المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

أما في الدماء فلظهور ما دل على أن الإسلام يحقن به الدم من النصوص (١) في أن الحكم الإلزامي هو المنوط بالعنوان الوجودي ، وهو الاسلام ، وحينئذ فمقتضى استصحاب عدم الإسلام جواز الاهراق على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وأما هدر الدم في موارد الحدود ونحوها فهو غالبا ليس حكما ترخيصيا ، بل إلزامي ، لرجوعه غالبا إلى وجوب إهراقه ، فهو خارج عما نحن فيه.

مع أنه غالبا مجرى للأصل الموضوعي المقتضي لحرمة الإهراق ، فلا موضوع معه للأصل الذي أصّله.

وأما الأموال فلا إشكال في أن مقتضى الأصل عدم حلها وضعا الذي هو بمعنى تملكها وترتيب آثار الملك عليها ، لأن التملك وآثاره حوادث مسبوقة بالعدم ، فينفيها الاستصحاب في غير مورد اليقين ، ولا حاجة فيها للأصل الذي أصّله.

وأما إباحة التصرف الخارجي في مقابل المنع التكليفي فلم يتضح من الأدلة إناطتها بعنوان وجودي ، كالحيازة والإذن من المالك.

وأما الحديث الذي أشار إليه فهو خبر محمد بن زيد الطبري : «كتب رجل من تجار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسأله الإذن في الخمس ، فكتب إليه : «بسم الله الرحمن الرحيم ، إن الله واسع كريم ، ضمن على العمل الثواب ، وعلى الضيق الهمّ ، لا يحل مال إلا من وجه أحله الله ، إن الخمس عوننا على ديننا وعلى عيالنا ، وعلى أموالنا ، وما نبذله ونشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته ، فلا تزووه عنا ...» (٢).

وهو ظاهر في التحليل الوضعي المسئول عنه ، الذي عرفت أنه خلاف الأصل ، لا حل التصرف الخارجي في مقابل تحريمه تكليفا.

__________________

(١) راجع بعض هذه النصوص في الكافي ج ٢ ص : ٢٤ و ٢٥.

(٢) الوسائل ج : ٦ ، باب : ٣ من أبواب الأنفال وما يختص بالإمام من كتاب الخمس ، حديث : ٢.

٨١

مع أن العنوان المذكور فيه ليس موضوعا للحلية شرعا ، كي ينفع في ما نحن فيه ، بلحاظ كونه عنوانا وجوديا ، مخالفا للأصل ، بل هو منتزع من كون الشيء سببا للحلية ، فهو مسوق للحكاية عن الأسباب الشرعية بعناوينها الخاصة كالاذن من المالك والحيازة ونحوهما ، ولا دلالة فيه على كون جميع العناوين المحكية به وجودية ، لينفع في ما نحن فيه.

بل المرتكز أن جواز التصرف في المباحات الأصلية ليس لكونها واجدة لعنوان وجودي يقتضي التحليل ، بل لعدم وجود ما يمنع من التصرف فيها ، وهو يناسب كون حرمة التصرف هي المنوطة بالأمر الوجودي ، بل هو الظاهر من بعض النصوص الظاهرة في حقن الإسلام للمال.

نعم ، مال المسلم لا يحل إلا بطيب نفسه ، فلو فرض العلم بأن المال مملوك للمسلم ، ولم يحرز بالأصل أو غيره طيب نفسه ولا عدمه كان من صغريات الأصل الذي أصله.

فالانصاف : أن الأصل الذي ذكره لا ينفع في الثمرة المذكور بوجه معتد به ، بل هي لو تمت تبتني على أمر آخر.

هذا ، والذي يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه : أن عدم الرجوع للبراءة ليس لانقلاب الأصل فيها ، بل لأن الحل فيها منوط بالعنوان الوجودي كالزوجية التي هي مجرى لاستصحاب العدم الحاكم على أصل البراءة.

كما أن الأمر في الأموال يبتني على أن الحل فيها هو المحتاج إلى السبب فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل ، أو أن التحريم هو المحتاج إلى السبب ، فيكفي في نفيه إحراز عدمه بالأصل. وعلى الأول يكون الأصل في الأموال التحريم ، وعلى الثاني يكون الأصل فيها الحل.

وقد استدل على الأول بخبر محمد بن زيد الطبري المتقدم والاستقراء. وهو صريح في أن الحل والتحريم مقتضى الأصل الموضوعي الحاكم على

٨٢

أصالة البراءة.

ولا يخفى أن ما ذكره في الفروج وإن كان متينا إلا أنه إنما ينفع مع جريان استصحاب عدم الزوجية أو ملك اليمين ، أما مع عدمه ـ كما في تعاقب الحالتين والجهل بالتاريخ ـ فمقتضى أصالة البراءة جواز الاستمتاع وإن لم يحرز عنوان الزوجية أو ملك اليمين ، ومن البعيد جدا التزامه بذلك.

وكذا ما ذكره في الأموال ، فإنه لو تم في نفسه لا ينفع مع عدم جريان الأصل الموضوعي كما في مورد تعاقب الحالتين ، كما لو فرض العلم بسبق رضا المالك بالتصرف وعدم رضاه به مع الجهل بالتاريخ.

