهى.

ولا ريب أن مقتضى الوقف الذي ذكره هو عدم العود إلى الواقف بوجه ، وحينئذ فكما أنه يبطله شرط قضاء الديون وأدار المؤنة ، كذلك يبطله اشتراط الرجوع إليه لحاجته وفقره.

وبالجملة فإن الظاهر من الأخبار المتقدمة هو البطلان باشتراط الرجوع بأحد الوجوه المذكورة في مواضع هذه المسئلة ، لبطلان هذه الشروط من الأكل من الوقف ، أو شرط قضاء ديونه ، أو الرجوع عند الحاجة ، لاشتراك الجميع في العلة المقتضية للمنع ، وهو الخروج عن مقتضى الوقف.

قال في المختلف : احتج المانعون بأنه شرط ينافي عقد الوقف ، فيبطل لتضمنه شرطا فاسدا ، والجواب المنع من منافاة الشرط العقد ، وإنما يكون منافيا لو لم يكن الوقف قابلا لمثل هذا الشرط ، انتهى.

١٦٧

وفيه ما عرفت من ثبوت المنافاة ، قوله وإنما يكون منافيا لو لم يكن الوقف قابلا لمثل هذا الشرط محض مصادرة ، فان الخصم يدعى أنه غير قابل ، وبما حققناه في المقام يظهر لك أن جميع أجوبتهم عن حجج القول الثاني لا يخرج عن المصادرة ، وأن الأظهر هو بطلان العقد لبطلان الشرط المذكور ، كسابقه من الشروط المتقدمة.

وثانيهما أنه على تقدير القول بصحة العقد كما هو المشهور ، فإنه إن حصلت الحاجة ورجع في الوقف ، فإنه يجوز الرجوع ، ويبطل الوقف بلا خلاف بينهم ، وانما الخلاف فيما إذا لم يرجع حتى مات ، فهل يبطل الوقف بالموت؟ لصيرورته قبله بالشرط المذكور حبسا ، فيرجع بعد الموت إلى ورثة الواقف ، أم يستمر الوقف على حاله؟ قولان : نقل عن الشيخ وجماعة منهم المحقق والعلامة الأول ، عملا بالرواية المتقدمة وهي صحيحة إسماعيل بن الفضل الأولى ، بناء منهم على دعوى دلالتها على صحة الوقف وعدم بطلانه بمجرد هذا الشرط ، ولكن هذا الشرط حيث كان منافيا للدوام الذي هو من شروط الوقف كان من قبيل الحبس فيبطل بالموت ، وقد عرفت ما فيه ، وأنه لا دلالة في الرواية على ما ادعوه.

وقيل : بالثاني وبه صرح المرتضى : (رضي‌الله‌عنه) واختاره في المختلف ، قال المرتضى (رضي‌الله‌عنه) معترضا على نفسه في تتمة كلامه الأول بأن هذا شرط يناقض كونه وقفا وحبسا بخلاف غيره من الشروط ، وأجاب بأنه غير مناقض ، لأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله ، ومتى مات قبل العود نفذ أيضا نفوذا تاما ، وهذا الحكم ما كان مستفادا قبل الوقف ، فكيف يكون ذلك نقضا لحكمه ، وقد بينا أن الحكم باق ، انتهى وهو ظاهر في استمرار صحة الوقف بعد الموت ، قال في المختلف : وهو الوجه عندي وتحمل الرواية على ما إذا رجع.

والتحقيق بالنظر الى ما قدمناه حيث أنه لا دليل على الصحة هو بطلان الوقف وأن عوده ميراثا انما هو من هذه الحيثية ، فلا أثر لهذا الخلاف ، لبطلان الأساس

١٦٨

المبني عليه ، وهو ثبوت الصحة.

