المحكم في أصول الفقه - ج ٤

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم

المحكم في أصول الفقه - ج ٤

المؤلف:

السيّد محمّد سعيد الطباطبائي الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
المطبعة: جاويد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٦٩

على عدم إرادة ظاهرها. إلا أن يفرض تعذر ذلك عليه ، للزوم محذور منه. لكنه في المقام بعيد جدا.

على أن الظاهر في المقام تقديم أدلة الاحتياط لأنها أخص ، إذ لو فرض تقديم الاستصحاب لم يبق لها مورد إلا مع تعارض الاستصحابين ، وهو إنما يكون مع العلم الإجمالي بالتكليف الإلزامي ، الذي يجب معه الاحتياط بحكم العقل ، ولا أثر للأدلة المذكورة ، بخلاف ما لو فرض تقديم أدلة الاحتياط ، فإنه يمكن الرجوع للاستصحابات الموضوعية الحاكمة ، ولاستصحاب التكليف ونحوها.

الرابع : أن الاستصحاب المذكور موجب للغوية أدلة البراءة الشرعية المتقدمة ، لجريانه في غالب مواردها أو كلها ، فيكون حاكما عليها مغنيا عنها.

ويندفع .. أولا : بأنه لو سلم عدم عموم أدلة البراءة ـ ولو من حيث شمولها للغافلة أو الجهل المركب ـ فقد يجمع بينها وبين أدلة الاستصحاب بحملها على مجرد ثبوت السعة مع الشك ولو من جهة الحالة السابقة ، لا لمحض الشك ، لتنافي الاستصحاب. ولعل هذا هو مراد بعض مشايخنا في المقام.

وثانيا : بأنه قد يكون الغرض من أدلة البراءة بيان صلوح الشك لإثبات السعة مع قطع النظر عن الحالة السابقة ، وإن كانت الحالة السابقة أيضا صالحة لذلك. ويكون التنبيه على ذلك لأنه أيسر وأقرب للذهن ، نظير ما ذكرناه في موثقة مسعدة بن صدقة في وجه التنبيه على الأصل المحكوم وإغفال الأصل الحاكم. فلاحظ.

وبالجملة : لا مخرج عن عموم أدلة الاستصحاب في المقام ، فلا بأس بالرجوع إليه.

ثم إنه قد يتمسك في المقام باستصحاب عدم جعل التكليف في عالم التشريع ، لأن الجعل المذكور أمر حادث مسبوق بالعدم بلحاظ حال ما قبل

٦١

التشريع.

ويندفع : بأن العمل إنما يترتب على التكليف المجعول لا على نفس الجعل ، فالاستصحاب المذكور مثبت. بل لعل عنوان الجعل عنوان انتزاعي ، فلا يكون موضوعا للآثار.

ولو اريد استصحاب عدم التكليف المجعول بنحو القضية الحقيقية الكلية ، وهو العدم المتيقن قبل التشريع أيضا ، اشكل : بأن الأثر إنما يترتب على التكليف الفعلي ، لا الإنشائي الذي هو مفاد القضية الحقيقية ، فلا بد من استصحاب عدمه ، كما تقدم منا تقريبه ، وتمام الكلام في ذلك في مبحث الاستصحاب التعليقي واستصحاب عدم النسخ.

هذا ، وقد يقرب الاستصحاب بوجوه أخر ظاهرة الوهن ، لا مجال لإطالة الكلام فيها.

هذا ، تمام الكلام في أدلة القول بالبراءة والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق والتسديد.

وحيث انتهى الكلام هنا فينبغي الكلام في أدلة الاحتياط.

وقد يستدل بالأدلة الثلاثة ، وهي : الكتاب ، والسنة ، والعقل.

أما الكتاب ، فقد استدل منه بآيات كثيرة ، لعل عمدتها ما تضمن النهي عن القول بغير علم ، وما تضمن الأمر بالتقوى.

وتقريب الاستدلال بالاولى أن الحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة قول عليه بغير علم وافتراء لم يؤذن فيه.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «ولا يرد ذلك على أهل الاحتياط ، لأنهم لا يحكمون بالحرمة ، وإنما يتركون لاحتمال الحرمة ، وهذا بخلاف الارتكاب ، فإنه لا يكون إلّا بعد الحكم بالرخصة والعمل على الاباحة».

أقول : الترك لاحتمال الحرمة إن كان لحكم العقل فهو ـ مع ابتنائه على ما

٦٢

يأتي الكلام فيه ، وخروجه عن فرض الاستدلال بالكتاب ـ قد يجري مثله من القائلين بالبراءة ، إذ يمكن استنادهم لحكم العقل من دون نسبة القول به للشارع ، ليلزم القول عليه من غير علم.

وإن كان لدعوى حكم الشارع به ـ كما هو ظاهر أكثر استدلالاتهم ـ فهو يتضمن نسبة الحكم به للشارع ، فلا بد من الاستناد فيه للعلم ، كالقول بالبراءة الشرعية.

مع أن القائل بالبراءة قد سبق منه الاستدلال بأدلة علمية شرعية أو عقلية ، فلا يكون قوله بها قولا بغير علم.

وتقريب الاستدلال بالثانية : أن الاحتياط في الشبهة مقتضى التقوى لله تعالى.

