الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

وللثالث بما ذكره العلامة في المختلف ، ونفى عنه البأس حيث قال : ولا بأس بقول ابن زهرة ، لانتقال الوقف من الواقف ، وزوال ملكه عنه ، والعجب ان هذه الحجة التي احتج بها لابن زهرة ترجع الى ما استدل به على القول الثاني ، وهو في المختلف قد أجاب عن ذلك بالمنع من كون الوقف مطلقا ناقلا بل المؤبد ، قال : ونمنع من كون الموقوف عليه مالكا إلا مع التأبيد ، وما أجاب به عن ذلك الدليل لازم له في رد دليله المذكور.

وبذلك يظهر لك ما في القولين الآخرين من القصور ، وأن الظاهر هو القول المشهور ، إلا أن كلامهم هنا غير خال من الإجمال ، بل تطرق الاشكال ، لما عرفت من أن هذا الخلاف متفرع على القول بصحة الوقف كما هو المشهور والذي هو أحد الأقوال الثلاثة في المسئلة المتقدمة في الموضع الثاني ، وإلا فعلى القول بكونه حبسا فإنه يرجع الى الواقف أو ورثته بغير خلاف ولا اشكال ، وعلى القول بالبطلان فالأمر أظهر مع أنك قد عرفت فيما تقدم أن هذا القول وان كان هو المشهور إلا أن ذكرهم التأبيد في شروط الوقف ـ كما صرح به من وقفت على كلامه منهم عدا المفيد في المقنعة ـ لا يجامع القول بصحة الوقف في الصورة المذكورة ، لأن الوقف هنا منقطع غير مؤبد والوقف الصحيح إنما هو المؤبد.

نعم بناء على ما اخترناه في المسئلة الأولى من كونه حبسا يتجه القول برجوع ذلك الى ورثة الواقف ، ويصير الخلاف في هذه المسئلة ساقطا لا معنى له ، وهذا غاية ما تدل عليه الصحيحة المنقولة عن العسكري عليه‌السلام (١) من «أن الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». والمراد فيها بالوقف ما هو أعم من الوقف المبحوث عنه والتحبيس ، فهو ان كان مؤبدا وقف ، وان كان مقطعا تحبيس ، وأما قول ابن زهرة وقد روى أنه يرجع الى ورثة الواقف ، وكذا قول الشيخ في المبسوط في هذه المسئلة ، وقال قوم : يرجع اليه ان كان حيا والى ورثته ان كان ميتا

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٢٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٧ ح ٢.

١٤١

وبه تشهد روايات أصحابنا ، فإن أريد به كما هو ظاهر كلامه أن هنا أخبارا دالة على موضع البحث ، وأنه مع كون الوقف منقطعا قد صرحت الأخبار بالرجوع الى الواقف أو ورثته بعد انقراض الموقوف عليه فإنه لم يصل إلينا في الأخبار ما يدل على ذلك ، وإلا لزال إشكال في هذا المجال ، وان أريد هذه الصحيحة المذكورة وقريب منها الصحيحة الأخرى المتقدمة معها ، فإن غاية ما تدلان هو أن الوقف يتبع فيه ما رسمه الواقف ، والوقف فيهما أعم من التحبيس والوقف بالمعنى المبحوث عنه وغاية ما تدلان عليه الاقتصار في الوقف على الجماعة الموقوف عليهم ، واللازم من ذلك هو الرجوع بعد انقراض الموقوف عليه الى الواقف أو ورثته ، وهذا هو معنى التحبيس وان سمي وقفا ، هذا ما أدى اليه الفكر الكليل والذهن العليل من الكلام في المقام ، حسب ما رزق الله تعالى فهمه من أخبارهم عليهم‌السلام.

ثم انه بناء على القول المشهور من الرجوع الى ورثة الواقف بعد انقراض الموقوف عليه ، فله المراد وارثه حين الانقراض ، أو وارثه بعد موته مسترسلا الى أن يصادف الانقراض؟ وجهان قالوا : وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين ، ثم مات أحدهما عن ولد قبل الانقراض : فعلى الأول يرجع الى ولد الباقي خاصة ، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه لتلقيه من أبيه ، كما لو كان معينا.

المسئلة الثانية : المشهور في كلام المتأخرين أن من جملة شروط الوقف التنجيز وهذا الشرط لم أقف عليه في جملة من كتب المتقدمين ، منها كتاب النهاية للشيخ والمبسوط ، وكتاب السرائر لابن إدريس ، وكذا المقنعة للشيخ المفيد ، فإنه لم يتعرض أحد منهم لذكره في الكتب المذكورة ، مع أنه لا نص عليه فيما أعلم.

وبذلك اعترف في المسالك أيضا فقال ، وليس عليه دليل بخصوصه وأرادوا بالتنجيز ما تقدم في كتاب الوكالة ، من أن لا يكون معلقا بوصف لا بد من وقوعه كطلوع الشمس ، ومجي‌ء رأس الشهر ، وهو باصطلاحهم تعليق على الصفة ، وأن لا يكون معلقا على ما يحتمل الوقوع وعدمه ، كمجي‌ء زيد مثلا ، ويسمى

١٤٢

بالمعلق علي شرط ، أما لو كان الشرط واقعا والواقف عالم به كقوله وقفت ان كان اليوم الجمعة مع علمه بذلك ، فإنه يصح عندهم ، وقد تقدم البحث معهم في ذلك في الكتاب المشار اليه ، وحيث قد عرفت ان الحكم المذكور غير منصوص نفيا ولا إثباتا.

فلو وقع الوقف على هذه الكيفية ، فيمكن القول بعدم الصحة استنادا الى أن العقود الناقلة متلقاة من الشارع ، ولم يثبت كون هذا منها ، والأصل بقاء الملك لمالكه ، ولا يقال : انه يمكن القول بالصحة نظرا الى قوله عليه‌السلام «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». لأنا نقول : المتبادر من الخبر المذكور انما هو باعتبار العموم والخصوص ، والتشريك والانفراد ، والتساوي والتفضيل في الموقوف عليه والتأبيد والتحبيس ونحو ذلك لا باعتبار ما ذكر هنا.

