الحدائق الناضرة - ج ٢٢

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]

الحدائق الناضرة - ج ٢٢

المؤلف:

الشيخ يوسف بن أحمد البحراني [ صاحب الحدائق ]


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٦٧

لا أنقصك رطلا من دينار لو كان داخلا تحت الإطلاق ، ونحوها الموثقة المتقدمة ، فإنه لا معنى لكونه يدنس نفسه ، ويخوفه في الأمانة مع كونه داخلا تحت إطلاق الوكالة.

وفي رواية ميسر (١) قال : قلت له يجئنى الرجل فيقول لي اشتر لي فيكون ما عندي خيرا من متاع السوق قال : إذا أمنت أن لا يتهمك فأعطه من عندك ، وان خفت أن يتهمك فاشتر له من السوق».

وفي هذا الخبر دلالة على أن المنع من ذلك في هذه الأخبار إنما هو من حيث خوف التهمة ، وفيه اشعار بالجواز بل دلالة ظاهرة على ذلك مع الأمن من التهمة ، وحينئذ فمع الاذن صريحا كما تقدم ، فالجواز بطريق الأولى كما تقدمت الإشارة إليه ، إلى غير ذلك من الأخبار المتقدمة في الموضع المتقدم ذكره.

ومنه يعلم أنه ليس المنع فيما دل على المنع من حيث تولي طرفي الإيجاب والقبول ، وقد تقدم مزيد توضيح لذلك في المسئلة الخامسة من المقام الثاني من فصل البيع (٢) على أنه ان أريد بطرفي الإيجاب والقبول ، هو قول البائع بعتك مثلا ، وقول المشتري قبلت كما هو ظاهر هذه العبارة ، وهو مرادهم فهذا ليس عليه دليل ولا أثر في الأخبار وان اشتهر بينهم ، وإنما الموجود فيها الإيجاب بلفظ الأمر كقوله اشتر لي أو بع هذا ، ونحو ذلك ، والقبول إنما هو فعل ما أمر به ، وهو القبول الفعلي بمعنى أنه أمره بالبيع فباع أو الشراء فيشتري ونحو ذلك وحينئذ فبيعه على نفسه إنما هو عبارة عن أن يأخذ ذلك الشي‌ء المأمور ببيعه لنفسه ، ويدفع ثمنه من ماله ، كما هو المستفاد من هذه الأخبار المذكورة هنا ونحوها ، وقد عرفت أن هذا النهي إنما هو من حيث خوف التهمة ، وحينئذ فمع تسليم صدق تولى الطرفين على هذه الصورة فإنه لا مانع من هذه الجهة ، وإنما ، المنع من الجهة المذكورة ، وان اختص ذلك بالصورة المذكورة الأولى كما هو ظاهر كلامهم ،

__________________

(١) الفقيه ج ٣ ص ١٢١ ح ١٧ ، الوسائل ج ١٢ ص ٢٨٩ ح ٤.

(٢) ج ١٨ ص ٤١٧.

١٠١

وقد عرفت أنه لا وجود له في الأخبار بالكلية.

واستدل في المختلف على ما ذهب إليه من الجواز بأدلة ذكرناها في مسئلة ما لو قال : انسان للتأجر اشتر لي من المقدمة الثانية في آداب التجارة (١) وبينا بطلانها فليرجع اليه من أحب الوقوف عليه ، وقد تلخص مما ذكرناه أنه مع الاذن فالظاهر الصحة في البيع أو الشراء ، ومع الإطلاق فالظاهر المنع إلا مع أمن التهمة ، وأما تعليل المنع بتولي طرفي العقد فلا دليل عليه إلا في النكاح ، كما عرفت من الرواية المتقدمة ، وباقي ما يتعلق بالمسئلة المذكورة من الفروع والتحقيق يرجع فيه إلى الموضعين المتقدمين المشار إليهما ، والله سبحانه العالم.

المطلب السابع في التنازع :

وفيه أيضا مسائل الاولى : في الاختلاف في الوكالة ولو أحقها وفيه صور :

منها الاختلاف في أصل الوكالة ، فيحلف المنكر لها ان لم يكن بينة ، لأن القول قوله بيمينه ، حيث أن الأصل العدم ، وهذا فيما إذا ادعى العامل الوكالة ، وأنكرها المالك ، ظاهر.

أما إنكار الوكيل فإنه بحسب الظاهر لا معنى له ، حيث أن الموكل لا حق له يدعيه ليتحقق إنكاره ، الا أنه يمكن فرض ذلك فيما لو كان التوكيل في شي‌ء مشروطا في عقد لازم ، وشرط إيقاعه في وقت معين ، كيوم الجمعة مثلا ، ثم حصل الاختلاف في الوكالة بعد انقضاء ذلك الوقت ، فادعى الموكل الوكالة ليتم له العقد ، وأنكرها الوكيل ليتزلزل العقد ، ويتسلط على الفسخ ، وكما أن القول قول الموكل لو أنكر الوكالة كذلك ، لو اتفقا على أصل الوكالة ، واختلفا في بعض الكيفيات أو المقادير ، كما إذا قال الوكيل : وكلتني في بيعه كله أو بيعه نسيئة أو شرائه بعشرين ، وقال الموكل : بل ببيع بعضه أو بيعه نقدا أو شرائه بعشرة فالقول قول الموكل ، لأن الأصل عدم الاذن فيما يدعيه الوكيل ، ولأن

__________________

(١) ج ١٨ ص ٣٢.

١٠٢

الاذن صادر عن الموكل ، وهو أعرف بحال الاذن ومقاصده الصادرة منه ، ولأنه كما كان القول قوله في أصل العقد ، كذلك في صفته ، والظاهر أنه لا خلاف فيه.

ومنها الاختلاف في التلف ، وظاهر كلامهم الاتفاق على أن القول قول الوكيل بيمينه ، لأنه أمين ، ويتعذر عليه إقامة البينة بالتلف غالبا ، وقد تقدم نقل جملة من عبائرهم في المسئلة الاولى من سابق هذا المطلب ، بل ظاهر عبارة المسالك دعوى الإجماع على ذلك ، الا أن فيه ما عرفت في الموضع المشار اليه من أن الإجماع المدعى ان كان على حكم التلف خاصة ، فإن أحدا لم يدعه ، وان كان ظاهر كلامهم الاتفاق على ذلك ، وان كان على كونه أمينا وترتب أحكام الأمين عليه ، فكلامهم واختلافهم في بعض الأحكام المتفرعة على ذلك ينافي دعوى الإجماع المذكور.