وفيه : أن التقوى عبارة عن التحرز والتوقي عن عقابه تعالى ، فيختص بالشبهة التي يحتمل معها العقاب ، والقائل بالبراءة مع الشك في التكليف يدعي الأمن منه ، لأدلة عقلية وشرعية ، فلا موضوع معه للتقوى.

هذا ، مع النقض في الاستدلال بكلتا الطائفتين بما هو المتسالم عليه من عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الموضوعية ، وما هو المشهور بين الأخباريين أنفسهم من عدم وجوبه في الشبهة الوجوبية الحكمية ، فإنه لا مجال لالتزام تخصيص أدلة البراءة فيهما للأدلة المتقدمة ، لابائها عن التخصيص جدا ، فلا بد من التزام ورودها عليها ، وكونها رافعة لموضوعها ، ومثله يجري في الشبهة التحريمية الحكمية ، كما لا يخفى.

وهناك بعض الآيات الأخر بألسنة أخر قد يستدل بها في المقام بوجه ظاهر الوهن ، خصوصا بعد ما عرفت.

وأما السنة ، فقد يستدل منها بطوائف ..

الاولى : ما تضمن النهي عن القول والعمل بغير علم.

٦٣

ويظهر الجواب عنها مما تقدم في الطائفة الاولى من الآيات.

الثانية : ما تضمن النهي عن الأخذ بالشبهة والتورط فيها ، والأمر بالتوقف والكف عنها ، وهي كثيرة بألسنة مختلفة لا مجال لاستقصائها ، تعرض شيخنا الأعظم قدّس سرّه لجملة منها ، وذكر كثيرا منها في الباب الثاني عشر من أبواب صفات القاضي من الوسائل. فراجع.

قال شيخنا الأعظم قدّس سرّه : «وظاهر التوقف المطلق السكون وعدم المضي ، فيكون كناية عن عدم الحركة بارتكاب الفعل ، وهو محصل قوله عليه السّلام : في بعض تلك الأخبار : «الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» فلا يرد على الاستدلال أن التوقف في الحكم الواقعي مسلم عند كلا الفريقين ، والإفتاء بالحكم الظاهري منعا أو ترخيصا مشترك كذلك ، والتوقف في العمل لا معنى له».

ويشكل الاستدلال المذكور : بأن ظاهر كثير من النصوص بعد التأمل فيها أن المراد بالشبهة ليس مجرد احتمال التكليف الواقعي من دون حجة عليه ، لينفع في ما نحن فيه ، بل أحد أمرين ..

الأول : ما قد يعتمد عليه ويؤخذ به مما ليس بحجة ، كالقياس والاستحسان ، كما هو الظاهر مما عن رسالة المحكم والمتشابه عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل : «فاعلم أنا لما رأينا من قال بالرأي والقياس قد استعملوا الشبهات لما عجزوا من عرفان إصابة الحكم ...» (١) ، ومرسل البرقي ، قال أبو جعفر عليه السّلام : «لا تتخذوا من دون الله وليجة فلا تكونوا مؤمنين ، فإن كل سبب ، ونسب ، وقرابة ، ووليجة ، وبدعة وشبهة باطل مضمحل ، إلا ما أثبته

__________________

(١) الوسائل ج : ١٨ ، باب : ٦ من أبواب صفات القاضي حديث : ٣٨.

٦٤

القرآن» (١) ، ومقبولة عمر بن حنظلة عن أبي عبد الله عليه السّلام ، قال : «قال رسول الله صلّى الله عليه وآله : حلال بيّن ، وحرام بيّن ، وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات ...» (٢) ، وخبر سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام ، قال : «قال جدي رسول الله صلّى الله عليه وآله : أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة ، وحرامي حرام إلى يوم القيامة. ألا وقد بينهما الله عزّ وجل في الكتاب ، وبينتهما لكم في سنتي وسيرتي ، وبينهما شبهات من الشيطان وبدع من بعدي ، من تركها صلح له أمر دينه وصلحت له مروته وعرضه ، ومن تلبس بها [و] وقع فيها واتبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى ...» (٣) ، وما عن تفسير العياشي عن الرضا عليه السّلام : «ان هؤلاء قوم سنح لهم الشيطان اغترهم بالشبهة ولبس عليهم أمر دينهم ..» (٤). وما عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السّلام ، في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ ...) قال : «هؤلاء أهل البدع والشبهات والشهوات ...» وقريب منه خبره الآخر (٥) ، فان الظاهر من أهل الشبهات من يعرفون بالعمل بها وترويجها ، كالبدع ، وكأنه إلى هذا المعنى يشير ما عن أمير المؤمنين عليه السّلام : «وإنما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق ، فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين ، ودليلهم سمت الهدى ، وأما أعداء الله فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى» (٦).

الثاني : مجرد عدم تشخيص الوظيفة الفعلية ولو كانت ظاهرية ، في مقابل

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٦.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٩.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٤٧.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٤٩.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٥٢ و ٥٣. ٥٣.

(٦) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٢٠.

٦٥

كون الإنسان على بصيرة من أمره ، نظير ما عن أبي عبد الله عليه السّلام : «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعدا» (١).

ويستفاد هذا المعنى من مقابلة الشبهة بالبينة في مرسل موسى بن بكر : «فإن كنت على بينة من ربك ، ويقين من أمرك ، وتبيان من شأنك فشأنك ، وإلا فلا ترو من أمرا أنت منه في شك وشبهة» (٢) ، ومقابلتها بالحجة في كتاب أمير المؤمنين عليه السّلام للأشتر : «اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ... أوقفهم في الشبهات ، واخذهم بالحجج ...» (٣).