المسئلة الثالثة : لا خلاف في اشتراط القبض في صحة الوقف وتمامه بحيث أنه بعده لا رجوع في الوقف ، وأما قبله فله الرجوع ولو مات قبله رجع ميراثا ، بمعنى أن الانتقال عن المالك مشروط بالعقد والقبض فيكون العقد جزء السبب الناقل ، وتمامه القبض ، وعلى هذا فالعقد في نفسه صحيح ، الا أنه غير ناقل إلا بالقبض ، ولهذا جاز فسخه قبل القبض ، وبطل بالموت قبله.

ومن ذلك يعلم أن النماء المتخلل بين العقد والقبض للواقف ، وربما عبر بعضهم بأنه شرط في اللزوم ، والظاهر أن مراده ما ذكر لا ما يتبادر من ظاهر هذه العبارة ، وقد صرح في المسالك بذلك.

وبالجملة فالظاهر أن أصل الحكم لا اشكال فيه ولا خلاف نصا وفتوى ، والذي وقفت عليه من النصوص المتعلقة بهذا الحكم ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن صفوان بن يحيى (١) «عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : سألته عن الرجل

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٧ ح ٣٦ ، التهذيب ج ٩ ص ١٣٤ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٨ ح ٤.

١٤٣

يوقف الضيعة ثم يبدو له أن يحدث في ذلك شيئا ، فقال : ان كان أوقفها لولده ولغيرهم ، ثم جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع وان كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن له أن يرجع فيها ، وان كانوا كبارا لم يسلمها إليهم ولم يخاصموا حتى يحوزوها عنه فله أن يرجع فيها ، لأنهم لا يحوزونها وقد بلغوا».

وما رواه الصدوق في كتاب كمال الدين وتمام النعمة بسنده إلى محمد بن جعفر الأسدي فيما ورد عليه من جواب مسائله من محمد بن عثمان (١) العمري (رضي‌الله‌عنه) عن صاحب الزمان (صلوات الله عليه) ، ورواه الطبرسي في الاحتجاج (٢) عن أبى الحسين محمد بن جعفر الأسدي عن محمد بن عثمان عن صاحب الزمان عليه‌السلام قال : وأما ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا وما يحل لنا ثم يحتاج اليه صاحبه فكل ما لم يسلم فصاحبه فيه بالخيار ، وكل ما سلم فلا خيار فيه لصاحبه احتاج أو لم يحتج افتقر اليه أو استغنى عنه ، الى أن قال : وأما ما سألت من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة يسلمها لمن يقوم فيها ويعمرها ، ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ، ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا فان ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيما عليها ، انما لا يجوز ذلك لغيره».

واستدل الأصحاب (رضوان الله عليهم) هنا بجملة من الأخبار التي بلفظ الصدقة بناء على ما فهموه منها من حمل الصدقة فيها على الوقف ، وسيأتي نقلها إنشاء الله تعالى في محلها.

ومنها ما رواه الشيخ عن عبيد بن زرارة (٣) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في رجل تصدق على ولد له قد أدركوا : قال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٠ ح ٨ الباب ٤ من أبواب أحكام الوقوف ، كمال الدين ص ٥٢٠ ح ٤٩.

(٢) الاحتجاج ج ٢ ص ٢٩٨ ط النجف.

(٣) التهذيب ج ٩ ص ١٣٧ ح ٢٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٩ ح ٥.

١٤٤

فان تصدق على من لم يدرك من ولده فهو جائز ، لأن الوالد هو الذي يلي أمره وقال : لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله.

وبهذه الرواية استدل الأصحاب (رضوان الله عليهم) على أن موت الواقف قبل الإقباض مبطل للوقف ، وموجب لرجوعه ميراثا حيث أنهم فهموا من الصدقة هنا الوقف.

واعترضهم في المسالك فقال : وقد فهم الأصحاب من الحديث أن المراد بالصدقة الوقف ، واستدلوا به على ما ذكرناه ، مع احتمال أن يريد بالصدقة معناه الخاص ، فلا يكون دليلا ، ويؤيده قوله في آخر الحديث ، «وقال : لا يرجع في الصدقة إذا تصدق بها ابتغاء وجه الله تعالى» فان الحكم من خواص الصدقة الخاصة ، لا الوقف.

أقول : قوله فان الحكم من خواص الصدقة الى آخره محل بحث سيأتي ذكره ان شاء الله تعالى ، وقال في المسالك : والظاهر أن موت الموقوف عليه قبل القبض كموت الواقف ، لأن ذلك هو شأن العقد الجائز فضلا عن الذي لم يتم ملكه ولكنهم اقتصروا على المروي ، ويحتمل هنا قيام البطن الثاني مقامه في القبض ويفرق بينهما بأن يموت الواقف ينتقل ماله الى وارثه وذلك يقتضي البطلان كما لو نقله في حياته ، بخلاف موت الموقوف عليه ، فان المال بحاله ولم ينتقل الى غيره ، لعدم تمامية الملك ، وفي التحرير توقف في صحته إذا قبض البطن الثاني ولم يذكره في غيره ولا غيره ، انتهى.

وفيه أن المفهوم من الأخبار المتقدمة والمتبادر من إطلاق القبض انما هو بالنسبة إلى البطن الأول ، وهو الموقوف عليه أولا ، فإن قوله في صحيحة صفوان المذكورة «وان كان لم يسلمها إليهم فله أن يرجع» وقوله في الرواية الثانية «وكلما لم يسلم فصاحبه بالخيار» ظاهر في أن القبض الموجب للزوم إنما هو بالنسبة إلى الموقوف عليه أولا ، وإلا فإنه متى لم يقبض فالواقف بالخيار ، ان شاء

١٤٥

سلمه ولزم الوقف ، وان شاء لم يسلمه فيبطل الوقف ، على أنه لو صح ما احتمله بالنسبة إلى البطن الثاني لجرى أيضا فيما بعده.