وكيف كان فالقول قول الوكيل بيمنه في دعوى التلف بالنسبة إلى العين الموكل في بيعها ، وثمنها لو كان وكيلا في قبضه ، أعم من أن يكون التلف بسبب ظاهر أو خفي.

ومنها الاختلاف في الرد ، والمشهور أنه ان كان وكيلا بجعل فعليه البينة ، ولا يقبل قوله ، والا فالقول قوله بيمينه كالودعي ، والوجه في هذا التفصيل أنه مع عدم الجعل أمين ، وقد قبض المال لمجرد مصلحة المالك ، فكان محسنا محضا ، وكل ما يدل على قبول قول الودعي ـ من قولهم ان عدم قبول قوله يؤدي إلى الاعراض عن قبول النيابة في ذلك ، وهو ضرر عظيم ـ يدل عليه هنا.

وأما مع الجعل ، فإنه قبض المال لمصلحة نفسه ، فجرى مجرى المرتهن والمستعير ، فلم يقبل قوله ، وللخبر المتفق عليه (١) «البينة على المدعي واليمين

__________________

(١) المستدرك ج ٣ ص ١٩٩ ح ٥ الباب ٣.

١٠٣

على المنكر». خرج منه الأول من حيث أنه أمين وبقي ما عداه.

وقيل : ان القول قول الموكل ، بيمينه مطلقا ، سواء كان الوكيل بجعل أو بدونه ، ووجهه أن الأصل عدم الرد ، والخبر المتفق عليه ، وأجيب عن الوجوه المتقدمة فيما إذا لم تكن بجعل أن كونه أمينا لا يستلزم القبول ، كمن قبضه لمصلحة نفسه مع كونه أمينا ، والضرر يندفع بالإشهاد ، والتقصير في تركه إنما هو منه ، وكونه محسنا لا ينافي عدم قبول قوله في الرد ، وكونه من جملة السبيل المنفي عنه ، يندفع بأن اليمين عليه سبيل أيضا ، وليس بمندفع.

أقول : وهذه الوجوه المستدل بها وأجوبتها لا يخلو من المناقشات التي ليس في التعرض لها مزيد فائدة بعد ما عرفت في غير موضع مما تقدم من أنها لا تصلح لتأسيس الأحكام الشرعية ، وإنما المدار فيها على النصوص المعصومية ، والمستفاد منها كما تقدم تحقيقه ـ في ذيل المسئلة الاولى (١) من مسائل سابق هذا المطلب ـ هو أن الأمين وكيلا كان أو غيره بجعل كان أو بغير جعل ، يقبل قوله فيما ادعاه من تلف أورد أو غيرهما ، وأن هذه الاخبار الدالة على ذلك أخص من الاخبار الدالة على ما ذكروه من تلك القاعدة وهي «أن البينة على المدعي واليمين على المنكر» التي استندوا إليها هنا في تقديم قول الموكل ، ومقتضى القواعد الشرعية تقديم العمل بهذه الأخبار ، لأنها أخص ، ويخصص ما استندوا إليه من تلك القاعدة بها.

وبذلك يظهر لك بطلان الوجه العقلي الذي استندوا إليه في الفرق بين الودعي والوكيل بغير جعل ، وبين غيرهما ممن له مصلحة في تلك المعاملة ، وأن الأول محسن محض فلا يضمن ، بخلاف الثاني ، فإنه مجرد تخريج لا دليل عليه ، كما اعترف بذلك في المسالك في كلام قدمنا نقله عنه في كتاب العارية قال فيه : وهذه العلة ليست منصوصة وإنما هي مناسبة ، وهو جيد.

__________________

(١) ص ٨٣.

١٠٤

وبالجملة فالعمل على الأخبار وهي كما حققناه دالة على ما ذكرنا ، ولكنهم لغفلتهم عن ملاحظة الأخبار ، وعدم الاطلاع عليها انجرت بهم المناقشة إلى الوديعة أيضا ، حيث أن ظاهرهم أن المستند فيها انما هو الإجماع.

قال في المسالك في هذا المقام بعد البحث في المسئلة : والحق أن قبول قول الودعي ان كان خارجا بالإجماع الفارق فهو الفارق ، والا فلا فرق ، وفي الإجماع بعد وقد تقدم الكلام فيه ، انتهى.

وهو ظاهر فيما قلناه ، حيث انهم نظروا الى أخبار (١) «البينة على المدعى واليمين على المنكر ،». خاصة ، ولم يطلعوا على تلك الأخبار التي خصصنا بها هذه القاعدة ، وهي كما عرفت ظاهرة في المدعي ، والله سبحانه العالم.

ومنها ما إذا ادعى الوكيل التصرف فيما وكل فيه ، مثل قوله : بعت ما وكلتني في بيعه أو قبضت ما وكلتني في قبضه ، وأنكر الموكل ذلك ، فقيل : القول قول الوكيل ، وبه جزم العلامة في الإرشاد من غير خلاف ، وقربه في القواعد وجزم في التذكرة بتقديم قول الموكل ان كان النزاع بعد عزل الوكيل ، واستقرب كون الحكم كذلك أيضا قبل عزله ، وقد قدمنا عبارته بذلك في المسئلة الاولى (٢) من مسائل سابق هذا المطلب ، وتوقف في التحرير ، وقال في الشرائع ان القول قول الوكيل ، لأنه أقر بماله أن يفعله ، ولو قيل : القول قول الموكل أمكن ، لكن الأول أشبه.

قال في المسالك : وجه الأشبهية انه أمين ، وقادر على الإنشاء ، والتصرف اليه ، ومرجع الاختلاف الى فعله ، وهو أعلم به ووجه تقديم قول الموكل ظاهر لأصالة عدم الفعل.

أقول : والأقرب عندي الرجوع الى ما قدمناه من التحقيق في المقام ،

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢٢٩ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ١ ، المستدرك ج ٣ ص ١٩٩ ح ٥ الباب ٣.

(٢) ص ٨٥.

١٠٥

ومقتضاه أن القول قول الوكيل ، لأنه أمين ، وقضيته ذلك قبول قوله في التصرف وغيره والله وسبحانه العالم.