هذا ، ولا يخفى التناسب بين المعنيين ، وعلى أحدهما يمكن حمل بقية نصوص المقام ، بجعل الشبهة فيها كناية عن عدم البصيرة في الأمر في مقابل البينة التي يكفي فيها تشخيص الوظيفة الفعلية الظاهرية.

وإرادة خصوص الجهل بالحكم الواقعي من الشبهة اصطلاح متأخر للاصوليين من أصحابنا لا ملزم بحمل النصوص المذكورة عليه.

ومجرد مقابلتها في مثل حديث التثليث بالحلال البين والحرام البين ، لا يقتضيه ، لقرب حملهما على ما يعم تبين الوظيفة الظاهرية ، ليطابق النصوص الكثيرة المتقدمة ويناسبها.

ويشهد بما ذكرنا ـ مضافا إلى ذلك ـ أمران :

الأول : أن المنسبق من النصوص المستدل بها هو التنبيه إلى أمر ارتكازي إرشادي ، ومن الظاهر أن الامر الارتكازي هو الوقوف عند الشبهة بالمعنى الذي ذكرناه ، لا بالمعنى الذي يريده المستدل ، بل هو أمر تعبدي شرعي بعيد عن مفاد النصوص جدا.

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٨ باب : ٤ من أبواب صفات القاضي حديث : ١١.

(٢) الوسائل ، ج ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ١.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي حديث : ١٨.

٦٦

ثم إنه لأجل ذلك يكون عموم النهي عن ارتكاب الشبهة آبيا عن التخصيص بالاضافة إلى الشبهات الموضوعية التي لا خلاف في الرجوع فيها للبراءة ، والوجوبية الحكمية التي اشتهر بين الاخباريين فيها ذلك. وحينئذ يتعين التزام ورود أدلة البراءة عليها وكونها رافعة لموضوعها ـ نظير ما تقدم في الاستدلال بالكتاب ـ وهو موقوف على حملها على ما ذكرناه من المعنى.

نعم ، قد يدعى قصور العموم المذكور عن شمول الشبهة الوجوبية ، إما لما سبق من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن ظاهر الوقوف السكون المطلق وعدم المضي ، فإن الاحتياط بذلك إنما يناسب الشبهة التحريمية لا الوجوبية ، أو لما تضمنه بعض النصوص ـ كحديث التثليث ـ من أن الاقتحام في معرض الوقوع في الحرام الواقعي.

اللهم إلا أن تعمها لعموم التعليل الارتكازي في النصوص بلزوم الهلكة ، فلا بد أن يراد من الوقوف في الشبهة عدم الاقتحام في احتمال المخالفة الواقعية معها ، وإن كان ذلك يختلف باختلاف نوعي الشبهة ، ففي الشبهة التحريمية بالفعل ، وفي الشبهة الوجوبية بالترك. فتأمل.

الثاني : أن ظاهر كثير من نصوص المقام المفروغية عن منجزية الشبهة ، لا الحكم بمنجزيتها تعبدا وتأسيسا ، فإن الظاهر من مثل قولهم عليهم السّلام في غير واحد من النصوص : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» ، وقولهم عليهم السّلام : «من أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» المفروغية عن ترتب الهلكة على تقدير الوقوع في الحرام الواقعي ، وأن النهي وارد للارشاد إلى ذلك ، لبيان أن تحمل كلفة الاحتياط أهون من الوقوع في الهلكة المحتملة ، لا لبيان ترتب الهلكة ، تأسيسا ، ليقتضي منجزية الشبهة تعبدا ، نظير بيان ترتب العقاب على بعض الامور لبيان حرمتها تعبدا.

نعم ، لو قيل : الأخذ بالشبهة موجب للهلكة كان مسوقا لبيان ذلك ، لا

٦٧

المفروغية عنه.

فالمقام نظير قول القائل في مقام الأمر بالحمية : ترك الأكل أهون من علاج المرض ، فإنه ظاهر في المفروغية عن كون الأكل معرضا للمرض ، ولبس كقولنا : الأكل يوجب المرض ، في كونه مسوقا لبيان ذلك.

وحينئذ فحيث لا مفروغية عن منجزية الشبهة بالمعنى الذي يريده المستدل ، لما هو المعلوم المتفق عليه ظاهرا من أن مقتضى الأصل العقلي عدم منجزية الشبهة بالمعنى المذكور ، فلا مجال لحمل النصوص عليه ، بل على المعنى الذي ذكرناه ، الذي هو مفروغ عن تنجز التكليف معه.

ولأجل ما ذكرنا فلو فرض حمل الشبهة في النصوص المذكورة على المعنى الذي يريده المستدل تعين اختصاصها بما ثبت من الخارج تنجز التكليف معه ، ولم تنهض هذه النصوص بإثبات منجزيتها مطلقا ، إذ ليست مسوقة لبيان المنجزية تعبدا ، بل للإرشاد للتوقف عن الشبهة المفروض منجزيتها ، والتعرض للهلكة بالإقدام عليها.

ونظير ذلك ما تقدم من المثال ، فانه لا إطلاق للاكل المنهي عنه في المثال الأول يقتضي المنع عن كل أكل ، بل لا منع إلا مما كان منه مضرا ، ولا بد من اثباته من الخارج ، بخلاف المثال الثاني ، فإن الإطلاق فيه مستحكم ، كما هو ظاهر.

