معيار الاختيار في ذكر المعاهد والدّيار

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]

معيار الاختيار في ذكر المعاهد والدّيار

المؤلف:

أبي عبد الله محمّد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد السلماني [ لسان الدين بن الخطيب ]


المحقق: الدكتور محمّد كمال شبانة
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مكتبة الثقافة الدينية
الطبعة: ٠
ISBN: 977-341-066-8
الصفحات: ١٩٨

الفصل الثالث

عرض وتحليل لمعيار الاختيار

٤١
٤٢

موضوع الكتاب

ذكر الوزير ابن الخطيب فى آخر كتابه «الاحاطة» أسماء مؤلفاته اجمالا ، وأورد من بينها مؤلفه «معيار الاختيار ، فى ذكر المعاهد والديار» على أنه مؤلف قائم بنفسه ، ثم أورده فى باب «المقامات» من مؤلفه الضخم «ريحانة الكتاب ، وتحفة المنتاب» والذي يشتمل على أكثر من غرض ولون أدبى تاريخى.

والمعيار الذي نتعرض لدراسته عبارة عن وصف شامل لأهم مدن مملكة غرناطة ، وأهم مدن المغرب ، تناول فيه ابن الخطيب النواحى الجغرافية والتاريخية والاجتماعية لمعظم المدن التى أوردها.

لقد بدأ أول ما بدأ بجبل الفتح (جبل طارق) ، وهو يومئذ ضمن مملكة بنى مرين المغربية ، وكان طبيعيا أن يبدأ الوصف بالجبل ، فهو كما يقول المؤلف : «فاتحة الكتاب من مصحف ذلك الاقليم ، ولطيفة السميع العليم ، وقصص المهارق ، وأفق البارق ، ومتحف هذا الوطن المباين للارض المفارق» ، والجبل بالنسبة للبلاد الاندلسية «محط طارقها بالفتح طارق» وله دوره الهام فى حماية البلاد الاندلسية حيث أنه «مسلحة من وراءه من العباد ، وشقة القلوب والاكباد».

أما المدن الاندلسية التى أعقبها الجبل فى الوصف ، فهى  ـ  حسب الترتيب الذي أوردها به  ـ  كما يلى :

٤٣

١  ـ  اسطبونة

Estepona

٢ ـ  مربلة

Marabilla

٣ ـ  سهيل

Fuenjerola

٤ ـ  مالقة

Malaga

٥  ـ  بليش مالقة

Velez Malaga

٦  ـ  قمارش

Comares

٧  ـ  المنكب

Almuncar

٨  ـ   شلوبانية

Salobrana

٩  ـ  برجة

Berja

١٠ ـ  دلاية

Dalias

١١  ـ  المرية

Almaria

١٢ ـ  طبرنش

Tabernas

١٣ ـ  بيرة

Vera

١٤ ـ  مجاقر

Mujacar

١٥  ـ  قنتورية

Cantoria

١٦ ـ  برشانة

Purchena

١٧  ـ  أورية

Oria

١٨ ـ  بليش الشقراء

Velez Robia

١٩ ـ  بسطة

Baza

٢٠ ـ  أشكر

Huescar

٢١ ـ  أندرش

Andarax

٢٢ ـ  شبالش

Jubles

٢٣ ـ  وادى آش

Juadix

٢٤ ـ  فنيانة

Finana

٢٥ ـ  غرناطة

Granada

٢٦ ـ  الحمة

Alhama

٢٧ ـ  صالحة

Zalia

٤٤

٢٨  ـ  أليرة ومنتفريد

IlIora e Mouteferio

٢٩  ـ  لوشة

Loja

٣٠  ـ  أرجذونة

Archidona

٣١  ـ  أنتقيرة

Antequera

٣٢  ـ  ذكوان

Coin

٣٣  ـ  قرطمة

Cartama

٣٤  ـ  رندة

Ronda

وأما المدن المغربية فهى حسب ترتيب المؤلف أيضا :

١  ـ  بادس ، ٢  ـ  سبتة ، ٣  ـ  طنجة ، ٤  ـ  قصر كتامة ، ٥  ـ  أصيلا ، ٦  ـ  سلا ، ٧  ـ  أنفا ، ٨  ـ  أزمور ، ٩  ـ  تيط ، ١٠  ـ  رباط أسفى ، ١١  ـ  مراكش ، ١٢  ـ  أغمات ، ١٣  ـ  مكناسة ، ١٤  ـ  فاس ، ١٥  ـ  مدينة الملك ، ١٦  ـ  آقرسلوين ، ١٧  ـ  سجلماسة ، ١٨  ـ  تازة ، ١٩  ـ  غساسة.

وعلى هذا فقد تناول ابن الخطيب أول ما تناول من مدن الاندلس مدينة «اسطبونة» ، وانتهى بمدينة «رندة» ، وهو فى تناوله هذا للمدن لم يراع ترتيبا جغرافيا ولا تاريخيا ، بل ولا أولويا ، فقد كانت مدينة غرناطة مثلا فى المرتبة السادسة بعد العشرين من وصفه ، رغم أنها حاضرة المملكة ، ولها من المبررات ما يجعلها أهلا للمرتبة الاولى من وصفه ، ولكن المؤلف حرر نفسه من كل قيد لتقديم مدينة على أخرى ، أيا كانت دواعى التفضيل ، وكيفما بلغت أهميته.