وأما جواب المرتضى (رضي‌الله‌عنه) عن الاعتراض الذي أورده على نفسه بأنه متى لم يختر الرجوع فهو ماض على سبيله الى آخر ما ذكره ، ففيه أن المناقضة لا تترتب على اختياره الرجوع ، ووقوع الرجوع بالفعل بل المناقضة حاصلة بمجرد هذا الشرط ، وذكره في العقد ، حيث أن مقتضى العقد هو عدم الرجوع في الموقوف عليه بعد الوقف ، ومقتضى الشرط هو الجواز فالمناقضة حاصلة ، وبها يجب الحكم ببطلان الشرط ، وببطلانه يبطل العقد ، وهذا هو دليلهم على بطلان العقد فيما لو شرط قضاء ديونه ، أو أدار مؤنته ، كما عرفت من عبارة المسالك المتقدمة وبه يظهر لك ما في جوابه (قدس‌سره) من الضعف ، وان جمد عليه العلامة في المختلف حيث أنه موافق لما اختاره والله العالم.

المسئلة الخامسة : في جملة من الشروط زيادة على ما تقدم : منها ما لو شرط إدخال من يريد مع الموقوف عليهم ، وقد صرحوا بالجواز ، سواء كان الوقف على أولاده أو غيرهم ، وعللوا ذلك بأن هذا الشرط لا ينافي مقتضى الوقف ، فإن بنائه على إدخال من سيوجد ، ومن سيولد من الموجودين وقت الوقف ، واشتراط إدخال من يريد إدخاله في معناه بل أضعف ، لأنه قد يريد ، فيكون في معنى اشتراط دخوله ، وقد لا يريد فيبقى الوقف على أصله ، فإذا جاز الأول اتفاقا جاز الآخر كذلك أو بطريق أولى.

قالوا : وما يقال ـ من أن إدخال من يريد يقتضي نقصان حصة الموقوف عليهم فيكون إبطالا للوقف في ذلك البعض ـ غير قادح ، لأن ذلك وارد في شرط إدخال المولود ونحوه ، ولأن العقد لما تضمن الشرط لم يكن للموقوف عليه حق إلا مطابقا له ، فلا يتغير ، ولأن الوقف لازم في حق الموقوف عليه في الجملة ، وانما المختلف الحصة ، وذلك غير قادح ، كما لو وقف على بطون فزادت تارة ، ونقصت أخرى.

أقول : ويمكن الاستدلال على أصل المسئلة بالأخبار الآتية في المقام الدالة

١٦٩

على جواز الإدخال من غير شرط ، كصحيحة علي بن يقطين (١) قال : «سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده قال : لا بأس بذلك». ونحوها غيرها مما سيأتي ان شاء الله تعالى في المسئلة.

والتقريب فيها أنه إذا جاز الإدخال من غير شرط كما هو مدلول الأخبار المذكورة فمع الشرط بطريق أولى.

وكيف كان فالمسئلة لا تخلو من شوب الاشكال ، لعدم النص الواضح في هذا المجال ، وما ذكروه من التعليل لا يصلح لتأسيس حكم شرعي كما عرفت في غير موضع ، وما ذكرنا من الأخبار غير خال من الأشكال كما سيأتي ان شاء الله تعالى بيانه والله العالم.

ومنها ـ ما لو شرط إخراج من يريد ، وقد صرحوا هنا ببطلان الوقف ، قال في المسالك : وهو عندنا موضع وفاق ، ثم علله زيادة على ذلك بأن وضع الوقف على اللزوم ، وإذا شرط إخراج من يريد من الموقوف عليهم كان منافيا لمقتضى الوقف ، إذ هو بمنزلة الخيار ، وهو باطل ، انتهى.

وهو جيد إلا أن فيه ردا عليه فيما اختاره من صحة الوقف مع اشتراط عوده إليه ، عند الحاجة ، فإنه لا يخفى أن اللزوم الذي هو وضع الوقف عليه كما يعتبر من جهة الموقوف عليه ، بحيث لا يجوز إخراج بعضهم ، كذلك يعتبر من حيث حبس الوقف عليهم ، فلا يجوز للواقف الرجوع إليه بوجه ، خصوصا مع اقترانه بالقربة ، كما قدمنا بيانه من اشتراط الوقف بذلك ، وقد تكاثرت الأخبار بأن ما كان لله تعالى فلا رجعة فيه.

