معيار الاختيار في ذكر المعاهد والدّيار

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

معيار الاختيار في ذكر المعاهد والدّيار

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور محمّد كمال شبانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
ISBN: 977-341-066-8
الصفحات: ١٩٨

٢  ـ  الاطلاع والسماع :

وهو المصدر الثانى من المصادر التى اعتمد عليها ابن الخطيب فى تدوين كتابه «معيار الاختيار» ونعنى به قراءته لكتب من سبقوه من المؤرخين والكتاب فى أوصاف المدن الاندلسية والمغربية على الخصوص ، وفى تاريخها الحافل بالاحداث ، وكذلك سماعه من شيوخه الذين تتلمذ عليهم ، فى أحوال المغرب منذ القدم ، وأحداث المملكة الاسلامية بالأندلس ، لا سيما وأنه تربى فى أحضانها ، ودرج بين ربوعها ، وجاس خلال ديارها ، فحديثه عنها حديث الخبير العالم ، ووصفه لها وصف المحيط بأسرارها. هذا بالاضافة الى مجالس ابن الخطيب العلمية ، وندواته الثقافية ، والتى كانت كثيرا ما تجمع رواة الاخبار ، وحفظة التاريخ.

٣  ـ  التقارير الادارية الرسمية :

وابن الخطيب كوزير ، وأمين سر السلطان ، لابد وأن يطلع على كافة التقارير الرسمية ، والرسائل الادارية ، التى كانت ترد عادة الى الديوان من عمال وحكام الاقاليم ، فهذه التقارير وتلك الرسائل وثائق تاريخية لها أهميتها البالغة ، اذ على أساسها  ـ  فى العادة  ـ  تدار سياسة الدولة ، وتوجه الامور الوجهة الصالحة ، لذلك نرى أن ابن الخطيب قد استفاد الى حد كبير من هذه الوثائق ، بالاضافة الى المصدرين السابقين ، وبذلك أمكنه أن يعطينا هذه الاوصاف لتلك المدن فى مؤلفه «معيار الاختيار».

هذا ، وينبغى أن نشير اخيرا الى أن شخصية المؤلف وعلاقاتها بالآخرين لابد وأن تنعكس على كتاباته ، وهذا ما وضح من خلال أوصاف ابن الخطيب لبعض البلاد وأهلها ، فانه وان كان قد تعمق فى البحث على نحو دقيق ، وحلل الاسباب والمسببات حتى جاء الموضوع

٦١

وثيقة تاريخية يعتمد عليها الى حد بعيد  ـ  وبخاصة اذا اعتبرنا قلة المراجع التاريخية التى تناولت العصر الذي عاشه ابن الخطيب ، وذلك فى أخبار كل من الاندلس والمغرب  ـ  الا أنه لا ينبغى أن نغفل الدوافع الشخصية ، والنزعات النفسية للمؤلف أيا كان ، فهذه وتلك لابد وأن يحسب حسابهما ، ويقام وزنهما ، فى تقييم مثل هذه الوثيقة التاريخية ، لرجل وزير كابن الخطيب ، قضى حياته بين تيارات السياسة ، تتنازعه الاهواء والدوافع ، يعطف على مسلكة البعض ، وينقم على خطته البعض الآخر ، وبالتالى يكون اتجاهه متباينا نحو كليهما ، وما يصدق على الافراد يصدق على مجموعة منها تؤلف بلدا أو مدينة.

وللتدليل على هذا التأثر النفسى عند الكاتب ، وانعكاسه على ما يحرره ، نذكر أن ابن الخطيب نفسه قد صب جام غضبه على مدينة سلا المغربية ، فى رسالته المسماة «مفاخرات بين مالقة وسلا» ، رغم أنه أقام بها طيلة فترة النفى الاولى ، قرابة ثلاث سنوات ، واحتوته عزيزا مكرما ، ولكن كان قد حدث احتكاك بينه وبين بعض الفقهاء من أهل هذه المدينة ، الامر الذي ساقه الى تأليف رسالة خاصة ، فى النيل من هؤلاء الفقهاء ، وهى المسماة «مثلى الطريقة ، فى ذم الوثيقة» ، فى أسلوب يفيض اقذاعا ونيلا غير كريم من الخصوم ، وعليه  ـ  بالتالى  ـ  فلم يكن من المنتظر أن يرتفع ابن الخطيب بمدينة سلا فى المفاخرات مع مالقة.