لقد كان المؤلف يتعرض للمدينة فى وصفه ، فيتناولها من معظم ما يتعلق بها ، اذ يتحدث عن موقعها الجغرافى ومكانتها التاريخية ، وحالة سكانها الاجتماعية ، فيعطينا صورة واضحة  ـ  الى حد بعيد  ـ  عن كل مدينة تناولها قلمه.

ففى وصفه لموقع مدينة «قمارش» مثلا ، وما للموقع من أهمية ، يقول : انها «مودع الوفر ، ومحط السفر ، ومزاحم الفرقد والغفر ،

٤٥

حيث الماء المعين ، والقوت المعين». وأما منتجات البلد من محاصيله ، فقد أشار الى أن «به الاعناب التى راق بها الجناب ، والزياتين واللوز والتين ، والحرث الذي له التمكين». وفى معرض الوصف الاجتماعى يستدرك ابن الخطيب ، ذاما أهل البلد حين يقول : «الا أنه عدم سهله ، وعظم جهله ، فلا يصلح فيه الا أهله».

أما اذا ارتأى مدينة حقيقة بمدح أحوالها الاجتماعية فهو لا يقصر فى حقها ، فمثلا مدينة «المرية»  ـ  على حد قوله «محط التجار ، وكرم النجار ، ورعى الجار. ما شئت من أخلاق معسولة ، وسيوف من الجفون السود مسلولة ، وتكك محلولة ، وحضارة تعبق طيبا ، ووجوه لا تعرف تقطيبا» وهى  ـ  الى جانب تلك الرفاهية وذلك النعيم ، واللذة والسرور المقيم  ـ  «لم تزل  ـ  مع الظرف  ـ  دار نساك ، وخلوة اعتكاف وامساك» ، فهو حريص فى الوصف ، دقيق فى الاحاطة ، شأن الخبير بالاماكن والبقاع.

نأخذ أيضا مثالا لنهج المؤلف فى الاشادة بالاجتماعيات عند الناس ، وطريقته فى العرض للحقائق ، وتقصيه لها ، حين يذكر عن مدينة برشانة أن «أهلها أولو عداوة لاخلاق البداوة ، وعلى جوههم نضرة وفى أيديهم نداوة. يداوون بالسلافة علل الجلافة ، ويؤثرون علل التخلف على لذة الخلافة ، فأصبح ربعهم ظرفا قد ملئ ظرفا ، فللمجون به سوق ، وللمجون ألف سوق ، تشمر به الاذيال عن سوق ، وهى تبين بعض بيان عن عن أعيان» ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر لهذه المثالب ، يذكر أن «وغدها (المدينة) يتكلم بملء فيه ، وحليمها يشقى بالسفيه ، ومحياها تكمن حية الجور فيه».

هذا ، وقد ظفرت بعض المدن الاندلسية بعناية خاصة من قلم ابن الخطيب ، كغرناطة ومالقة ، ولا عجب فلكل منهما مركزها الادارى والسياسى ، فالاولى حاضرة ملك بنى الاحمر ، وزهرة المدن الاندلسية ،

٤٦

ولها على ابن الخطيب أياد لا تنسى ، فكان عليه أن يوفيها حقها ، وأن يعطيها مستحقها ، فيحلها  ـ  من وصفه  ـ  مكانتها اللائقة ، ولكن هذا لا يمنعه  ـ  كمؤرخ صادق  ـ  من أن يبرز لنا بعض عيوبها ، سواء فى طقسها الشتوى ، وبردها الذي «يمنع الشفاه من رد التحيات» ، أو الاسعار التى «معيارها يشعر بالترهات» ، وجفاف طباع بعض أهلها ، الذي يصل الى درجة «سوء الجوار ، وجفاء الزوار ، ونذالة الديار» ، فهذا المسلك من ابن الخطيب نحو المدن فى وصفها يعطينا فكرة عن صدق قلمه ، وتحرره من أى قيد ، فغرناطة  ـ  وان كانت مقامه بجوار مخدوميه بنى الاحمر ، ومحل سلطانه وجاهه  ـ  الا أن ذلك كله لا يمنعه من اعطاء كل ذى حق حقه ، وأنه فى هذا لا تأخذه لومة لائم.

لنستمع اليه فى شأن العاصمة النصرية ، حين يستهل وصف حمرائها : «كرسيها ظاهر الاشراف ، مطل على الاطراف ، وديوانها مكتوب بآيات الانفال والاعراف» ، وفى معرض موقع المدينة ، يذكر لنا أن «هواءها صاف ، وللانفاس مصاف. حجبت  ـ  الجنوب عنها  ـ  الجبال ، فأمن الوبا والوبال ، وأصبح ساكنها غير مبال ، وفى جنة من النبال ، وانفسحت للشمال ، واستوفت الشروط على الكمال» ، كما يتحدث مشيدا بنهر شنيل ، وفضله على جنات غرناطة ومروجها ، فيقول «وانحدر منها (جبل سييرا نيفادا) مجاج الجليد على الرمال ، وانبسط  ـ  بين يديها  ـ  المرج (فحص غرناطة) الذي نضرة النعيم لا تفارقه ، ومدارى النسيم تفلى بها مفارقه. ريع من وادية بثعبان مبين ، ان لدغ تلول شطه تلها للجبين ، وولدت حيات المذانب عن الشمال واليمين ، وقلد منها اللبات سلوكا تأتى من الحصباء بكل در ثمين ، وترك الارض مخضرة ، تغير من خضراء السماء ضرة ، والازهار مفترة ، والحياة الدنيا بزخرفها مغترة» ، ان هذه الروعة البيانية ، ودقة التعابير البلاغية ، جعلت الصورة تتجسم أمامنا ، حتى لنكاد نلمس منها كل جانب.