وبالجملة فإن الانتقال إلى البطن الثاني فرع صحة الوقف ولزومه بالنسبة إلى البطن الأول ، وإلا لصح الوقف لو وقف أولا على من لا يصح الوقف عليه ثم على غيره ممن يصح ، وهم لا يقولون به ، ثم انه يجب أن يعلم أن القبض المعتبر هنا هو القبض المتقدم تحقيقه في كتاب البيع.

وتمام تحقيق الكلام في المقام يتوقف على بيان أمور الأول : الظاهر أنه لا خلاف ولا إشكال في أن قبض الولي لمن هو ولي عليه كقبضه وان كان الواقف الولي ، كما لو وقف على أولاده الأصاغر ، فإن قبضه قبل الوقف كاف في قبضه لهم بعده ، وعليه تدل صحيحة صفوان المتقدمة ، وكذا رواية عبيد بن زرارة ، ومثلهما روايات أخر أيضا ، ولا يجب تجديد النية والقصد في كونه قبضا عن المولى عليه ، لعدم الدليل عليه ، وإطلاق النصوص يقتضي العدم ، واحتمل بعضهم اعتبار قصده قبضا عن المولى عليه بعد العقد ، لأن القصد هو الفارق بين القبض السابق الذي كان على جهة الملك ، واللاحق الذي للموقوف عليه.

وإطلاق النصوص المذكورة يرده ، إلا أن ظاهر صحيحة صفوان ربما أشعر به ، لقوله «وان كانوا صغارا وقد شرط ولايتها لهم حتى يبلغوا فيحوزها لهم» فان الظاهر أن المراد قصد ولايتها لهم ، إلى أن يبلغوا ، فلا بد حينئذ من تجديد النية ، على أن التحقيق أن التجديد أمر لا بدئ لا ينفك عنه الواقف كذلك بحسب الطبيعة والجبلة ، لأن من كان له ملك وأزال ذلك الملك عن نفسه بنقله الى غيره ممن له الولاية عليه ، فإنه لا بد من تغير قصده ، ونيته في وضع اليد عليه من أنه بالملك في الأول ، وبالولاية في الثاني ، فاختلاف القصد بين الحال الأولى والثانية أمر جبلي طبيعي كما لا يخفى ، والظاهر كما استظهره جملة من الأصحاب ان ما كان في يد الولي بطريق الوديعة أو العارية ، ووقفه صاحبه على المولى عليه

١٤٦

فان قبضه بإحدى الطريقتين المذكورتين كاف ، كما لو كان هو الواقف.

الثاني : الظاهر أنه لا فرق في الاكتفاء بقبض الولي بين كون الولي أبا أو جدا أو وصيهما أو حاكما شرعيا ، وان كان مورد الأخبار المتقدمة الأب ، فإنها إنما خرجت مخرج التمثيل ، لا الاختصاص ، إذا العلة مشتركة بين الجميع ، وتردد بعض الأصحاب في إلحاق الوصي بالمذكورين ، نظرا إلى ضعف يده وولايته بالنسبة إلى غيره.

قال في المسالك ونعم ما قال في رد هذا المقال : ولا وجه للتردد ، فإن أصل الولاية كاف في ذلك ، والمعتبر هو تحقق كونه تحت يدي الواقف ، مضافا إلى ولايته على الموقوف عليه ، فتكون يده كيده ، ولا يظهر لضعف اليد وقوتها أثر في ذلك ، انتهى وهو جيد.

الثالث : الظاهر أن المشهور هو كون القبض باذن الواقف ، فلو وقع بدونه لغى وتوقف فيه صاحب الكفاية ، قال : وحجته غير واضحة ، وعلله في الروضة بامتناع التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، والحال أنه لم ينتقل إلى الموقوف عليه بدونه.

وفيه أنه وان لم ينتقل إليه قبل القبض الا أنه ينتقل إليه بالقبض بلا خلاف ولا اشكال فلو قبضه الموقوف عليه وان لم يكن باذن الواقف صدق حصول القبض الذي هو الناقل ، واشتراط الأذن يحتاج إلى دليل.

ويمكن الاستدلال على ما ذكروه بقوله عليه‌السلام في صحيحة صفوان «وان كانوا كبارا لم يسلمها إليهم فله أن يرجع» وكذا قوله عليه‌السلام في التوقيع «فكل ما لم يسلم فصاحبه بالخيار وكلما سلم فلا خيار فيه» ، فان ظاهره أن القبض إنما يتحقق بتسليم الواقف ، ودفعه بالفعل أو الأذن ، إلا أن رواية عبيد بن زرارة قد وقع التعبير فيها هنا بلفظ القبض المنسوب إلى الموقوف عليه ، فقال : إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ، ومفهومه أنه لو قبضوا أعم من أن يكون بإذن أو غيره

١٤٧

كان صحيحا لازما ، ومثلها في هذه العبارة قوله عليه‌السلام في صحيحة محمد بن مسلم إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث ونحوها ، روايات آخر الا أنها وردت بلفظ الصدقة ، لكن الأصحاب استدلوا بها على أحكام الوقف ، بناء على فهمهم منها أن المراد بالصدقة منها الوقف كما تقدمت الإشارة إليه.

ويمكن تقييد إطلاق هذه الروايات بالخبرين الأولين بمعنى تخصيص القبض المذكور فيها بما إذا اقترن بالإقباض من الواقف ، فلا بد من تسليم الواقف ، ودفعه ليحصل القبض المعتبر شرعا ، وكيف كان فالاحتياط يقتضي الوقوف على القول المشهور.