ومنها ما لو اختلفا في قدر الثمن المشترى به ، فقال في المبسوط : ان القول قول الوكيل ، لأنه أمين ، فيقبل قوله كما يقبل في التسليم والتلف ، وقال الفاضلان ان القول قول الموكل ، لأنه غارم ومنكر ، ولأصالة عدم الزيادة ، واحتمل الشهيد في شرح نكت الإرشاد أن القول قول الموكل ان كان الشراء في الذمة وقول الوكيل ان كان الشراء بالعين ونقله عن القواعد.

وقال في المسالك ـ بعد فرض المسئلة في كلام المصنف بما إذا كان وكله في ابتياع عبد فاشتراه بمائة ، فقال الموكل اشتريته بثمانين ، وذكر القولين في المسئلة ما صورته ـ : التقدير أن المبيع يساوي بمائة كما ذكره في التحرير ، وإلا لم يكن الشراء صحيحا لما تقدم من حمل إطلاق الاذن على الشراء بثمن المثل ، ووجه تقديم قول الوكيل ، أن الاختلاف في فعله وهو أخبر ، وأن الظاهر ان الشي‌ء انما يشترى بقيمته ، وهو قوي ، ووجه تقديم قول الموكل أصالة برأيه الذمة من الزائد ، ولأن في ذلك إثبات حق للبائع على الموكل ، فلا تسمع ، ولا فرق في ذلك بين كون الشراء بالعين أو في الذمة ، لثبوت الغرم على التقديرين ، انتهى.

أقول : ومقتضى ما ذكرناه من التحقيق المتقدم العمل لقول الشيخ والله سبحانه العالم.

ومنها ما لو ادعى الوكيل أنه قبض الثمن وتلف في يده ، فأنكر الموكل القبض ، فان كان الدعوى بعد تسليم المبيع للمشتري فالقول قول الوكيل بيمينه مع عدم البينة ، لأنه أمين ، والأصل عدم الغرامة ، ولأنه لو لم يقبل يلزم سد باب التوكيل ، ولأن دعوى الموكل يتضمن خيانته مع كونه أمينا ، وقد عرفت من الأخبار المتقدمة النهي عن تهمته ، ووجه تضمن دعوى الموكل عدم القبض الخيانة هو أن الدعوى بعد تسليم المبيع للمشتري كما هو المفروض ، فيلزم على دعواه

١٠٦

أن يكون قد سلم المبيع قبل أن يتسلم الثمن ، مع أنه لا يجوز تسليم المبيع إلا بعد قبض الثمن كما تقرر بينهم وان كان الدعوى قبل تسليم المبيع ، بل هو باق في يد الوكيل قالوا : القول قول الموكل ، لأن الأصل عدم الأخذ ، ولا يلزم الخيانة ولا يلزم سد الباب ، كذا قيل وفيه تأمل.

تذنيب : قد صرحوا بأن القول قول الوصي في الإنفاق ، دون تسليم المال الى الموصى له ، وكذا القول في الأب والجد والحاكم مع اليتيم ، إذا أنكر القبض بعد بلوغه ورشده ، قال في المسالك : وظاهرهم هنا عدم الخلاف في تقديم قول الموصى له أو اليتيم في عدم القبض ، وهو يؤيد تقديم قول الموكل فيه ، للاشتراك في العلة ، بل ربما كان الإحسان هنا أقوى.

أما الإنفاق فخرج من ذلك ، مع أن الأصل عدم ما يدعيه المنفق لعسر إقامة البينة عليه في كل وقت يحتاج اليه ، فيلزم العسر والحرج المنفيين ، بخلاف تسليم المال ، انتهى.

أقول : لما كان المستند عندهم في عدم تضمين الأمين من وكيل وغيره ، وقبول قوله إنما هو آية (١) «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» وأن الودعي والوكيل بغير جعل فعلا إحسانا محضا ، فلا يلحقهما الضمان ، بل يقبل قولهما استدل بعدم الخلاف في تقديم قول الموصى له أو اليتيم على تقديم قول الموكل في إنكار الدفع اليه ، وان لم يكن الوكالة بجعل ، لأنه مع الجعل كما عرفت ، فالقول قول الموكل عندهم ، بل ربما كانت العلة الموجبة لقبول قوله وهو الإحسان أقوى في جانب الوكالة ، لأنه يتصرف له ويبيع ويشترى ويسعى بغير جعل ، ولا ريب أن الإحسان في هذه الحال أزيد منه في حفظ الوصي ، والولي الشرعي مال الموصى

__________________

(١) سورة التوبة ـ الاية ٩١.

١٠٧

اليه ، واليتيم ، والدفع إليهما.

وأنت خبير بأنك إذا رجعت الى الأخبار التي قدمناها في الوديعة دليلا على ما ذكرناه من كون الأمين مقبول القول فيما يدعيه ، بل لا يمين عليه وان كان خلاف المشهور بينهم ، وجدت أن موردها أنما هو من دفع ماله الى غيره بعنوان الوديعة ، أو الوكالة ، أو نحوهما ، لا من كان عنده مال لغيره بعنوان الوصاية أو الولاية الشرعية ، لأن موردها النهي عن اتهام من ائتمنه ، بمعنى تصديقه فيما يدعيه ، ونحوها أخبار (١) «ما خانك الأمين ، ولكن ائتمنت الخائن». بالتقريب الذي تقدم ذيلها.

وبالجملة فإن الخطاب بقبول قول الأمين إنما توجه للذي دفع اليه المال بمعنى أنك ائتمنته ، ووثقت بديانته وأمانته ، فلا تتهمه بعد ذلك ، بل صدقه فيما يدعيه ويقوله ، وما ذكر هنا من الوصي والأب والجد والحاكم وان كانوا أمناء ، إلا أنهم لا يدخلون في عنوان تلك الأخبار ، بحيث يلحقهم الحكم المتفرع على الأمين فيها من سماع قوله ، فاستدلاله غير تام ، وهو نظر الى صدق الأمين في الموضعين واعتمد على التعليل العقلي الذي اعتمدوه ، ولم يطلع على الأخبار المذكورة ، فالواجب حينئذ في هذه المسئلة هو الرجوع الى القاعدة الكلية الدالة (٢) على «أن البينة على المدعى واليمين على المنكر». وهي تقتضي تقديم قول الموصى له واليتيم لأنهما منكران ، وأما الوكيل ونحوه فقد عرفت أن مستنده تلك الأخبار الخاصة التي خصصنا بها تلك القاعدة ، فافترق الأمران ، والله سبحانه العالم.