مع أنه إن اريد بتعليق الحل على السبب تعليقه على عنوان وجودي. فقد عرفت أن الخبر لا ينهض به. والاستقراء ـ مع أنه لا يصلح للاستدلال ـ غير تام ، لما أشرنا إليه من أن التصرف في المباحات الأصلية منوط ارتكازا بأمر عدمي ، وهو عدم استحقاق أحد للمال.

وإن اريد به تعليقه على السبب الأعم من الوجودي والعدمي. فهو ـ مع أنه ظاهر لا يحتاج إلى الاستدلال بالاستقراء أو الخبر ـ لا ينفع ، لأن الأصل قد لا يحرز نفيه ، بل قد يكون عدميا محرزا بالأصل.

وأما استصحاب عدم تحقق السبب بعنوان كونه سببا ، فلا مجال له ، لأن عنوان السبب من العناوين الانتزاعية المتأخرة رتبة عن جعل الحكم الشرعي على موضوعه ، وليس هو من العناوين التقييدية المأخوذة في موضوع الحكم ، ليكون مجرى للأصل الموضوعي.

والذي تحصل من جميع ما ذكرنا : أن ما في كلام شيخنا الأعظم قدّس سرّه وبعض الأعاظم قدّس سرّه لا ينهض بإثبات انقلاب الأصل في الدماء والفروج والأموال.

والظاهر أن الأصل يختلف في كل منها باختلاف الصور ولا بأس

٨٣

بالتعرض لما يناسب المقام ويساعده الوقت ، فنقول :

أما الدماء فالشك في جواز إهراقها ..

تارة : يكون للشك في احترام الدم ذاتا ، كما لو دار الأمر بين إسلام الشخص وكفره.

واخرى : يكون للشك في ما يوجب احترام الدم بعد هدره ذاتا ، كما لو شك في دخول الكافر في الذمة.

وثالثة : يكون للشك في طروء ما يوجب هدر الدم بعد احترامه ذاتا ، كما لو احتمل ارتداد المسلم ، أو زناه عن إحصان.

أما في الصورة الاولى فإن كان الكفر متيقنا سابقا كان استصحابه هدر الدم ولا إشكال في العمل بمقتضاه ، حتى على ما ذكره بعض الأعاظم قدّس سرّه ، أو على قاعدة المقتضي المتقدمة لها الإشارة آنفا.

وإلا فقد يدعى أن مقتضى الأصل هو احترام الدم ، لمثل صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : كل مولود يولد على الفطرة. يعني : المعرفة بأن الله عزّ وجل خالقه ...» (١) ، وصحيح فضل بن عثمان الأعور عن أبي عبد الله عليه السّلام أنه قال : «ما من مولود يولد إلا على الفطرة ، فأبواه اللذان يهودانه وينصرانه ويمجسانه ...» (٢) وغيرهما مما يظهر منه أن الكفر طارئ فالاصل عدمه.

ويشكل : بأنها لا تتضمن أصالة الإسلام ، لوضوح أن الإسلام كسائر الأديان يحتاج إلى تعليم ، بل المراد من الفطرة معرفة الله تعالى والتوحيد ، كما صرح به في غير واحد من النصوص (٣) ، ومنها صحيح زرارة السابق وهي لا تكفي في احترام الدم بلا إشكال ، بل حيث كان ظاهر بعض النصوص اعتبار

__________________

(١) الكافي ج : ٢ ص ١٣.

(٢) الوسائل ، ج ١١ ، باب : ٤٨ من أبواب جهاد العدو ح : ٣.

(٣) الكافي ج : ٢ ص ١٢.

٨٤

الإسلام في حقن الدم كان استصحاب عدم الاسلام ولو من حال الصغر أو العدم الازلي كافيا في إثبات هدر الدم.

اللهم إلا أن يدعى أن المستفاد مما تضمن وجوب عرض الاسلام قبل قتال الكفار هو أن هدر الدم لا يكون بمحض عدم الاسلام ، بل برفضه وعدم الدخول فيه بعد وصول حجته ، وهذا مما لا مجال لاستصحابه ، بل الأصل عدمه. وتمام الكلام في الفقه.

وكيف كان ، فإن استفيد من الأدلة توقف هدر الدم على الكفر أو رفض الاسلام ونحوهما من الامور الوجودية كان مقتضى أصالة عدمها هو الاحترام ، وإن استفيد منها توقف الاحترام وحقن الدم على الإسلام كان مقتضى أصالة عدم الإسلام عدم الاحترام وجواز إهراقه.

وإن فرض إجمال الأدلة كان مقتضى أصل البراءة جواز الاهراق أيضا.

إلا أن يفرض قيام الإجماع على وجوب الاحتياط مع احتمال الاسلام ، فيخصص به عموم دليل الاستصحاب أو أصل البراءة.

ومنه يظهر الحال في الصورة الثانية ، فإن استصحاب عدم دخول الشخص في الذمة يقتضي جواز قتله.

إلا أن يفرض الإجماع على وجوب الاحتياط حينئذ مراعاة لاحتمال الذمة ، وهو المناسب لما يعلم من اهتمام الشارع بحفظ الذمة.

وأما في الثالثة فاستصحاب عدم ما يوجب الهدر ، كالزنا ونحوه يقتضي الاحترام. نعم ، قد يحرز بالأصل موضوع الهدر ، كما لو فرض العلم بزنا شخص ، وكان مقتضى الاستصحاب إحصانه ، فاللازم العمل عليه حينئذ.