ومنها ما لو شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى من سيوجد ، والمشهور هنا البطلان ، بل ادعى عليه الشيخ الإجماع ، وذهب العلامة في التذكرة إلى صحة

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٧ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٠ ح ١.

١٧٠

الشرط المذكور ، مدعيا عليه الإجماع ، وفي القواعد استشكل الحكم بالبطلان ، ومنشأ الاستشكال المذكور كما ذكره في المسالك من بناء الوقوف على اللزوم ، فإذا شرط نقله عن الموقوف عليهم إلى غيره فقد شرط خلاف مقتضاه ، فيبطل الشرط والعقد ، ومن عموم (١) «المؤمنون عند شروطهم». وقول العسكري عليه‌السلام (٢) المتقدم ذكره «من أن الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». وأنه يجوز الوقف على أولاده سنة ، ثم على المساكين.

أقول : قد عرفت ضعف الوجه الثاني من الاستدلال بالخبرين المذكورين وأما جواز الوقف على أولاده سنة ثم على المساكين ، فصحته متوقفة على قيام دليل عليه ، ومع تسليم صحته ، فوجه الفرق ظاهر ، لأن مقتضى ما نحن فيه هو أنه بالوقف عليهم يلزم بقاؤه ما وجدوا كما هو مقتضى الوقف ، وشرط النقل مناف له ، وأما الوقف على أولاده سنة فليس كذلك ، لأنه إنما وقف عليهم مدة معينة ، فلا ينافيه التعقيب بالوقف على المساكين

وبما ذكرنا يظهر لك ما في دعواه في التذكرة الإجماع على الصحة ، مع استشكاله في القواعد ، وأما ما قيل في تعليل الصحة ـ زيادة على ما ذكر ـ من أنه يصح الوقف باعتبار صفة للموقوف عليه كالفقر ، فإذا زالت انتقل عنه إلى غيره ان شرط ، وهو في معنى النقل بالشرط ، ونقل عن الدروس انه استقر به.

ففيه أولا ما عرفت في غير موضع من أن بناء الأحكام الشرعية على مثل هذه الاعتبارات الوهمية ـ والتخريجات العقلية ، مع استفاضة الآيات والاخبار بالمنع من القول بغير علم ودليل واضح من كتاب أو سنة ـ مجازفة محضة في الأحكام الشرعية ، نسئل الله سبحانه المسامحة لنا ولهم من زلل الأقدام ، وهفوات الأقلام.

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٣٧١ ح ٦٦ ، الوسائل ج ١٥ ص ٣٠ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٣٧ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٥ ح ٢.

١٧١

وثانيا أنه مع الإغماض عن ذلك فوجه الفرق بين الموضعين ظاهر مما قدمناه في التنبيه الرابع من المسئلة السابقة (١) ، وملخصه أن الوقف على الفقراء إنما هو وقف على الجهة كالوقف على المساجد ، والوقف هنا ينتقل إلى الله تعالى ، ويشترك فيه كل من اتصف بذلك العنوان حتى الواقف نفسه ، فلا يحصل هنا نقل عن الموقوف عليه ، لأنه ليس ثمة موقوفا عليه ، وإنما يصير مراعى ببقاء الصفة المذكورة من الفقر ونحوه ، فإذا زالت كان في حكم موت الموقوف عليه ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنه بالوقف عليه يصير ملكا له ، ونقله عنه بالاختيار مناف لتمليكه له بالوقف ، وبذلك يظهر لك أن الحق هو بطلان الوقف بهذا الشرط والله العالم.