فنخلص من هذا الى أن ابن الخطيب لم يسلم  ـ  الى حد ما  ـ  من تحامل فى وصفه لبعض المدن الاندلسية والمغربية فى كتابه «معيار الاختيار» ، وبخاصة عندما كان يتناول أحوال سكانها الاجتماعية. بيد أن هذا التحامل الضئيل المفترض لن يطغى بحال على ما للكتاب من قيمة تاريخية كبرى ، ولا يمنع الدارسين لتاريخ المغرب والاندلس  ـ  فى الفترة التى عاصرها ابن الخطيب  ـ  من الاستفادة من «معياره»

٦٢

هذا الى حد بعيد .. ، اذا ما عن لهم الكشف عن الحالة الاجتماعية بهذين القطرين فى ذلك العصر ، وعن الاقتصاد ، والمحصولات الزراعية ، وأهمية الاسواق ، والصناعة الاندلسية ودورها ، وما الى ذلك مما تناوله المؤلف ، تجاه البلاد الاندلسية والمغربية ، فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى.

٦٣
٦٤

الفصل الرابع

كتاب

معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار

المجلس الأول

٦٥
٦٦

٦٧

٦٨

٦٩

٧٠

معيار الاختيار ، فى ذكر المعاهد والديار

المجلس الاول :

(٩٧ : أ) بسم الله الرحمن الرحيم. صلى الله على سيدنا محمد.

الحمد لله الذي انفردت صفاته بالاشتمال على أشتات الكمال ، والاستقلال بأعباء الجلال ، المنزه عن احتلال الحلال ، المتصفة الخلال بالاختلال ، المعتمد بالسؤال لصلة النوال ، جاعل الارض كسكانها متغايرة الاحوال ، باختلاف العروض والاطوال ، متصفة بالمحاسن والمقابح عند اعتبار الهيئات والاوضاع والصنائع والاعمال ، على التفصيل والاجمال. فمن قام خيره بشره دخل تحت خطة الاعتدال ، ومن قصر خيره عن شره ، كان أهلا للاستعاضة والاستبدال ، ومن أربى خيره على شره وجب اليه شد الرحال ، والتمس بقصده صلاح الحال. وكثيرا ما اغتبط الناس بأوطانهم فحصلوا فى الجبال على دعة البال ، وفازوا فى الرمال بالآمال ، (٩٧ : ب) حكمة (منه) فى اعتمار ربع الشمال ، وتفيىء أكنافه عن اليمين والشمال ، الى أن يدعو أهل الارض لموقف العرض والسؤال ، ويذهل  ـ  عن الاهل  ـ  عظيم الاهوال. والصلاة على سيدنا (ومولانا) (١) محمد المصطفى الذي أنقذ بدعوته الوارفة الظلال من ظلمات الضلال ، وجاء برفع الاغلال ، وتمييز الحرام من الحلال. والرضا عمن له من الصحب والآل ، (موارد الصدق عند كذب الآل) (٢).

__________________

(١) زيادة فى «س ، ط».

(٢) زيادة فى «س».

٧١

أما بعد ، ساعدك السعد ، ولان لك الجعد (٣) ، فان الانسان  ـ  وان انصف بالاحسان ، وابانة اللسان ، لما كان بعضه لبعض فقيرا ، نبيها كان أو حقيرا. اذ مؤنه (٤) التى تصلح بها حاله. لا يسعها انتحاله  ـ  لزم اجتماعه وائتلافه على سياسة يؤمن معها اختلافه ، واتخاذ مدينة يقر بها قراره ، ويتوجه اليها ركونه وفراره ، اذا رابه أضراره ، ويختزن بها أقواته التى بها حياته ، ويحاول منها معاشه الذي به انتعاشه ، فان كان اتخاذها جزافا واتفاقا ، واجتزاء ببعض المآرب وارتفاقا ، تجاول (٥) شرها وخيرها ، وتعارض نفعها وضيرها ، وفضلها  ـ  (٩٨ : أ) فى الغالب  ـ  غيرها ، وان كان عن اختيار ، وتحكيم معيار ، وتأسيس حكيم ، وتفويض للعقل وتحكيم ، تنافر الى حكمها النفر ، وأعمل السفر ، وكانت مساوئها  ـ  بالنسبة الى محاسنها  ـ  تغتفر ، اذ وجود الكمال فاضح للآمال ، ولله در القائل :