٤٧

ثم يعود المؤلف بنا من مطافه الى الحمراء مرة أخرى ، فيكشف لنا عن منشآتها الرائعة ، وجناتها الساحرة ، وكيف أنها مدرج سلالة بنى نصر ، فيقول : «وتبرجت بحمرائها القصور مبتسمة عن بيض الشرفات ، سافرة عن صفحات القباب المزخرفات ، تقذف بالانهار  ـ  من بعد المرتقى  ـ  فيوض بحورها الزرق ، وتناغى أذكار المآذن بأسمارها نغمات الورق. وكم أطلعت من أقمار وأهله ، وربت من ملوك جلة ..»

أما مالقة  ـ  عاصمة الحموديين الادراسة  ـ  فيتحدث المؤلف  ـ  بادئ ذى بدء  ـ  عن تاريخها كعاصمة لهؤلاء فيقول : «كرسى ملك عتيق ، ومدرج مسك فتيق ، وايوان أكاسرة ، ومرقب عقاب كاسرة ، ومجلى فاتنة حاسرة ، وصفقة غير خاسرة» ، ثم يشيد بشهرتها الصناعية فى الفخار والحرير «.. ومذهب فخارها له على الاماكن تبريز ، الى مدينة تبريز ، وحلل ديباجها بالبدائع ذات تطريز». وبعد أن يصور محاصيلها وفواكهها ، وما اشتهر به قومها من الاسهام بالبر بأوفر نصيب ، فى تخليص أسرى المسلمين من أيدى النصارى ، ووفرة أعيانها وعلمائها  ـ  يتناول بعدئذ مساوئ المدينة ، فيقول : «وعلى ذلك ، فطينها يشقى به قطينها ، وأزبالها تحيى بها سبالها ، وسروبها يستمد منها مشروبها ، فسحنها متغيرة ، وكواكب أذهانها النيرة متحيرة .. وطعاما لا يقبل الاختزان ، ولا يحفظ الوزان ، وفقيرها لا يفارق الاحزان ..» الى آخر هذه المساوئ التى أوردها عن مدينة مالقة.

وهكذا نرى أن موضوع الكتاب فى وصفه للبلاد الاندلسية أو المغربية قد اختط فيه ابن الخطيب موضوعية لا تبارى ، وشمولا فى الوصف لمختلف النواحى ، التاريخية ، والجغرافية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، فى صورة ناطقة نابضة.

٤٨

منهج ابن الخطيب فى الكتاب

عندما كتب ابن الخطيب مؤلفه «معيار الاختيار» اختط فى التحرير طريقة خاصة ، تختلف عن معظم كتاباته فى مؤلفاته الاخرى ، ذلك أنه بدأ بمقدمة معتادة أعقبها بمحاورة ، ثم انتهى الى صميم الموضوع ، فقسمه الى مجموعتين مستقلتين ، وأدرج كل مجموعة تحت مجلس خاص ، وقصر المجلس الاول على المدن الاندلسية ، ثم أعقبه بالمجلس الثانى فقصره على المدن المغربية. وهكذا بدأ المؤلف كتابه فى المجلس الاول ، بما جرت به عادة المؤرخين والمؤلفين المسلمين ، وذلك بحمد الله تعالى ، والثناء عليه بما هو أهله ، والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم ، كل هذا فى قالب يتناسب والموضوع الذي يتعرض له ، وهو وصف البلدان.

ثم ثنى بأن الانسان مدنى اجتماعى بطبيعته ، لا يستقيم حاله بدون مجتمع ، وبالتالى لا يقوم المجتمع بدونه ، وأنه  ـ  أى الانسان  ـ  أحيانا يتخذ سكناه حسبما اتفق ، وأحيانا يكون له ظرف الاختيار ، مرجحا من الامكنة ما غلبت حسناته على سيئاته ، وهذه الامكنة «كثيرا ما تنافر الى حكمها النفر ، وأعمل السفر» ، وأيا كان ، فانه لا توجد مدينة قد كملت من كافة النواحى كما يقول.

وبعدئذ يتحدث المؤلف عن خبر فى قالب قصة ، فهناك راو استهواه مكان ما ، فنزل به حتى حل المساء ، وحينئذ أبصر شيخا معه تلميذه وحماره ، وما استقر المقام بذلك الشيخ حتى حن الى صباه ، وضاق بمرارة المشيب ، وقسوة الغربة ، وشعوره بأن نفسه لم تتب بعد ، وأخيرا يسأل الله العفو والغفران ، والقربى من رحمته يوم الحساب ، معتمدا فى اجابة سؤله على شفاعة شيبه ، ثم تدور مناقشة بين الشيخ وفتاه ، وعندها ينبرى الشيخ ، فيحدثنا عن مدى خبراته فى أمور شتى

