الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

المبيع مستحقا رجع المشتري بالثمن على الوكيل ، لأنه دفعه إليه ، ولا رجوع له على الموكل لما مر ، كذا ذكره في التذكرة ، والظاهر أنه أشار بقوله لما مر إلى ما قدمه من أن القول قول الموكل بيمينه في أنه لم يأخذ من الوكيل شيئا.

وكيف كان فظاهر كلامه هنا هو الفرق بين صورة ظهور العيب ، وصورة خروج كونه مستحقا ، وأنه في الصورة الثانية انما يرجع على الوكيل خاصة ، ولا رجوع له على الموكل ، وأما في الصورة الأولى فإن له الرجوع على كل منهما كما ذكره في رجوع كل منهما على الآخر ما عرفت.

والمفهوم من كلام الأصحاب هو الخلاف في هذه الصورة أعني الأولى ، فعن الشيخ وبه صرح جمع منهم ، بل الظاهر أنه الأشهر هو أنه يرجع المشتري على الوكيل خاصة ، دون الموكل ، وعلل بأنه لم يثبت وصول الثمن الى الموكل ، واختار في الشرائع الرجوع على الموكل ، قال بعد نقل القول الأول : ولو قيل برد المبيع على الموكل كان أشبه ، وهو مؤذن بأنه لا قائل بذلك قبله واختار ذلك في المسالك أيضا ، قال : والأقوى ما اختاره المصنف ، لان الملك له ، والوكيل نائب عنه ، والبائع في الحقيقة هو الموكل ، ووصول الثمن اليه ، وعدمه لا مدخل له في هذا الحكم أصلا ، بل لا يجوز رده على الوكيل ، لانه ينعزل بالبيع ان لم يكن وكيلا في قبض المبيع على تقدير رده بالعيب ، وكيف كان فقول الشيخ ضعيف ، وكذا تعليله ، انتهى والله سبحانه العالم بحقائق أحكامه ونوابه القائمون بمعالم حلاله وحرامه ، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وإله الطاهرين.

١٢١
١٢٢

كتاب الوقوف والصدقات

وما يتبعها من الحبس والسكنى والهبات

وتفصيل البحث في هذه المذكورات يقع في مقاصد أربعة :

المقصد الأول في الوقف :

وهو ثابت بالنص والإجماع ، وستأتي النصوص بذلك في محلها ، وقد ورد الترغيب فيه وفي جملة من الأخبار وان عبر فيها بلفظ الصدقة ، فإن هذا الإطلاق كان شائعا في الصدر الأول كما دلت عليه جملة من الأخبار.

١٢٣

ومن الأخبار المشار إليها ما رواه في الكافي والتهذيب عن هشام بن سالم (١) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنة هدى سنها ، فهي يعمل بها بعد موته ، أو ولد صالح يدعو له».

وما رواه في الكافي في الصحيح أو الحسن عن الحلبي (٢) «عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال ، صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وصدقة مبتولة لا تورث ، أو سنة هدى فهي يعمل بها بعده ، أو ولد صالح يدعو له».

وعن معاوية بن عمار (٣) في الصحيح قال : «قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ما يلحق الرجل بعد موته؟ قال : سنة يسنها يعمل بها بعد موته ، فيكون له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شي‌ء ، والصدقة الجارية تجري من بعده والولد الطيب يدعو لوالديه بعد موتهما ، ويحج ويتصدق ويعتق عنهما ، ويصلي ويصوم عنهما ، فقلت : أشركهما في حجي؟ قال : نعم».

وعن أبي كهمس (٤) عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ستة تلحق المؤمن بعد وفاته ولد يستغفر له ، ومصحف يخلفه ، وغرس يغرسه ، وقليب يحفره ، وصدقة يجريها ، وسنة يؤخذ بها من بعده».

وعن إسحاق بن عمار (٥) عن أبى عبد الله عليه‌السلام يتبع الرجل بعد موته ثلاث خصال ، صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري له بعد وفاته ، وسنة هدى سنها ، فهي يعمل بها بعد موته ، وولد صالح يدعو له».

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٦ ح ١ ، التهذيب ج ٩ ص ٢٣٢ ح ٢ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٢ ح ١.

(٢ و ٣) الكافي ج ٧ ص ٥٦ وص ٥٧ ح ٢ و ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٢ ح ٢ وص ٢٩٣ ح ٤.

(٤ و ٥) الكافي ج ٧ ص ٥٧ و ٥٦ ح ٥ و ٣، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٣ ح ٥ و ٣.

١٢٤

قال في المسالك : قال العلماء الصدقة الجارية الوقف ، وهو تعريف ببعض الخواص ، وكيف كان فاللفظ الصريح في عقده وقفت ، لأنه الموضوع له لغة وشرعا وقد صرح جملة من الأصحاب بأن أوقفت بالهمزة لغة شاذة فيه ، قال في المسالك والظاهر أن الصيغة بها صحيحة ، وان كانت غير فصيحة ، وأما غير هذا اللفظ من الألفاظ مثل حبست ، وسبلت فقيل : أنه يصير وقفا من غير توقف على القرينة ، للحديث النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المتقدم. وقيل : لا يكون الا مع القرينة.

وأما أبدت وحرمت وتصدقت فلا يحمل على ذلك الا مع القرينة ، كقيد التأبيد ، ونفي البيع ، والهبة والإرث ونحوها.