تذنيب آخر :

قالوا : لو اشترى إنسان سلعة وادعي أنه وكيل في ذلك الشراء الآخر ،

__________________

(١) التهذيب ج ٧ ص ٢٣٢ ح ٣٣ ، الكافي ج ٥ ص ٢٩٩ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٣٤ ح ٤.

(٢) التهذيب ج ٦ ص ٢٢٩ ح ٤ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٠ ح ١ ، المستدرك ج ٣ ص ١٩٩ ح ٥ الباب ٣.

١٠٨

فأنكر ذلك الآخر ، فان القول قوله بيمينه ، فإذا حلف اندفع عنه الشراء ، وحكم به للمشتري ، وحكم عليه بالثمن ، سواء اشترى بعين أم في الذمة ، ولكن يجب تقييده بعدم اعتراف البائع بكونه وكيلا أو كون العين التي اشترى بها ملكا للمنكر ، أو قيام البينة بذلك ، وإلا يبطل البيع ، كما لو ظهر استحقاق أحد العوضين المعينين ، والله سبحانه العالم.

لثانية : اختلف الأصحاب فيما لو وكله على أن يزوجه امرأة ، فعقد له على امرأة ثم أنكر الموكل الوكالة بذلك ، فقيل : القول قول الموكل بيمينه ، لأنه منكر ، ويلزم الوكيل مهرها ، وهو مذهب الشيخ في النهاية ، قال : ويجوز للمرأة أن تتزوج بعد ذلك ، غير أنه لا يحل للموكل فيما بينه وبين الله تعالى الا أن يطلقها ، لأن العقد قد ثبت عليه ، وبه قال ابن البراج.

وقال في المبسوط : ان الذي على الوكيل إنما هو نصف المهر ، قال في المسالك : وهو المشهور بين الأصحاب ، وبه قال ابن الادريس ، ثم قوي بعد ذلك مذهب النهاية.

وقيل : ببطلان العقد نقله في المختلف عن بعض علمائنا ، قال بعض علمائنا : إذا أنكر الموكل الوكالة كان القول قوله مع اليمين ، فإذا حلف بطل العقد ظاهرا ، ولا مهر ، ثم الوكيل ان كان صادقا وجب على الموكل طلاقها ونصف المهر ، قال في المختلف : وفيه قوة.

احتج الشيخ على القول الأول بأن المهر قد ثبت بالعقد ، ولا ينتصف الا بالطلاق ، ولم يحصل فيجب الجميع ، استدل على ما ذهب إليه في المبسوط برواية عمر بن حنظلة (١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل قال لآخر : اخطب لي فلانة ، فما فعلت من شي‌ء مما قاولت من صداق أو ضمنت من شي‌ء أو شرطت فذلك رضا لي ، وهو لازم لي ولم يشهد على ذلك ، فذهب فخطب له ، وبذل عنه الصداق

__________________

(١) التهذيب ج ٦ ص ٢١٣ ح ٣ ، الفقيه ج ٣ ص ٤٩ ح ٤ ، الوسائل ج ١٣ ص ٢٨٨ ح ١.

١٠٩

وغير ذلك مما طالبوه وسألوه ، فلما رجع إليه أنكر ذلك ، قال يغرم لها نصف الصداق عنه ، وذلك أنه هو الذي ضيع حقها ، فلما أن لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له ، حل لها أن تتزوج ولا يحل للأول فيما بينه وبين الله تعالى الا أن يطلقها فان الله تعالى (١) يقول «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» فان لم يفعل فإنه مأثوم فيما بينه وبين الله تعالى ، وكان الحكم الظاهر حكم الإسلام قد أباح الله لها أن تتزوج». رواه في التهذيب والفقيه.

وظاهر الشرائع والمختلف كما سلف تقوية القول بالبطلان ، وهو ظاهره في المسالك أيضا ، حيث قال بعد نقل الخبر المذكور : وفي سند الحديث ضعف ، ولو صح لم يمكن العدول عنه ، والقول الثالث الذي اختاره المصنف قوي ، ووجهه واضح ، فإنه إذا أنكر الوكالة وحلف على نفيها انتفى النكاح ظاهرا ، ومن ثم يباح لها أن تتزوج ، وقد صرح به في الرواية ، فينتفى المهر أيضا ، لأن ثبوته يتوقف على لزوم العقد ، ولأنه على تقدير ثبوته إنما يلزم الزوج ، لأنها عوض البضع ، والوكيل ليس بزوج ، نعم لو ضمن الوكيل المهر كله أو بعضه لزمه حسب ما ضمن ، ويمكن حمل الرواية عليه ، وأما وجوب الطلاق على الزوج مع كذبه في نفس الأمر ووجوب نصف المهر فواضح ، انتهى.

ومرجع ردهم الخبر الى ما اشتمل عليه من إيجاب نصف المهر على الوكيل ، مع أنه ليس هو الزوج مع بطلان العقد بعد حلف الموكل ، فلا يترتب عليه مهر ، ولهذا جوز لها أن تتزوج ، بناء على ذلك ، ولا شك في قوته بالنظر الى العقل ، الا أنه من الجائز كون إلزام الوكيل بنصف المهر إنما هو عقوبة له حيث ضيع حقها بعدم الاشهاد ، والأحكام الشرعية لا مسرح للعقول في الاطلاع عليها ، وأسبابها ، ويؤيد هذه الرواية صحيحة أبي عبيدة الحذاء (٢) المروية في الفقيه والتهذيب «عن __________________

(١) سورة البقرة الآية ٢٢٩.

(٢) التهذيب ج ٧ ص ٤٨٣ ح ١٥٢ ، الفقيه ج ٣ ص ٢٦٤ ح ٤٤ ، الوسائل ج ١٤ ص ٢٢٨ ح ١.