ومنها ما لو وقف على أولاده الأصاغر ، فإنه يجوز أن يشرك معهم غيرهم بالشرط في العقد ، والظاهر أنه لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف في أنه هل يجوز مع عدم الشرط أم لا؟ المشهور الثاني ، وقال الشيخ في النهاية بالأول ، قال : إذا وقف على ولده الموجودين وكانوا صغارا ثم رزق بعد ذلك أولاد جاز أن يدخلهم معهم فيه ، ولا يجوز أن ينقله عنهم بالكلية إليهم ، ووافقه ابن البراج ، إلا أنه قيده بعدم قصره على السابقين ، قال : الوقف يجب أن يجري على ما يقفه الواقف ، ويشترط فيه ، وإذا وقف على ولد موجود وهو صغير ، ثم ولد له بعده غيره ، وأراد أن يدخله في الوقف مع الأول كان جائزا ، إلا أن يكون قد خص الولد الموجود بذلك ، وقصره عليه ، وشرط أنه له دون غيره ممن عسى أن يرزقه من الأولاد ، فإنه لا يجوز له أن يدخل غيره في ذلك.

والاختلاف في هذه المسئلة ناش من اختلاف الأخبار فيها ، فمما تدل على القول المشهور صحيحة علي بن يقطين (٢) «عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته

__________________

(١) ص ١٦٣.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٣٧ ح ٢٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٠ ح ١.

١٧٢

عن الرجل يتصدق ببعض ماله على بعض ولده ويبينه لهم ، إله أن يدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقته؟ قال : ليس له ذلك الا أن يشترط أنه من ولد له فهو مثل من تصدق عليه فذلك له».

ويؤيدها رواية جميل (١) قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الرجل يتصدق على ولده بصدقة وهم صغار ، إله أن يرجع فيها قال : لا ، الصدقة لله». والتقريب فيها أن إدخال الغير نوع من الرجوع فيها ، وفيه ما فيه.

ومما تدل على القول الآخر صحيحة علي بن يقطين الأخرى (٢) قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ، ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده ، قال : لا بأس بذلك».

ورواية محمد بن سهل عن أبيه (٣) قال : «سألت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام عن الرجل يتصدق على بعض ولده بطرف من ماله ثم يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده؟ قال : لا بأس به».

وصحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (٤) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يجعل لولده شيئا وهم صغار ثم يبدو له أن يجعل معهم غيرهم من ولده؟ قال : لا بأس».

وما رواه في كتاب قرب الاسناد عن عبد الله بن الحسن (٥) عن علي بن جعفر «عن أخيه موسى عليه‌السلام قال : سألته عن رجل تصدق على ولده بصدقة ثم بدا له أن يدخل غيره فيه مع ولده أيصلح ذلك؟ قال : نعم ، يصنع الوالد بمال ولده ما أحب».

وأنت خبير بأن إيراد الأصحاب هذه الأخبار في هذا المقام دليل على فهمهم

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٧ ح ٢٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٨ ح ٢.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٣٧ ح ٢٢.

(٣ و ٤) التهذيب ج ٩ ص ١٣٦ ح ٢١ وص ١٣٥ ح ١٩.

(٥) قرب الاسناد ص ١١٩ ، وهذه الروايات في الوسائل ج ١٣ ص ٣٠١ ح ١ و ٢ و ٣ ص ٣٠٢ ح ٥.

١٧٣

الوقف من إطلاق الصدقة ، ويؤيده ما قدمناه من الأخبار الظاهرة في أن الصدقة في الصدر الأول إنما هي بمعنى الوقف ، واستعمالها في هذا المعنى المشهور بين الفقهاء إنما هو محدث ، وهي بهذا المعنى إنما تدخل في النحل والهبة ، كما في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

بقي الكلام في الجمع بين هذه الأخبار ، وهو لا يخلو من الإشكال ، الا أنه يمكن أن يقال : ان رواية جميل فالظاهر أنه لا دلالة فيها على ما نحن فيه ، ولا تعلق لها به ، إذ المتبادر من الرجوع في الصدقة إنما إخراجها عما فعله ، وجعلها ملكا ، كما كان أولا ، فلا يكون من محل البحث في شي‌ء ، وكذا صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج ، فإنها غير صريحة بل ولا ظاهرة في محل البحث ، لأن جعله لولده أعم من أن يكون بطريق لازم ، أم لا كالوصية به ، أو الصدقة مع عدم القربة ، فيمكن حمله على أحد الوجهين المذكورين ، ولا يكون من محل البحث في شي‌ء.