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها

كفى المرء فخرا أن تعد معايبه

وبحسب ذلك :

حدث من يعنى بالاخبار ينقلها ، والحكم يصقلها ، والاسمار ينتقيها ، والآثار يخلدها ويبقيها ، والمجالس يأخذ صدورها والآفاق يشيم (٦) شموسها وبدورها ، والحلل يعرف دورها ، ويأكل قدورها ، والطرف يهديها ، والخفيات يبديها. وقد جرى ذكر تفضيل البلدان ، وذكر القاصى والدان ، ومزايا الاماكن ، وخصائص المنازل والمساكن ، والمقابح والمحاسن ، والطيب والآسن (٧).

__________________

(٣) الجعد : فى الاصل هو الشعر غير المنسق ، والسياق ينصرف الى اللئيم البخيل.

(٤) فى نسخة (س) «مؤنتة» بدل «مؤنه».

(٥) تجاول : يقال ، تجاول القوم فى الحرب ، أى جال بعضهم على بعض.

(٦) يشيم : يعلم ، يقصد أنه ذو دراية بمطالع الشمس والقمر فى هذه البلاد.

(٧) الآسن : من الماء المتغير الطعم واللون والرائحة.

٧٢

قال : ضمنى الليل وقد سدل المسح راهبه ، وانتهب قرص الشمس من يد الامس ناهبه ، ودلفت جيوشه الحبشية (٩٨ : ب) وكتائبه ، وفتحت الازهار بشط المجرة كواكبه ، وجنحت الطيور الى وكونها ، وانتشرت الطوافات بعد سكونها ، وعوت الذئاب فوق هضابها ، ولوحت البروق ببيض عضابها ، وباهت الكف الخضيب بخضابها ، وتسللت اللصوص لانتهاز فرصها ، وخرجت الليوث الى قسمها وحصصها ، فى مناخ رحب المنطق ، وثيق الغلق ، سامى السور ، كفيل بحفظ الميسور ، يأمن  ـ  به الذعر  ـ  خائفه ، وتدفع  ـ  معرة السماء  ـ  سقائفه ، يشتمل على مأوى الطريد ، ومحراب المريد ، ومرابط خيل البريد (٨) ، ومكاسع الشيطان المريد. ذى قيم كثير البشاشة ، لطيف الحشاشة ، قانع بالمشاشة.

يروح ويشى ، ويقف على ريب الاعيان وأعيان الريب فلا يشى. بر فأكثر ، ومهد ووثر ، وأدفأ ودثر ، (ورقى بسور استنزاله فأثر) (٩).

فلما أزحت الكلفة ، وأقضمت جوادى العلفة ، وأعجبتنى  ـ  من رفقاء الرفق  ـ  الالفة ، رمقت فى بعض السقائف آمنا فى زى خائف ، وشيخا طاف منه بالارض طائف ، وسكن حتى اليمامة والطائف. جنيب (٩٩ : أ) عكاز ، ومثير شيب أثيث الوفرة ، وقسى ضلوع توتر بالزفرة ، حكم له بياض الشيب بالهيبة ، وقد دار بذراعه للسبحة الرقطاء حنش ، كما اختلط روم وحبش. والى يمينه دلو فاهق (١٠) ، وعن يساره تلميذ مراهق ، وأمامه حمار ناهق ، وهو يقول :

هم أسكنونا فى ظلال بيوتهم

ظلال بيوت أدفأت وأكنت

أبوا أن يملونا ، ولو أن أمنا

تلاقى الذي يلقون منا لملت

__________________

(٨) مكاسع : مطارد ، مكان الطرد.