وأما الفروج فالأمر فيها ظاهر مع الشك في حدوث السبب المحلل المقتضي لاستصحاب عدمه ، كما تقدم ، من دون فرق بين الشك في حدوث زوجية امرأة والشك في كون امرأة خاصة هي الزوجة ، للشك في الثاني في

٨٥

حدوث زوجية المرأة الخاصة ، فيستصحب عدمه.

وأما مع تعاقب الحالتين في المرأة الواحدة فربما يدعى لزوم الاجتناب ، لا لما تقدم من بعض الأعاظم ، ولا القاعدة المقتضي المشار إليها آنفا ، بل للتمسك بعموم وجوب حفظ الفرج ، كما قد يظهر من بعضهم.

ويشكل : بأن العموم المذكور قد خصّص بالزوجة وملك اليمين ، فالتمسك به مع الشك فيها من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية الذي هو خلاف التحقيق ، خصوصا في المخصص المتصل.

فالظاهر أن وجوب الاحتياط في المقام للارتكازيات المتشرعية الكاشفة عن اهتمام الشارع الأقدس به بنحو لا يرضى بالإقدام من دون إحراز السبب المحلل ، ويكون هذا مخصصا لعموم أدلة أصل البراءة.

بل قد يقال : المستفاد من قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ...) وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة وملك اليمين ، وحفظه ليس عبارة عن مجرد عدم الاستمتاع واقعا ، بل هو عبارة عن المحافظة عليه والتوقي الراجع إلى الاحتياط فيه ، فالآية بنفسها ظاهرة في وجوب الاحتياط تخصيصا لأدلة البراءة ، ولا مخرج عنه إلا أن تحرز الزوجية بالاستصحاب أو غيره.

ونظير ذلك يقال في وجوب حفظ الفرج من النظر ، بناء على ما في بعض النصوص من أنه المراد بحفظ الفرج في قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) ... (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ)(١).

ومن ثمّ لا يبعد القول ـ بل قد قيل ـ بوجوب الاحتياط بالتستر على من لم يأمن الناظر وإن لم يعلم بوجوده ، وهذا بخلاف غض النظر عن الجسد المحرم ، فإنه لا يجب إلّا مع العلم به ، لعدم تضمن دليله الحفظ ونحوه مما يقتضي

__________________

(١) سورة النور : ٣٠ ـ ٣١.

٨٦

الاحتياط.

وربما يستفاد ذلك أيضا من بعض النصوص الخاصة الواردة في المقامين ، وإن كان محتاجا إلى مزيد فحص وتتبع.

وأما الأموال فإن شك في طروء الملك عليها في قبال احتمال عدم تملك أحد لها أصلا ، بأن بقيت على الإباحة الأصلية فلا ينبغي الإشكال في جواز التصرف فيها ، لاستصحاب عدم تملك أحد لها وعدم سبق أحد إليها ، ولو من باب العدم الأزلي.

بل قد يجوز لأجله تملكها بالحيازة الذي عرفت أنه خلاف الأصل ، فضلا عن التصرف الخارجي الذي هو مقتضى أصالة البراءة.

وإن علم بطروء الملك عليها وشك في جواز التصرف للشك في المالك ..

فتارة : يكون لدورانه بين الاذن في التصرف وغيره.

واخرى : يكون لدورانه بين الشخص الشاك والأجنبي.

وثالثة : يكون لدورانه بين محترم المال وغيره.

ورابعة : يكون للشك في احترام المالك مع تعيينه.

وخامسة : يكون للشك في إذن المالك مع تعيينه.

وهناك صور اخرى قد يعرف حكمها من الكلام في هذه الصور.

أما الصورة الاولى فالظاهر لزوم الرجوع فيها لاستصحاب عدم إذن مالك العين وعدم طيب نفسه ، المقتضي لحرمة التصرف فيها.

ودعوى : أن الاستصحاب المذكور من استصحاب الفرد المردد ، لدورانه بين من يعلم بتحقق الإذن منه ومن يعلم بعدم تحققها منه.

مدفوعة : بأن تردد الفرد لا يمنع من الاستصحاب إذا أمكنت الإشارة إليه بالعنوان الذي هو موضوع الأثر شرعا ، كالمالك في المقام ، لأنه بذلك يحرز

٨٧

موضوع الأثر بعنوانه المقتضي لترتب الأثر عليه ، وإنما يمنع منه مع امتناع الإشارة إليه بالعنوان المذكور ، على ما يذكر في محله. فتأمل.

وأما الصورة الثانية فإن جرى فيها استصحاب ملكية المكلف أو الغير فهو ، وإلا فقد يقال : إن المتيقن من الأدلة عدم جواز التصرف في ملك الغير ، وحينئذ فمقتضى استصحاب عدم تملك الغير ـ وإن كان أزليا ـ جواز التصرف فيه للمكلف وإن لم يحرز كونه ملكا له.

وأما احتمال توقف جواز التصرف على تملك المتصرف للعين ، بنحو يكفي أصالة عدم تملكه لها في حرمة التصرف ظاهرا فلم يثبت بنحو معتد به. ولا أقل من إجمال الموضوع الذي يمنع من جريان الاستصحاب ، فيرجع لأصالة البراءة.

وأما الاستدلال على الحرمة بصحيح جميل بن صالح ، قلت لأبي عبد الله عليه السّلام : «رجل وجد في منزله دينارا. قال : يدخل منزله أحد؟ قلت : نعم ، كثير. قال : هذا لقطة. قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال : يدخل أحد يده في صندوقه غيره ، أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا ، قال : فهو له» (١) ، لظهور صدره في احتمال كون الدينار له ، ومع ذلك لم يحكم فيه بالحل.