الرابع : هل يكتفى بالقبض السابق وان كان على غير وجه شرعي كالمقبوض بالغصب ، والشراء الفاسد إشكال ، ينشأ من أن المتبادر من القبض في أخبار المسئلة هو القبض الشرعي ، وهذا القبض منهي عنه ، فلا يؤثر في الصحة ، ولهذا لو قبضه الموقوف عليه بغير إذن بطل كما تقدم ، ومن حصول القبض في الجملة ، وأن النهي عنه غير موجب للبطلان ، لأن ذلك في العبادات ، وإنما غايته الإثم مع أنه لقائل أن يقول : إن النهي عن هذا القبض وان وقع باعتبار أول الأمر من حيث الغصب ونحوه ، الا أنه بعد وقف الواقف ذلك المغصوب على من هو في يده وارادة تمليكه إياه ، يعلم اختلاف الحالين ، فإنه قرينة ظاهرة في الرضا بقبضه ويصير اختلاف حالي القبض هنا كما في صورة قبض الولي لأولاده الصغار ما وقفه عليهم ، فان القبض أمر واحد مستصحب في كلتي المسئلتين وان كان في الأول ملكا للواقف ، وبعد الوقف يصير ملكا للموقوف عليهم بالنسبة إلى تلك المسئلة ، وغصبا منهيا عنه قبل الوقف ، وشرعيا بعد الوقف ، لإفادته الرضا به بالنسبة إلى هذه المسئلة ، وقد تقدم نظير ذلك في الرهن.

واضطرب كلام العلامة (رحمه‌الله عليه) في التذكرة في هذه المسئلة ، ففي كتاب الرهن كما قدمنا نقله عنه ثمة قطع باشتراط الأذن ، ومضي زمان يمكن

١٤٨

تجدد القبض فيه ، ولم يكتف بقبض الغاصب ونحوه ، وفي هذا الكتاب قطع بالاكتفاء بقبض الغاصب كما اخترناه ، وظاهر كلام المحقق في الشرائع يؤذن بالاكتفاء بقبض الغاصب ، قال في المسالك : ولعله أجود.

أقول : وجه قوته يعلم مما ذكرناه وان لم يتنبه له أحد من أصحابنا ، (رضوان الله عليهم) ، قال في المسالك : وحيث لا يعتبر تجديد القبض ، لا يعتبر مضي زمان يمكن فيه احداثه ، وان اعتبر اعتبر ، لأن الإذن فيه يستدعي تحصيله ، ومن ضروراته مضي زمان يمكن فيه ، بخلاف ما لا يعتبر فيه التجديد ، وقد تقدم مزيد تحقيق له في الرهن.

أقول : قد أشرنا في الكتاب المذكور إلى أن ما ذكره من التحقيق غير جدير بالنظر إليه ، ولا حقيق.

الخامس : قد صرح جملة من الأصحاب (رحمهم‌الله) بأنه لا يشترط في القبض الفورية بعد العقد ، بالأصل وعدم الدليل على ذلك.

أقول : ويشير إلى عدم ذلك قوله عليه‌السلام في رواية عبيد بن زرارة ، وصحيحة محمد بن مسلم «إذا لم يقبضوا حتى يموت فهو ميراث» فإنه ظاهر فيما قلناه ، حيث علق البطلان بعدم القبض حتى يموت ، المؤذن بعدم البطلان متى تحقق القبض وان تراخى عن العقد الا أن يموت ، أو يفسخ العقد.

السادس : ينبغي أن يعلم أن القبض المعتبر شرعا في الوقف إنما هو بالنسبة إلى البطن الأول بغير خلاف يعرف ، فيسقط اعتبار ذلك في بقية البطون ، لأنهم يتلقون الملك عن البطن الأول ، وقد تحقق أولا ، ولزم بالقبض أولا ، وهذا هو مقتضى الأخبار المتقدمة ، فإن غاية ما يدل عليه هو القبض ممن وقف عليه أولا دون غيره ممن تأخر من البطون ، والأصل العدم حتى يقوم دليل على خلافه.

السابع : لو كان الوقف على الفقراء أو الفقهاء فلا بد من نصب قيم للقبض ، لما عرفت من أن القبض معتبر شرعا في صحة الوقف ، والموقوف على هؤلاء

١٤٩

المذكورين في الحقيقة إنما هو وقف على الجهة ، كما سيأتي بيانه إنشاء الله تعالى قريبا ، لا وقف على الأشخاص ، فلا يكفى قبض بعضهم ، لأنه ليس هو الموقوف عليه ، وإنما الوقف على جهة من جهات مصلحته ، فلا بد من نصب قيم للقبض من الواقف أو الحاكم ، أو قبض الحاكم بنفسه ، الا أن ظاهر خبر صدقة أمير المؤمنين عليه‌السلام بالعين التي في ينبع كما تقدم ليس فيه أزيد من قوله ذلك اللفظ المحكي في الخبر ، وبه ثبت الوقف وتم ، الا أنه يمكن أن يقال : ان قبضه عليه‌السلام لذلك لما كان بطريق الولاية لتلك الجهة ، وهو الحاكم الشرعي كان ذلك كافيا.

نعم لو كان الواقف ليس حاكما شرعيا فان الواجب نصب القيم من جهته ، أو جهة الحاكم أو الحاكم بنفسه كما ذكرناه ، وقد تقدم في صحيحة صفوان قوله عليه‌السلام ان كان أوقفها لولده أو لغيرهم ثم جعل لها قيما لم يكن له أن يرجع ، والظاهر أن المراد أنه أوقفها على أولاده البالغين مع غيرهم من الجهات العامة ، وجعل قيما للوقف ، فإنه لا يجوز له الرجوع لحصول القبض من القيم ، فيكون الخبر دليلا في المسئلة ، وحمل الأولاد على البالغين ، لأن حكم الصغار مذكور بعدهم في الرواية ، وأن الأب يقبض عنهم بالولاية ، ولو كان على مصلحة محضة ، كالمساجد والقناطر ونحوها ، فان القبض في ذلك إلى الناظر المعين لتلك المصلحة من الواقف أو الحاكم ، والحكم عندي في هذا المقام لا يخلو من شوب التردد والأشكال لعدم معلومية اشتراط القبض من الأدلة كما لو كان الوقف على موجود مخصوص ، ولا يشترط القبول هنا ، ولا في السابق لما تقدم من أن القبول إنما هو من الموقوف عليه في هذين الموضعين إنما هو الجهة ، ولا يعقل اعتبار قبولها على أنك قد عرفت ما في ذلك من البحث والمناقشة.