(٩) زيادة فى نسخة «س».

(١٠) فاهق : ممتلئ.

٧٣

حتى اذا اطمأن حلوله ، وأصحب ذلوله (١١) ، وتردد الى قيم الخان  ـ  زغلوله (١٢) ، واستكبر لما جاءه  ـ  بما يهواه  ـ  رسوله ، استجمع قوته واحتشد ، ورفع عقيرته وأنشد :

أشكو الى الله ذهاب الشباب

كم حسرة أورثنى واكتئاب

سد عن اللذات باب الصبا

فزارت الاشجان من كل باب

وغربة طالت فما تنتهى

موصولة اليوم بيوم الحساب

وشر نفس كلما هملجت (١٣)

فى الغى لم تقبل خطام المتاب

يا رب شفع فى شيبى ولا

تحرمنى الزلفى وحسن المآب

ثم أن ، والليل قد جن ، فلم يبق  ـ  فى القوم  ـ  الا من أشفق وحن ، وقال  ـ  وقد هزته أريحية  ـ  (٩٩ : ب) : على الدنيا سلام وتحية ، فقد نلنا الاوطار ، وركبنا الاخطار ، وأبعدنا المطار ، واخترقنا الاقطار (١٤) ، وحلبنا الاشطار (١٥). فقال فتاه  ـ  وقد افترت عن الدر شفتاه ، مستثيرا لشجونه ، ومطلعا لنجوم همه من دجونه ، ومدلا عليه بمجونه  ـ  : وما ذا بلغ الشيخ من أمدها ، ورفع من عمدها ، حتى يقضى منه عجب ، أو يجلى منه محتجب؟ فأخذته حمية الحفاظ لهذه الالفاظ ، وقال : أى بنى ، مثلى من الاقطاب ، يخاطب بهذا الخطاب!! وأيم الله لقد عقدت الحلق (ولبست من الدهر الجديد والخلق) (١٦) ، وفككت الغلق ، وأبعدت فى الصبوة الطلق ، وخضت المنون ، وصدت الضب والنون ، وحذقت الفنون ،

__________________

(١١) ذلوله : دابته السهلة القياد.

(١٢) زغلوله : غلامه الخفيف السريع.

(١٣) هملجت : الهملجة ، المشى فى سرعة.

(١٤) فى نسخة «س» وافترقنا ، ولعلها فى نسختا أصوب.

(١٥) حلبنا الاشطار : يقصد جربنا خير الدهر وشره ، فعرفناهما.

(١٦) زيادة فى «ط ، س».

٧٤

وقهرت  ـ  بعد سليمان  ـ  الجنون ، وقضيت الديون ، ومرضت لمرض العيون. وركبت الهمالج (١٧) ، وتوسدت الوذائل (١٨) والدمالج ، وركضت الفاره ، واقتحمت المهالك والمكاره ، وجبت البلاد ، وحضرت الجلاد ، وأقمت الفصح والميلاد. فعدت من بلاد الهند والصين ، بالعقل الرصين ، وحذقت بدار قسطنطين (١٩) كتاب اللطين (٢٠) ، ودست مدارس أصحاب الرواق (٢١) ، ورأيت غار الارواح وشجر الوقواق ،

__________________

(١٧) الهمالج : الابل تمشى فى سرعة.

(١٨) الوذائل : ج وذيلة ، وهى الرشيقة من النساء.

(١٩) قسطنطين : ملك من ملوك الروم ، سميت حاضرة ملكه باسمه (القسطنطينية) وهى مدينة قديمة كانت مسورة بأسوار حصينة تبلغ المائة ، أحدها (باب الذهب) ، أنظر ياقوت الحموى فى معجم البلدان ج ١٥ ص ٣٤٧.

(٢٠) كتاب اللطين : يعنى به «اللاتينية».