٤٩

نتيجة علمه وبحثه ، وجوبه بلاد العالم ، ووقوفه بأقطار كثيرة للدرس والبحث. وتكون النتيجة أن يتقرب الراوى الى الشيخ ، مطمئنا اياه الى حسن طويته ، وما عليه من خلق يؤهله لان يتشرف بالاستماع الى فيض علمه ، ويسأل الراوى الشيخ ان يصف له بلاد الاندلس ثم بلاد المغرب ، فى دقة وأمانة واخلاص ، فأجابه الشيخ الى طلبه ، وبدأ الراوى بالسؤال عن جبل الفتح (جبل طارق) وهكذا .. حتى انتهى من المدن الاندلسية بمدينة «رندة». ثم أخبر الشيخ سائله بأن الصبح قد قارب الوجود ، وأنه قد وفاه  ـ  فى الوصف  ـ  حسابه ، ولم يبق الا أن يكافئه على هذه الذخائر حتى يكون له أليفا ورفيقا ، فينثر الراوى المال بين يدى محدثه فيأخذ منه شاكرا ، وأخيرا يتفقد الراوى الشيخ على ضوء مصباح ، فلا يجد له أثرا ، «فكأن الفلك لفه فى مداره ، أو خسفت الارض به وبداره» ، فيتأسى الراوى عن هذا الفراق بأن «لكل اجتماع من خليلين فرقة».

هكذا ينتهى نهج المؤلف فى «المجلس الاول» من كتابه.

أما فى «المجلس الثانى» فان الراوى يلج أحد الاسواق ، وفى السوق «أمم تنسل من كل حدب ، وتنتدب من كل منتدى ومنتدب» ، فى بيع وشراء ، وتحايل للتعايش والكسب ، بمختلف الوسائل والاعمال ، فهناك «رقاة جنون ، بضروب من القول وفنون ، وفيهم كهل قد استظل بقيطون» ، قد ادعى العلم بالمغيبات ، والتفسير للمشكلات والاحاطة بأسرار الطبيعة ، وشفاء العضال من الامراض ، وفى مجال العلوم قد برع ، ما بين طب ورياضة وتاريخ وجغرافية ، وحديث وتفسير ، ومنثور ومنظور ، ومنطق وبرهان ، فهو قد جاب الاقطار فى الدرس والبحث والمعرفة. وهنا يجد الراوى بغيته ، فقد ذكره ذلك الرجل بالشيخ الاول ، فأراد أن يستكمل

٥٠

معلوماته عن البلدان ، فاخترق اليه جموعا بشرية من قصاده ، وخاطبه بقوله : «بى الى تعرف البلدان جنوح وجنون ، والجنون فنون» فأجابه الشيخ موافقا ، متحفظا بأنه «لا تجود يد الا بما تجد ، والله المرشد».

وهنا يسأله الراوى عن البلاد المغربية ، بادئا منها ب «بادس» ، والشيخ يجيبه بمعلوماته عنها ، واحدة تلو الاخرى ، حتى ينتهى منها بمدينة «غساسة» ، وعندئذ «وجب اعتناء بالرحيل واهتمام ، وكل شىء الى تمام» كما قال الشيخ ، فقد انفض عن السوق أهله ، ولم يبق الا أن ينثر الراوى دنانيره ، مكافأة طيبة لمحدثه ، فيتناول منها ما تستغنى به النفس ، وقبل أن يتهيأ للسير لم ينس  ـ  وهو الحكيم المجرب  ـ  أن يزود الراوى بنصح منظوم ، فيه مزايا التحلى بالقناعة ، والايمان بالقضاء والقدر ، والتحفظ على السر وكتمانه ، وتحاشى التعثر بالناس ، وتقوى الله تعالى ، فالقرب منه رهن بها ، وليست هناك خسارة أفدح من معصية الخالق. وأخيرا نرى الشيخ قد «ضرب جنب الحمار ، واختلط فى الغمار» وبقى الراوى يتتبع أثر الشيخ ، ولكنه تعزى عن فراقه بأن «كل نظم الى انتثار»

بهذا ينهى ابن الخطيب «المجلس الثانى» ، وبانتهاء «المجلس الثانى» ينتهى الكتاب نفسه.

هذا هو المنهج الذي سلكه ابن الخطيب المؤلف فى كتابه «معيار الاختيار» ، وهو منهج  ـ  كما رأينا  ـ  قصصى ، دار فى فلك نوع خاص من القصة ، وهذا النوع هو الذي عرف من بين فنون النثر العربى باسم «المقامة» ، متخذا من المحاورة وسيلة لتشويق القارئ والمستمع ، وبخاصة فى صلب الموضوع ، عند وصفه للبلاد.

٥١

قيمة الكتاب الادبية ومدى صلته بفن

المقامات فى الأدب العربى

ذكرنا أن «معيار الاختيار» قد جاء فى صورة قصة محدودة ، والقصة من أدق الفنون الادبية وأصعبها تركيبا ، وهى تتمتع من بين سائر فنون الادب بالذيوع والانتشار ، لما تشتمل عليه من استمالة القلوب ، وامتناع النفوس ، فالآداب العالمية قد زخرت بهذا اللون الغنى منذ أقدم العصور ، ولقد ورثنا عن العرب منذ جاهليتهم ذخيرة نفيسة من القصص ، تناولها المشتغلون بالبحث والنقد درسا وتحليلا ، وانقسموا حيالها الى فريقين متباينين ، ولكل وجهة ، فبعض المستشرقين فى دراستهم للقصة العربية يرون مع «كارادى فو» أنه «لم يسبق الادب العربى أى أدب آخر فى نوع الاقاصيص ، بينما البعض الآخر يرى أن العرب  ـ  ابان حضارتهم  ـ  زودوا لغتهم بفلسفة الشعوب وعلومهم ، وتجاهلوا أدب القصة تجاهلا يكاد يكون مطلقا ، ومن ثم جهلوا أصول الفن القصصى ، فكانت قصصهم تفقد قيمتها الفنية تبعا لذلك.