١١٠

أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل أمر رجلا أن يزوجه امرأة من أهل بصرة من بنى تميم ، فزوجه امرأة من أهل الكوفة من بنى تميم ، قال : خالف أمره ، وعلى المأمور نصف الصداق لأهل المرأة ، ولا عدة عليها ، ولا ميراث بينهما ، قال فقال له بعض من حضر : فإن أمره أن يزوجه امرأة ولم يسم أرضا ولا قبيلة ، ثم جحد الأمر أن يكون قد أمره بذلك بعد ما زوجه؟ قال : فقال : ان كان للمأمور بينة أنه كان أمره أن يزوجه ، كان الصداق على الآمر لأهل المرأة ، وان لم يكن له بينة فان الصداق على المأمور لأهل المرأة ، ولا ميراث بينهما ، ولا عدة ، ولها نصف الصداق ان كان فرض لها صداقا» ، وزاد في الفقيه «فان لم يكن سمى لها صداقا فلا شي‌ء لها» ، والرواية كما ترى صحيحة صريحة فيما دلت عليه الرواية الأولى ، ويؤكده السؤال الأول من هذه الرواية أيضا ، والمفهوم من جملة هذه الروايات أن المرأة بالعقد عليها استحقت المهر على الزوج ، لكن لما أنكر الزوج الوكالة ولا بينة ، وحلف انتفى النكاح ، ولكن جعل حقها من المهر على الوكيل ، حيث ضيع حقها بعدم الاشهاد على الوكالة ، وإذا كان وجوب ذلك على الوكيل إنما هو لما ذكرناه ، فلا ينافيه بطلان العقد ، ألا ترى ان العقد في السؤال الأول من الصحيحة المذكورة باطل ، حيث انه ليس هو المأمور به ، مع أنه عليه‌السلام حكم على الوكيل بنصف المهر عقوبة له.

وبالجملة فإن الحكم المذكور بعد دلالة هذين الخبرين لا مجال للمنازعة فيه ، سيما بعد اعترافه في المسالك بأنه لو صح لم يمكن العدول عنه ، وهذه الرواية الثانية التي ذكرناها صحيحة السند ، لأن الشيخين المذكورين روياها عن الحسن بن محبوب عن مالك بن عطية عن أبي عبيدة الحذاء ، والثلاثة المذكورون ثقات ، والطريق إلى الحسن بن محبوب صحيح في الكتابين ، فلا مجال للتوقف فيها.

قال في المسالك : واعلم أن المرأة إنما يجوز لها التزويج مع حلفه إذا لم

١١١

تصدق الوكيل عليها ، والا لم يجز لها التزويج قبل الطلاق ، لأنها باعترافها زوجة ، بخلاف ما إذا لم تكن عالمة بالحال ، فلو امتنع من الطلاق لم يجبر عليه ، لانتفاء النكاح ظاهرا ، وحينئذ ففي تسلطها على الفسخ دفعا للضرر ، أو تسلط الحاكم على الطلاق ، لأن له ولاية الإجبار على الممتنع أو بقائها كذلك حتى يطلق ، أو يموت أوجه ، انتهى والله سبحانه العالم.

الثالثة : لو ادعى الوكيل الاذن في البيع بثمن معين فأنكر المالك الاذن في ذلك القدر ، فالمشهور وهو قول الشيخ في المبسوط أن القول قول الموكل بيمينه ، لأنه كما أن القول قوله في أصل الوكالة فكذا في صفتها ، لأنها فعله ، وهو أعرف بحاله ومقاصده الصادرة عنه ، ولأن الأصل عدم صدور التوكيل على الوجه الذي يدعيه الوكيل ، وحينئذ فإذا حلف الموكل بطل البيع ، ووجب أن يستعاد العين ان كانت باقية ، ومثلها أو قيمتها ان تلفت.

وقيل : انه يلزم الدلال إتمام ما حلف عليه المالك ، صرح به الشيخ في النهاية ، ورد بأنه ضعيف لا مستند له ، وحمله في المختلف على تعذر استعادة العين عن المشترى والقيمة ، وتكون القيمة مساوية لما ادعاه المالك ، ولا يخلو عن بعد ، وحيث علم بطلان البيع بحلف الموكل على عدم ما ادعاه الوكيل ، فلا يخلو إما أن تكون العين باقية أو تالفة ، وعلى كل منهما فإما أن يصدق المشترى الوكيل في الوكالة وصحة البيع أم لا ، وعلى فرض التلف فإما أن يرجع الموكل على المشترى أو على الوكيل ، فهذه خمس صور :

الأولى : أن تكون العين باقية ، ولم يصدق المشترى الوكيل ، فان الموكل يسترجع العين من كل من كانت في يده ، ويرجع المشترى على الوكيل بالثمن الذي دفعه اليه ان دفع اليه ذلك.

الثانية : الصورة بحالها ولكن صدق المشترى الوكيل ، والحكم بالنسبة إلى استرجاع العين كما تقدم ، وأما بالنسبة إلى رجوع المشترى على الوكيل بالثمن ، فإنه

١١٢

بتصديقه للوكيل وحكمه بصحة البيع ، وأن الموكل ظالم بإبطاله ، فإنه انما يرجع على الوكيل بأقل الأمرين من الثمن الذي دفعه وقيمة المبيع ، لأن الثمن إن كان هو الأقل فليس في يد الوكيل من مال الموكل الذي هو ظالم للمشتري في أخذ العين بزعمه ، سواه فيأخذه قصاصا ، لأن هذا الثمن بزعم الوكيل والمشترى انما هو مال الموكل كما عرفت ، وان كان الثمن المدفوع أكثر من القيمة فالمشتري ليس له أكثر من القيمة ، لأن حقه شرعا بزعمه انما هي العين ، إلا أنه بأخذ الموكل لها وحيلولته بينه وبينها ، يرجع الى قيمتها ، فليس له شرعا إلا القيمة خاصة ، وعلى هذا فالزائد من الثمن في يد الوكيل مجهول المالك ، لأن الوكيل ليس له شي‌ء من ذلك ، والمشترى ليس له إلا قيمة ماله ، والموكل لا يدعيه.

الثالثة : تلف العين مع التصديق ، ولا خلاف في أن للموكل الرجوع بالقيمة مع التصديق على أيهما شاء ، أما المشتري فلتلف المال في يده ، وأما الوكيل فلعدوانه ظاهرا ، فيدهما يد ضمان إلا أنه متى رجع الموكل على المشترى بالقيمة مع تصديقه لم يرجع المشترى على الوكيل ، لتصديقه له في صحة البيع وزعمه أن المالك ظالم في رجوعه عليه فلا يرجع على غير ظالمة ، هذا مع عدم قبض الوكيل الثمن من المشترى.