وقد تحصل من جميع ما ذكرنا : أن النصوص المذكورة واردة للإرشاد إلى لزوم التوقف في الشبهات التي يتنجز فيها التكليف الواقعي ، من دون فرق بين الشبهات الموضوعية والحكمية التحريمية والوجوبية ، لعموم التعليل فيها لو فرض قصورها لفظا عن شمول الشبهات الوجوبية ، ولا تنهض باثبات منجزية التكليف الواقعي بمجرد الشك فيه ، لينفع في ما نحن فيه في معارضة أدلة البراءة ، أو الورود عليها ، بل أدلة البراءة هي المقدمة لورودها على المضمون المذكور ، لأنها موجبة للعلم بالوظيفة الفعلية والأمن من العقاب

٦٨

والهلكة.

نعم ، في موثقة مسعدة بن زياد عن الصادق عليه السّلام عن النبي صلّى الله عليه وآله ، قال : «لا تجامعوا في النكاح على الشبهة. يقول : إذا بلغك أنّك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك ، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (١). وهي ظاهرة في لزوم التوقف مع احتمال الحرمة ، وأن المراد بالشبهة ذلك.

إلا أنها ـ مع معارضتها بموثقة مسعدة بن صدقة التي تقدمت في أدلة القول بالبراءة ، حيث تعرّضت لموردها نصا. وأنها واردة في الشبهة الموضوعية التي هي مجرى البراءة حتى عند الاخباريين ، فلا يبعد حملها لأجل ذلك على الكراهة. فتأمل ـ محمولة على أن المراد بالهلكة فيها ليس هو العقاب ، بل المفسدة والملاك الواقعي المقتضي للتحريم ، الذي يكون ارتكاب الشبهة معرضا للوقوع فيه ، لاهتمام الشارع به في باب النكاح ، فيكون الوقوع فيه من المحاذير التي يصح إطلاق الهلكة عليها توسعا. أو تحمل على الإرشاد بلحاظ المشاكل المترتبة على تقدير انكشاف الحال. على أنها لو تمت فليست ظاهرة في منجزية الشبهة تأسيسا وتعبدا ، ليتعدى عن موردها بعموم التعليل ـ لما عرفت من عدم ظهور اللسان المذكور في ذلك ـ بل في الإرشاد بعد المفروغية عن منجزية الشبهة ولو لأدلة أخر ، فلا يمكن التعدي لغير موردها بعد عدم ثبوت المنجزية فيه من دليل آخر. فتأمل جيدا.

ومما ذكرنا يظهر حال كثير من النصوص المذكورة في الباب الثاني عشر من باب صفات القاضي من الوسائل ، التي لم تتضمن عنوان الشبهة إلا أنها قد سيقت مساق نصوصها ، في لزوم السكوت ، والكف عند عدم العلم والحيرة والريب ، والنهي عن التفريط ، وعن الإقامة على الظن والشك ، إلى غير ذلك من

__________________

(١) التهذيب ج : ٧ باب الزيادات في فقه النكاح ، ح : ١١٢ ص ٤٧٤ والوسائل ، ج ١٨ ، ص ١١٦

٦٩

المضامين الراجعة إلى لزوم التوقف في القول والعمل عند عدم وضوح الحجة وتخوف الهلاك. فلاحظها.

الطائفة الثالثة : ما تضمن الأمر بالاحتياط ، كصحيح عبد الرحمن بن الحجاج ، سألت أبا الحسن عليه السّلام عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان ، الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء؟ قال : «لا ، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد» قلت : ان بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه. فقال : «إذا اصبتم مثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا» (١) ، وموثقة عبد الله بن وضاح ، كتبت إلى العبد الصالح عليه السّلام : يتوارى القرص ويقبل الليل ، ثم يزيد الليل ارتفاعا ، وتستتر عنا الشمس ، وترتفع فوق الجبل حمرة ، ويؤذن عندنا المؤذنون ، أفاصلي حينئذ ، أو أفطر إن كنت صائما ، أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الجبل؟ فكتب إلى : «أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة ، وتأخذ بالحائطة لدينك» (٢) ، وخبر الجعفري عن الرضا عليه السّلام : «ان أمير المؤمنين عليه السّلام قال لكميل بن زياد : أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» (٣) ، وما أرسله الشهيد قدّس سرّه عن الصادق عليه السّلام : «لك أن تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك» (٤) ، وخبر عنوان البصري عن أبي عبد الله عليه السّلام : «سل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك عتبة للناس» (٥) ، وما ارسل عنهم عليهم السّلام : «ليس بناكب عن الصراط من

__________________

(١) الكافي ج ٤ ، كتاب الحج ، ص ٣٩١.

(٢) التهذيب ج ٢ ، ص ٢٥٩.

(٣) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح ٤١.

(٤) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٥٨.

(٥) الوسائل ، ج ١٨ ، باب : ١٢ من أبواب صفات القاضي ح : ٥٤.

٧٠

سلك سبيل الاحتياط» (١).