ففيه : أن الظاهر منه كون الجهة الملحوظة في السؤال والجواب هي الحل الوضعي الذي هو عبارة عن الملكية ، لترتيب آثارها ، وقد عرفت أنها خلاف الأصل ، لا الحل التكليفي الذي هو محل الكلام وهو المطابق للأصل.

مع أن الدينار مسبوق بملكية الغير ، فيحرم التصرف فيه بمقتضى استصحاب ملكية الغير له وعدم ملكية الواجد له ، فلا ينفع في محل الكلام ، وهو ما لم يجر فيه الاستصحاب المذكور.

ومنه يظهر الحال في الصورة الثالثة ، فإن مقتضى استصحاب عدم ملك

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٧ باب ٣ ، من أبواب اللقطة ، ح ١.

٨٨

المحترم له فيها جواز التصرف فيه ، بلا حاجة إلى إحراز كونه ملكا لغير المحترم ، ولا أقل من إجمال الموضوع المقتضي للرجوع للبراءة ، نظير ما تقدم.

كما أن الحال في الصورة الرابعة يظهر مما تقدم في الدماء ، لأنهما بملاك واحد.

وأما الصورة الخامسة فمقتضى أصالة عدم طيب نفس المالك وعدم إذنه حرمة التصرف فيها.

نعم ، قد يشكل جريان الأصل المذكور فيما لو علم بصدور الإذن منه وبصدور المنع منه ، وشك في المتأخر منهما ، لعدم جريان الأصل في مجهولي التاريخ إما ذاتا أو من جهة التعارض ، فيتعين الرجوع لأصالة البراءة من حرمة التصرف الخارجي ، وإن امتنع التصرف الاعتباري ، لأصالة عدم ترتب الأثر.

اللهم إلا أن يقال : إن المرتكزات العقلائية تقتضي اعتبار طيب نفس المالك في جواز التصرف في ماله ، والاكتفاء بالاذن إنما هو من حيث كاشفيته عنه ، وهو مقتضى الجمع العرفي بين ما دل على اعتبار كلا الأمرين. كما أن الاكتفاء بالاذن السابق إنما هو من جهة أصالة عدم عدول الإنسان عن رأيه الذي هو من الاصول العقلائية المعول عليها في المقام وغيره ، وحينئذ فمع تعاقب الحالتين لا مجال للأصل المذكور ، بل يجري استصحاب عدم وقوع التصرف عن طيب النفس المقتضي لتحريمه. فافهم.

أو يقال : إن بناء العقلاء في باب الحقوق على لزوم إحراز رضا صاحب الحق في التصرف في الحق والتجاوز عليه ، ولا يعتنى باحتمال رضاه وإن لم يحرز عدمه.

والظاهر أن البناء المذكور مطابق للمرتكزات المتشرعية ، فهو ممضى شرعا صالح لتخصيص عموم أدلة البراءة.

ولو غض النظر عن ذلك فالظاهر أن التصرف في المقام مما تأباه

٨٩

المرتكزات المتشرعية جدا ، وتكون هي المخصصة لأدلة البراءة. وبها يكون انقلاب الأصل في المقام.

هذا ما تيسر ذكره في المقام. فتأمل فيه جيدا. وبه سبحانه الاعتصام.

التنبيه الثاني : في قاعدة الاشتغال.

ما تقدم إنما هو مع الشك في ثبوت التكليف ، أما مع تنجز التكليف ـ بعلم تفصيلي أو إجمالي ـ والشك في الفراغ عنه للشك في امتثاله ، فلا خلاف ظاهرا في لزوم الاحتياط عقلا ، وكذا لو فرض تنجز التكليف بطريق معتبر أو أصل أو غيرهما مما يقتضي منجزية الاحتمال ، كما في موارد الشك في التكليف قبل الفحص.

وهو المراد بما اشتهر من أن (الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني) ، فلا يراد بالاشتغال اليقيني إلا تنجز التكليف بأحد الوجوه المتقدمة. كما أن المراد بالفراغ اليقيني مطلق إحراز الامتثال ولو كان بتعبد شرعي لا يوجب العلم.

ومن ثمّ كان التعبد الشرعي بثبوت التكليف أو الامتثال منقحا لموضوع القاعدة.

هذا ، ولا يبعد البناء على أن للشارع الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في موارد تنجز التكليف من دون تعبد بتحقق الامتثال ، وأن حكم العقل بلزوم الامتثال اليقيني إنما هو مع عدم اكتفاء الشارع بما دونه ، لا بنحو يمتنع الاكتفاء بما دونه شرعا ، لأن الدليل على القاعدة ليس إلّا الارتكازيات العقلية القطعية ، وهي مختصة بذلك. نظير ما ذكرناه آنفا من أن حكم الشارع بوجوب الاحتياط في مورد الشك مانع من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وإن لم يكن الحكم المذكور بيانا للتكليف الواقعي الذي هو موضوع العقاب.

وقد يشهد بما ذكرنا أنه حيث لا إشكال في سلطان الشارع على التعبد

٩٠

بالامتثال في موارد الاحتمال فليس الفرق بينه وبين الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي إلا بمحض الجعل والاعتبار من دون فرق حقيقي أصلا ، ومن البعيد جدا دخل الاعتبار في حكم العقل المذكور.