والوجه في ذلك أن الوقف لما كان من العقود الناقلة للملك على وجه اللزوم ، افتقر الى اللفظ الصريح الدال على ذلك ، وهذه الألفاظ لما كانت مشتركة بين هذا المعنى وغيره ، ولم تكن صريحة فيه امتنع الحكم بدلالتها على ذلك ، فإنه يصح إطلاقها على التمليك المحض وإخراج الزكاة والصدقات المطلقة ، والهبات ونحوها ، فلا بد في الحكم بالوقف فيها من ضم قرينة تدل على ارادة ذلك ، كقوله صدقة موقوفة ، أو دائمة أو مؤبدة وأن لاتباع ، ولا توهب ، ونحو ذلك.

وقد ظهر مما ذكرناه أن الألفاظ المعبر بها في عقد الوقف منها ما هو صريح فيه ، لا يتوقف على قرينة إجماعا ، وهو لفظ وقفت.

ومنها ما هو متوقف على القرينة إجماعا كحرمت وتصدقت وأبدت.

ومنها ما هو مختلف فيه كحبست وسبلت ، فذهب جمع منهم العلامة في التذكرة والقواعد إلى أنهما صريحان ، كوقفت ، ومثلهما أحبست بزيادة الهمزة بغير اشكال ، نظرا إلى الاستعمال العرفي لهما فيه مجردين ، كما ورد في الخبر النبوي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) المتقدم فإنه أطلق عليه تحبيس الأصل ، ورد بأن مجرد الاستعمال أعم من المطلوب ، والظاهر وجود القرينة في هذا الاستعمال ومعها لا اشكال فيه.

١٢٥

والمراد بالصدقة الجارية في هذه الأخبار هي الوقف كما أشار إليه الشهيد في الدروس ، وقال ابن فهد في موجزه : قال العلماء : المراد بالصدقة الجارية الوقف فان قيل : المعدود في الحديث الثاني أربع خصال ، مع أنه صرح في صدر الخبر بأنها ثلاث خصال ، قلنا : المعدود فيه إنما هو ثلاث ، ولكنه قسم الصدقة التي هي إحدى الثلاث إلى قسمين ، صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وهي الوقف كما ذكرناه ، وصدقة مبتولة لا تورث ، ولعله مثل بناء المساجد والرباطات وحفر الآبار ، وبناء القناطر ، ونحو ذلك ، ولعل المراد بكونها مبتولة كونها مرادا بها وجه الله عزوجل والتقرب إليه.

وذكر الشيخ في المبسوط أن أوقاف الجاهلية كانت أربعة ، السائبة والبحيرة والوصيلة والحام ، ثم بين معانيها الى أن قال : وجاء الشرع بإبطالها ، قال الله تعالى (١) «ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ» الآية.

والبحث في هذا المقصد يقع في مطالب الأول ـ في العقد وما يلحق به ، والكلام فيه يقع في موضعين الأول ـ قالوا : الوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة قيل : وهذا التعريف تبعا للحديث النبوي (٢) «عنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) قال : حبس الأصل وسبل الثمرة». والمراد بتحبيس الأصل المنع من التصرف فيه ، كالتصرف في الأملاك بالبيع والهبة ، والصدقة ونحوها ، بحيث يكون ناقلا للملك ، وتسبيل الثمرة إباحتها للموقوف عليه ، بحيث يتصرف فيها كتصرفه في أملاكه.

وجملة من الأصحاب عبروا بإطلاق المنفعة عوض لفظ التسبيل ، وهو أظهر في مقابلة التحبيس ، وعرفه في الدروس بأنه الصدقة الجارية ، قال : وثمرته تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة ، قيل هذا التعريف تبعا لما ورد في الأخبار المتقدمة.

__________________

(١) سورة المائدة ـ الاية ١٠٣.

(٢) المستدرك ج ٢ ص ٥١١ الباب ٢ ح ١.

١٢٦

وذهب جمع ومنهم المحقق والعلامة في غير الكتابين المذكورين إلى افتقارهما إلى القرينة ، لاشتراكهما في الاستعمال بينه وبين غيره ، والمشترك لا يدل على شي‌ء من الخصوصيات من حيث هو ، ولأصالة بقاء الملك إلى أن يحصل الناقل الشرعي ، وهو غير معلوم.

وأما أقوال المتقدمين من الأصحاب في المقام فمنها قول الشيخ في الخلاف ، قال : إذا تلفظ بالوقف فقال : وقفت أو حبست أو تصدقت ، أو سبلت وقبض الموقوف عليه أو من يتولى عنه لزم الوقف.

وهذا الكلام كما ترى يعطي صحة الوقف بأي هذه الألفاظ من غير توقف على قرينة ، مع أنه قد ادعي الإجماع على الاختصاص بلفظ الوقف ، والإجماع على العدم مع عدم القرينة في لفظ تصدقت وحرمت ، كما قدمنا ذكره ، وقال في الخلاف أيضا : ألفاظ الوقف التي يحكم بصريحها قوله ، وقفت وحبست وسبلت وما عداها يعلم بدليل ، وبإقراره أنه أراد به الوقف ، وذلك كقوله تصدقت وحرمت وأبدت وبذلك قال ابن زهرة ، وقطب الدين الكيدري.