والجواب : أما عن الصحيح فبأنه لا إطلاق له ، ولا عموم فيه ، ينفع في ما نحن فيه ، بل هو مختص بمورده. ولعل الأمر فيه بالاحتياط لكون المراد بقوله عليه السّلام : «بمثل هذا» هو السؤال عما لا يعلم الذي يجب فيه الاحتياط بترك الجواب ، أو الابتلاء بمثل واقعة الصيد مما لا يعلم حكمه مع التمكن من الفحص ، الذي لا إشكال في وجوب الاحتياط فيه عملا قبل الفحص.

ومثله في ذلك الموثقة ، لظهورها في السؤال عن حكم الشبهة الموضوعية في دخول الليل الحاصلة من تواري القرص وظهور ظلام الليل وأذان المؤذنين ، ولا إشكال في أن مقتضى استصحاب النهار وجوب الانتظار.

كما انه لو فرض بعيدا كون السؤال للشبهة الحكمية الراجعة إلى احتمال كفاية سقوط القرص في دخول الليل وعدم اعتبار غيبوبة الحمرة ، فحيث لم يكن الجواب بالاحتياط وظيفة الإمام عليه السّلام بل وظيفته رفع الشبهة ، فلعل التعبير بالاحتياط لأجل التقية لإيهام أن الوجه في التأخير هو حصول الجزم بغيبوبة القرص ، لا أن المغرب لا يدخل مع غيبوبته ، كما نبه له شيخنا الأعظم قدّس سرّه.

وبالجملة : لا إطلاق في الموثقة ليتعدى به عن موردها.

ودعوى : أن قوله عليه السّلام : «وتأخذ بالحائطة لدينك» مسوقة مساق التعليل الموجب لعموم الحكم لجميع موارد الشبهة.

مدفوعة : ـ مضافا إلى أنه لا يبلغ مرتبة الظهور الحجة ، وغايته الإشعار. وأن مورده الشبهة الموضوعية التي لا إشكال في عدم وجوب الاحتياط فيها ـ بأن ظاهر الاحتياط في الدين هو الاحتياط الذي يلزم من تركه تعرض الدين للخطر ، وهو مختص بما إذا تنجز الواقع ، فهو نظير أخبار الشبهة ظاهر في عموم

__________________

(١) جامع أحاديث الشيعة ج ١ ص ٣٣٢.

٧١

لزوم الاحتياط مع تنجز الواقع إرشادا ، ولا ينهض بإثبات منجزية الاحتمال تعبدا ، لينفع في ما نحن فيه.

ومنه يظهر الجواب عن خبر الجعفري. وكذا مرسل الشهيد قدّس سرّه ، مضافا إلى أنه لا ظهور لهما في الوجوب ، خصوصا الثاني ، بل هو لا يخلو عن إجمال ، بل لعله مشتمل على التصحيف.

وأما خبر عنوان البصري فهو ـ مع ضعف سنده ـ ظاهر في وجوب الاحتياط في كل شيء ، ولا ريب في عدم كون القضية المذكورة شرعية تعبدية إلزامية ، فلا بد من حملها على الإرشاد إلى لزوم الضبط والإتقان في مقام تحصيل الواقع الذي يهتم بتحصيله وعدم التفريط فيه ، وهو متفرع على فرض الاهتمام بالواقع ، ولا ينهض بإثبات اهتمام الشارع بالأحكام الواقعية غير الواصلة بنحو يقتضي لزوم الاحتياط فيها مع عدم قيام الحجة عليها ، بل يحتاج إلى دليل آخر ، نظير ما تقدم. ومن جميع ما ذكرنا يظهر وجوه الوهن في الاستدلال بالمرسل الأخير.

وهناك روايات أخر قد ذكرها ذكرها في الوسائل لا مجال لإطالة الكلام فيها ، لظهور قصور دلالتها جدا.

وأما العقل ، فقد يقرب إلزامه بالاحتياط بوجهين :

الأول : ان الأصل في الافعال غير الضرورية الحظر.

لكن ذكرنا في الأمر الخامس من التمهيد الذى قدمناه لمباحث الاصول العملية أن المراد بالأصل المذكور ..

تارة : حكم العقل بالحظر قبل ورود الأحكام الشرعية.

واخرى : أنه بعد فرض ورود الأحكام الشرعية فالعقل يحكم بأن الاصل في مورد الشك في نوع الحكم كون الحكم الواقعي هو الحظر لا الإباحة.

وثالثة : أنه بعد فرض ورودها والشك في نوع الحكم فالعقل يلزم ظاهرا

٧٢

بالاحتياط في مقام العمل ، مراعاة لاحتمال التكليف من دون تعرض للحكم الواقعي ، وذكرنا ـ أيضا ـ أنه على الأولين فالأصل المذكور ـ مع أنه غير تام في نفسه ـ أجنبي عن محل الكلام.

كما ذكرنا في أول الكلام في حكم الشك في التكليف انه لا مجال لتقرير الأصل بالوجه الثالث ، بل المرجع أصالة البراءة الراجعة الى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان.

هذا ، مع أنه لو تم الأصل المذكور كانت أدلة البراءة الشرعية واردة عليه رافعة لموضوعه.

الثاني : حصول العلم الإجمالي باشتمال الشريعة على تكاليف في الوقائع التي هي محل ابتلاء المكلف ، وحيث يحتمل كون مورد الشبهة منها وجب الاحتياط فيه ، بناء على ما هو الحق من كون العلم الإجمالي منجزا لجميع أطرافه ومقتضيا للاحتياط فيها.