ودعوى : أن العقل يختص بمقام الامتثال ولا دخل للشارع فيه. إنما تسلم بالإضافة إلى أصل وجوب الامتثال ثبوتا ، لا بالإضافة إلى مقام الاثبات عند الشك فيه ، فكما يكون للشارع التعبد به مع الشك المذكور له الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي.

وبالجملة : لا ملزم يمنع اكتفاء الشارع بالامتثال الاحتمالي بنحو يتعين رد ظواهر الأدلة لو وردت به أو تأويلها.

ومن هنا فلا ضرورة للالتزام بأن القواعد الشرعية التي هي المرجع في مقام الامتثال ، كقاعدة الفراغ والقرعة ، من الطرق أو الاصول المتضمنة للتعبد بالامتثال شرعا ، بل لا مانع من الالتزام برجوع أدلتها إلى الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي في مواردها. إلا أن يفرض ظهور أدلتها في التعبد المذكور.

ثم إن الشك في الامتثال ..

تارة : يكون للشك في تحقق المكلف به مع وضوحه مفهوما ومصداقا ، كما لو شك المكلف في أنه هل صلى أو لا.

واخرى : يكون للشك في انطباق المكلف به على بعض الامور ، إما لتردده بين المتباينين بنحو الشبهة الحكمية ـ كالتردد بين الظهر والجمعة ـ أو الموضوعية ـ كتردد النجس بين الثوبين ـ أو لاحتمال توقف تحققه على خصوصية زائدة ، بحيث لا يتحقق بدونها.

أما الأول فهو أظهر موارد قاعدة الاشتغال.

وأما الثاني فما كان التردد فيه بين المتباينين يبتني الكلام فيه على منجزية العلم الإجمالي التي يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى في الفصل الثالث.

٩١

وأما ما احتمل اعتبار خصوصية فيه فهو ..

تارة : يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في المكلف به بحسب أصل التكليف ، كاحتمال اعتبار الاستغفار في الصلاة.

واخرى : يرجع إلى احتمال اعتبار الخصوصية في تحقق المكلف به خارجا ، من دون أن تكون معتبرة في المكلف به بنفسه.

أما الأول فالتحقيق الرجوع فيه للبراءة ، لرجوع الشك فيه إلى الشك في التكليف بالخصوصية ، على ما يأتي الكلام فيه في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

وأما الثاني فاللازم الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال ، لان المفروض تنجز التكليف وعدم الاجمال فيه ، وليس الشك الا في امتثاله ، الذي عرفت عدم الإشكال بينهم في لزوم تحصيل القطع به.

وربما يقع الكلام في تشخيص حال بعض الصغريات وأنها راجعة لهذا القسم أو للقسم الأول ـ أعني الشك في التكليف بالخصوصية ـ والمهم من ذلك موردان ..

الأول : أن يكون المكلف به مسببا توليديا لا يكون موردا لاختيار المكلف إلا بتوسط سببه ويحتمل اعتبار الخصوصية في سببه ، كالطهارة المسببة عن الوضوء الذي قد يحتمل اعتبار مرتبة من الموالاة فيه.

الثاني : أن يؤخذ في المكلف به عنوان زائد على ذاته ، ويحتمل توقف انطباق العنوان على ما في الخارج على الخصوصية المشكوكة.

أما الأول فهو المعبر عنه بالشك في المحصل. والمعروف فيه الرجوع لقاعدة الاشتغال ، لأن المسبب التوليدي قد انشغلت الذمة به بسبب ورود البيان بالتكليف به ، فلا مجال لإجراء البراءة منه ، كما لا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة في سببه ، لعدم احتمال التكليف بها لنفسها ، وإنما يؤتى

٩٢

بها لإحراز الفراغ عن المسبب الذي احرز التكليف وانشغال الذمة به.

ودعوى : أنه لا مجال للتكليف بالمسبب لعدم تعلق القدرة به ، فلا بد من صرف القدرة لما هو المقدور ، وهو السبب ، وحينئذ فاحتمال دخل شيء في السبب راجع إلى احتمال اعتبار خصوصية في المكلف به ، وفي مثله يكون المرجع البراءة ، بناء على ما هو الحق في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

مدفوعة .. أولا : بأن المسبب وإن لم يكن موردا للقدرة بالمباشرة ، إلا أن تعلق القدرة به بتوسط سببه كاف عقلا في صحة التكليف به شرعا ، فتنشغل الذمة به ويجب إحراز الفراغ عنه.

وثانيا : بأن رجوع التكليف للسبب ليس بنحو يكون بذاته موردا للتكليف ، ليكون تردده بين الأقل والأكثر راجعا إلى الشك في التكليف بالخصوصية الزائدة فيرجع فيها للبراءة ـ كما أشرنا اليها في القسم الأول ـ بل هو راجع إلى التكليف به بعنوان كونه سببا ، فلا بد من إحراز العنوان المذكور في مقام الامتثال على ما يأتي في المورد الثاني.

نعم ، لو كان الشك في اعتبار الخصوصية في السبب ناشئا من الشك في كمية المسبب المكلف به فإن المرجع حينئذ هو البراءة من التكليف بالزيادة فيه ، وذلك يقتضي الاكتفاء بالمسبب الفاقد للخصوصية المحتملة.