وأما لو قبضه منه ، والحال أنه لا يستحقه ، والموكل لا يدعيه ، فإنه يرجع به المشترى عليه ، لكن إذا كان المدفوع بقدر القيمة أو أقل ، فالرجوع به ظاهر ، وإلا رجع بمقدار ما غرمه للمالك من قيمة العين ، فلو كان المدفوع أزيد كان الزائد في يد الوكيل مجهول المالك ، لأن المشتري لتصديقه وصحة البيع عنده فحقه شرعا إنما هو البيع الذي تلف عنده ، لكن لما أغرمه الموكل القيمة فالذي له إنما هو ما غرمه يرجع به على ما دفعه الى الوكيل ، فإذا كان الثمن الذي دفعه أولا زائدا على القيمة ، وعلى ما أغرمه الموكل فتلك الزيادة لا يستحقها بوجه ، والوكيل لا يستحقها ، والمالك لا يطلبها ، لإنكاره البيع. فتصير

١١٣

مجهولة المالك ، إلا أنه يحتمل وجوب دفعها الى المالك ، لأنه بمقتضى زعمهما صحة البيع تكون مال المالك ، فيجب عليهما بمقتضى ما يزعمانه أن يدفعاها له ، ويأتي هذا الاحتمال في زيادة الثمن في الصورة الثانية أيضا.

الرابعة : الصورة بحالها مع عدم التصديق ، قالوا : يرجع على الوكيل بما غرمه أجمع لغروره ، ولو كان الثمن الذي دفعه الى الوكيل أزيد مما غرمه رجع به عليه لفساد البيع ظاهرا عنده.

الخامسة : رجوع الموكل على الوكيل مع التلف ، فإنه في هذه الصورة يرجع الوكيل على المشترى بالأقل من ثمنه ، وما اغترمه ، لأنه ان كان الثمن هو الأقل فهو يزعم أن الموكل لا يستحق سواه ، وأنه ظالم يأخذ الزائد من القيمة فلا يرجع به على المشترى ، وان كانت القيمة التي اغترمها الأقل فإنه لم يغرم سواها ، لكن يبقى الزائد مجهول المالك ظاهرا ، مثلا ثمنه الذي باع به ثمانون درهما ، والذي اغترمه للمالك مائة درهم ، فإنه انما يرجع بالثمانين ، خاصة للعلة المذكورة أو ان الثمن مائة درهم ، والذي اغترمه ثمانون درهما ، فإنه انما يرجع بما اغترمه.

بقي الكلام في هذه العشرين الزائدة ، فإنها مجهولة المالك ، لأن الموكل لا يستحقها بزعمه ، وموافقة الظاهر له ، والوكيل قد خرج عن الوكالة بإنكار الموكل ، فليس له قبضه ، وينتزعه الحاكم الشرعي ، ويتوصل الى تحصيل مالكه ، هذا خلاصة كلامهم في المقام.

ولو قيل : بالتصدق بهذا الزائد المجهول في جميع هذه الصور عن صاحبه ، كما في المال المجهول الصاحب ، كان وجها لدخوله تحت عموم أخبار تلك المسئلة ، والله سبحانه العالم.

المسئلة الرابعة : قيل : إذا اشترى الوكيل لموكله كان البائع بالخيار ، ان شاء طالب الوكيل ، وان شاء طالب الموكل ، وعلل بأن الحق على الموكل ،

١١٤

والعقد على الوكيل ، فيتخير في مطالبة أيهما شاء والظاهر ضعفه ، وقيل : باختصاص المطالبة بالموكل مع العلم بالوكالة ، والاختصاص بالوكيل مع الجهل بذلك وعلل أما مع الجهل ، فلان العقد وقع معه ، والثمن لازم له ظاهرا فله مطالبته وأما مع العلم بكونه وكيلا فلأنه يكون نائبا عن غيره ، فلا حق له عنده ، بل عند الموكل ، والى هذا القول مال في الشرائع.

وأورد عليه بأن الحكم بمطالبة الموكل مع العلم ، والوكيل مع الجهل لا يتم على إطلاقه ، لأن الثمن لو كان معينا لم يكن له مطالبة غير من هو في يده ، وقيل : إذ اشترى الوكيل بثمن معين ، فان كان في يده طالبه البائع به وإلا طالب الموكل ، لأن الملك يقع له ، وان اشترى في الذمة ، فإن كان الموكل قد سلم اليه ، ما يصرفه الى الثمن ، طالبه البائع أيضا ، وان لم يسلم فإن أنكر البائع كونه وكيلا أو قال لا أدري هل هو وكيل أم لا ، ولا بينة طالبه وان اعترف بوكالته ، فالمطالب بالثمن الموكل لا غير ، لوقوع الملك له ، والوكيل سفير بينهما ومعين للموكل ، فلا يغرم شيئا ، والقول المذكور للتذكرة ، قال وهو أحد وجوه الشافعية.

والثاني : أن البائع مع تصديق الوكالة يطالب الوكيل لا غير ، لأن أحكام العقد يتعلق به ، والالتزام وجد منه.

والثالث : أنه يطالب من شاء منهما نظرا الى الظاهر والمعتمد الأول انتهى.

أقول : وما اعتمده هو أقرب الأقوال ، إلا أنه لا يخلو من الخدش في بعض هذه الترديدات ، والظاهر هو ما فصله في المسالك قال : والاولى أن يقال في المسئلة ان الحق اما أن يكون معينا أو مطلقا ، وعلى التقديرين فاما أن يسلم الى الوكيل أم لا ، وعلى التقادير فاما أن يكون البائع عالما بوكالته أو غير عالم ، وحكمها أنه متى كان الثمن معينا فالمطالب به من هو في يده ، سواء في ذلك الوكيل أو الموكل وان كان في الذمة ودفعه الموكل إلى الوكيل تخير البائع في مطالبة

١١٥

أيهما شاء مع علمه بالوكالة ، أما الوكيل فلأن الثمن في يده ، وأما الموكل فان الشراء له ، وما دفع لا ينحصر في الثمن بعد ، وان لم يكن دفعه الى الوكيل ، فله مطالبة الوكيل مع جهله بكونه وكيلا ، وعدم البينة عليها ، والموكل مع علمه ، انتهى.