ولا يخفى أن هذا الوجه ـ لو تم ـ لا يقتضي إنكار جريان البراءة في محل الكلام ـ وهو الشك في أصل التكليف ـ بل إنكار الصغرى لذلك ، بدعوى أن الشك دائما في تعيين التكليف ، الذي يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى. وإنما ينبغي التعرض له هنا لكمال مناسبته له ، لرجوعه إلى عدم ترتب العمل على محل الكلام لعدم الصغرى له.

إذا عرفت هذا ، فاعلم أنه قد يجاب عن العلم الإجمالي بوجوه ..

الأول : أن العلم المذكور لا أثر له بعد قيام الطرق المعتبرة على ثبوت التكاليف في كثير من الوقائع بنحو لا يعلم بثبوتها في غيرها من الوقائع المشتبهة الحكم ، لأن الطرق المذكورة موجبة للتعبد بثبوت التكاليف في مواردها المستلزم لتمييز المعلوم بالإجمال وارتفاع العلم الإجمالي.

وفيه : أن الطرق المذكورة لا تصلح لتمييز المعلوم بالإجمال ، لعدم

٧٣

تعرضها لتعيين التكاليف الواقعية المعلومة بالإجمال وحصرها بمواردها ونفيها عن غيرها ، بل ليس مفادها إلا ثبوت التكاليف في مواردها بنحو لا ينافي احتمال ثبوتها في غيرها الذي هو مقتضى العلم الاجمالي.

وهذا هو العمدة ، لا ما يظهر من شيخنا الأعظم قدّس سرّه من أن احتمال خطأ الطريق مانع من صلوحه لرفع العلم الإجمالي.

إذ فيه : أن الاحتمال المذكور لا أثر له بعد فرض حجية الطريق ، ولذا لا إشكال في ارتفاع أثر العلم الاجمالي معه لو كان شارحا للمعلوم بالإجمال ، ومعينا لمورده.

الثاني : ما ذكره شيخنا الأعظم قدّس سرّه من منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم بغير ما أدى اليه الطرق غير العلمية المنصوبة له ، فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق ، لا بالواقع من حيث هو ، ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو ، حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه ، لأن ذلك هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره ، وثبوت التكليف بالعمل بالطرق.

وفيه : أن الجمع بين أدلة الأحكام الواقعية وأدلة الطرق إنما هو بحمل الاولى على جعل الأحكام ثبوتا ، والثانية على جعل الطريق لإحرازها إثباتا ، المستلزم لتنجيزها أو التعذير منها ، فلا ينافي تنجزها بالعلم الإجمالي أيضا بعد كونها أحكاما فعلية حقيقية.

ولا مجال لتقييد الاولى بالثانية ، بحيث لا يكون الحكم الواقعي فعليا عند عدم قيام طريق عليه ، فلا يتنجز بالعلم الإجمالي ، إذ لا ظهور لأدلة الطرق إلا في لزوم العمل بها ، لا في حصر العمل بها لتصلح للتقييد. بل يمتنع الحكم الواقعي بقيام الطريق عليه إلا بتكلف لا مجال له في المقام ، أشرنا إليه في مبحث القطع الموضوعي.

مع أن لازم ذلك عدم ثبوت الحكم في حق من لم يقم عنده طريق ، وهو

٧٤

خلاف الإجماع على اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل والملتفت والغافل ، الذي لأجله التزم قدّس سرّه ببطلان التصويب في موارد الطرق.

بل لازم ذلك ارتفاع موضوع الاصول العملية ، للعلم بعدم التكليف الفعلي في غير موارد الطرق ، فلا وجه للاهتمام بها. بل يلزم من ذلك عدم وجوب العمل بالحكم الواقعي لو فرض العلم به تفصيلا من دون قيام طريق عليه. إلى غير ذلك مما لا مجال للالتزام به.

الثالث : النقض بالشبهات الوجوبية ، فإن ما سبق من العلم الإجمالي جار فيها ، مع أن المعروف عند الاخباريين عدم وجوب الاحتياط فيها.

وزاد بعض مشايخنا فنقض بالشبهات الموضوعية التي لا خلاف في عدم وجوب الاحتياط فيها.

لكنه غير ظاهر ، لعدم العلم الإجمالي بالتكليف في الشبهات الموضوعية التي هي محل ابتلاء المكلف. ولو فرض وجوده خرج عن محل الكلام.

نعم ، قد يعلم المكلف قبل الابتلاء بالشبهات بأن ما سوف يبتلى به من الشبهات يشتمل على تكاليف واقعية يلزم من الرجوع للاصول الترخيصية مخالفتها.

إلا أن العلم المذكور لا أثر له ، بل هو كالعلم إجمالا بخطإ بعض الطرق أو الاصول المنصوبة التي تقوم تدريجا في الشبهات الموضوعية التي يبتلى بها المكلف تدريجا ، لأن الشبهات المذكورة لما لم يلتفت إليها بأنفسها حين العلم المذكور فلا تصلح للخطاب ، والالتفات إليها بعنوان الشبهة لا أثر له في التنجيز ، إذ موضوع التنجيز هو مصداق الشبهة المتوقفة على فعلية الالتفات. وليست الشبهة الا عنوانا تعليليا لا تقييديا. فتأمل.

وبالجملة : لا إشكال في أن العلم الإجمالي المذكور ليس كالعلم الإجمالي المدعى في المقام ، فلا مجال للنقض به.