وأما الثاني فظاهر جماعة الرجوع فيه لقاعدة الاشتغال أيضا ، منهم شيخنا الأعظم قدّس سرّه ، فيلزم مراعاة الخصوصية المحتملة ليحرز تحقق العنوان الذي اخذ في المكلف به.

وظاهر المحقق الخراساني وسيدنا الأعظم (قدس سرهما) في مبحث الصحيح والأعم الرجوع فيه للبراءة.

وحاصل ما يقال في وجهه : أن العنوان المكلف به إذا كان متحدا مع فعل المكلف بحيث يصح حمله عليه ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء المتحد مع

٩٣

الأفعال الصلاتية ـ يكون حاكيا عنه ، فتردد الفعل بين واجد الخصوصية وفاقدها موجب لإجمال العنوان الحاكي عنه من هذه الجهة ، فلا يصلح للبيان إلا بالإضافة إلى المتيقن ، دون الخصوصية المحتملة ، ومرجع الشك حينئذ إلى الشك في التكليف بالخصوصية ، فيكون من صغريات مسألة الدوران بين الأقل والأكثر التي عرفت الرجوع فيها للبراءة.

نعم ، إذا كان العنوان المكلف به لا يحكي عن فعل المكلف بنفسه ، بل عن أثره المسبب عنه ـ كما في الشك في المحصل ـ لم يكن احتمال دخل الخصوصية موجبا لاجمال المكلف به ، بل يجب الفراغ عنه ، كما تقدم.

والذي ينبغي أن يقال : العنوان المنطبق على فعل المكلف الحاكي عنه ..

تارة : يحكي عنه بنفسه.

واخرى : يحكي عن جهة خاصة قائمة به زائدة عليه ، منتزعة من ترتب شيء عليه ، كما في العناوين التسبيبية ـ كالناهي عن الفحشاء ، والمطهر ، والدواء ، والمحرق ـ أو من نحو إضافة خاصة بينه وبين غيره ـ كالأكبر ، والمماثل ، والأصغر ـ أو غير ذلك.

أما الأول فاحتمال اعتبار الخصوصية في فعل المكلف مستلزم لإجماله ، لتردد ما يحكي عنه العنوان المكلف به بين واجد الخصوصية والأعم منه ، فلا يصلح العنوان للبيان بالإضافة إلى الخصوصية المحتملة ، ويتجه حينئذ الرجوع في الخصوصية إلى البراءة ، بناء على أنها المرجع في الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

وأما الثاني فاحتمال اعتبار الخصوصية في تحققه لا يوجب إجماله ، لأن العنوان متقوم بجهة انتزاعه وحاك عنها ، ولا يلزم من احتمال اعتبار الخصوصية إجمال تلك الجهة المحكية بالعنوان ، بل قد تكون واضحة جلية مفهوما ، فيصلح العنوان المأخوذ في الدليل للحكاية عنها وبيان التكليف بها ، الموجب لانشغال

٩٤

الذمة بها ، فيجب إحراز الفراغ عنها حينئذ بالمحافظة على كل ما يحتمل دخله في تحققها.

ولا مجال للرجوع للبراءة من الخصوصية المحتملة ، لأن عدم وجوبها بنفسها من حيث هي لا ينافي لزوم الإتيان بها لإحراز الفراغ عن العنوان الذي انشغلت الذمة به تبعا لقيام الدليل عليه.

إن قلت : هذا القسم من العنوان كما يحكي عن منشأ انتزاعه يحكي عن الذات المعنونة به ، وهي في المقام فعل المكلف بنفسه ، فاذا فرض تردد الفعل الواجب بين واجد الخصوصية وفاقدها لزم إجمال العنوان الحاكي عنه ، كما في القسم الأول.

قلت : حكاية هذا القسم من العنوان عن الذات بنحو الإبهام المطلق ، بحيث لا يكون للزيادة والنقيصة دخل في مفهوم العنوان ، وإنما يحكى عنها من حيثية منشأ انتزاع العنوان لا غير ، فلا يلزم من الشك في اعتبار الخصوصية إجمال العنوان المكلف به ، بل هو على ظهوره صالح لتنجيز الذات الواجدة لمنشا انتزاع العنوان على إبهامها ، فيلزم إحرازها في مقام الامتثال بالمحافظة على تمام ما يحتمل اعتباره في تحقق منشأ انتزاع العنوان.

نعم ، لو فرض أن أخذ العنوان في التكليف ليس لكونه بمنشإ انتزاعه موضوعا له ، بل لمحض حكايته عن الأفعال الخارجية بأنفسها كان الشك في اعتبار الخصوصية موجبا لإجمال المكلف به ، الموجب للرجوع لأصالة البراءة. لكنه خروج عن الفرض.

ومن هنا ذكر شيخنا الأعظم قدّس سرّه أن الموضوع له في الحقائق الشرعية ـ كالصلاة والحج وغيرهما ـ إن كان هو الأجزاء والشرائط بشخصها اتجه الرجوع مع الشك في اعتبار الخصوصية إلى البراءة ، وإن كان هو العنوان البسيط المنتزع منها ـ كعنوان الناهي عن الفحشاء ـ لزم الرجوع في ذلك إلى الاشتغال.

٩٥

وكأن المراد ببساطته ما أشرنا إليه من عدم حكايته عن الفعل إلا بنحو الإبهام لا تغير فيه الزيادة والنقيصة والكثرة والقلة. فلاحظ.