وقال في المبسوط : الذي يقوى في نفسي أن صريح الوقف قوله واحد ، وهو وقفت لا غير ، وبه يحكم بالوقف فأما غيره من الألفاظ فلا يحكم به الا بدليل ، وهو قول ابن إدريس قال : لأن الإجماع منعقد على أن ذلك الصريح في الوقف ، وليس كذلك ما عداه.

قال في المختلف بعد نقل هذه الأقوال : والوجه ما قاله الشيخ في المبسوط ، لنا أصالة بقاء الملك على صاحبه ، وعدم خروجه عنه الا بوجه شرعي ولا عرف شرعي هنا سوى صريح الوقف ، لاشتراك البواقي بينه وبين غيره ، والموضوع للقدر المشترك لا دلالة له على شي‌ء من الخصوصيات بشي‌ء من الدلالات نعم إذا انضم القرائن صار كالصريح في صحة الوقف به.

بقي الكلام هنا في أمور الأول : لو نوى الوقف فيما يفتقر إلى القرينة

١٢٧

وقع الوقف باطنا ، ودين بنيته ، ولو اعترف بذلك أخذ باعترافه ، كما أنه لو لم ينو بالصريح الوقف لم يكن وقفا باطنا ، وان حكم به بظاهر اللفظ ، لأن المدار في الصحة واقعا إنما هو على القصود والنيات.

والفرق بين الصريح وغيره مع اشتراكهما في اعتبار القصد والنية أن الصريح يحمل عليه ظاهرا ، قصد أو لم يقصد ، بخلاف غيره ، فإنه لا يحكم عليه الا مع القرينة ، أو الاعتراف بقصد الوقف ونيته ، وهو معنى كونه يدان بنيته.

الثاني : نقل عن العلامة في التذكرة الفرق بين اضافة لفظ الصدقة إلى جهة عامة كقوله تصدقت بهذا على المساكين ، وإضافته إلى جهة خاصة ، كقوله لمعين تصدقت به عليك أو عليكم فجعل الأول ملحقا بالصريح ، فيكون وقفا بخلاف الثاني ، فإنه يرجع فيه إلى نيته كما أطلقه غيره ، ورد بان الفرق غير واضح.

الثالث : ظاهر عبارات أكثر الأصحاب وهو صريح العلامة في التذكرة والقواعد أن كل واحد من الألفاظ الثلاثة التي هي غير صريحة في الوقف إجماعا يقع الوقف بكل منها مع نيته ، أو انضمام غيره اليه ، وقال الشهيد في الدروس :

ان ظاهر الأصحاب يدل على أن تصدقت وحرمت صيغة واحدة ، فلا تغني الثانية عن الأول ، وتغني الأولى مع القرينة ، قال في المسالك : وما ادعاه من الظاهرية غير ظاهر.

الرابع : لا يخفى على من له أنس بالاخبار ومن جاس خلال تلك الديار أن الوقف في الصدر الأول أعني زمن النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وزمن الأئمة عليهم‌السلام إنما يعبر عنه بالصدقة ، لكن هذا التعبير محفوف بقرائن عديدة ، وألفاظ كثيرة تدل على ارادة الوقف ، ومن ذلك الأخبار المتقدمة في صدر المقصد المعبر في بعضها بصدقة جارية ، وفي آخر لا تورث ، والمراد بالجارية المستمرة بعده ، وهو كناية عن التأبيد.

١٢٨

ومن ذلك خبر صدقة علي عليه‌السلام (١) بداره التي في بني زريق ، قال : هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو حي سوي تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لاتباع ولا توهب حتى يرثها الله تعالى الذي يرث السموات والأرض ، وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن ، فان انقرضوا فهي لذوي الحاجة من المسلمين».

وأخبار صدقة فاطمة عليها‌السلام (٢) وأنها جعلتها لبني هاشم ، وبنى عبد المطلب.

وصدقة أمير المؤمنين (٣) عليه‌السلام لما جائته البشير بالعين التي خرجت في ينبع فقال : عليه‌السلام بشر ، الوارث هي صدقة بتة بتلا في حجيج بيت الله وعابري سبيل الله ، لاتباع ولا توهب ، ولا تورث».

وصدقة الكاظم عليه‌السلام (٤) بأرض له ، «وفيها تصدق موسى بن جعفر بصدقته هذه وهو صحيح صدقة حبسا بتلا بتا لا مشوبة فيها ولا رد أبدا ابتغاء وجه الله عزوجل والدار الآخرة ، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها أو شيئا منها ، ولا يهبها ولا ينحلها» الحديث.

الى غير ذلك من الأخبار ، وبذلك علم اشتراك هذا اللفظ بين الوقف وبين الصدقة بالمعنى الآتي في المقصد الثاني.

وأما اللفظان الآخران فالاشتراك فيهما من حيث مفهوم اللفظ ، فإنه أعم من الوقف وغيره ولم أقف في شي‌ء من الأخبار لغير هذين اللفظين أعنى لفظي الوقف والصدقة على أثر ، فالأحوط أن يجعل العقد أحدهما خاصة ، وان صح بغيرهما من الكنايات المحفوفة بالقرائن بناء على المشهور ، الا أنه لا يبعد الانحصار في هذين اللفظين وقوفا على ما خالف الأصل على مورد النص بمعنى أن الأصل بقاء الملك لمالكه والذي ورد من الصيغة المخرجة منحصر في هذين اللفظين وليس

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣١ ح ٧ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٣ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٤ ح ٤.