٧٥

الرابع : انحلال العلم الإجمالي المذكور بسبب قيام الطرق المعتبرة ، لعدم العلم بوجود التكاليف في غير موارد الطرق المذكورة ، ويمكن انطباق المعلوم بالإجمال على مواردها ، كما تقدم نظيره عند الاستدلال بحكم العقل على حجية خبر الواحد.

وقد أطال غير واحد في المقام في أن الانحلال حقيقي أو حكمي ، وهو مبني على ضابط أحد الأمرين ، ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام في ذلك في الفصل الثاني ، ولا ينبغي الكلام فيه هنا.

هذا تمام الكلام في حجج القائلين بالاحتياط ، وقد عرفت وهنها ، وأن المرجع في المقام أدلة البراءة.

ولا فرق في جميع ذلك بين عدم النص وإجماله ، لعدم صلوح النص المجمل للبيان ، فلا ينهض برفع اليد عن أدلة البراءة المتقدمة.

والظاهر أنه لا إشكال في ذلك لو كان إجمال النص ناشئا من إجمال ما يدل على الحكم ، كما لو دار الأمر بين الوجوب والاستحباب ، أو دار النهي بين الحرمة والكراهة.

أما لو كان ناشئا من إجمال ما يدل على الموضوع ـ كما لو فرض إجمال الغناء بالاضافة إلى بعض الأفراد ، أو إجمال العموم الافرادي وتردده بين الأقل والاكثر ـ فقد يتوهم لزوم الاحتياط ، لصلوح الدليل لإثبات التكليف بالعنوان المجمل على ما هو عليه ، فيجب عقلا إحراز الفراغ عنه بالاحتياط.

وفيه : أن أخذ العنوان اللفظي في التكليف ليس إلّا بلحاظ حكايته عن معناه ، فالمكلف به ليس إلا المعنى ، وحيث فرض إجمال العنوان اللفظي فهو وإن احتمل حكايته عن مورد الشك ، إلا أنه لا يكون بيانا له قطعا ، بل للقدر المتيقن ، فلا يتنجز مورد الشك حتى يجب الفراغ عنه ، ولا مجال لتنجز المعنى على ما هو عليه بعد فرض اختصاص البيان بالمتيقن.

٧٦

نعم ، لو فرض ظهور العنوان المكلف به في نفسه والشك في محققه الخارجي لزم الفراغ عنه ، كما في موارد الشك في المحصل. ولعله يأتي في التنبيه الثاني ما ينفع في المقام.

تنبيهات

التنبيه الأول : في الشبهة الموضوعية

تقدم أن همّ الاصولي البحث عن حكم الشبهات الحكمية التحريمية أو الوجوبية ، وأن الشبهات الموضوعية خارجة عنه ، إلا أنها داخلة في ملاك البحث ، لشمول أكثر الوجوه المتقدمة للبراءة والاحتياط لها ، كما أشرنا إليه.

ولأجل ذلك يتعين البناء فيها على البراءة. بل بعض النصوص صريح في إرادتها ، كموثقة مسعدة بن صدقة المتقدمة ، ولعله لذا حكي الإجماع على عدم وجوب الاحتياط فيها حتى من الأخباريين.

نعم ، قد يتوهم وجوب الاحتياط فيها ، لأنه مع فرض البيان الشرعي على التكليف لا تجري أدلة البراءة منه ، بل يتنجز ، فيجب الفراغ عنه بالاحتياط في جميع موارد الشبهات الموضوعية.

وفيه : أن الجعل الشرعي للحكم الكلي لا يقتضي فعلية التكليف الصالح للاشتغال والمقتضي للامتثال إلا بفعلية موضوعه ، فمع فرض الشك في ذلك لا يعلم بثبوت التكليف كي يجب إحراز الفراغ عنه.

وبعبارة اخرى : الأدلة الشرعية إنما تقتضي العلم بالكبريات الشرعية ، وهي لا تقتضي العلم بالنتيجة ـ وهي الحكم الفعلي الموضوع للطاعة والمعصية ـ إلا بعد إحراز الصغرى ، فمع فرض عدم إحرازها لا يكون التكليف الفعلي معلوما ، كي يمتنع جريان أدلة البراءة منه.

ومنه يظهر أنه لا مجال لتوهم أنه لو فرض العلم بفعلية التكليف للعلم

٧٧

بتحقق بعض مصاديق الموضوع لزم الاحتياط في موارد الاشتباه ، للزوم الفراغ عن التكليف المعلوم ، كما لو كان هناك خمر معلوم تنجز التكليف بسببه وسائل مشتبه الخمرية.

لاندفاعه : بأن التكليف الكلي ينحل إلى تكاليف متعددة بعدد الموضوعات الخارجية ، فالعلم بثبوت بعضها بسبب العلم بتحقق موضوعه لا ينافي الشك في غيره ، ليمنع من جريان البراءة فيه.

وبعبارة اخرى : العلم بالصغرى إنما يوجب العلم بالنتيجة بالإضافة إليها ، دون بقية الصغريات المجهولة ، بل المرجع فيها البراءة.