ومنه يعلم أن ما أطلقه في التذكرة من أنه متى كان في الذمة وقد سلمه الموكل الى الوكيل ، فإنه يطالب الوكيل ليس كذلك ، بل الأظهر كما ذكره في المسالك هو التخيير مع العلم بالوكالة.

الخامسة : قالوا : إذا طالب الوكيل بحق موكله فأجابه من عليه الحق بأنك لا تستحق المطالبة لم يلتفت الى هذا الجواب ، لانه مكذب للبينة القائمة على الوكالة ، فإن مقتضى البينة ثبوت الوكالة ، وقضية ثبوت الوكالة استحقاق المطالبة ، وأورد عليه بأن نفي استحقاق المطالبة لا يستلزم تكذيب البينة ، لأنه يجوز ثبوت الوكالة ثم عزله عنها ، أو الإبراء من الحق المدعى ، أو الأداء الى الموكل أو وكيل آخر ، وفي جميع هذه الوجوه لا يستحق المطالبة وان ثبت كونه وكيلا ، ولهذا نقل عن القواعد أنه استشكل الحكم المذكور ، وأجيب عن هذا الإشكال بأن نفي الاستحقاق لما كان مشتركا بين ما يسمع وما لا يسمع لم يسمع الا بعد التحرير لأنه لا تعد دعوى شرعية إلا بعد تحريرها ، ولو أجاب من عليه الحق بأن قال عزلك الموكل ، أو أن الموكل أبرأه من الحق لم يسمع ، الا أن يدعى العلم على الوكيل ، فله عليه اليمين بعدم العلم.

السادسة : لا خلاف بين المسلمين في قبول شهادة الوكيل على موكله ، لحصول الشرائط وانتفاء الموانع ، وكذا لا خلاف في قبولها له فيما لا ولاية له عليه مطلقا ، وأما فيما له ولاية ووكالة فيه ، فتقبل عند الأصحاب فيه أيضا إذا كانت الشهادة بعد العزل ، ما لم يكن أقام الشهادة حين الوكالة ، فإنه بإقامتها حين الوكالة ترد للتهمة ، وكذا ترد فيما لو لم يكن عزله بعد شروعه في المنازعة والمخاصمة.

١١٦

قال في التذكرة : تقبل شهادة الوكيل مع الشرائط على موكله مطلقا ، وتقبل لموكله في غير ما هو وكيل فيه ، كما لو وكله في بيع دار فشهد له بعد ، ولو شهد فيما هو وكيل فيه ، فان كان ذلك قبل العزل لم تقبل ، لأنه متهم حيث يجر إلى نفسه نفعا ، وهو ثبوت ولاية التصرف لنفسه ، وان كان بعد العزل ، فان كان قد خاصم الغريم فيه حال وكالته لم تقبل منه أيضا ، لأنه متهم أيضا ، حيث يريد تمشية قوله ، وإظهار الصدق فيما ادعاه أولا وان لم يخاصم سمعت شهادته عندنا ، انتهى.

أقول : لا يخفى ما في هذه التعليلات من الإشكال في ابتناء الأحكام الشرعية عليها ، بعد ثبوت العدالة في الشاهد ، ثم أنه أي نفع هنا في ثبوت ولاية التصرف له ، بل ربما كان الضرر أظهر باشتغاله بذلك عن القيام بأموره ، ونظم معاشه ومعاده ونحو ذلك.

وإلى ما ذكرناه يميل كلام المحقق الأردبيلي حيث قال : وأما وجه العدم على أحدهما فهو التهمة ، ووجه عدم القبول حين الوكالة فيما وكل فيه جر النفع وفيهما تأمل ، إذ قد لا يكون جر نفع ، ولا نسلم كون مطلق الولاية والوكالة نفعا ، بل قد يكون مضرا ، وكذا التهمة وكون مثلها مانعا ـ من قبول الشاهد المقبول ـ يحتاج إلى الدليل ، بعد الدليل على قيام شهادة العدل المتصف بالشرائط سوى هذا المتنازع ، فتأمل انتهى وهو جيد.

السابعة : قالوا : لو وكله في قبض دين من غريم له ، فأقر الوكيل بالقبض ، وصدقه الغريم ، وأنكر الموكل فالقول قول الموكل ، وتردد فيه في الشرائع.

وقال في التذكرة إذا وكل وكيلا باستيفاء دين له على انسان ، فقال : قد استوفيته فأنكر الموكل نظر ، فان قال : قد استوفيته وهو عندي فخذه فعليه أخذه ، ولا معنى لهذا الاختلاف ، وان قال : استوفيته وتلف في يدي فالقول قوله مع يمينه على نفي العلم باستيفاء الوكيل ، لأصالة بقاء الحق ، فلا يقبل قول

١١٧

الوكيل والمديون إلا ببينة ، لأن قولهما على خلاف الأصل ، انتهى.

أما لو أمره ببيع سلعة وتسليمها وقبض ثمنها فتلف الثمن من غير تفريط فأقر الوكيل بالقبض وصدقه المشتري وأنكر الموكل فالقول قول الوكيل.

قالوا : والفرق بين الصورتين أن الدعوى في الصورة الثانية على الوكيل من حيث سلم المبيع ولم يقبض الثمن ، بناء على زعم الموكل ، وهو موجب للضمان ، لأنه نوع خيانة كما تقدم ذكره في آخر المسئلة الأولى من هذا المطلب ، وفي الصورة الأولى الدعوى على الغريم ، والأصل بقاء ماله عليه ، وتنظر في الفرق المذكور في الشرائع.

أقول : والظاهر من النصوص الدالة على قبول قول الأمين هو تقديم قول الوكيل في الصورتين المذكورتين ، لاشتراكهما في كون محل النزاع هو تصرف الوكيل ، وقد عرفت فيما تقدم أن قوله مقبول في ذلك ، والظاهر أنه من أجل ذلك تردد المحقق في الصورة الأولى حيث حكموا فيها بتقديم قول الموكل ، وتنظر في الفرق المذكور في الثانية ، وبالجملة فالظاهر هو تقديم قول الوكيل في الموضعين.