وانصافا للحق نقول : ان القصص العربى ذو ألوان مختلفة ، وقد حظيت بعض هذه الالوان بعناية العرب ، فراعوا فى صوغها مقومات القصة ، وأسس بنائها ، فجاء هذا اللون منها تحفة فنية ، لها قيمتها وروعتها ، والبعض الآخر من ألوان القصة العربية فقد معظم هذه الاسس ، فكان مثارا للنقد ، ومحلا للملاحظة.

والقصص العربى أنواع : أشهرها القصص الدينى ، ومصادره التوراة والانجيل والقرآن ، ثم ما جاء على ألسنة الرواة والمحدثين من أخبار الاولين وقصصهم ، مزج فيها القصاص الحقيقة بالخيال ، والتاريخ بالاسطورة. وكان الهدف من هذا النوع من القصص الوعظ والارشاد فى معظمه ، ترغيبا فى الجنة وترهيبا من النار.

٥٢

ومن أنواع القصص أيضا عند العرب القصص التاريخى البطولى ، كقصة عنترة بن شداد فى حروبه ، وسيف بنى يزن فى كفاحه ، وحرب البسوس فى طولها وشناعتها ، ومنها القصص العاطفى ، كقصة «قيس المجنون بليلاه» ، وعنترة العاشق لعبلة ، وكثير الواله بعزة ، الى آخر هذه الالوان القصصية ، التى تزخر بها كتب الادب العربى ، وبعض التراجم الاجنبية. على أنه من الملحوظ أن القصة العربية تطورت مع الزمن ، واتخذت فى كل عصر طابعا خاصا ، رقيا عما قبل ، مع متانة فى البناء ، منذ الجاهلية حتى عصرنا الحاضر ، وقد تولد عن التصرف فى تركيبها نوع خاص منها ، وهو ما سمى  ـ  بين فنون النثر العربى  ـ  باسم «المقامة» ، والتى ترتكز على العناية بالاسلوب ، وتغليب الشكل على الجوهر ، فمن مقوماتها البلاغية السجع والجناس والكناية والتلاعب بالالفاظ ، ومن مقوماتها اللغوية طائفة ضخمة من شوارد اللغة ، وشواذ القواعد النحوية ، ومن مقومات أسلوبها  ـ  كذلك  ـ  تضمينها بعض آيات القرآن الكريم ، أو الحديث النبوى ، أو الحكم والامثال ، أو المنثور أو المنظوم ، كما تشتمل المقامة على المعلومات الفقهية والطبية والعروضية والتاريخية ، الى غير ذلك مما عرف فى عصر المولعين بصناعتها.

فالمقامة  ـ  اذن  ـ  نوع من الترف الادبى ، وميدان للتدليل على مبلغ معرفة المؤلف بالعلوم والفنون على اختلاف أنواعها ، وقد ابتدعها «بديع الزمان الهمذانى» من أشهر أدباء العصر العباسى ، ويقال : انه أنشأ حوالى أربعمائة مقامة ، ولكن لم يظفر الناس منها اليوم بأكثر من نيف وخمسين مقامة ، ومن مقاماته الشهيرة المقامة القريضية ، نسبة الى القريض ، وهو الشعر ، لانه موضوعها ، والمقامة الخمرية ، والمقامة الجاحظية ، والمقامة الدينارية ، والمقامة البصرية ، والمقامة الكوفية ، ثم قلده فى نفس العصر كثيرون ، ولكن الحريرى كان بارعا فيها أيضا ، ومن مقاماته المعروفة مثلا «المقامة الصنعائية» نسبة الى صنعاء ، احدى مدن اليمن المشهورة.

٥٣

أما ما ذا يقصد بالمقامة عموما فهو تصوير بؤس الادباء ، واحتيالهم أحيانا لكسب عيشهم ، ولها راوية ينقل الخبر ، وبطل تدور حوله حوادثها.

على أن هذه المقامة قد اختفت من الادب العربى بعد ناصف اليازجى اللبنانى فى كتابه : «مجمع البحرين» ، ومحمد المويلحى المصرى فى كتابه ذى الشبه الكبير بالمقامة «حديث عيسى بن هشام» ، اذ لم يعد أحد بعدئذ يلتفت الى هذا اللون الادبى من أدباء عصرنا الحاضر.