(٢١) أصحاب الرواق : يقصد الرواقيين ، وهم فرقة من الفلاسفة القدماء ، ينسبون الى الرواق ، الذي كان يعلم زينون  ـ  Zenon الرواقيين Stoiciens تحته ، وقد نشأت هذه الفرقة فى القرن الرابع قبل الميلاد ببلاد الاغريق ، تنقسم عندهم الفلسفة الى المنطق والطبيعة وعلم الاخلاق ، ولا يفصلون العناية الالهية عن القضاء ، كما أنهم لا يميزون بين المادى والروحى ، وأن الكون يسوده النظام ، ويسوسه المنطق ، وأن على الانسان أن ينظم نفسه ، فيحتل مكانه فيه.

وبهذا تحققت عندهم فكرة الوحدة الكونية ، فى وقت لم يكن العلم الطبيعى عند الاغريق كثيرا ، ولكن كان حدسهم شديدا ، ونظراتهم الثاقبة كثيرا ما كانت تصيب.

أما عن زينون الرواقى فهو مؤلف هذا المذهب (نحو ٣٤٠  ـ  ٢٦٥ ق م) فقد ولد فى بلدة كتيوم Cition بجزيرة قبرص ، وجاء بعد الى أثينا ، وهو من أصل فينيقى ، وأكثر من وسعوا المذهب كانوا أسيويين أكثر منهم أفارقة ، ويعد المذهب آخر مجهود فلسفى فى اليونان الوثنية.

هذا ، وممن آمن بوحدة الكون فى العصور الوسطى كتاب الاديان الثلاثة ، فمن المسلمين ابن رشد (١١٢٦  ـ  ١١٩٨ م) ، ومن المسيحيين كثيرون ، ومن اليهود القباليون Kabbalists ، ثم جاء عصر النهضة بأوربا فأحيا مبدأ الوحدة الكونية بين أهلها ، وانبرى عدة فلاسفة ينادون بها ، متأثرين بالفلسفة الافلاطونية ، وبما رسمه المذهب من آداب ، ومنهم شكسبير ، وشلر ، وكنط.

راجع : د. أحمد زكى (مجلة العربى) عدد ١٣٤ يناير ١٩٧٠ م.

٧٥

وشريت حلل اليمن (١٠٠ : أ) ببخس الثمن (٢٢) ، وحللت من عدن (٢٣) حلول الروح من البدن ، ونظرت الى قرن الغزالة لما شدن (٢٤) ، وأزمعت عن العراقين (٢٥) ، سرى القين ، وشربت من ماء الرافدين باليدين ، وصليت بمحراب الدمنى ركعتين ، وتركت الاثر للعين ، ووقفت حيث وقف الحكمان (٢٦) ، وتقابل التركمان (٢٧) وأخذت بالقدس ، عن الحبر الندس ، وركبت الولايا ، الى بلاد العلايا (٢٨) ، بعد أن طفت بالبيت الشريف ، وحصلت بطيبة على الخصب والريف ، فى فصل الخريف ، وقرأت بأخميم (٢٩) علم التصريف ، وأسرعت فى الانحطاط الى الفسطاط (٣٠) ،

__________________

(٢٢) فى نسخة س «بأبخس ثمن» وكلاهما بمعنى.

(٢٣) عدن : عاصمة جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ، تقع على ساحل البحر الاحمر جنوب غربى الجزيرة العربية ، لها شهرة تجارية واسعة بفضل موقعها.

أنظر : معجم البلدان ، للحموى ، ج ١٣ ص ٨٩.

(٢٤) فى نسخة (س) «إذا» بدل «لما» ، ولعلها فى نسختنا أصوب.

(٢٥) العراقين : البصرة والكوفة بالعراق ، مدينتان لهما أصالتهما العلمية ولا سيما فى عصر الامويين والعباسيين.

(٢٦) الحكمان : هما أبو موسى الاشعرى ، وعمرو بن العاص ، لما احتكم اليهما على ابن أبى طالب ، ومعاوية بن أبى سفيان ، عقب وقعة صفين (٣٧ ه‍  ـ  ٦٥٧ م) فى أمر الخلافة ، وانتهت بتولى معاوية.