(٢ و ٣) الكافي ج ٧ ص ٤٨ وص ٥٤ ح ٤ و ٩، التهذيب ج ٩ ص ١٤٨ ح ٥٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٩٤ ح ٨ وص ٣٠٣ ح ٢.

(٤) الكافي ج ٧ ص ٥٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٤ ح ٥.

١٢٩

الحكم هنا كسائر العقود المبنية على مجرد الرضا ، فكل لفظ دل عليه كفى في المراد وحصل به النقل ، ولهذا ان روايات سائر العقود غاية ما تدل عليه ، هو الأنعقاد بمجرد الألفاظ الجارية في مقام المحاورة بين المتعاوضين دالة على الرضا ، وفيما نحن فيه انما دلت على هذين اللفظين خاصة ، إلا أنه ربما انقدح الاشكال هنا من وجه آخر ، وهو انهم قد صرحوا باستعمال لفظ الوقف في مجرد الحبس الذي هو معناه لغة ، ويرجع الى ما يأتي من السكنى والعمرى والرقبى ، وعليه دلت الأخبار أيضا كما سيأتي إنشاء الله ، وبه ينقدح الاشكال فيما ادعوه من أن لفظ الوقف صريح في هذا المعنى المدعي الذي هو مشروط بالتأبيد ، وكيف يكون صريحا فيه مع استعماله نصا وفتوى فيما قلناه.

وكيف كان فالأحوط هو ضم القرائن الدالة على الوقف المدعى ، سوآء وقع التعبير بلفظ الوقف أو الصدقة ، والاقتصار على هذين اللفظين من حيث ورود النصوص بهما والله العالم.

الموضع الثاني : اختلف الأصحاب (رضوان الله عليهم) في اشتراط القبول في الوقف بعد الاتفاق على الإيجاب فظاهر الأكثر حيث ذكروا الإيجاب ولم يتعرضوا لذكر القبول هو عدم اشتراطه مطلقا ، وهو أحد الأقوال في المسئلة ، وعلل بأن الأصل عدم الاشتراط ، ويؤيده أنه ليس في النصوص ما يدل عليه ، ولأن الوقف كالإباحة ، خصوصا إذا قلنا أن الملك فيه ينتقل الى الله عزوجل ، ولأنه فك ملك فيكفي فيه الإيجاب كالعتق ، واستحقاق الموقوف عليه النفقة كاستحقاق العتق منافع نفسه.

وقيل ، باعتباره مطلقا ، ونقل عن التذكرة ، لإطباقهم على أنه عقد ، فيعتبر فيه الإيجاب والقبول كسائر العقود ، ولأن إدخاله في ملك الغير بغير رضاه بعيد ، ولأصالة بقاء الملك على مالكه بدونه.

وقيل : بالتفصيل وهو اعتباره ان كان على جهة خاصة ، كشخص معين ،

١٣٠

أو جماعة معينين ، لما تقدم في سابق هذا القول ، ولإمكان القبول ، وان كان على جهة عامة كالفقراء والمساجد ونحوهما لم يعتبر ، لأنه حينئذ فك ملك ، ولأن الملك فيه ينتقل إلى الله عزوجل ، بخلاف الأول ، فإنه ينتقل فيه إلى الموقوف عليه.

أقول : وإلى هذا القول ذهب الشهيد في الدروس ، ويظهر من المحقق في الشرائع والشارح في المسالك الميل إليه ، وأنت خبير بأن الذي يظهر لي من تتبع الأخبار هو القول الأول لخلوها من ذكر ذلك في الوقوف الخاصة والعامة.

وقد تقدم صورة وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام داره التي في بني زريق على خالاته ، والخبر مروي في الفقيه في الصحيح عن ربعي (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : «تصدق أمير المؤمنين عليه‌السلام بدار له في المدينة في بني زريق فكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به على بن أبي طالب عليه‌السلام الحديث». كما تقدم.

والتقريب فيه أنه لو كان القبول شرطا لنقله عليه‌السلام في حكاية الصدقة المذكورة ، لأنه ليس الغرض من حكاية ذلك إلا بيان الأحكام في المقام ، وظاهره لزوم الوقف وصحته بهذا اللفظ الذي كتبه عليه‌السلام في ذلك ، وإثبات شي‌ء يزيد على ذلك يتوقف على الدليل ، وأصالة العدم أقوى مستمسك ، في المقام.

ونحو هذا الخبر ما رواه الشيخ في التهذيب عن عجلان أبي صالح (٢) «قال أملى علي أبو عبد الله عليه‌السلام بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به فلان بن فلان وهو حي سوي بداره التي في بنى فلان بحدودها صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث حتى يرثها وارث السموات والأرض وأنه قد أسكن صدقته هذه فلانا وعقبه فإذا انقرضوا فهي على ذي الحاجة من المسلمين».

ومن الظاهر أن ما ذكره عليه‌السلام إنما هو تعليم للناقل كيفية الوقف المترتبة

__________________

(١) الفقيه ج ٤ ص ١٨٣ ح ٢٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ١٠٤ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٣١ ح ٥ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٣ ح ٣.

١٣١

عليه أحكامه ، ولو كان القبول من شروط الصحة فيه كما ادعوه لذكره عليه‌السلام.