هذا ، وقد كان من الطبيعى أن ينتقل فن المقامة من المشرق  ـ  منذ ظهوره  ـ  الى الاندلس ، وذلك عن طريق الرحلات التى قام بها كثير من الاندلسيين الى الشرق يطلبون العلم ، والذين عادوا الى موطنهم بعد أن درسوا  ـ  ضمن ما درسوا  ـ  هذا الفن ، فنشروه بين مواطنيهم ، وقد لوحظ أن مقامات بديع الزمان الهمذانى ورسائله  ـ  التى أشرنا اليها  ـ  قد ذاعت خصوصا فى عهد ملوك الطوائف بالاندلس ، فقد قام بعض الادباء الاندلسيين يومئذ بمعارضة هذه الرسائل والسير على نمطها ، ومن هؤلاء الاديب عبد الله محمد بن شرف القيروانى ، الذي عارض مقامات البديع ، حسبما يروى ابن بسام عن هذا الاديب المعاصر للمعتضد بن عباد بأشبيلية ٤٣٤  ـ  ٤٦١ ه‍ (١٠٤٢  ـ  ١٠٦٨ م). كذلك روى ابن بسام عن الشاعر أبى المغيرة عبد الوهاب بن حزم المتوفى حوالى سنة ٤٢٠ ه‍ (١٠٢٩ م) أن هذا الاخير عارض رسالة للهمذانى فى وصف غلام ، وفى موضع آخر من كتاب الذخيرة يورد ابن بسام أجزاء من مقامتين ، إحداهما لابى حفص عمر الشهيد ، والاخرى لابى محمد بن مالك القرطبى ، وهذان الأديبان عاشا فى عهد المعتصم بن صمادح بمدينة المرية الاندلسية ٤٤٣  ـ  ٤٨٤ ه‍ (١٠٥١  ـ  ١٠٩١ م).

ونزيد تعريفا بصلة المغرب بالمشرق حول فن المقامة ، فنذكر أيضا أنه فى أوائل عهد المرابطين بالاندلس انتشرت مقامات الحريرى بالمغرب على مدى واسع ، فى الوقت الذي انتشرت فيه بالشرق ، واهتم علماء

٥٤

الاندلس بحياة مؤلف هذه المقامات ، فقد روى ابن الابار «أن كثيرا من الاندلسيين سمعوا من الحريرى مقاماته الخمسين ببستانه ببغداد ، ثم عادوا الى بلادهم ، حيث حدثوا بها عنه» ، ومن هؤلاء الحسن بن على البطليوسى المتوفى عام ٥٦٦ ه‍ (١١٦٩ م) وأبو الحجاج يوسف القضاعى البلنسى المتوفى عام ٥٤٢ ه‍ (١١٤٧ م).

وقد تابع الاندلسيون الاشتغال بفن المقامة حتى نهاية عهدهم الاندلسى ، أيام بنى الاحمر فى غرناطة ، ومن أشهر أدباء هذا العصر الذين زاولوا هذا الفن الادبى الوزير لسان الدين بن الخطيب ، بمقاماته العديدة التى أنشأها ، والتى منها : الكتاب الذي نتعرض لدراسته هنا ، وهو «معيار الاختيار» ، ومقامته «خطرة الطيف ، فى رحلة الشتاء والصيف» و «مقامة السياسة» وغيرها.

ـ  *  ـ  وعلى ضوء ما أوجزنا بيانه عن «المقامة» ومقوماتها ، ومدى صلتها بفن القصة العربية ، وعن دور الاندلسيين فيها بالنسبة للمشارقة ، نستطيع أن نزن كتاب «معيار الاختيار» فى هذا الميدان ، فنقول : انه عبارة عن وصف قصصى ، جاء فى صورة مقامة تقليدية ، حاول بها ابن الخطيب  ـ  كما حاول فى غيرها  ـ  أن يجارى بها من سبقوه فى هذا الميدان ، وفى سبيل ذلك حشد لها المزيد من فنون القول والبيان ، وبخاصة مقدمة كل من المجلسين ، ونهايتهما ، حيث انصرف فيهما الى حد ما عن المعنى الى اللفظ مما أفقد المقدمة  ـ  خاصة  ـ  قيمتها الادبية ، من أديب مثل ابن الخطيب.

ولكن عندما تناول صلب الموضوع ، فانه  ـ  وان كان قد عنى بالاسلوب أيضا  ـ  الا أن الوصف للمدن عموما قد جاء تحفة فنية رائعة ،

٥٥

فقد تناولها تاريخيا واجتماعيا وثقافيا ، وتمكن  ـ  رغم قيود السجع والجناس والكناية وغيرها  ـ  من ابراز هذه المعالم فى صورة مشوقة.

ومع ذلك ، نرى أن ابن الخطيب لو أطلق لنفسه العنان فى هذا المؤلف التاريخى ، وحرر نفسه من هذه القيود اللفظية التى كبل بها قلمه  ـ  لجاء وصفه للبلدان أبدع فنا ، وأشمل موضوعا ، فلا شك أنه حصر نفسه فى نطاق ضيق ، كانت نتيجته الحتمية أن فوت علينا المؤلف انطلاقاته المعروفة عنه ، فى تقصى المعانى ، والاحاطة بشتات الموضوع الذي يتعرض له.

قيمة الكتاب كوثيقة تاريخية

توجد لكتاب «معيار الاختيار ، فى ذكر المعاهد والديار» أكثر من مخطوطة ، فى الاسكوريال والرباط ، وفاس ، وقد ورد هذا الكتاب ضمن مؤلف آخر من مؤلفات ابن الخطيب ، وهو «التاج المحلى فى مساجلة القدح المعلى» (٥٥٤ الاسكوريال) ، كما ورد ضمن مؤلفه «ريحانة الكتاب ونجعة المنتاب» حيث أورده المؤلف فى باب «المقامات».