الثامن : أطلق بعضهم تحقق القبض في وقف المسجد والمقبرة بصلاة واحد فيه ودفن واحد فيها ، وقيده آخر بوقوع ذلك بأذن الواقف ، ليتحقق الإقباض الذي هو شرط صحة القبض ، وقيده ثالث بأن يوقع الصلاة والدفن بنية القبض أيضا فلو

١٥٠

أوقعا ذلك لا بنيته كما لو وقع قبل العلم بالوقف أو بعده قبل الاذن في الصلاة أو بعده ، لا بقصد القبض ، إما لذهوله عنه أو لغير ذلك لم يلزم ، ومثله الدفن قالوا : هذا إذا لم يقبضه الحاكم الشرعي أو منصوبه والا فالأقوى الاكتفاء به إذا وقع باذن الواقف لأنه نائب المسلمين.

أقول : لم أقف في هذا المقام على نص يتضمن شيئا من هذه الأحكام ، وهو مبني على ما تقرر عندهم من عدم ثبوت المسجدية الا بالوقف ، وقد تقدم منا تحقيق في ذلك في كتاب الصلاة في التتمة الملحقة بالمقدمة السادسة في المكان (١) واستوفينا الكلام معهم رضوان الله عليهم في ذلك فليرجع إليه من أحب الوقوف عليه.

التاسع : المفهوم من كلام أكثر الأصحاب وهو صريح جملة منهم أنه بعد القبض ليس للواقف فيه رجوع بوجه وقال الشيخ المفيد (رحمة الله عليه) في المقنعة : الوقوف في الأصل صدقات ، لا يجوز الرجوع فيها الا أن يحدث الموقوف عليه ما يمنع الشرع من معونتهم ، والقربة إلى الله بصلتهم ، أو يكون تغير الشرط في الوقف إلى غيره أرد عليهم وأنفع لهم من تركه على حاله.

قال ابن إدريس بعد نقل ذلك عنه : والذي يقتضيه مذهبنا أنه بعد وقفه وتقضيه لا يجوز الرجوع فيه ، ولا تغييره عن وجوهه وسبيله ولا بيعه ، سوآء كان بيعه أرد عليهم أم لا ، إلى أن قال : فمن ادعي غير ذلك فقد ادعي حكما شرعيا يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، انتهى.

وأجاب العلامة في المختلف عن ذلك : بما يؤذن بالجمع بين الكلامين ، من حمل كلام الشيخ المفيد على أن الواقف له قد شرط شرطا يمتنع بدونه اجراء الوقف على حاله ، قال : فههنا يخرج الوقف عن اللزوم ، وأن يكون الواقف قد قصد معونة الموقوف عليهم لصلاحهم ودينهم ، فيخرج أربابه عن هذا

__________________

(١) ج ٧ ص ٣٠١.

١٥١

الوصف إلى حد الكفر ، فلقائل أن يقول يخرج أربابه عن الاستحقاق ، لأن الوقف صدقة ، ومن شرط الصدقة التقرب إلى الله تعالى ، فمن لا يصح التقرب بالمعاونة عليه يبطل الوقف عليه ، انتهى.

والذي يقرب عندي أن كلام الشيخ المشار اليه (قدس الله روحه) مبنى على مسئلة أخرى ، وهو أنه هل يشترط في صحة الوقف القربة الى الله تعالى به ، فلو خلا منها لم يكن وقفا صحيحا أم لا؟ فعلى الأول لو تجدد من الموقوف عليه بعد الوقف ما ينافي التقرب الى الله تعالى بصلته كاتصافه بالكفر بطل الوقف ، كما أنه يبطل ابتداء لو كان كافرا ، فإنه لا يجوز الوقف عليه ، الا أن يكون الكافر أحد الأبوين على ما سيأتي تفصيله ـ ان شاء الله تعالى ـ في تلك المسئلة ، وقد صرح بما قلناه ابن إدريس في تلك المسئلة ، فقال : لا يجوز الوقف على الكفرة الا أن يكون الكافر أحد الأبوين ، لان من صحة الوقف وشرطه نية القربة فيه ، انتهى.

والشيخ المفيد (قدس‌سره) قد صرح في كتابه المذكور باشتراط القربة في صحة الوقف ، كما يشير اليه كلامه هنا ، فقال في موضع آخر : ولا بد في ذكر الوقف من شرط الصدقة به ، والقربة الى الله تعالى بذلك ، وحينئذ فاعتراض ابن إدريس عليه ليس في محله ، لأنه من القائلين بهذا القول كما سمعت من عبارته المذكورة ، ومثلها ما صرح به في موضع آخر أيضا حيث قال : وجملة القول أنه يفتقر صحة الوقف إلى شروط ، إلى أن قال : ومنها أن يكون متلفظا بصريحه قاصدا اليه ، والتقرب به الى الله تعالى ، والمراد بقوله متلفظا بصريحه ، يعنى الإتيان بالعبارة الصريحة في عقد الوقف ، وحينئذ فإذا كان مذهبه أن التقرب شرط في صحة الوقف فيبطل بدونه ، لفوات الشرط المذكور ، فإنه لا فرق بين البطلان بفواته في الابتداء ، وفي الأثناء ، فإن شرطيته ثابتة ابتداء واستمرارا ، فكلام الشيخ المذكور بناء على ما ذكرناه لا يعتريه نقص ولا قصور ، بقي الكلام في تحقيق هذه المسئلة ، وهو أنه هل يشترط في صحة

١٥٢

الوقف القربة أم لا؟ قد عرفت من كلام الشيخ المفيد وابن إدريس القول بذلك ، ونحوهما الشيخ في النهاية ، حيث قال : والوقف والصدقة شي‌ء واحد ، ولا يصح شي‌ء منهما إلا بعد ما يتقرب به الى الله تعالى ، وان لم يقصد بذلك وجه الله لم يصح الوقف.

وأما في المبسوط فلم يتعرض لذلك بنفي ولا إثبات ، وظاهر كلام شيخنا الشهيد الثاني في المسالك العدم ، كما يشير اليه كلامه المتقدم في هذه المسئلة وقال في المفاتيح وفي اشتراط نية القربة قولان ، والأصح العدم ، لعدم دليل عليه بل العمومات تنفيه ، نعم حصول الثواب يتوقف عليه.