ومن ذلك أيضا حديث صدقة الكاظم عليه‌السلام (١) بأرض له على أولاده المروي في الكافي ، وفيه هذا ما تصدق به موسى بن جعفر عليه‌السلام بأرض بمكان كذا وكذا وحد الأرض كذا وكذا كلها ونخلها وأرضها وبياضها ومائها وأرجائها وحقوقها وشربها من الماء إلى أن قال : تصدق بجميع حقه من ذلك على ولده من صلبه الرجال والنساء ، ثم ذكر قسمة الغلة بعد عمارة الأرض وما يحتاج اليه عليهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذكر شروطا في البنات إلى أن قال : صدقة حبسا بتلا بتا لا مشوبة فيها ، ولا رد أبدا ابتغاء وجه الله تعالى سبحانه والدار الآخرة ، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيعها ولا شيئا منها ، ولا يهبها ولا ينحلها ولا يغير شيئا منها مما وصفته حتى يرث الله الأرض ومن عليها» : ثم ذكر الناظر في الوقت من أولاده على ترتيب ذكره عليه‌السلام ولم يتعرض فيها لذكر القبول ، فلو أنه شرط في الصحة كما ادعوه لأخبر بأنهم قد قبلوا ذلك ، وهذا الكتاب حجة على منكر الوقف من أولاده ، ولو كان القبول شرطا في الوقف والحال أنه لم يذكره في الكتاب لكان للمنازع أن يبطل الوقف لهذه الدعوى فلا يكون كتابه عليه‌السلام حجة في ذلك ، وهذا خلف ، وهذه جملة من أخبار الوقوف الخاصة.

ومن الأخبار في الوقوف العامة خبر وقف أمير المؤمنين عليه‌السلام العين التي في ينبع ، والخبر مروي في التهذيب عن أيوب بن عطية الحذاء (٢) قال : «سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : قسم نبي الله الفي‌ء فأصاب عليا عليه‌السلام أرض فاحتفر فيها عينا فخرج ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير فسماها ينبع فجاء البشير يبشره فقال : عليه‌السلام بشر الوارث هي صدقة» الحديث. كما تقدم ومعلومية عدم الاشتراط فيه أظهر.

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٥٣ ح ٨ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١٤ ح ٥.

(٢) التهذيب ج ٩ ص ١٤٨ ح ٥٦ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٣ ح ٢.

١٣٢

وبالجملة فإنه لا أثر لهذا الشرط في الأخبار ، ولا دليل بالكلية غير هذه الوجوه الاعتبارية ، وأصالة العدم أقوى دليل ، والله الهادي إلى سواء السبيل ، قال في المسالك بعد الكلام في ذلك : وحيث يعتبر القبول مطلقا أو على بعض الوجوه يعتبر فيه ما يعتبر في غيره من العقود اللازمة من اللفظ العربي المطابق للإيجاب المتعقب له بغير فصل يعتد به ، الى غير ذلك من الشروط ، ويتولاه في المصالح العامة على القول باعتباره الناظر عليها كالحاكم ومنصوبه كما يتولى غيره من المصالح ، وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني ولا رضاه ، لتمامية الوقف قبله فلا ينقطع ، ولأن قبوله لا يتصل بالإيجاب ، فلو اعتبر لم يقع له كغيره من العقود اللازمة ، انتهى.

وأنت خبير بما في أكثر هذا الكلام ، وان جمد عليه جملة ممن تأخر عنه من الأعلام ، فإنه نفخ في غير ضرام كما تقدمت الإشارة إليه في غير مقام ، مضافا الى ما عرفت من أنه لا دليل هنا على هذا القبول ، وما ذكره من الاشتراطات المذكورة في العقود اللازمة كله محض دعا ولا دليل عليها إلا مجرد أمور اعتبارية عللوها بها ، مع ردها بالأخبار الظاهرة في خلافها.

ثم ان قوله وعلى القولين لا يعتبر قبول البطن الثاني ولا رضاه لتمامية الوقف قبله لا يخلو من المناقشة ، فإن هذا انما يتم لو قام الدليل على اشتراط الرضا في البطن الأول ، فيقال : حينئذ ان شرط صحة الوقف قد حصل ، وانعقد الوقف ، والحكم ببطلانه بعد ذلك يحتاج الى دليل ، ولم يثبت ان عدم رضا البطن الثاني موجب للبطلان. أما على ما قلناه من أنه لا دليل على القبول ، ولا على اعتبار الرضا في البطن الأول بل ظاهر الأدلة انما هو الأعم كما سمعت من أوقاف الأئمة عليهم‌السلام فإنه ليس فيها اشارة ، فضلا عن صريح الدلالة باعتبار رضا الموقوف عليه ولا قبوله ، فإنه يكون ذلك في البطن الثاني بطريق أولى ، واللازم لهم باعتبار اشتراطهم ذلك في البطن الأول بهذه التعليلات الاعتبارية ، هو كونه

١٣٣

كذلك في البطن الثاني ، إذ العلة مشتركة ، والتعليل بتمامية الوقف قبله معلوم فإنه يمكن أن يقال : ان تمامية الوقف مراعاة برضا البطن الثاني والثالث وهكذا فان حصل استمر الوقف ، والا بطل ، والتعليل بأن قبوله لا يتصل بالإيجاب أظهر بطلانا ، فإنه انما يتم لو قام دليل على ما يدعونه من هذا الشرط ، وقد عرفت أنه لا دليل عليه ان لم تكن الأدلة واضحة في خلافه ، بل هي كذلك كما لا يخفى على من راجع أخبار العقود والله العالم.