وقد ألف ابن الخطيب «معيار الاختيار» هذا عندما نفى الى المغرب مع سلطانه الغنى بالله ابن الاحمر المعروف بمحمد الخامس ، حيث حلا ضيفين على السلطان أبى سالم ملك المغرب (محرم ٧٦١ ه‍  ـ  ١٣٥٩ م) ولكن ابن الخطيب لم يذكر فى الكتاب تاريخ تأليفه بالضبط ، وانما عرفنا الفترة التى ألفه خلالها من مؤلف آخر له ، حيث ذكر به أنه دون بعض كتبه خلال سنوات المنفى الثلاث التى قضاها بمدينة سلا بالمغرب (١). (٧٦٠  ـ  ٧٦٣ ه‍)  ـ  (١٣٥٨  ـ  ١٣٦١ م) ، ومن بين تلك الكتب «معيار الاختيار» ، وقد أدرج الغزيرى هذا المؤلف تحت رقم ١٧٧٧ بفهرس المخطوطات العربية بمكتبة الاسكوريال بأسبانيا.

__________________

(١) ابن الخطيب فى «نفاضة الجراب فى علالة الاغتراب» ، مكتبة الاسكوريال بمدريد لوحة (٦٧).

٥٦

ولما كنت قد قارنت  ـ  أثناء البحث والدراسة  ـ  بين نسخ مخطوطة هذا الكتاب ، والتى وجدتها فى كل من مدريد والرباط وفاس والقاهرة والفاتيكان ، فقد بان لى أن أكملها وأوفاها  ـ  كما ذكرت  ـ  مخطوطة الأسكوريال بأسبانيا (رقم ٥٥٤) ، وقد ذكر ناسخ هذه المخطوطة أنه كتبها عام ١٧٣ ه‍ (١٤٦٨ م) ، أى بعد تدوين ابن الخطيب للكتاب نفسه بحوالى ١١٢ عاما تقريبا ، وبعد وفاة المؤلف بنحو ٩٧ عاما.

وقد نشر المستشرق الاسبانى «سيمونيت» القسم الاول من «معيار الاختيار» ، بعد أن فصل عنه المقدمة التى أشرنا الى مضمونها ، وهذا القسم هو الخاص بمدن مملكة غرناطة ، وعددها أربع وثمانون مدينة ، تحت عنوان «وصف مملكة غرناطة ، فى عهد بنى نصر» (١).

ثم نشر باقى الكتاب  ـ  وهو الجزء الخاص بمدن المغرب  ـ  المستشرق الالمانى «موللر» ، متضمنا وصفا لجبل الفتح ، وسبتة ، ومراكش ، وأغمات ، فى مجموعة خاصة (٢). ولم يفت هذا المستشرق أن ينوه ببعض الاخطاء التى وقع فيها زميله الاسبانى «سيمونيت» عند تحقيقه للجزء الخاص بمدن الاندلس ، وان كان هو بدوره قد وقع فى عدة أخطاء أثناء التحقيق ، وذلك نتيجة عدم التمرس بالاساليب العربية ، ولا سيما عبارة ابن الخطيب كطابع عام لما كانت عليه اللغة فى العصور الاسلامية الوسطى.

وتجدر الاشارة الى أن قيمة «المعيار» تمكن فى التعريف بالوضعية التى كانت عليها كل من مملكتى بنى نصر وبنى مرين فى منتصف القرن الرابع عشر الميلادى ، وأن ابن الخطيب قد حدثنا  ـ  بحق أيضا

__________________

(١) راجع :Descripcion del Reino de Granada bajo la, Dominacion de las Naza  ـ  ritas) Madrid, ١٦٨١).

(٢) راجع :Beitaage zur Geschichte des Westlichen, Araber) Munchen, ٦٦٨١).

٥٧

خصوصا  ـ  عن عاصمتى كل من الاندلس والمغرب فى عصره (غرناطة وفاس) ، سالكا نفس الموضوعية تجاه كليهما ، دون أن يخفى لوما فيما لاحظه من مثالب بالنسبة لهاتين العاصمتين.

ونحن نعتقد من جانبنا أن المؤلف  ـ  عند تدوينه لهذا الكتاب  ـ  قد اعتمد على مصادر ثلاثة :

١  ـ  زيارته للمدن التى تناولها قلمه :

فمن المعلوم أن ابن الخطيب كان قد وزر للسلطان يوسف الاول النصرى ٧٣٣  ـ  ٧٥٥ ه‍ (١٣٣٣  ـ  ١٣٥٤ م) ثم لابنه من بعده الغنى بالله محمد الخامس ٧٥٥  ـ  ٧٦٠ ه‍ (١٣٠٤  ـ  ١٣٥٩ م) ثم  ـ  للمرة الثانية  ـ  عام ٧٦٢  ـ  ٧٩٣ ه‍ (١٣٦١  ـ  ١٣٩٢ م) ، وطبيعة المنصب تقتضى تفقد الوزير هناك للبلاد والثغور الاندلسية ، للوقوف على أحوالها ، وحركة دولاب العمل فيها ، ثم توجيه العمال وارشادهم ، ومن ثم تحرير التقارير عن زياراته. كما أنه رافق سلطانه أبا الحجاج يوسف الاول فى زيارته التاريخية ، والتى بدأها من غرناطة فى ١٧ محرم ٧٤٨ ه‍  ـ  ١٣٤٧ م ، صحبة الحاشية ، وقد أفرد ابن الخطيب رسالة خاصة بهذه الرحلة ، سماها : «خطرة الطيف ، فى رحلة الشتاء والصيف» جاء فيها أن الركب الملكى  ـ  بعد أن غادر العاصمة  ـ  وصل الى مدينة وادى آش ، وهناك استقبلهم الاهالى استقبالا رائعا ، ثم اتجهت القافلة شرقا مارة ببعض المدن والحصون الهامة ، مثل : بسطة ، وبرشانة ، وهنا صور ابن الخطيب الحالة التى كان يعانيها سكان هذه المدن ، نتيجة كل من الغارات النصرانية والسيول الموسمية ، ثم زار الركب مدينة «بيرة» ، أقصى الثغور على الحدود الشرقية ، وقد ذكر لنا ابن الخطيب ما كان يشعر به سكان هذا الثغر من القلق والخوف ، من جراء هجوم الاسبان المفاجئ بين حين وآخر ، كما صور لنا وعورة موقع المدينة ،

٥٨

وصعوبة مسالكها ، حيث اضطروا للاسترشاد بدليل ماهر ، يكشف لهم طريقهم فى الجبال بين الروابى والوهاد.