أقول : ويدل على ما ذكره المتقدمون من الاشتراط ما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج (١) قال : بعث الي أبو الحسن موسى عليه‌السلام بوصية أمير المؤمنين عليه‌السلام وهي : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ، ويصرفني به عن النار ، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه أن ما كان لي من مال ينبع من مال يعرف لي فيها وما حولها صدقة ، وما كان لي بوادي القرى صدقة ، وما كان لي بديمة وأهلها صدقة ، وما كان لي بأذنية وأهلها صدقة ، في سبيل الله ، الى أن قال : هذه صدقة واجبة بتلة حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة يبتغي بها وجه الله في سبيل الله ، وذوي الرحم من بنى هاشم وبنى المطلب الى أن قال : ولا يباع منه شي‌ء ولا يوهب ولا يورث». الحديث وما نقلناه ملخص الخبر فإنه طويل ، وهو كما ترى وقف مشتمل على التقرب.

ومثله ما روى من وقف الكاظم عليه‌السلام (٢) وقد تقدم ذكرها في الموضع الثاني

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٩ ح ٧ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٦ ح ٥٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٢ ح ٤.

(٢) الكافي ج ٧ ص ٥٣ ح ٨ ، التهذيب ج ٩ ص ١٤٩ ح ٥٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٤ ح ٥.

١٥٣

من المطلب الأول ، وفيها تصدق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح ، صدقة حبسا بتلا بتا لا مشوبة فيها ولا ردا أبدا ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة» إلى آخر ما تقدم.

الا أن الخبرين المذكورين ليسا في الاشتراط ، فيجوز أن يكون ذكر ذلك لترتب الثواب الأخروي على ذلك الوقف ، إذ بدون التقرب لا يترتب عليه ثواب وان صح ولزم ، كما صرحوا به.

ويمكن أن يكون مستند الشيخ المفيد ومن تبعه في ذلك انما هو الأخبار الدالة على أن الصدقة لا تصح ولا تلزم إلا بالقربة ، بحمل الصدقة على الوقف ، مثل قول أبي عبد الله عليه‌السلام في موثقة حماد وهشام وابن أذينة وابن بكير (١) «لا صدقة ولا عتق إلا ما أريد به وجه الله تعالى». وموثقة عبيد بن زرارة (٢) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق بصدقة إله أن يرجع في صدقته ، فقال : ان الصدقة محدثة ، انما كان النحل والهبة ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز ، ولا ينبغي لمن أعطى شيئا لله أن يرجع فيه».

ورواية زرارة (٣) «عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال. إنما الصدقة محدثة ، انما كان الناس علي عهد رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ينحلون ويهبون ، ولا ينبغي لمن أعطى لله شيئا أن يرجع فيه ، قال. وما لم يعط لله وفي الله فإنه يرجع فيه نحلة كانت أو هبة حيزت أو لم تحز» الحديث.

والتقريب فيها أن المفهوم من كلام الشيخ المفيد أن الوقوف لا تخرج عن الصدقات بل هما أمر واحد في قصد التقرب الى الله عزوجل ، وهو صريح كلام الشيخ في النهاية لقوله والوقف والصدقة شي‌ء واحد ، لا يصح شي‌ء منهما إلا بعد التقرب ، واليه يشير

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٠ ح ٢ ، التهذيب ج ٩ ص ١٥٩ ح ٦٧ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٢٠ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٥٣ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٤٢ ح ١.

(٣) الكافي ج ٧ ص ٣٠ ح ٣ ، التهذيب ح ٩ ص ١٥٢ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٣٤ ح ١.

١٥٤

قوله في المقنعة ان الوقوف في الأصل صدقات ، بمعنى أنه إنما يطلق في الأصل والصدر السابق على الوقف لفظ الصدقة ، وهو حق كما سمعته من الأخبار المتقدمة ، سيما أخبار وقوف الأئمة عليهم‌السلام واليه يشير قوله عليه‌السلام في هذين الخبرين «إنما الصدقة محدثة ، يعني إطلاق هذا اللفظ على ما يعطى بقصد التقرب محدث ، وانما الذي كان يستعمل في زمنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) النحلة والهبة أعم من أن يكون مقترنة بالتقرب لله سبحانه ، فتدخل فيه الصدقة بالمعنى المتأخر أو لم يكن كذلك ، وهذا المعنى الذي استعمل فيه لفظ الصدقة انما هو الوقف ، والمستعمل من لفظ الصدقة في الصدر الأول انما هو الزكاة كما دلت عليه الآية ، وحينئذ فإذا كان الأصل في إطلاق الصدقة انما هو المعنى المترتب علي لفظ الوقف ، فلا بد من اشتراط التقرب فيه لاشتراط الصدقة بالقربة ، وان جرى ذلك أيضا في الصدقة بالمعنى المتأخر فيجب اشتراط القربة في الصدقة بكل من المعنيين بالتقريب المذكور.

ومجملة أن إطلاق لفظ الصدقة على الوقف كما عرفت في الأخبار إنما هو من حيث أن الوقوف إنما تكون لله سبحانه ، وما كان لله سبحانه فلا رجعة من هذه الجهة لأنه قد استحق الأجر ، وكتب له الثواب ، فلا يجمع بين العوض والمعوض ، وبهذا التقريب يتم المدعى من شرطية التقرب في الوقف ، كما هو قول أولئك الفضلاء المتقدمين ، ولم يحضرني الآن من كتب المتقدمين غير من قدمت ذكره.

المسئلة الرابعة : قد عرفت أن من شرائط الوقف إخراجه عن نفسه ، ولا خلاف في بطلانه لو وقف على نفسه ، سواء اقتصر على ذلك أو جعله بعد نفسه لغيره ، إنما الخلاف فيما إذا جعله لغيره بعد ذكر نفسه وهو الوقف المنقطع الأول فقيل : بالصحة فيه ، وهو قول الشيخ في المبسوط والخلاف ، ولا فرق في ذلك بين أن يقفه أولا على نفسه أو على غيره ممن لا يجوز الوقف عليه ، ومرجعه الى منقطع الأول ، والمشهور في كلام الأصحاب بطلان الوقف من أصله.