المطلب الثاني في شرائط الوقف :

قالوا : وهي أربعة : الدوام والتنجيز والإقباض وإخراجه عن نفسه ، فهنا مسائل الاولى : الظاهر من كلام الأكثر هو اشتراط الدوام في الوقف ، وقد تقدم في أخبار وقوف الأئمة عليهم‌السلام ما يدل عليه ، وظاهره في المسالك المناقشة في ذلك حيث ذكر أنه متنازع مشكوك فيه ، واقتفاه صاحب المفاتيح في ذلك فقال : ان اشتراط التأبيد لا دليل عليه ، بل الأصل والعمومات تنفيه.

أقول : لا يخفى ان العقود الشرعية الموجبة لنقل الأملاك يجب الوقوف فيها على ما رسمه صاحب الشريعة من الكيفية والشروط فعلا أو أمرا بذلك ، والأوقاف التي صدرت منهم عليهم‌السلام كما قدمنا لك جملة منها ، قد اشتملت على التأبيد ، لقولهم حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض ، وهو كناية عن دوامها الى يوم القيامة ، والخروج عنها بغير معارض سفسطة ، وبه يظهر ما في تمسكه بالأصل والعموم ، فإنه ناش عن الغفلة عن ملاحظة الأخبار المذكورة كما لا يخفى ، وحينئذ فلو قرنه بمدة معينة كسنة مثلا أو وقف على من ينقرض غالبا فإنه يبطل الوقف بغير خلاف.

وانما الخلاف هنا في مواضع ثلاثة الأول ـ فيما لو قرنه بمدة معينة ، فإنه هل يصح أن يكون حبسا فلا يبطل بالكلية أم لا؟ قولان : وبالثاني منهما صرح المحقق في الشرائع ، لأن شرط الوقف الدوام ، فيبطل ، لعدم حصول الشرط ،

١٣٤

وبالأول صرح الشهيد في الدروس ، واختاره في المسالك ، قال : لوجود المقتضي وهو الصيغة الصالحة للحبس ، لاشتراك الوقف والحبس في المعنى ، فيمكن اقامة كل منهما مقام الآخر ، فإذا قرن الوقف بعدم التأبيد كان قرينة لإرادة الحبس ، كما لو قرن الحبس بالتأبيد فإنه يكون وقفا كما مر ، وهذا هو الأقوى ، لكن انما يتم مع قصد الحبس ، فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان لفقد الشرط ، انتهى.

أقول : من الظاهر أنه يمكن إرجاع القول الأول الى ما ذكره من هذا التفصيل ، فان تعليل القول المذكور بما تقدم من قوله ان الدوام شرط فيبطل الوقف بعدم الشرط ، يشير الى ذلك ، حيث أن غاية ما يعطيه هو بطلان الوقف لا بطلان الحبس ، والا لاحتياج في بطلان الحبس إلى أمر زائد على ما ذكر مع أنه غير مذكور في كلامه القول بالصحة ، وكونه حبسا صرح ابن إدريس أيضا فقال والوقف لا يصح إلا أن يكون مؤبدا على ما قدمناه ، فلا يصح أن يكون موقتا. فان جعله كذلك لم يصح الا أن يجعله سكنى أو عمري أو رقبى على ما سنبينه عند المصير اليه.

والأظهر في الاستدلال على الصحة في الصورة هو ما رواه المشايخ الثلاثة (عطر الله مراقدهم) في الصحيح عن علي بن مهزيار (١) قال : «قلت : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام أن كل وقف الى وقت معلوم فهو واجب على الورثة وكل وقف الى غير وقت معلوم جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام فكتب عليه‌السلام : هو عندي كذا».

والظاهر أن معنى الخبر المذكور هو أن الوقف إذا كان مقيدا بوقت معلوم كما هو محل البحث فهو صحيح واجب على الورثة إنفاذه في تلك المدة ، ويكون حبسا ، وان لم يذكر له وقت ، أو كان وقتا مجهولا كأن يقول : الى وقت ما ، فإنه يكون باطلا.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٢ ح ٨ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٦ ح ٣ ، الكافي ج ٧ ص ٣٦ ح ٣١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٧ ح ١.

١٣٥

والشيخ (رحمة الله عليه) في الكتابين حمل الوقت هنا على الموقوف عليه دون المدة.

استنادا إلى صحيحة الصفار (١) قال : كتبت الى أبى محمد عليه‌السلام أسأله عن الوقف الذي يصح كيف هو؟ فقد روى أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقتا فهو صحيح ممضى ، قال قوم : ان الموقت هو الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها : وقال آخرون : هذا موقت إذا ذكر أنه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، والذي هو غير موقت أن يقول : هذا وقف ، ولم يذكر أحدا فما الذي يصح من ذلك ، وما الذي يبطل؟ فوقع عليه‌السلام الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها.