قال في التذكرة : لو وكله في البيع وقبض الثمن أو البيع مطلقا ، وقلنا أن الوكيل يملك بالوكالة في البيع ، قبض الثمن واتفقا على البيع ، واختلفا في قبض الثمن ، فقال الوكيل قبضته وتلف في يدي ، وأنكر الموكل ، أو قال الوكيل : قبضته ودفعته إليك ، وأنكر الموكل القبض ، فالأقوى عدم قبول قول الوكيل في ذلك ، وللشافعية في ذلك طريقان : أحدهما أنه على الخلاف المذكور في البيع وسائر التصرفات وأظهرهما عندهم أن هذا الاختلاف ان كان قبل تسليم المبيع فالقول قول الموكل ، لما في المسئلة السابقة ، وان كان بعد تسليمه فوجهان : أحدهما أن الجواب كذلك ، لأن الأصل بقاء حقه ، وأصحهما أن القول قول الوكيل ، لأن الموكل ينسبه إلى الخيانة بالتسليم قبل قبض الثمن ، ويلزمه الضمان والوكيل ينكره فأشبه ما إذا قال الموكل ، طالبتك برد المال الذي دفعته إليك ،

١١٨

أو بثمن المبيع الذي قبضته ، فامتنعت مقصرا إلى أن تلف ، وقال الوكيل لم تطالبني بذلك ، ولم أكن مقصرا ، فان القول قوله ، انتهى.

أقول : قوله فالأقوى عدم قبول قول الوكيل في ذلك في نسختين عندي من نسخ الكتاب ، وهو خلاف ما صرح به الأصحاب من أن القول هنا قول الوكيل ، كما عرفت من كلامهم في الفرق بين الصورتين المتقدمتين ، ولم أقف أيضا على من نقل الخلاف عن التذكرة في ذلك ، فليتأمل في ذلك ، والأصحاب إنما حكموا بتقديم قول الوكيل هنا بناء على كون الدعوى بعد تسليم العين إلى المشتري ، بالتقريب الذي نقله هنا عن أصح قولي الشافعية.

وأما لو كانت الدعوى قبل تسليم العين بل هي باقية في يد الوكيل فان القول عندهم قول الموكل لما ذكره ، وما تقدم في المسئلة الاولى ، وان كان الحكم في ذلك عندي هنا لا يخلو عن اشكال بالنظر إلى ظواهر الأخبار الدالة على قبول قول الأمين مطلقا والوكيل أمين كما عرفت ، فلا معنى لترجيح قول الموكل بأصالة عدم القبض ونحو ذلك ، لأن مقتضى العمل بالأخبار المذكورة تخصيص هذا الأصل والخروج عنه ، فإن الأصل العدم في كل ما يدعيه الأمين ، فلا معنى للعمل بها في موضع وإطراحها في آخر بل الواجب العمل بها في الجميع ، إلا أن العذر لهم انهم إنما استندوا في قبول قوله إلى الإجماع ، والدليل العقلي الذي تقدم نقله عنهم ، ولم يذكروا الأخبار أو لم يطلعوا عليها بالكلية ، والإجماع لا يقوم حجة في موضع النزاع والخلاف.

بقي الكلام هنا في مواضع ـ الأول : قال في التذكرة على أثر الكلام المتقدم : وهذا التفصيل فيما إذا أذن في المبيع مطلقا أو حالا فان أذن في التسليم قبل قبض الثمن ، أو أذن في البيع بثمن مؤجل ، وفي القبض بعد الأجل ، فهيهنا لا يكون خائنا بالتسليم قبل القبض ، والاختلاف كالاختلاف قبل التسليم ، انتهى.

أقول : مراده أن تقديم قول الوكيل إنما هو في موضع يستلزم نسبته إلى

١١٩

الخيانة ، والحال أنه أمين ، فيقدم قوله ، والموضع الذي يستلزم ذلك هو كل موضع يتوقف التسليم فيه على القبض ، أما لو لم يكن كذلك بأن يأذن له في التسليم قبل قبض الثمن ، أو أذن له في البيع بثمن مؤجل ، والقبض بعد الأجل ، فإن مرجع الاختلاف بينهما في هذه الحال إلى صورة الاختلاف قبل تسليم المبيع ، بمعنى أن القول قول الموكل ، وفيه ما تقدمت الإشارة إليه من أن مرجع ذلك إلى دعوى الوكيل التصرف بقبض الثمن والتلف ، وقد عرفت أن قوله مقدم فيها ، الا أنه يمكن أن يقال أيضا : ان دعوى التلف الذي يقبل قوله فيه إنما هو بعد القبض ، والحال أنه منتف هنا كما هو المفروض ، وبالجملة فالحكم هنا لا يخلو عن شوب الإشكال.

الثاني : إذا قلنا أن القول قول الوكيل في قبض الثمن من المشتري ، فحلف الوكيل على قوله ، فهل يحكم ببراءة ذمة المشترى أم لا؟ وجهان : قوى أولهما في التذكرة واستظهره في المسالك ، وعلل بأن الحق واحد ، فإذا قبل قول الوكيل في قبضه ، فكيف يتوجه إيجابه على المشتري.

وثانيهما أنه لا يبرئ ذمة المشتري لأصالة عدم الأداء ، وإنما قبلنا من الوكيل في حقه لا يتمانه إياه ، بمعنى أن قبول قول الوكيل في قبضه إنما هو من حيث كونه أمينا يقبل قوله ، وهذا المعنى مفقود في المشتري ، إذ لا يقبل قوله في ذلك لو كان النزاع معه ابتداء ، واستحسن هذا الوجه في التذكرة أيضا ، والوجهان المذكوران للشافعية كما نقله في التذكرة ، والتعليلات المذكورة لهم.

الثالث ـ إذا حلف الوكيل وقلنا ببراءة المشتري بذلك ثم وجد المشتري بالمبيع عيبا ، فان رده على الموكل وغرمه الثمن لم يكن له الرجوع على الوكيل ، لاعترافه بأن الوكيل لم يأخذ شيئا ، وان رده على الوكيل وغرمه لم يرجع على الموكل ، والقول قول الموكل بيمينه في أنه لم يأخذ منه شيئا ، ولا يلزم من تصديقنا الوكيل في الدفع عن نفسه بيمينه ان نثبت بها حقا على غيره ولو خرج

١٢٠