وأما صحيحة علي بن يقطين الأولى ، فهي معارضة بصحيحة الثانية ، وجمع بينهما في المسالك بأمرين أحدهما حمل الصحيحة الأولى على ما إذا قصر الوقف على الأولين ، كما ذكره القاضي ابن البراج فيما قدمنا من نقل عبارته ، ويشعر به قوله بعد أن أبانهم ، فتحمل الثانية على ما لو لم يشترط ذلك كما يدل عليه إطلاقه ، وثانيهما حمل النفي في الأولى على الكراهة ، ثم قال : وكلاهما متجه ، الا أن الأول من التأويلين أوجه.

أقول : الذي يخطر ببالي العليل ويختلج بفكري الكليل إن ما ذكره من التأويل الأول الذي استوجهه وجعل عليه المعول لا يخلو من خدش ، وذلك فإنه متى حمل الخبر على ما ذكره من قصر الوقف على الأولين ، مع أنه عليه‌السلام قال : في الجواب ليس له ذلك الا أن يشترط أن من ولد له فهو مثل من تصدق عليه ، فاللازم من ذلك هو عدم التعرض لحكم الإطلاق في الرواية ، مع أنه محل البحث ،

١٧٤

وموضع الخلاف المحتاج إلى الدليل ، لأن حاصل معنى الخبر على ما ذكره أنه متى قصر الوقف على الأولين فليس له أن يدخل معهم غيرهم إلا أن يشترط الإدخال ، يعني بأن لا يقصره عليهم ويشترط ، فيكون الاستثناء منقطعا ، فالمعلوم منه إنما هو حكم ما لو قصره عليهم ، فإنه لا يجوز الإدخال ، وحكم ما لو اشترط فإنه يجوز الإدخال ، والحكمان مما لا خلاف فيهما ولا اشكال ، وأما لو لم يقصر الحكم عليهم ولا اشترط الإدخال فحكمه غير معلوم من الخبر ، وهو محل البحث كما عرفت ، ومحتاج إلى الاستدلال.

وما ذكره (قدس‌سره) معنى قريب في الخبر ، الا أنه يخرج به عن محل البحث كما عرفت ، وتبقى صحيحته الأخرى خالية من المعارض ، فان ظاهرها الإطلاق ، بمعنى أنه تصدق ولم يقصر ولم يشترط وقد أجاب عليه‌السلام بأنه لا بأس بالإدخال ، والحال هذه ونحوها الروايات الأخر ، وعلى هذا يبقى القول المشهور عاريا عن الدليل ، لأن دليله كما عرفت منحصر في الروايتين المذكورتين ، وهما صحيحة علي بن يقطين الاولى ، ورواية جميل ، وقد عرفت ما فيهما.

ومنه يظهر قوة قول الشيخ في النهاية ، لدلالة الروايات الباقية عليه ، الا أنه يبقي الإشكال في هذا القول ، ورواياته ، فان مقتضى الوقف اللزوم ، حيث أنه من العقود اللازمة متى تمت شرائطه ، وقضية اللزوم تمنع جواز الإدخال ، ولهذا حمل الشيخ وغيره خبر محمد بن سهل عن أبيه على عدم القبض ، وهذا الحمل يجري أيضا في صحيحة علي بن يقطين الثانية ، ورواية قرب الاسناد ، وأما رواية عبد الرحمن بن الحجاج المذكورة في عداد هذه الأخبار فقد عرفت ما فيها ، وعلى هذا فيمكن حمل صحيحة علي بن يقطين الاولى على ما إذا أقبضهم ، ولعل المراد بالإبانة في الخبر المذكور ذلك ، بمعنى أنه متى أبانهم بالوقف وأقبضهم إياه فليس له الإدخال إلا مع الشرط في أصل العقد ، وعلى هذا تجتمع الأخبار المذكورة.