أقول : لا يخفى أن المتبادر من لفظ الوقت انما هو الزمان ومجرد تفسير هؤلاء المذكورين بالموقوف عليه مجازا لا يقتضي تقييد ذلك الخبر بذلك ، بل يحمل كل منهما على ما دل عليه كما هو المقرر في كلام الأصحاب ومع تسليم التقييد ، فإنه يكفي في الاستدلال على ما نحن فيه بهذا الخبر إطلاق قوله عليه‌السلام «الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها» ويدل على أنه إذا وقفه مقيدا بمدة معينة كان صحيحا في تلك المدة ، ويخرج من هذا الإطلاق ما قام الدليل على بطلانه كما لو وقف بغير مدة ، ولا ذكر الموقوف عليه ، ونحوه من الوقوف التي قام الدليل على بطلانها ، وفي هذين الخبرين دلالة على ما قدمنا ذكره من صحة إطلاق الوقف على التحبيس وبه يظهر أن ما قدمنا نقله عنهم من أن لفظ وقف صريح في الوقف المؤبد ليس في محله.

الثاني : لو وقف على من ينقرض غالبا ولم يذكر المصرف بعده ، كأن وقف على أولاده واقتصر على بطن أو بطون ، فهل يصح وقفا أو حبسا أو يبطل؟ أقوال

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٣٢ ح ٩ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٦ ح ١ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٧ ح ٢.

١٣٦

ثلاثة : وبالأول قال الشيخان ، وابن الجنيد ، وسلار ، وابن البراج ، وابن إدريس على ما نقله في المختلف ، والظاهر أنه المشهور.

وبالثاني قال العلامة في القواعد والإرشاد ، وبه قال ابن حمزة ، فإنه قال على ما نقله في المختلف : فان علق على وجه يصح انقراضه كان عمري ، أو رقبى أو سكنى أو حبسا بلفظ الوقف.

والثالث غير معلوم قائله ، وقال الشيخ في المبسوط والخلاف : إذا وقف على على من يصح انقراضه في العادة مثل أن يقف على ولده وولد ولده وسكت ، فمن أصحابنا من قال : لا يصح الوقف ، ومنهم من قال يصح.

أقول : والى القول بالصحة قال العلامة في المختلف ، واحتج عليه قال : لنا أنه نوع تمليك وصدقة ، فيتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره ، كغير صورة النزاع ، وللأصل ، ولأن تمليك الأخير ليس شرطا في تمليك الأول ، وإلا لزم تقدم المعلول علي العلة.

وما رواه أبو بصير (١) قال : «قال أبو جعفر عليه‌السلام : ألا أحدثك بوصية فاطمة عليها‌السلام؟ قلت : بلى فأخرج حقا أو سفطا فأخرج منه كتابا فقرأه «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) أوصت بحوائطها السبعة العواف والدلال والبرقة والميثب والحسنى والصافية وما لأم إبراهيم الى علي بن أبي طالب عليه‌السلام فان قضى علي فإلى الحسن فان مضى فإلى الحسين فان مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي شهد الله على ذلك ، والمقداد بن الأسود والزبير بن العوام ، وكتب علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

ثم قال (قدس‌سره) : ويمكن أن يتعرض على الحديث بأنها عليها‌السلام علمت عدم انقراض أولادها من النص على الأئمة عليهم‌السلام وأن الدنيا تقبض مع انقراضهم ، ومن

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٤٤ ح ٥٠ ، الفقيه ج ٤ ص ١٨٠ ح ١٣ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣١١ ح ١.

١٣٧

قوله (١) (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حبلان متصلان لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كتاب الله وعترتي أهل بيتي ،». قال (قدس‌سره) : احتج المانعون بأن الوقف مقتضاه التأبيد ، فإذا كان منقطعا صار وقفا على مجهول ، فلم يصح كما لو وقف على مجهول في الابتداء.

والجواب المنع من الصغرى ، والفرق بينه وبين مجهول الابتداء ظاهر ، فان المصرف غير معلوم هناك ، وأما هنا فالمصرف معلوم ، انتهى.

وأنت خبير بما فيه مما يكشف عن ضعف باطنه وخافية فإن لقائل أن يقول ان ما ذكره من انه نوع تمليك مردود بأنه لم يعقل في التمليك كونه موقتا بمدة وكذا الصدقة وما ذكره من الأصل بمعنى أصالة الصحة متوقف على اجتماع شرائط الصحة ، وهو عين المتنازع ، لان الخصم يجعل من تلك الشرائط التأبيد ، فالاستدلال بذلك لا يخرج عن المصادرة ، وهكذا ما ذكره غيره من الاستناد الى الأمر بالوفاء بالعقود ، فإنه موقوف على تحقق العقد ، ومع عدم جمعه الشرائط لا يصير عقدا يمكن الاستدلال به ، فهو لا يخرج عن محل النزاع.

وأما قوله ولأن تملك الأخير ليس شرطا ففيه أنا لا ندعي كونه شرطا وانما الشرط بيان المصرف الأخير ليتحقق معنى الوقف ، وهو هنا غير حاصل ، فلا يتم صحة الوقف.

وأما الخبر الذي أورده ففيه أولا أنه لم يصرح فيه بالوقف ، وانما هو وصيته والظاهر أن المراد انما هو الوصية بالولاية على الوقف ، لما دل عليه غيره من أن صدقتها كانت لبني هاشم ، وبنى المطلب ، وسيأتي الخبر المذكور إنشاء الله تعالى ، فهو خارج عن محل البحث.