وأخيرا يعود الموكب الى قاعدته «غرناطة» ، راجعا من طريق آخر ، مارا بثغر المرية ، حيث استعرض السلطان قطع الاسطول الحربى ، واستقبل رجاله فى زيهم الرائع الانيق.

كما زار الموكب بعد المرية بعض المدن العامة ، مثل : بجانة ، وبرشلونة وفنيانة ، وينتهى المطاف بمدينة وادى آش مرة أخرى ، ومنها الى العاصمة «غرناطة» (١).

وبذلك أتيحت فرصة رسمية هامة للوزير ابن الخطيب ، حيث وقف على أحوال هذه المدن الاندلسية خلال هذه الرحلة ، وكون لنفسه ودون فى مذكراته فكرة عميقة موضوعية عن كل مدينة زارها الركب السلطانى التاريخى.

أما بالنسبة للمدن المغربية فقد زار ابن الخطيب المغرب أكثر من مرة ، وفى كل مرة كان يتجول فى البلاد ويتعرف عليها ، ويختلط بأهلها ، ولا سيما رجال الادارة والعلماء والخاصة ، ولابد أنه شافه الكثير منهم برغبته فى الوقوف على معالم مدنهم وآثارهم واجتماعياتهم ، وكانت المعاينة لديه وسيلة هامة فى وزن الحقائق ، وكشف الظنون ، وجلاء الشكوك.

لقد زار ابن الخطيب المغرب لاول مرة سفيرا من لدن السلطان الغنى بالله ابن الأحمر ، الى سلطان المغرب عام ٧٥٥ ه‍  ـ  ١٣٥٤ م.

__________________

(١) راجع التحقيق الحديث لهذه الرحلة فى كتاب «مشاهدات ابن الخطيب فى بلاد الاندلس والمغرب» للدكتور أحمد مختار العبادى ، طبعة جامعة الاسكندرية ١٩٥٨ ، حيث تقع هذه الرحلة بين هذه المشاهدات ص : ٢٥  ـ  ٣٥.

٥٩

ثم رجع الى المغرب مرة أخرى ، ولكن منفيا مع سلطانه المخلوع المغنى بالله ابن الاحمر ، وذلك فى محرم ٧٦١  ـ  ١٣٥٩ م ، وفى هذه المرة مكث بالمغرب ثلاث سنوات تقريبا ، كما أشرنا الى ذلك فى موضعه ، وفى تلك الاثناء زار بعض المدن المغربية ، ودون بعض رحلاته يومئذ فى كتابه المعروف باسم «نفاضة الجراب وعلالة الاغتراب» ، الذي وضعه بالمغرب مع بعض الكتب الاخرى ، التى منها كتابنا «معيار الاختيار».

وأخيرا استقر ابن الخطيب بالمغرب حينما فر من الاندلس ، حيث شعر بما يدسه له خصومه عند السلطان الغنى بالله ، على نحو ما هو معروف من تاريخ مأساة هذا الوزير ، فوصل المغرب عام ٧٧٣ ه‍  ـ  ١٣٧١ م ، وبقى به حتى نكب وقتل عام ٧٧٦ ه‍  ـ  ١٣٧٥ م.

فهذه ثلاث زيارات قام بها المؤلف للمغرب ، سفيرا ، فمنفيا ، ففارا ناجيا بحياته أخيرا ، وتعتبر فترة النفى  ـ  من بين هذه الزيارات الثلاث  ـ  فترة البحث والدرس والتأليف عند ابن الخطيب ، فقد منح الرواتب وأقطع الاراضى ، واستقرت نفسيته الى حد سمح له بمواصلة تآليفه.

أما المرة الاولى فكان وقتها أضيق من أن يتسع للتجوال عبر المدن المغربية ، فهو حينئذ سفير منوط به أمر رسمى ، وذو قيود وحدود مرسومة.

وأما فى المرة الاخيرة حيث استقر نهائيا بالمغرب ، فنرجح أن ابن الخطيب لم يتجه كثيرا للبحث والتدوين ، فقد كانت الهزات السياسية بالمغرب تتناوشه ذات اليمين وذات الشمال ، بفضل مواصلة خصومه  ـ  بغرناطة  ـ  السعى فى القضاء عليه ، وعلى رأسهم سلطانه القديم «الغنى بالله» والذي تأثر الى أبعد حد بسعاية هؤلاء الخصوم ، ومع هذا فقد ألف ابن الخطيب ابان هذه الفترة كتابه «أعمال الاعلام ، فيمن بويع قبل الاحتلام ، من ملوك الاسلام» ، استجابة للظروف الجديدة التى أملت عليه اصدار هذا المؤلف.

٦٠