تذنيب

حيث عرفت المعيار في الرجوع لقاعدتي البراءة والاشتغال فينبغي الكلام تبعا لغير واحد من الأعاظم في الفرع المشهور ، وهو من عليه فوائت لا يحصى عددها ، فقد حكي عن غير واحد وجوب الاحتياط حتى يعلم أو يظن بالفراغ ، ونسب إلى المشهور ، قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «بل المقطوع به من المفيد إلى الشهيد الثاني أنه لو لم يعلم كمية ما فات قضى حتى يظن الفراغ منها ، وظاهر ذلك ـ خصوصا بملاحظة ما يظهر من استدلال بعضهم من كون الاكتفاء بالظن رخصة وأن القاعدة تقتضي وجوب العلم بالفراغ ـ كون الحكم على القاعدة».

ومما ذكره يظهر أنه لا مجال لدعوى : أن الأصل في الحكم صحيح مرازم : «سأل اسماعيل بن جابر أبا عبد الله عليه السّلام فقال : أصلحك الله إن علي نوافل كثيرة فكيف أصنع؟ فقال : اقضها ، فقال : إنها أكثر من ذلك. فقال : اقضها. [قال : خ. ل] قلت : لا احصيها ، قال : توخ» (١).

إذ لو تم ذلك اقتضى وجوب تحصيل الظن ابتداء ، لا الترخيص في الاكتفاء به مع كون مقتضى القاعدة لزوم العلم.

مضافا إلى وهن الاستدلال في نفسه بأن الصحيح المذكور وارد في النافلة ، ولا مجال للتعدي منها للفريضة ، ولا سيما مع كون الأمر المذكور استحبابيا فالتعدي منه للمقام لا يجدي إلا بدعوى : أن المستفاد منه أن الوجه المذكور لازم لمشروعية القضاء تابع له ، فيجب بوجوبه ويستحب باستحبابه ،

__________________

(١) الوسائل ج : ٣ ، باب : ١٩ ، من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، حديث : ١.

٩٦

وهو تحكّم لا شاهد له ، خصوصا مع الفرق بين الواجب والمستحب بجريان البراءة من الأول دون الثاني.

بل لا يبعد أيضا عدم جريان قاعدة الشك بعد خروج الوقت في الثاني لمن لم يبن على الامتثال ولم يتعود عليه. فتأمل.

ومما ذكرنا يظهر وهن الاستدلال بالأولوية في الفرائض ، فإنها إنما تقتضي الاستحباب لا الوجوب ، بل هو فيها يبتني على ما ذكرنا.

وأما الاستدلال لوجوب تحصيل الظن في الفريضة بصحيح إسماعيل بن جابر ، عن أبي عبد الله عليه السّلام ، سألته عن الصلاة تجتمع علي؟ قال : «تحرّ واقضها» (١).

فلا مجال له ، إذ لا يبعد حمله على النافلة بقرينة ما في صحيح مرازم المتقدم ، لقرب حكايتهما عن واقعة واحدة ، ولبعد تجمع الفرائض ، لعدم معروفية ترك الصلاة في تلك العصور ، خصوصا من مثل إسماعيل بن جابر ، ولا سيما مع إشعار السؤال بتكرر ذلك أو توقعه من دون استنكار ، كما أشار لبعض ذلك في الجواهر.

مع أنه لو عم الفرائض لم ينفع ، لمعلومية امتناع حمله على الوجوب مع عمومه للنوافل ، والتفكيك في الأمر الواحد في الوجوب والاستحباب ممتنع.

فالاستدلال به موقوف على أن يستفاد منه أن الوجه المذكور لازم لمشروعية القضاء ، تابع له في الوجوب والاستحباب.

أو حمله على خصوص الفرائض ، فيتمسك فيه بظهور الأمر في الوجوب.

وقد عرفت أن الأول تحكّم لا شاهد له.

كما أن الثاني بعيد جدا ، خصوصا في مورد الرواية ، لما تقدم.

__________________

(١) الوسائل ج : ٣ ، باب : ١٩ من أبواب اعداد الفرائض ونوافلها ، حديث : ٢.

٩٧

وكيف كان ، فقد يوجه اقتضاء القاعدة لزوم اليقين بالفراغ بالاحتياط بوجوه ..

الأول : أن ذلك مقتضى قاعدة الاشتغال بالفوائت الواقعية المعلومة إجمالا ، فإنه يجب الفراغ عنها بعد العلم بتعلق التكليف بها.

وفيه : أن التكليف بقضاء الفوائت انحلالي بقدرها ، فلكل فائتة تكليفها المستقل المتعلق بها ، فالشك في فوت كل فريضة مساوق للشك في وجوب قضائها ، كما هو الحال في سائر الشبهات الموضوعية التي تقدم جريان البراءة فيها.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «كما لو شك في مقدار الدين الذي يجب قضاؤه ، أو في أن الفائت منه صلاة العصر فقط أو هي مع الظهر ، وكذا فيما لو تردد فيما فات عن أبويه أو في ما تحمله بالإجارة بين الأقل والأكثر».

الثاني : أنه مقتضى قاعدة الاشتغال في كل فريضة بنفسها ، للعلم بالاشتغال بها في الوقت ، والشك في الخروج عن عهدة التكليف المذكور بالأداء ، فيجب إحراز الفراغ عنها.