وثانيا أنه مع تسليم ارادة الوقف من هذا اللفظ فالجواب عنه ما ذكره من علمها عليها‌السلام ببقاء الموقوف عليه الى تمام الدنيا ، فلا يكون ايضا من محل البحث.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ص ١٩ ح ٩ الباب ٥ من أبواب صفات القاضي.

١٣٨

وبالجملة فإن القول بكونه وقفا والحال هذه انما يتم بمنع اشتراط التأبيد في الوقف ، وهم لا يقولون به ، فإن جملة من نقلنا خلافه في هذه المسئلة وقوله بكونه وقفا قد صرح باشتراط الدوام في الوقف ، وهو مناقضة ظاهرة ، وممن صرح بذلك ابن إدريس في سرائره ، والشيخ في النهاية والمبسوط ، والعلامة في القواعد والإرشاد ، والمحقق وغيرهم.

نعم ظاهر المفيد في المقنعة حيث لم يصرح بهذا الشرط هو عدم شرطيته وحينئذ فالمناقضة غير لازمة له ، وأما غيره فالأمر فيه كما ترى.

وبالجملة فإن مقتضى القول بشرطيته هو ما قلناه من عدم القول بصحته وقفا هنا ، سيما مع دلالة ظاهر النصوص على شرطيته كما عرفت ، وحينئذ فيجب انتفاء القول بالوقف ، والظاهر حينئذ من القولين الباقيين هو القول بالتحبيس وعلى تقدير النزاع في شرطية التأبيد كما يظهر من المسالك ، أنه لا يظهر الفرق هنا بين كونه وقفا وحبسا الا بالقصد ، والواجب هو الرجوع في ذلك اليه ، إلا أن فائدة الفرق بين الأمرين على هذا الوجه نادرة ، والأقرب عندي هو القول بالتحبيس لما عرفت من ثبوت شرطية الدوام في الوقف ، فلا يمكن الحكم بكونه وقفا ، وليس القول بالتحبيس إلا لزوم استعمال لفظ الوقف في الحبس مجازا ، وقد عرفت أنه شائع في الأخبار.

وتدل على الصحة وكونه حبسا هنا صحيحة الصفار المتقدمة ، والتقريب فيها أن السائل سأله أنه قد روى أنه ان كان موقتا فهو صحيح ممضى ، ولكن اختلف الأصحاب في هذا الفرد الصحيح هل هو المؤبد أو منقطع الأخر؟ فأجاب عليه‌السلام بأن الوقف على حسب ما يذكره الواقف ، بمعنى أنه ان ذكره الوقف مؤبدا فهو وقف مؤبد ، وان ذكره منقطع الآخر فهو وقف ما دام الموقوف عليه موجودا.

الثالث : قد عرفت الخلاف في الوقف المنقطع الآخر وأن الأشهر هو الصحة ، أما وقفا كما هو أحد الأقوال ، أو حبسا ، ثم انه لو لم ينقرض الموقوف عليه بل

١٣٩

استمر كما لو وقف على أولاده ، ثم أولاد أولاده ، وهكذا واستمر الانتساب ، فالظاهر أنه لا خلاف في صحة الوقف

أما لو انقرضوا فقد اختلف الأصحاب فيمن يرجع اليه ، فقيل : برجوعه إلى ورثة الواقف ، وقيل : ورثة الموقوف عليهم ، وقيل : انه يصرف في وجوه البر ، وبالأول قال الشيخ وسلار وابن البراج ، واختاره العلامة في المختلف بل في أكثر كتبه ، والمحقق في الشرائع ، وأسنده في المسالك إلى الأكثر ورجحه.

وبالثاني قال الشيخ المفيد وابن إدريس وقواه العلامة في التحرير.

وبالثالث قال ابن زهرة ، قال : وقد روي أنه يرجع الى ورثة الواقف ، والأول أحوط ، ونفى عنه البأس العلامة في المختلف ، وظاهر الشهيد في الدروس التوقف في الحكم المذكور ، حيث اقتصر على نقل الأقوال في المسئلة ، ولم يرجح منها شيئا ، وهذا الخلاف هنا متفرع على القول بكونه وقفا كما هو المشهور بينهم ، وإلا فإنه على تقدير كونه حبسا لا إشكال في أنه انما يرجع الى الواقف أو ورثته ، كما هو قضية التحبيس المختص بمن حبس عليه ، وأظهر منه في ذلك القول بالبطلان ، واستدل للقول الأول بأنه بالوقف لم يخرج عن ملك المالك بالكلية ، وانما تناول أشخاصا فلا يتعدى الى غيرهم ، ولظاهر قول العسكري عليه‌السلام (١) الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها إنشاء الله تعالى. والواقف إنما وقفه هنا على من ذكره ، فلا يتعدى الى غيرهم ، ويبقى أصل الملك لمالكه.

واستدل للقول الثاني بانتقال الملك الى الموقوف عليه قبل الانقراض ، فيستصحب ، ولأن عوده الى الواقف بعد خروجه يفتقر الى سبب ولم يوجد ، ولأنه نوع صدقة ، فلا يرجع اليه.

__________________

(١) التهذيب ج ٩ ص ١٢٩ ح ٢ ، الفقيه ج ٤ ص ١٧٦ ح ١ ، الكافي ج ٧ ص ٣٧ ح ٣٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٣٠٧ ح ٢.

١٤٠