١٧٥

وبالجملة فالمسئلة غير خالية من الاشكال ، وان كان القول المشهور هو الأوفق بالقواعد الشرعية ، من حيث اقتضائها لزوم الوقف بالعقد ، وأما الاستدلال على ذلك بشي‌ء من هذه الأخبار ففيه ما عرفت من تعدد الاحتمال في الصحيحة التي هي أظهر ما استدل به على القول المذكور ، وأما غيرها فقد عرفت ما فيه ، وغاية ما استدل به العلامة في المختلف لذلك قول العسكري عليه‌السلام المتقدم ، وقد تقدم ما فيه : ورواية جميل المتقدمة ، وقد عرفت ما فيها ، والله العالم.

المطلب الثالث في شرائط الموقوف :

يشترط فيه أن يكون عينا مملوكة ، يصح الانتفاع بها مع بقائها ، ويصح إقباضها ، والكلام هنا في مواضع :

الأول : أن يكون عينا ، والمراد بالعين ما لم يكن دينا ولا منفعة ولا مبهما ، لأن العين تطلق في مقابلة كل من هذه الثلاثة ، فأما الوجه في عدم صحة وقف الدين ، فلأن الوقف كما تقدم عبارة عن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ، وذلك يقتضي أمرا موجودا في الخارج يحكم عليه بذلك والدين في الذمة أمر كلي لا وجود له في الخارج ، فيكون وقفه قبل التعيين من قبيل وقف المعدوم ، ومن ثم منعوا من جواز هبة الدين لغير من هو عليه لذلك ، كذا قالوا والأظهر في تعليل ذلك انما هو ما تقدمت الإشارة إليه سابقا من أن الوقف يقتضي نقل الوقف الى الموقوف عليه ، فيجب الوقوف فيه على ما علم من الشارع كونه ناقلا ، وما علم كونه قابلا للانتقال بذلك ، ولم يعلم من الأخبار تعلق الوقف بالديون ونقلها به ، والأصل العدم الى أن يثبت الدليل على ذلك ، وإنما علم منه العين خاصة ، وأما الوجه في عدم جواز وقف المنفعة فعلل بأن وقفها مناف للغاية المطلوبة من الموقوف ، وهي الانتفاع بها مع بقاء عينها ، والانتفاع بالمنفعة يستلزم استهلاكها شيئا فشيئا ، ولجواز التصرف في العين ، لأنها لم يتعلق

١٧٦

بها الوقف ، فتتبعها المنفعة فيفوت الغرض من الوقف ، والأظهر عندي في الاستدلال هو ما تقدم ذكره ،

وأما الوجه في عدم الجواز في وقف المبهم سواء استند الى معين كفرس من هذه الأفراس ، أم الى غير معين كفرس بقول مطلق فلأن مرجع ذلك الى أمر كلي غير موجود في الخارج كما تقدم في الدين ، وانما يتعين بالتعيين ، والأظهر هنا أيضا هو الرجوع الى الدليل المتقدم ، وانما صرنا الى مخالفة الأصحاب في هذه الأبواب فيما هنا وما سلف في غير باب ، لما عرفت من أن الأحكام الشرعية لا تبنى على مثل هذه التعليلات العقلية ، وانما تبنى على الأدلة الشرعية وأصالة العدم قاعدة كلية واضحة جلية ، لا نزاع فيها ولا شبهة تعتريها ، إذ لا تكليف إلا بعد البيان ، ولا مؤاخذة إلا بعد اقامة البرهان كما هو مسلم بين جملة العلماء الأعيان ، فالعلة في الجميع انما هو ما ذكرناه ، ويخرج ما ذكروه من التعليلات شاهدا ووجها لما ذكرناه.

الثاني : أن تكون مملوكة وهو اما بمعنى صحة تملكها بالنظر الى الواقف فما لا يصح تملكه لا يصح وقفه ، فلا يصح وقف الحر ولو رضى بذلك ، ولا يصح وقف الخمر والخنزير من المسلم على مسلم أو كافر ، ويصح من الكافر على مثله كما صرحوا به ، ويصح وقف الكلب المملوك ، قال في المسالك : والمراد بالمملوك أحد الكلاب السبعة.