ودعوى : أن التكليف المتيقن ثبوته في الوقت هو التكليف بالأداء المقيّد بالوقت ، ومن المعلوم سقوطه بالامتثال أو بخروج الوقت ، وإنما المحتمل حدوث التكليف بالقضاء بعد ذلك ، والمرجع فيه البراءة لا الاشتغال.

مدفوعة : بأن ظاهر الأمر بالأداء وإن كان هو كون الوقت قيدا في المكلف به ، فيتعذر ويسقط بخروجه ، ومن ثمّ احتاج إيجاب القضاء إلى أمر جديد ، إلا أنه لا بد من رفع اليد عن الظهور المذكور بعد ورود الأمر بالقضاء ، لأنه كاشف عن كون الوقت مأخوذا بنحو تعدد المطلوب ، لا في أصله ، كما هو الحال في سائر القيود التي تسقط بالتعذر ، فالأمر بالقضاء بعد الأمر بالأداء كاشف عن أن المورد كالأمر بالدين والأمر بتعجيله ، وليس القضاء عرفا أجنبيا عن الأداء مترتبا

٩٨

على تركه ، كالأمر بالكفارة المترتب على عصيان بعض التكاليف ، كما أوضحناه في مبحث الواجب الموقت.

وحينئذ ففي المقام تكليفان الأول التكليف بأصل الفريضة ، والآخر التكليف بأدائه في الوقت ، والذي علم بسقوطه بخروج الوقت هو الثاني ، أما الأول فهو مما يحتمل بقاؤه ويشك في امتثاله ، والمرجع فيه قاعدة الاشتغال.

مع أنه لو فرض كون القضاء مباينا للاداء فمقتضى أصالة عدم الاتيان بالواجب في وقته هو وجوب القضاء ، بناء على ما هو غير بعيد من أن موضوعه مجرد عدم الإتيان الذي هو مقتضى الأصل ، لا الفوت الذي هو أمر وجودي على خلاف الأصل.

نعم ، لو كان الشك في مقدار الفائت مسببا عن الشك في أصل وجوبه في الوقت ، كما لو شك في تقدم البلوغ وتأخره ، أو في استمرار الحيض مثلا اتجه الرجوع لأصالة البراءة بل للاستصحاب الموضوعي المقتضي لها. إلا أن الظاهر خروجه عن محل الكلام.

وفيه : أنه لا بد من رفع اليد عن ذلك بما تضمّن من النصوص عدم الاعتناء بالشك بعد خروج الوقت ، ولو لا ذلك لزم بمقتضى الوجه المتقدم القضاء مع الشك في فوت فريضة واحدة. بل مقتضى أصالة عدم الإتيان لزوم الاحتياط في المحتمل في قضاء الولي عن الميت.

وما في الجواهر من ظهور النصوص المذكورة في الشك في أصل الفوت ، دون المقام مما علم فيه بالفوت وشك في مقدار الفائت.

ممنوع جدا ، إذ لا منشأ معتد به للظهور المذكور ، فإن كل فريضة بنفسها يشك في أصل فوتها.

نعم ، لو فرض كون الشك في كل فريضة حادثا في الوقت ومستمرا إلى ما بعده اتجه وجوب القضاء لقصور النص المذكور حينئذ ، بل التصريح فيه

٩٩

بوجوب الصلاة بالشك قبل خروج الوقت وتحقق الحائل. لكن هذا لا يتوقف على العلم بتحقق الفوت في الجملة ، بل يجري حتى مع الشك في أصل الفوت ، وهو خارج عن محل الكلام ، كما لا يخفى.

ثم إنه لا يبعد الخروج بالنص المذكور عن الوجه الأول لو فرض تماميته في نفسه ، لأن التعبد بالفراغ رافع لموضوع قاعدة الاشتغال بالإضافة إلى المقدار المشكوك. فتأمل.

الثالث : ما عن بعض المحققين قدّس سرّه في حاشيته على المعالم من أن أدلة البراءة لما كانت مغياة بحصول العلم ، وكان الغالب تحقق العلم بالفوت في وقته ، وإنما يشك فيه لو فرض وقوعه لنسيانه بعد العلم به ، امتنع الرجوع لأدلة البراءة فيه ، لاحتمال تحقق الفوت واقعا وحصول العلم به في حينه ، فيكون التمسك بعموم الأدلة فيه من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.

وكذا الحال في قاعدة الشك بعد خروج الوقت ، فانها أيضا من الاصول العملية المضروبة في حال الشك ، فلا تجري مع العلم.

وأما البراءة العقلية فلأنه مع سبق العلم لا يكون العقاب بلا بيان ، وحينئذ فلا بد من الاحتياط ، لعدم المؤمّن.

نعم ، لو فرض اليقين بعدم سبق العلم بالفوت لو فرض تحققه اتجه الرجوع حينئذ للبراءة العقلية والشرعية وقاعدة الشك بعد خروج الوقت ، للعلم بشمول أدلتها وتحقق موضوعاتها.

وفيه : ـ كما ذكره غير واحد ـ أن العلم لا يصلح لتنجيز متعلقه إلا مع بقائه ، أما مع فرض ارتفاعه بالنسيان فلا يصلح للتنجيز حتى يكون بيانا رافعا لموضوع البراءة العقلية.

كما أنه لا يراد بمانعية العلم من التمسك بالقواعد الظاهرية ـ كقاعدتي البراءة والشك بعد خروج الوقت ـ إلا مانعيته في ظرف بقائه ، لا مطلقا ، ولذا

١٠٠