أنظر «وقعة صفين فى :

أ) المسعودى فى «مروج الذهب» ج ٢ ص ٢٠  ـ  ٢٢.

ب) الطبرى  ـ  فى «تاريخ الامم والملوك» ج ٦ ص ٣٣  ـ  ٤٣.

(٢٧) التركمان : قبيلة أخضعها التتار ، تعرف منذ القرن الثانى عشر الميلادى ، وتعيش الآن فى تركستان الغربى ، وايران ، وما وراء القفقاس.

(٢٨) العلايا : مدينة ساحلية بآسيا الصغرى ، أسسها علاء الدين كيقوباذ عام ١٢٢٠ م.

(٢٩) أخميم : مدينة أثرية على شاطئ النيل الشرقى بمصر ، محافظتها «سوهاج» أنظر : معجم البلدان ج ١ ص ١٢٣.

(٣٠) الفسطاط  ـ  مدينة أنشأها الفاتح لمصر عمرو بن العاص علم (٢٠ ه‍  ـ  ٦٤٠ م) مكانها «مصر القديمة» حاليا إحدى ضواحى القاهرة.

٧٦

والمصر الرحب الاختطاط ، وسكنت مدينة الاسكندرية (٣١) ثغر الرباط ، وعجلت بالمرور الى التكرور (٣٢) ، فبعث الظل بالحرور ووقفت بأشبانية الى الهيكل المزور ، وحصلت بافريقية على الرفد غير المنزور ، وانحدرت الى المغرب ، انحدار الشمس الى المغرب ، وصممت تصميم الحسام الماضى المضرب ، ورابطت بالاندلس ثغر الاسلام ، وأعلمت بها تحت ظل (٣٣) الاعلام.

فآها  ـ  والله  ـ  على عمر مضى ، وخلف مضضا (١٠٠ : ب) وزمن انقضى ، وشمل قضى الله من تفرقه ما قضى ، ثم أجهش ببكائه ، وأعلن باشتكائه ، وأنشد :

لبسنا فلم نبل الزمان وأبلانا

يتابع أخرانا  ـ  على الغى  ـ  أولانا

ونغتر بالآمال ، والعمر ينقضى

فما كان  ـ  بالرجعى الى الله  ـ  أولانا

وما ذا عسى أن ينظر الدهر ما عسى

فما انقاد للزجر الحثيث ولا لانا

جزينا صنيع الله شر جزائه

فلم نرع ما  ـ  من سابق الفضل  ـ  أولانا

فيا رب عاملنا بما أنت أهله

من العفو ، واجبر صدعنا ، أنت مولانا

ثم قال :

لقد مات اخوانى الصالحون

فمالى صديق ولا لى عماد

اذا أقبل الصبح ولى السرور

وان أقبل الليل ولى الرقاد

__________________

(٣١) الاسكندرية : العاصمة التجارية لجمهورية مصر العربية ، وتقع على ساحل البحر المتوسط ، بناها الاسكندر المقدونى.

انظر ياقوت الحموى فى «معجم البلدان» ج ٢ ص ١٨٢.

(٣٢) تكرور : شعب من الزنج يسكن الجزء الاكبر من وهاد «فوتة» السنغالية ، ويعرف باسم Foucouleur وفى نسخة (س) «تكرور» بدل «التكرور».

(٣٣) فى نسخة أخرى «ظلال» بدل «ظل» ، وكلاهما بمعنى.

٧٧

فتملكتنى له رقة ، وهزة للتماسك مسترقة ، فهجمت على مضجعه هجوما أنكره ، وراع شاءه وعكره (٣٤) ، وغطى بفضل ردنه سكره ، فقلت له : على رسلك أيها الشيخ ، ناب (٣٥) حنت الى حوار (٣٦) ، وغريب أنس بجوار ، وحائر اهتدى بمنار ، ومقرور قصد الى ضوء نار ، وطارق لا يفضح عيبا ، (ولا يثلم غيبا) ولا يهمل (٣٧) شيبا ، ولا يمنع (١٠١ : أ) سيبا ، ومنتاب يكسو الحلة ، ويحسن الخلة ، ويفرغ الغلة ، ويملأ القلة.