١٥٥

وقال الشيخ في الخلاف : إذا وقف على من لا يصح الوقف عليه مثل العبد ، أو حمل لم يوجد ، أو رجل مجهول وما أشبه ذلك ، ثم بعد ذلك على أولاده الموجودين في الحال ، وبعدهم في الفقراء والمساكين بطل الوقف فيما بدأ بذكره لأنه لا يصح الوقف عليهم ، وصح في حيز الباقين ، لأنه يصح الوقف عليهم ، واستدل بأنه ذكر نوعين ، أحدهما لا يصح الوقف عليه ، والآخر يصح ، فإذا بطل في حيز من لا يصح الوقف عليه ، صح في حيز من يصح الوقف عليه ، لأنه لا دليل على إبطاله ولا مانع منه.

وقال في المبسوط : إذا كان الوقف منقطع الابتداء ، ومتصل الانتهاء ، بأن يقف أولا على من لا يصح الوقف عليه ، ثم على من يصح ، كمن يقف على نفسه أو عبده أو المجهول أو المعدوم أو الميت ، ثم على الفقراء والمساكين ، الذي يقتضيه مذهبنا أنه لا يصح الوقف ، لأنه لا دليل عليه ، وفي الناس من قال : يصح تفريق الصفقة ، وإذا قال : لا يصح تفريق الصفقة بطل الوقف في الجميع ، وبقي الوقف على ملك الواقف لم يزل عنه ، ومن قال : يصح تفريق الصفقة أبطله في حق من لا يصح الوقف عليه ، وصححه في حق الباقين ، وهذا قوي يجوز أن يعتمد عليه ، لأنا نقول بتفريق الصفقة ، انتهى.

واستدل العلامة في المختلف والشهيد الثاني في المسالك على البطلان كما هو المشهور بما ملخصه أن اللازم من القول بالصحة أحد أمور ثلاثة : إما صحة الوقف مع انتفاء الموقوف عليه ، أو وقوع الوقف المشروط ، أو عدم جريان الوقف على حسب ما شرطه الواقف ، واللوازم كلها باطلة ، وليرجع في توجيه الملازمة الى ما ذكروه ثمة.

والأظهر في الاستدلال على ذلك هو ما رواه في الكافي عن علي بن سليمان (١) قال : «كتبت إليه يعني أبا الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك ليس لي ولد

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٣٧ ح ٣٣ ، التهذيب ج ٩ ص ١٢٩ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٦ ح ١ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٧ ح ٦٢٣.

١٥٦

ولي ضياع ورثتها من أبي وبعضها استفدتها ولا آمن الحدثان ، فان لم يكن لي ولد وحدث بي حدث فما ترى جعلت فداك؟ لي أن أوقف بعضها على فقراء إخواني والمستضعفين أو أبيعها وأتصدق بثمنها في حياتي عليهم؟ فإني أتخوف أن لا ينفذ الوقف بعد موتي ، فإن أوقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيام حياتي أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : فهمت كتابك في أمر ضياعك ، وليس لك أن تأكل منها ، ولا من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم تنفذ» الحديث.

وهو ظاهر في أنه لو وقف على نفسه بطل الوقف ، والتقريب فيه أن مقتضى الوقف على نفسه جواز الأكل منه ، مع أنه ليس له ذلك بالخبر المذكور ، فلا ثمرة لهذا الوقف لو قيل به ، ومنه يعلم أن عدم جواز الأكل مستلزم لبطلان الوقف على نفسه ، والمراد من عدم النفوذ إنما هو البطلان.

ومما يدل على إخراجه نفسه مما يقفه على غيره ما رواه الشيخ في الصحيح عن إسماعيل بن الفضل الهاشمي (١) قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يتصدق ببعض ماله في حياته في كل وجه من وجوه الخير ، وقال : ان احتجت إلى شي‌ء من مالي أو من غلة فأنا أحق به ، إله ذلك وقد جعله لله؟ وكيف يكون حاله إذا هلك الرجل؟ أيرجع ميراثا أو يمضي صدقة؟ قال : يرجع ميراثا على أهله».

وما رواه عنه (٢) في الصحيح أيضا «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من أوقف أرضا ثم قال : ان احتجت إليها فأنا أحق بها ثم مات الرجل فإنها ترجع الى الميراث».

وهذه الروايات ، وان لم تدل على خصوص البطلان في وقفه على نفسه كما هو المدعى ، إلا أنك قد عرفت من التقريب المتقدم ما يدل على ذلك ، ومع الإغماض عن ذلك ، فإنها ظاهرة بل صريحة في أنه يجب إخراج نفسه مما أوقفه

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٤٦ ح ٥٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٧ ح ٣.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٥٠ ح ٥٩.

١٥٧

على غيره من جميع الجهات ، أعم من أن يقف على نفسه أو يشترط الرجوع اليه كلا أو بعضا أو نحو ذلك مما يخرج عن الوقف على غيره ، ونحوها أيضا رواية طلحة بن زيد (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام عن أبيه أن رجلا تصدق بدار له ، وهو ساكن فيها ، فقال : الحين اخرج منها».

والأظهر عندي في الاستدلال على بطلان الوقف المنقطع الأول هو أن يقال : لا ريب أن الأصل عصمة المال من الانتقال الا بدليل شرعي ، ولم نعلم من الشرع صحة الوقف بهذه الكيفية ، فإن الأخبار الواردة في الوقف عنهم عليه‌السلام فعلا أو أمرا أو تقريرا إنما اشتملت على الوقف أولا على من يصح الوقف عليه ، ثم على من عقبه به ، فلو صدره بمن لا يصح الوقف عليه من نفسه ، أو غيره من الافراد المشار إليها آنفا فالحكم بالصحة يتوقف على دليل ، وليس فليس ، وتخرج الروايات المذكورة شاهدة على ذلك ، وان كان موردها أخص ، والمفهوم من عبارة المبسوط أن القائل بالصحة إنما هو من المخالفين ، لأن مرمى لفظ الناس ذلك ، ويعضده ما ذكره من التعليل العليل ، فإنه الأربط بمذاهب العامة ، وان استحسنه هنا وتبعهم فيه ، كما أن قوله الذي يقتضيه مذهبنا ، فيه إشارة إلى الاتفاق عليه عندنا وتعليله المذكور جيد ، كما ذكرنا.