أقول : لا أعرف من الكلاب المذكورة سوى كلب الصيد ، وكلب الماشية وكلب الزرع ، وكلب الحائط ، وكلب الدار ، هذا هو المصرح به في كلامهم ، وقد تقدم في المقدمة الثالثة من المقدمات المذكورة في صدر كتاب التجارة (١) تحقيق ما يملك وما لا يملك منها ، وبينا هنا أن المستفاد من الأخبار هو بيع كلب الصيد خاصة ، ولهم فيما عداه اختلاف وأقوال قد قدمنا نقلها ثمة.

__________________

(١) ج ١٨ ص ٧٩.

١٧٧

وبما ذكرنا يظهر أنه لا يجوز وقف شي‌ء من الكلاب إلا كلب الصيد لأنها غير مملوكة ، والذي ثبت تملكه منها انما هو هذا الفرد خاصة ، ومجرد أن لها منفعة لا يكفي في صحة وقفها مع كونها غير مملوكة ، ولو صح تملكها لصح بيعها فكما امتنع البيع لعدم دخولها في الملك امتنع الوقف لذلك ، وقد عرفت أن المعلوم من الأخبار هو بيع الصيد بخصوصه.

وأما بمعنى كونه ملكا للواقف بالفعل فلو لم يكن كذلك لم يصح وقفه ، وعلى هذا لا يصح الوقف فضولا وان أجاز المالك كما هو أحد القولين في المسئلة وقيل : يصح بإجازة المالك ، وتوقف في التذكرة والدروس.

وكلماتهم في هذا المقام عليلة لا تصلح لتأسيس الأحكام ، وقد عرفت في كتاب البيع (١) بطلان التصرف الفضولي بيعا كان أو وقفا أو غيرهما ، لأنه تصرف في مال الغير بغير اذنه وهو قبيح عقلا ونقلا ، وقد مرت الروايات المصرحة بذلك.

وقال شيخنا الشهيد الثاني في الروضة : ان أريد بالمملوكية صلاحيتها بالنظر الى الواقف ، فهو شرط الصحة ، وان أريد به المالك الفعلي فهو شرط اللزوم ، والأولى أن يراد به الأعم ، انتهى ملخصا.

أقول : هذا التفصيل مبني على مذهبه ، وقوله بصحة العقد الفضولي ، وأما على ما اخترناه من القول ببطلانه فالأمر واحد ، وهو أنه شرط في الصحة في كلا الاحتمالين وما ذكره من أن الأولى أن يكون المراد به الأعم جيد ، إذ كما لا يصح بالنسبة الى ما لا يصح تملكه ، كذا لا يصح بالنسبة الى ما لا يملكه بالفعل.

الثالث : أن يصح الانتفاع بها مع بقائها ، ولا ريب أنه يجب أن يكون لذلك العين نفع محلل مع بقائها فلو وقف مالا نفع فيه بالكلية ، أو كان الانتقاع به محرما ، أو كان الانتفاع موجبا لذهاب عينه كالخبز والفاكهة والطعام بطل ، ولا يشترط في الانتفاع كونه في الحال : فيصح وقف العبد الصغير والدابة الصغيرة ،

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٧٧.

١٧٨

ولا يشترط كون العين مما تبقى مؤبدا فيصح وقف العبد والثوب وأثاث البيت والقفار ، وضابطه ما عرفت من أنه ما يصح الانتفاع به منفعة محللة مع بقائه ، والتأبيد المشترط في الوقف إنما هو بمعنى دوامه بدوام وجود العين الموقوفة.