ثم إنه لا ريب في الخروج عن أصالة البراءة في الشبهات الموضوعية بالاصول الموضوعية المنقحة لموضوع الحكم بالتحريم ، كاستصحاب النجاسة في الماء الحاكم على أصالة البراءة من حرمة شربه ، على ما هو الشرط في التمسك بجميع الاصول الحكمية ، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

أما لو فرض عدم جريان أصل كذلك فمقتضى ما عرفت هو الرجوع لأصالة البراءة ، إلا أنه يظهر من بعضهم في موارد متفرقة عدم الرجوع لأصالة البراءة فيما لو احرز مقتضي التحريم وشك في وجود المانع ، بدعوى : بناء العقلاء على العمل بالمقتضي وعدم التعويل على احتمال المانع وإن لم يحرز عدمه. وهو المراد بقاعدة المقتضي في كلام بعضهم.

لكن البناء المذكور لم يثبت بنحو معتد به في الخروج عن مقتضى أدلة الاصول ، بل لا بد في البناء على التحريم في المقام من إحراز عدم المانع ولو بالأصل.

كما أن بعض الأعاظم قدّس سرّه قد استثنى من الرجوع للبراءة ما لو كان الحكم الترخيصي التكليفي أو الوضعي ـ كالطهارة ـ معلقا على عنوان وجودي ، فقد ذكر قدّس سرّه أن إناطة الترخيص بالعنوان الوجودي ملازمة عرفا للبناء على عدمه عند

٧٨

عدم إحرازه ولو بالأصل.

ولم يتضح الوجه في ما ذكره ، لوضوح أن الحكم الواقعي المجعول على العنوان في ظاهر الدليل مما لا مجال لإثباته مع عدم إحراز موضوعه ، كما هو الحال في سائر موارد الشك في موضوع الحكم المأخوذ في دليله ، من دون فرق بين الأحكام الترخيصية والإلزامية ، ولا بين الموضوعات الوجودية والعدمية ، لامتناع التمسك بالعام في الشبهة المصداقية من طرف العام بلا كلام ، وليس المدعى إلا البناء على الرخصة الظاهرية ، لأنها الأصل مع الشك.

وحينئذ فإن كان المدعى أن إناطة الترخيص الواقعي بالعنوان الوجودي تستلزم عرفا إيجاب الشارع للاحتياط مع عدم إحراز موضوعه ، تخصيصا لأدلة البراءة.

فهو ممنوع جدا ، لعدم المنشأ للتلازم المذكور بين الحكمين ، ولا سيما مع عدم السنخية بينهما ، لأن مؤدى الدليل حكم واقعي ، ووجوب الاحتياط حكم ظاهري ، كما نبه لذلك سيدنا الأعظم قدّس سرّه.

ومثله دعوى : أن جعل الحكم بالنحو المذكور مستلزم عرفا لتعبد الشارع بعدمه أو بعدم موضوعه ظاهرا عند عدم إحرازه ، فالتعبد المذكور عبارة عن أصل شرعي حكمي أو موضوعي خاص حاكم على أصل البراءة أو أصالة الطهارة ونحوهما من الاصول الترخيصية التكليفية أو الموضوعية.

وإن كان المدعى بناء العرف على عدم الرجوع للبراءة حينئذ ، فيكون البناء المذكور مخصصا لأدلتها.

فهو غير ثابت ، مع أنه لو تم لم يبعد صلوح عموم أدلة البراءة الشرعية للردع عنه ، نظير ردعها عن بنائهم على الفحص في الشبهات الموضوعية لو تم ، لا أنه يكون مخصصا لها.

وإن كان المدعى بناءهم على أصالة عدم الترخيص الواقعي حينئذ عند

٧٩

عدم إحراز موضوعه ، نظير بنائهم على أصالة عدم القرينة ، ويكون الأصل المذكور حاكما على أصالة البراءة كحكومة الأدلة الاجتهادية عليها.

فهو ممنوع جدا ، وغاية ما يلزم من عدم إحراز الموضوع هو عدم إحراز حكمه ، لا البناء على عدمه.

وإن كان المدعى بناءهم على أصالة عدم الأمر الوجودي المأخوذ في موضوع الحكم ـ لو فرض عدم إحرازه ولو بالأصل ـ بدعوى : أن الأمر الوجودي محتاج إلى عناية ، وليس كالعدم ، فالأصل عدمه ولو لم يجر الاستصحاب.

فهو غير ثابت ، والمتيقن من بنائهم ما إذا كان العدم موردا للاستصحاب وهو الذي ثبت من الشارع إمضاء سيرتهم فيه.

على أنه لو تم فالفرق فيه بين الحكم الإلزامي والترخيصي بعيد جدا ، ولا سيما مع استلزامه تفكيكهم في أحكام العنوان الواحد لو فرض كون العنوان الواحد موردا للحكمين.

ثم إنه قدّس سرّه فرّع على ذلك أصالة الحرمة في الدماء والفروج والأموال ..

قال الكاظمي في تقريره لدرسه : «فإن الحكم بجواز الوطء ـ مثلا ـ قد علق على الزوجة وملك اليمين ، والحكم بجواز التصرف في الأموال على كون المال مما قد أحله الله ، كما في الخبر : لا يحل مال إلا من حيث أحله الله. فلا يجوز الوطء أو التصرف في المال مع الشك في كونها زوجة أو ملك يمين ، أو الشك في كون المال مما قد أحله الله».

وما ذكره قدّس سرّه وإن تم في الفروج لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ. فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ)(١). إلا أنه لا يتم في الدماء ولا في الأموال.

__________________

(١) المؤمنون : ٥ / ٦ / ٧.

٨٠