تنبيهات :

الأول ـ اعلم أنهم قد صرحوا بأنه على تقدير القول بالصحة كما هو مذهب الشيخ في الكتابين المذكورين فهل ثبتت هذه الصحة لغيره من حين الوقف؟ أم بعد موت الواقف؟ وجهان : ثم نقلوا عن الشيخ اختيار الأول ، وهو أن الوقف ينتقل لذلك الغير من حين الوقف كما هو ظاهر كلامه المتقدم.

ثم انهم اعترضوه بأنه خلاف مقصود الواقف. وقد قال العسكري عليه‌السلام (٢)

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٨ ح ٢٩ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٧ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٢٩ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٥ ح ١.

١٥٨

«ان الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها». وأهلها لم يقصدوا ذلك الغير ابتداء فكيف تصرف إليه.

وهذا الاعتراض عندي لا يخلو من خدش ، لأنه لا خلاف في بطلان الوقف على نفسه في هذه الصورة ، ولا خلاف في أن الخبر على إطلاقه غير معول عليه ، والا لدخل تحته جملة الوقوف الباطلة التي لا خلاف في بطلانها ، فلا بد من تخصيصه بما كان صحيحا شرعا ، والشيخ يدعي أن الوقف على ذلك الغير مع تقدم الوقف على نفسه صحيح ، وإن بطل وقفه على نفسه ، لأن وقفه على نفسه قد خرج من إطلاق الخبر المذكور ، فيكون شاملا لما ادعاه بناء على دعواه ، فإلزامهم له بأن مقتضى ما ذكره خلاف ما دل عليه الخبر ، مردود بأنه وان دل بإطلاقه على ذلك ، الا أنه يجب تخصيصه ، وإخراج هذه الصورة ونحوها من إطلاقه ، كما عرفت.

وبالجملة فإن الظاهر ان اعتراضهم عليه غير موجه ولا ظاهر ، ومن ثم أعرضنا عن نقل دليلهم المتقدم ذكره إلى ما قدمناه من الدليل الواضح السبيل.

ثم انهم ذكروا بعد رد قول الشيخ بما قدمنا نقله عنهم بأن الأقوى تفريعا على الصحة انصرافه إليه بعد موت الموقوف عليه ، قالوا : وبهذا يسمى منقطع الأول.

أقول : لا أعرف لقوة ما ذكروها وجها ، الا أن يكون باعتبار صدق هذه التسمية على هذا التقدير ، دون الأول ، وهو لا يجدي نفعا ، على أن هذه التسمية إنما هي في كلامهم ، ومجرد اصطلاح منهم ، بل الأقوى إنما هو الأول بالتقريب الذي ذكرناه ، واندفاع ما أوردوه على الشيخ (رحمه‌الله).

الثاني : قالوا : لو وقف على نفسه وغيره بأن وقع العطف بالواو ففي صحة الوقف على الغير بأن يكون في النصف ، ويبطل في النصف الآخر ، أو في الكل بأن يكون الكل وقفا عليه ، أو يبطل في حقه كما في قرينة أوجه ، : وظاهره في المسالك ترجيح الأول والميل إليه ، قال : ولو عطف الغير في الأول على نفسه بالواو ، فليس بمنقطع الأول ، لبقاء الموقوف عليه ابتداء وهو الغير ، فان الموقوف عليه

١٥٩

ليس هو المجموع منه ومن الغير ، من حيث هو مجموع ، بل كل واحد منهما ، والأقوى حينئذ صحة الوقف على الغير في نصفه ، وبطلان النصف في حقه ، لعدم المانع من نفوذ الوقف في النصف ، مع وجود المقتضي للصحة وهو الصيغة مع ما يعتبر معها.

ويحتمل ضعيفا أن يكون الكل للغير ، خصوصا لو جعلناه للغير في السابق كما مر ، نظرا إلى أن الموقوف بالنسبة إليهما هو المجموع من حيث هو مجموع ، فالحكم بالتنصيف إنما نشأ من امتناع كون المجموع وقفا على كل منهما كمنقطع الأول ، فإذا امتنع الوقف على أحدهما خاصة ، انصرف وقف المجموع إلى الآخر.

ويضعف بأنه إنما وقف عليهما بحيث يكون لكل منهما حصة ، فإذا بطل في أحدهما لم ينصرف الموقوف كله إلى الآخر ، لان ذلك خلاف مدلول الصيغة ، وخلاف مراد الواقف ، والعقد تابع للقصد ، انتهى ، وكأن من احتمل البطلان كما قدمنا نقله نظر إلى أنه منقطع الأول ولو في الجملة.

أقول : المسئلة كغيرها لخلوها من النص لا تخلو من الأشكال ، وان كان ما اختاره في المسالك قوي الاحتمال.

الثالث : قد صرحوا بأنه لو وقف على غيره وشرط قضاء ديونه أو أدار مؤنته بطل الوقف ، وهو كذلك لما تقدم من الأخبار في المسئلة ، فإنها وان لم تتضمن ما ذكروه هنا بخصوصه ، الا أن ظاهرها نقل الملك والمنافع عن نفسه ، وإذا شرط الواقف قضاء ديونه أو أدار مؤنته أو نحو ذلك فقد شرط ما ينافي مقتضاه ، فيبطل الشرط والوقف ، والأولى أن يجعل هذا الكلام توجيها للنص ، والعلة الحقيقية إنما هي النص ، وهذا الكلام مما يصلح توجيها له وبيانا للحكمة في ذلك ، ومقتضى الأخبار المذكورة بطلان الوقف بهذا الشرط ، كما هو المشهور ، وقد تقدم الخلاف في ذلك ، والقول في المسئلة بأن الباطل إنما هو الشرط خاصة مع صحة أصل العقد ، وقد تقدم تحقيق الكلام في هذه المسئلة في مواضع

١٦٠