الرابع : أنه لا بد من إقباضها لما تقدم من أن شرط صحة الوقف القبض ، فلو لم يحصل القبض بطل ، فلا يجوز وقف الآبق ، ونحوه البعير الشارد ، قيل : ويشكل بأن القبض المعتبر في صحة الوقف ليس بفوري ، وحينئذ فلا مانع من وقوع الصيغة صحيحة ، وصحة الوقف مراعاة بقبضه بعد ذلك وان طال الزمان ، فان تعذر بطل ، وهذا بخلاف البيع ، فإنه معارضة من الجانبين ، وشرطه إمكان تسليم العوضين في الحال بالنص ، فلا يتعدى الى غيره ، للأصل ، ولو قدر الموقوف عليه على تحصيله فالأولى الصحة ، لزوال المانع ولا عبرة بالضميمة هنا ، لأن شرط الوقف القبض ، ولا يكفي قبض بعض الموقوف ، وهو هنا الضميمة عن الباقي ، وعلى هذا فبين حكم البيع والوقف بالنسبة إلى الآبق عموم وخصوص من وجه ، انتهى وهو جيد.

الخامس : هل يجوز وقف الدنانير والدراهم أم لا؟ قولان : مبنيان على وجود المنفعة لهما مع بقاء عينهما وعدمه ، ونقل في المبسوط الإجماع على المنع من وقفهما إلا من شذ ، وقد تقدم تحقيق البحث في ذلك في كتاب العارية (١) وأوضحنا فيه بالأخبار الواردة عنهم عليه‌السلام حصول المنافع منهما مع بقاء عينهما ، فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه والله العالم.

إلحاق :

الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في صحة وقف المشاع كغيره مما كان متميزا ، والقبض موقوف على اذن الواقف والشريك ، وتدل على ذلك جملة من

__________________

(١) ج ٢١ ص ٥٠٧.

١٧٩

الأخبار وان كانت بلفظ الصدقة ، لما عرفت آنفا من التعبير بهذا اللفظ عن الوقف وأن أكثر استعماله قديما انما هو في هذا المعنى.

ومنها صحيحة الحلبي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن دار لم تقسم فتصدق بعض أهل الدار بنصيبه من الدار؟ قال : يجوز ، قلت : أرأيت ان كان هبة؟ قال : يجوز».

ورواية أبي بصير (٢) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن صدقة ما لم تقسم ولم تقبض؟ فقال : جائزة إنما أراد الناس النحل فأخطأوا».

قوله صدقة ما لم تقسم ولم تقبض» يعنى ما كان مشتركا قبل القسمة ، أو اشتراه مثلا ولم يقبضه ، أو لم يقبضه بعد القسمة ، وأما قوله «وانما أراد الناس الى آخره» فهو لا يخلو من خفاء وغموض ، واحتمل فيه بعض الأصحاب احتمالات بعيدة ، الا أنه من المحتمل قريبا بمعونة ما قدمناه في الأمر التاسع من المسئلة الثالثة أن المراد انما أراد الناس من لفظ الصدقة في مثل صدقة الدار النحلة والهبة أخطأوا في ذلك ، بل المراد به الوقف ، كما يشير اليه قوله عليه‌السلام فيما قدمنا أن الصدقة محدثة ، انما كانت النحلة والهبة وتسمية بعض أفرادها ، هو ما كان مقرونا بالقربة صدقة ، محدث من العامة ، وانما الصدقة معنى الوقف.

ومنه يعلم أن التقسيم الذي ذكره أصحابنا هنا من الوقف والصدقة والهبة ، انما هو من العامة تبعهم فيه الأصحاب ، والا فليس الا الوقف المعبر عنه بالصدقة في أخبار هذا الباب والنحلة والهبة ، وهذه الصدقة التي جعلوها قسيما هنا انما هي من جملة أفراد النحل والهبات.

وما ذكرناه وان لم يوافق كلامهم (رضوان الله عليهم) إلا أنه ظاهر الأخبار المذكورة ، وعسى يأتي له مزيد تحقيق إنشاء الله تعالى في باب الهبة والنحلة.

__________________

(١ و ٢) الكافي ج ٧ ص ٣٤ ح ٢٤ وص ٣١ ح ٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٣ ح ١١ وص ١٣٥ ح ١٨، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٩ ح ١ و ٢.

١٨٠