أجارتنا : انا غريبان ها هنا

وكل غريب  ـ  للغريب  ـ  نسيب

فلما وقم الهواجس وكبتها ، وتأمل المخيلة واستثبتها ، تبسم لما توسم ، وسمح بعد ما جمح ، فهاج عقيما فتر ، ووصل ما بتر ، وأظهر ما خبأ تحت ثوبه وستر ، وماج منه البحر الزاخر ، وأتى بما لا تستطيعه الاوائل ولا الاواخر. وقال  ـ  وقد ركض الفنون وأجالها ، وعدد الحكم ورجالها ، وفجر للاحاديث أنهارها ، وذكر البلدان وأخبارها  ـ  :

ولقد سئمت مآربى

فكأن أطيبها (٣٨) خبيث

الا الحديث فانه

مثل اسمه  ـ  ابدا  ـ  حديث

فلما ذهب الخجل والوجل ، وطال المروى والمرتجل ، وتوسط الواقع ، وتشوفت للنجوم المواقع ، وتوردت الخدود الفواقع ، قلت : أيها الحبر ، واللج الذي لا يناله السبر ، لا حجبك  ـ  قبل عمر النهاية  ـ  القبر ،  ـ  وأعقب كسر أعداد عمرك  ـ  المقابلة بالقبول والجبر ، كأنا بالليل قد أظهر  ـ  لوشك الرحيل  ـ  (١٠١ : ب) الهلع ، والغرب الجشع لنجومه

__________________

(٣٤) عكره : ابله.

(٣٥) ناب : الناب هى الناقة المسنة.

(٣٦) حوار : بفتح الحاء وضمها ، ولد الناقة.

(٣٧) يقصد : أنه لا يعيب أحدا فى غيبته ، وقد وردت هذه الجملة فى نسخة (س).

(٣٨) فى نسخة (س) «فكان» بدل «فكأن» وهو ما لا يستقيم وزنا.

٧٨

قد ابتلع ، ومفرق الاحباب  ـ  وهو الصبح  ـ  قد طلع ، فأولنى عارفة من معارفك أقتنيها ، وأهززلى أفنان حكمك أجتنيها ، فقال : أمل ميسر ، ومجمل يحتاج أن يفسر ، فأوضح الملغز ، وابن لى الطلا (٣٩) من البرغز (٤٠). وسل عما بدا لك ، فهو أجدى لك ، فأقسم لا تسألنى عن غامض ، وحلو وحامض ، الا أوسعته علما وبيانا ، وأريتك الحق عيانا.

قلت : صف لى البلاد وصفا لا يظلم مثقالا ، ولا يعمل  ـ  فى غير الصدق  ـ  وخدا ولا ارقالا (٤١) ، واذا قلتم فاعدلوا (٤٢) ، ومن أصدق من الله مقالا (٤٣) فقال : سل ، ولا تسل ، ولو راعك الاسل. قلت : انفض لى البلاد الاندلسية من أطرافها ، وميز  ـ  بميزان الحق  ـ  بين اعتدالها وانحرافها ، ثم اتلها بالبلاد المرينية (٤٤) نسقا ، واجل  ـ  بنور بيانك  ـ  غسقا :

__________________

(٣٩) الطلا : ولد الظبى ساعة ولادته ، والجمع «أطلاء».

(٤٠) البرغز : ولد البقرة ، ويقصد بالعبارة : أوضح غرضك وفصله.

(٤١) الوخد والارقال : نوعان من السير السريع للابل.

(٤٢) اقتباسا من قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى ، وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ، ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) سورة الانعام ، آية : ١٥٢.

(٤٣) اقتباسا من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ، وَعْدَ اللهِ حَقًّا ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) سورة النساء ، آية : ١٢٢.

(٤٤) البلاد المرينية : البلاد المغربية ، نسبة الى بنى مرين الذين حكموا هذه البلاد فى الفترة من ٦٦٨  ـ  ٨٦٩ ه‍ (١٢٦٩  ـ  ١٢٦٥ م) وكانت عاصمتهم فاس.

٧٩

٨٠